بين أمتنا وأصول المجد

جيلالي بوبكر

يعيش عالمنا العربي والإسلامي المعاصر أزمة حادّة شملت كل مناحي الحياة من دون استثناء، وهي تزداد تفاقما واتساعا مع مرور الزمن، في وقت يحقق فيه العالم المتطور بجوارنا تقدّما رهيبا وانتصارات عظيمة في المجالين العلمي والتكنولوجي، وفي مسعى تنظيم حياة الإنسان سياسيا واقتصاديا على المستويين الفردي والاجتماعي معا.

الوضع المزري جعل أمّة العروبة والإسلام في بلادنا متخلّفة جدّا وفي مركز ضعف كبير، غير حرّة وغير مستقلة تماما، تابعة لغيرها في كل شيء، ولم تفلح جميع المشاريع الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية التي دعا إليها المفكرون والسياسيون والحكام منذ عصر محاولات النهضة حتى الآن، بل ازداد وضعنا تأزما وصرنا نعيش عالة على غيرنا نضر أكثر مما ننفع.

ومازال السؤال نفسه يتكرر طرحه منذ عصر محاولات النهضة حتى الآن: لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟.الأزمة التي نعيشها وتتفاقم باستمرار لها أشكال ومظاهر وتداعيات قد تتداخل مع أسبابها، فالفساد الاجتماعي والاستبداد السياسي والتفسخ الأخلاقي والضعف الاقتصادي والتخلّف العلمي والتكنولوجي والانقسام الديني والفرقة والتناحر الطائفي والمذهبي والحروب الأهلية وغيرها من الشرور والمهالك التي تعاني منها أمتنا هي مظاهر وتداعيات الأزمة، أما أسبابها فهي إنسانية أخلاقية روحية إيمانية محضة.

تكمن أسباب أزمتنا في تخلّي الفرد والجماعة منذ القديم وعيا وإيمانا وممارسة عن التمسك بأصول المجد وعن الأخذ بقوانين وشروط التحضّر، قوانين مطلقة في الآفاق وشروط متاحة للأنام، وهي الدين والعلم والعدل والوحدة والشرف والكرامة وغيرها، هذه الأصول أوصى بها "الشيخ عبد الرحمان شيبان" رحمه الله قبل وفاته وهو على فراش المرض وطلب نشر وصيته بعد وفاته.

لعل أسوء حال عليه أمتنا كونها تعيش وضعا ينطوي على التناقضات المذمومة بين المنظور والمقول والمعمول، فالكذب الإيديولوجي والنفاق السياسي يضع الإنسان والحضارة في مأزق التوتر الدائم، المؤدي إلى الانفصام الحضاري والتمزّق الاجتماعي والانحلال الأخلاقي والتفسخ الثقافي، والتراجع والضعف والفساد الاقتصادي، والتهور العسكري والحربي، ناهيك عن انتفاء الثقة بين بني البشر، ونماء خوف الجميع من الجميع، فكثرت الحروب وغاب السلم والأمن، وصارت شعوبنا العربية والإسلامية المنحطة المخذولة فريسة لعولمة شرسة متوحشة تديرها أمركة متصهينة باغية.

إنّ تردّي وضع أمتنا وتهيّبها مردّه إلى التعاطي السلبي مع الدور المنوط بها حضاريا بخصوص قوانين التحضر وأصول المجد في الدنيا والسعادة في الآخرة، أصول وقوانين لا موضع لها في حياة أبناء أمتنا، ومنذ زمن بعيد تخلّوا عن كل ما هو جميل ورائع في الفكر والسلوك، تخلّوا عن مكارم الأخلاق، تخلّوا عن قيّم الإسلام وتعاليمه السمحة، ويكفي الإسلام يقينا مطلقا، وتكريما عظيما، وشرفا عاليا، وكمالا ليس محدودا ولا منقوصا، وديمومة أبدية، وشمولية تامة، وكونية صالحة، وخيرا لا ينضب، وعقيدة الفطرة السليمة والمحجّة البيضاء، وخاتم الرسالات، وسبيل الخلاص في الدنيا والآخرة، وأنّه دين الله الذي اختاره الله وارتضاه لعباده، ونزّله على نبيه ورسوله وحفظه من كل مكروه.

لا يستقيم حال أمتنا ولا تعرف النهضة البتة ولا تنعم بالحضارة إلاّ إذا تمسّكت وعيا وإيمانا وممارسة بتعاليم دينها الحنيف، ففيه ما يُغنيها عن غيره من الأنظمة والشرائع وتحلّت بمكارم الأخلاق التي تُعرف بأصول المجد في الدنيا وسبل السعادة في الآخرة.

فالسلام والأمان والحوار والتسامح والمحبة والإخلاص والوفاء والصدق قيّم تؤسس للاستقرار، وتضمن استمرار الطيّب من العلاقات، والفاضل من الروابط، والحسن من المعاملات، فتطيب الحياة ويطيب المقام فيها.

التواصل والتكافل والتضامن والتعاون والتطوع والإيثار قيّم تؤسس للوئام والتواد والتراحم والتعاطف والتعارف والتعايش والاتحاد والوحدة والتكتّل والقوّة والاشتراك في المصير وقوّة الدفاع عن الحقّ وعن الهويّة حين تعرّضها لمحاولات المسخ والزوال.

العلم والعمل والعدل والفطنة والشجاعة والكرامة وبذل الوسع في الجدّ وفي الخير والذكاء والإبداع قيّم ترفع صاحبها بين الناس، وتعلي من شأنه، وتؤسس للملك وتوسّعه وتحفظه، وتبني المجد وتديمه، وتصنع التطور والازدهار.

الإيمان بالله الواحد الأحد الفرد الصمد، وبلوغ مرتبة الإحسان في ممارسة العبودية، وتجسيد الأخوة الإنسانية في المخبر والمظهر، في البصر والبصيرة، يؤسس لا محالة للتوافق والوئام وللاستقرار والسلام ويضمن التعايش ويبني الأمجاد والمآثر، فيستحيل الوجود البشري الفردي والجماعي أنموذج اعتبار واقتداء ومصدرا للتأسّي.