المتاهة
فصل من فصول رواية متاهات - زيناء ليلى

سؤال يفاجئ ذهني دوماً :
"هل الدّين بقواعده و دستوره مناسب لهذا الكم الهائل من التقدم ، ألا تراه يعاني من حالة عدم توازن مع متطلبات العصر الحالي ، مما يدفع معظم المتدينين إلى التقوقع ، نتيجة الصّراع الحاد بين الرّغبات المتسارعة والعقيدة التربويّة ."
أو ربما يجعل معظم الشباب الملتزم يعانون تطرّفاً في السّلوك ،أو توحّـد بالفكر، أو انفصام في الشخصيّة ...؟

يعلوا صوت أبي وكأنه يصرخ بي : من قال هـذا ؟ وما هـذا الاتّهـام بحقّ الدستـور الإلهـي في الأديـان عمومــا وفـي الـدّين الإسـلامـيّ خصوصا ....

الدّين دستـورٌ لتنظيـم الحيـاة وهـو دافعٌ لكـلّ خـير، وهـو مانحٌ للحريّة المنظّمة ، هو الثّورة على الظّلم ، و الثّـورة علـى الاستعبـاد والاستبداد، و هو الذي يمنح الحريّة و المسؤوليّة و يحدّد حريّتك ببداية حريّة الآخرين .
الدين الإسلامي أول ثورة حقيقة على كل الأصعدة .

لا أعرف لماذا يسأل مثلك هذا السؤال ؟ وأنت يا نور من بيئة تربيتها دينيّة فأين الانفصام ؟ وأين التطرّف وأين التّقوقع ؟ .
- لم أقصد هذا في منزلنا ، لكن ما قصدتـه في المجتمع و النّـاس و فتاوى بعض الشّيوخ ، في التّحريم الغليظ ، في سدّ الذّرائـع التـي تمنع الكثيرين من تحقيق أحلامهم .
حسنا سأفرد لك خيوط المتاهة : إنّ بعض الشّيوخ مرتبطـون بالسّلطــة ، مهمـا كـانت السّلطـة استبداديــة أو إقطاعيّــة أو رأسماليّة و هذا ما تكلّمنا عنه صباحاً ، فتأتي إفتاءاتهم محقّقة لهذه الوصايا ، ليبقى الأفراد في حالة الهدوء ، و تسهل السّيطرة عليهم بحيث يتم توجيههم من خلال فتاوى دينية .
لذلك ، ما إن يتنفّس الفرد حلماً فيه تمرّد على واقعـه و ثورة علـى تخلّفه، يتهم بالمرتدّ ، لأن هذا التخلّف ارتبط بالدّيـن ، كي يأخـذ منه شرعيّته والدّين منه براء ، بل الدّين هو الثورة الحقيقيّـة التي أُهديت إلينا . معظـم الشّيـوخ ممن يعطّـلون عقولنا لننصت إليهم ، لديهم معرفةٌ دينيّة ببعض علوم الدين واللغة والتّفسير ، ولكن ليس لديهم إلمامٌ بكل علوم القرآن ، فليس كل قارئٍ للقرآن عالمٌ ، ولا يحقّ له الإفتاء ، وليس كل مطّلع على الحديث ، يحقّ له الإفتاء ، فإنّ علوم القرآن تشمـل كـل علـوم الدّنيـا و لا يمكن لشخص واحد أن يدركها بكل تفاصيلها حتى مع هذا التّقدّم ، مثلاً (د. زغلول نجار)

