د. ريمه عبد الإله الخاني
لعلي كنت أمر بصديقة لي ملأت المشفى صياحا وبكاء وندب وشجب واستنكار، وذلك لأنها ترفض أن يستأصل ثديها وهي حية، إنه هذا المرض الخبيث الذي لم يدع أحدا، إلا التهمه وهو حي، كنت أهدئ من روعها وأعود إلى منزلي منهكة القوى، وكأني أحمل أطنانا من الأحجار المدورة التي لايمكن لجمعها معا في ذراعين...ومع ذلك فمازلت أزورها، على مبدأ أؤمن فيه كثيرا:
-كما تدين تدان وبالكيل الذي تكيل به تكال.
تحسبا أن أقع في مأزق مشابه فلاأجد أحدا حولي...كان هاجسا مزعجا ومشغلا بآن..
وبنفس الوقت أزجر ثرثرتي التي تردد مقولة شعبية تقول: من عيب ابتليَ!.
فلا أعيب ولا أرطن بجمل لاطائل منها.
مازالت تأمل وصول وثيقة لم الشمل لتذهب لعائلتها في ألمانيا، بعدما نهشها الوجع والشوق والفقد، فهنا في الوطن لاأحد تبقى ممن نعرف...وممن لانعرف أيضا..جميعهم سافروا كتقليعة جديدة يجب أن نفعلها كلنا، هكذا أريد لنا أن كي نعود لنبني ما هدم، كالمعاقب بما لم يفعل، و كأننا سيزيف المعاقب[1]كان يشاركها في الغرفة فتاة جميلة جدا، تبين لي أنها لاتبصر، كان زوارها كثيرون جدا، وابتسامتها لاتفتر، قربني منها هذا المشهد أكثر ، فصار فضولي يعمل تلقائيا، وأجد زيارتي لصديقتي حجة بالغة الإقناع لأجلس معها قليلا، وأسمع صوتها الواثق المؤمن وتسليمها المنقطع النظير..
-لاتقول يكفينا ماجرى ..بل قولوا، هناك رب رحيم..فلتشملنا عناية الله، فأول الفرج الصبر..
عندما كانت صديقتي المتعبة.. تنام، أقترب رويدا منها وبخفة ورقة، وأجلس كمن يتلقى دروسا من معلم...عيناها السارحتان في المجهول، تتكلم أكثر من صوتها...تعبر أكثر من حروفها..تحدثني بقلبها لا بلسانها...
-اسمي لينة الرضى..
-اسم جميل.
-ماذا تفعلين هذا الأيام..
-سوف أعمل الكثير الكثير، لكن انتظريني قليلا حتى أشفى...
-مابك؟
-وعكة خفيفة لاعليك، شفى الله صديقتك.
******************
لم تنبس ببنت شفة من شكوى، كانت تصف لي كيف كانت تطبخ لوالدها أطباقا صحية لأنه مريض سكر، كيف تدعو إخواتها وأخواتها على مائدة العيد، كيف تكتب مذكراتها كل يوم، كيف تذهب للمسجد القريب، تستمع للدروس، وتتحدث مع الفتيات عن كيفية تحقيق رضى الولدين...
ساقني الفضول النبّاح، لأسأل عنها أقرباءها الزائرين...
-إنها مريضة سكر، وناجية من مرض السرطان الملعون منذ سنتين الذي سد مجرى البول والأمعاء وفتت جسدها الجميل..
-هل تعرف مابها؟
-لاضرورة أبدا. جميل أن نعيش بقية حياتنا بسعادة، ودون منغصان، خاصة عندما تعجز الحلول عن الحل، لقد نكس وعاد شرسا أكثر من السابق، إنها تشعر أنها تتفتت من الداخل...ورغم هذا فهي تردد في جوفها كل توحيد تسري عنها بضحكتها المتصالحة مع روحها،كلامها يشفي العليل، هي كلها عبارة عن ترياق لنا جميعا، كانت تزورنا وتأتي بأطباق مبتكرة جدا، كأن هناك صوت يرن في أذني حديث سمعته :
-إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة، يريد عينيه. ليس جنة فقط، بل تعويض وقوة لحاسة أخرى، لقد أدمنت الجلوس معها..
-أمسكي يدي جيدا، فستسري كهرباء اليقين في يدك..سوف تشعرين بها متشعبة في روحك المضطربه..سوف تدركين ماذا أشعر، إن لي عالما رائعا من الصعب أن يشعر به من يراني من الخارج...قبليني جيدا، فقد استحممت من قريب، عانقيني، فأنا قد أحببتك، سوف أكتب عنك في مذكراتي، ولايهم من يقرأها أبدا..فمن سيقرأها، سيكون مصطفى ومميزا، فهي ليست للبيع ولا للإهداء ولا لمن لايعرفني جيدا، سوف أصف فيه ماأرى، مالاترون، مالن يرى بالعين المجردة إن لي عينا أكبر من عيونكم كلكم سوف أرى الملائكة وأحدثها ، لدي قلب أكبر من قلوبكم، خذي يدي لأتنزه في بهو المشفى..
-لكنك مربوطة بخراطيم، ووو
همست أختها أن أصمت..صمتتْ هي أيضا...
-لقد توقفت أمعاؤها، ومثانتها، إنها تموت ببطء، وبكل ابتسام، إنها لاتعرف عن حالتها شيئا..لكن الرضى يغمرها، فلاحياة بلا رضى...القدر يدق الباب، ونحن أصحاب الجواب، فكيف سنفعل؟.
قفزت تقول بابتسامتها الوردية:
-أغمضي عينيك سوف نزور حديقة المشفى بروحيّنا معا، أغمضي..جيدا.وقولي لاإله إلا الله...وكرري..
نمت فما أفقت إلا وأنا في حضنها..ماذا جرى بالله عليك.أمسكت بي الممرضة وقالت هذا يكفي اليوم..
كان المسك يعج في المكان...عندما خرجت يومها لأعد نفسي بزيارتها اليوم التالي....كانت أصوات هامسة تنزع وتئن...دخلت بلا صوت..فما كان لها صوت، بياض الثلج بابتسامة أخيرة..عانقتها..وقلت لها سوف أزروك في نفس الحلم، لقد فهمتك وعرفت السر..حاولت الخروج لأبكي ..همست أختها
-الصمت الصمت في حضرة الملائكة...
ابتعلت صوتي مختنقة...نمت قربها ..وحلمت وحلمت..وطرحت أسئلة على نفسي بنفسي:
-ماهذه القوة التي تلف صاحب المحنة؟ وكيف تقوه المنحة الربانية التي ينتظرها على الصمود بمواجهة الألم؟ وهل هي عتبة دخول الجنان؟...وتتالت الأسئلة في عالم شفاف سابح في ملكوت السموات ..ف عرفت عوالمها الخفية.. رفعني والدي برفق قائلا:
-لقد نسيتِ أمرا مهما عند وداعها...
8-8-2019
[1] لقد ورد في إحدى الأساطير اليونانية القديمة، أن سيزيف حكم عليه بسبب تمرده على الآلهة، أن يرفع صخرة عظيمة من أسفل الجبل إلى أعلاه، إلا أنه لم يتمكن من أداء مهمته، رغم محاولاته الجادة، وجهده البليغ، إذ أن الصخرة أفلتت من يديه حين وصولها إلى القمة، وهكذا أراد القدر، أن يعيد عملية نقل الصخرة، ولكنه لم يجن في كل مرة سوى الفشل والخيبة، ويظل هكذا للأبد، وبذلك أصبح رمز العذاب الأبدي.