- أعلق مقاطعة : من الذي لا يعرف (د. زغلول نجّار ) ؟ ‘إنه باحثٌ في علـوم الأرض والجيولوجيا ...
أفهم من كلامـك يا والـدي أن المتاهـة التي نعاني منهـا هي بسـبب افتقارنا إلى علماء حقيقيّين .
يرد والدي مبتسماً وبهدوء وكثير من اليقين .
- بل لدينا علماء و مفكـّرين ، و لكن ينقصنـا يا بنيتي الاحتـرام و التّكافـل بينهم .
- الإختصاص مفردة مفهومة ولكن التكافل كصفة للعلماء أصبحت غير واضحة المعنى .
- يرد وهو يمرر يده على شعري المنسدل وعيناه لا تخطئ عيناي كأنّ للحديث بعد اً آخر وغاية ً في نفسه.
ينقصنا مجتمعٌ إسلامـيٌ ،عالِـمٌ في كـل اختصــاص ، ويشترك الجميع في اتخاذ القرار ، كأصابع الكفّ الواحدة .
عالِم في الجيولوجيا و عالم في النّفـس و عالم في الشّبكات و عالـم في الهندسيات و عالم في الدين و عالم في التربية و عالم في العلوم الاجتماعيّة و عالم في الاقتصاد .
هكذا تخرج الفتوى كاملة ، لا تحتاج إلى الترقيع ، وهذا لا يتمّ علـى الهواء مباشرةً . ويفتح باب الاجتهاد والقياس حسب الحالة والزمان .
في انفعال وبسؤال أعرف إجابته أقول
- أليس سدّ الذرائع ، سببــاً في كثير من التّخلف والرّكود لشبابنا الملتزم؟ فتراه يركب الخوف من خسارته لدينه فيختار طرق أسهل وعلوماً أبسط محتجاّّ بسدّ الذرائع .

يردّ بهدوء وثقة وكأنّ هذه الأسئلة مطروقة أمامه وقد أجاب عنها مسبقاً.
- سد الذّرائع ليس سببا في ركودنا و جلوسنا في المقاعد الخلفيّــة التي لا يرانا فيها أحد ، بل عدم فهمنا للدين الحقيقي وعدم إدراكنا لمهمتنا في الحياة ودورنا في إعمار هذا الكون هو سبب ركودنا .
ثم يكمل وقد اجتاحه حزن دفين ومصّ ع شفتيه وهزّ برأسه امتعاضا وقال
مسكين ديننا ، كم نعّلق عليه أخطـاءنا وفشَلَنا .
- والدي سامحني و لكن في نفسي مضضٌ و في قلبي احتراق البـارود المشتعل و أنا أسمع و أرى ما يوسم على دين الإنسانيّة ، وما يروّجه الإعلام عن الإسلام ، بأنه رمز الإرهاب ورمز التخلف والرجعية .

فإنّ جميع الأفلام العالمية ُتظهـر لـك وجـه واحـدا للإســلام ، اللّبــاس الموحد ...العمامة .... اللّحية ... الصحراء ... الإرهاب ... القتل .... الاستهلاك للعلوم دون أي إنتاج ....

أين الوجه الآخر لهذا الدين الإنساني ؟ نـحن المؤمنون به ماذا نفعل كي ندافع عن اعتقادنا ؟ ماذا نفعل لندافع عن حريتنا وحبنا لهذا الدستور ؟
يبتسم فاغراً فاهه ويقول
- حتى الإرهاب حرفة لبعض الأفـراد المعتنقين الإسـلام ، والتعصّـب له أسبابه النفسيّــة ، التي تبـدأ بالتّهميش والقمــع لشخصهــم ، وطموحهم ، و لوجودهم، وحرية عقيدتهم ،وعدم احترام حرية اختيارهم .
عندها يبحث هؤلاء عن طرق يسمعها العالم وينصت إليهم رغماً عنهم فيحترفون الإرهاب.

لكلّ مجرم في القضـاء محامي دفـاع ، إلا المسلم كأي فرد ، إن أجرم حكموا على الإسلام و لم يمنحـوا هذا الفـرد حقّ الدفـاع عن نفسـه ، حقّـه فـي الحيـاة ، حقّـه في التعبير و لو أحصيت عدد المتهمين بجرائم الإنسانية لوجدت أن ّ معظمهم في العشرينات .
أليس لهذا تفسيرٌ في علوم النّفس والاجتماع ؟ وله دلالة معينة وواضحة.
- يا إلهي............... يا والدي أحيانا يصيبني الإحباط والعجز ....
- يضحك والدي و يقول : إنها الحــرب الصّامتــة لا تدخلــي في المتاهة ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) .

قلتُ لك إنّ السلطة الحاكمة تقضي على كـل مــا يفقدهـا استبدادها وهيمنتها وسيطرتها، والإسلام الوسطي وبانتشار مبادئه ، خطــر على نفوذها فتوجّـه أسلحتها السايكوترونية الخرساء للحدّ من اتّسـاع رقعتـه أو تحـرر أفراده.

دخولها وصوتها الحنون.. جدي ... جدي ... يجعل أبي يترك أريكته ويصل إليها ويحتضنها ويقبلها كالمعتاد ويقول لها : ( آية ) الحلوة الأمورة ... حبيبة جدّها الدّلوعة .
تضحك ضحكة طاهرةً ، تتسع للكون بأسره وهي تتراقص مائلة رأسها فيهتزّ شعرها المنسدل كشلال في الربيع وتلمع عيناها حياة وأمان وتقول : أحضرت معي مجلة ( العربي الصغير ) ....... و اطلعت على صفحة المنوعات .
- يقول والدي : أرني هل حللت الكلمات المتقاطعة ؟ أم كشفت الاختلاف في الصّور المتشابهة ؟ .
- ترد علية ذات السبعة أعوام : لا حللت المتاهة ... و وجدت أقصر طريق يقطعه الأرنب للحصول على الجزرة .
كنت أستمع لحديث والدي مع آيه ، بينما تُحدّث أختـي زهــراء والدتي عن معاناتهـا في اختيار دكتـور يتابع رسالتها في الماجستير وافتقار الجامعة لدكتورٍ يفقه في بحث الرسالة ...
سمعت والدي يقول بحماس : لو أخفينا الجزرة كيف تُحلّ المتاهة ؟....
تبعـد آيه يد جدهـا التـي تخفـي الجزرة تحتها وتقـول : لكن الجزرة موجودة وأنت تخفيها ، أبعـد يـدك أرجـوك كـي لا يضيـع الأرنـب المسكين .
- يضحك والدي ويرفع يده عن الصورة ويقول : إذاً لابدّ مـن وجـود هدف للأرنب المسكين ، لكي يختار طريقة وينال الجزرة .
أدخل إلى لعبتها فجأة متحرشة فيها ، وأضع يـدي لأخبـئ الجـزرة مـن جـديـد فتصرخ وتقول : خالتي ... أبعدي يدك ، الأرنب المسكـين سيتـوه ويضيع .
- ضحكت بفرحٍ غامرٍ وأحضرت لها قلماً و ورقةً و قلت لها : ارسمي لي متاهةً ألعبها معك .
تمسك القلم والورقة وتجلس على الأرض وتـمدّ ساقيهـا وتحنـي ظهرها وتبدأ برسم أرنبٍ في أسـفل الورقـة ثم ترسـم جزرةً وحـزمة من الخضار في أعلـى الورقة ، ثم ترسـم خطوطـاً منحنيـةً طويلـةً وقصيرة وتدخلها مـع بعضهـا ، لتبـدأ جميعهـا مـن عنـد الأرنب وتنتهي بالجزرة وحزمة الخضار وتعطيني الورقة .
- أنظر إليها وأحتضنها وأعطي الورقة لجدها وأقول له : لقد رَسمَت الجزرة قبل أن ترسم الطريق المؤدية إليها .
- ثم نظرتُ إليها وقلت لها : خالك نـوار في غرفة نومه ، أيقظيـه واطلبي منه أن يحلّ اللعبة ويحدد طريقاً للوصول إلى الجزرة .... أردد : ( سبحان الله تعدّدت الطرق والغاية واحدة ) .
تحمل أختـي زهـراء القهـوة إلى الشّرفة لنرتشفها معاّ و هي تشكي شقاوة آية وذكائها ...
- أعلّق علـى كلامهـا نعـم هـي ذكيّـة وستعـرف مـاذا تريـد في المستقبل.
حقاً إن ألعابنا تربويّة و موجّهة بشكل جيّد لبناء شخصيّة ، تعرف ماذا تريد ، وتتمكن من تحديد أهدافها باكراً ،و تحسن اختيار أقصر الطّرق لذلك ..
- تقول أمي : يا بناتي إنّ هذه التربية ضروريّة وهي من أصل الدّين لمن فقه جوهره ودلالة غاياته ، يبتسم والدي وكأنه قرأ ما قالته أمي و وافق عليه ( أمي و أبي وجهان لعملة ذهبية واحدة )
يتبع .................................................. ........ أرجو لكم متابعة هادئة ، ووقتا نضيف فيه إلى دواتنا تصريحا أو تجديدا ، دمتم بخير
زيناء ليلى