الدكتور جيلالي بوبكر
مشروع التراث والتجديد: مشكلة المنهج في الفكر الإسلامي
إذا كان مشروع 'التراث والتجديد' عند صاحبه يعبر عن أزمة التغيير الاجتماعي في واقعنا المعاصر وعن قضية البلاد النامية، فبالرغم من الشبهات والمخاوف حوله فإنه يعبر كذلك عن مشكلة المنهج في الفكر الإسلامي وهي أزمة البحوث والدراسات الإسلامية التي تعبر عن أزمة البحث العلمي في بلادنا، فهو يعبر عن أزمة الثورة وأزمة العلم معاً، مما يجعله أكثر من ضرورة للكشف عن الأزمتين والعمل على تطويقهما.
ترتبط مشكلة المنهج في الفكر الإسلامي بدراسة التراث، والتراث كما هو معروف قضية شخصية ووطنية وقومية، والباحث مرتبط به انتماءاً فكرياً وحضاريا ولغوياً وأصلاً ومصيراً، يدرس التراث في إطاره التاريخي الصرف وبأسلوب يقوم على الحياد والموضوعية غير مكترث بالالتزامية، في وقت يحيا مستسلما للعصر وللواقع الذي يحيا فيه، هذه الازدواجية في شخصية الباحث تضع البحث أمام مشكلات هي المسئولة عن أزمة منهجية البحث في الدراسات الإسلامية وتعود الازدواجية في شخصية الباحث إلى إمّا بالحكم على الإسلام على أنّه مجرد عقائد لا صلة لها بالعلم وبالبحث العلمي فتدرس بأي منهج خارجي أو اعتبار الإسلام لا قيمة له ولا يقدم شيئاً للبحث العلمي ويتم التعامل معه على هذين الأساسين وهذا يعود إلى ظاهرة "التغرّب" أي اتجاه الوعي نحو الآخر، "وتقليد مناهجه العلمية التي نشأت كرد فعل على معطاها الديني الخالص وهو المسيحية، أو من حالة الركود العامة في التصور الإسلامي للحياة أو في الدراسات الإسلامية التي لم تستطع أن تعطي الباحث مقابلاً للمناهج الغربية... وتكون النتيجة أن يتخرج مئات الشباب وهم مشتتون حانقون غاضبون لم تحل مشاكلهم في البحث عن منهج يمكنهم بواسطته حل جميع مشاكلهم الوطنية والثقافية والعـلمية...وكثيراً ما يؤدي 'التغرّب الثقافي' إلى الهجرة الفعلية- بعد هجرة الشعور- أو يظل مشتتا بينهما دون القدرة على أخذ موقف حضاري له. فهو ملفق مرّة وخالط مرّة، ويظل خائفاً بين الاثنين."[1]
يرتبط المنهج بالموضوع الذي يتعامل معه، وأي اختلال في الأحكام والتصورات عن الموضوع يؤدي إلى اختلال في المنهج وينعكس سلباً على البحث والنتائج. فأزمة الدراسات الإسلامية الحالية "تكشف عن أزمة في مناهج الدراسة. وتتلخص هذه الأزمة أساساً في عدم تطابق المنهج المتبع مع موضوع الدراسة نفسه خاصة إذا كان الموضوع نفسه منهجاً أو يحتوي على منهج كامن فيه، فإن الغالب على هذه المناهج المتبعة أنها إن لم تكن مضادة تماما لطبيعة الموضوع ومنهجه فإنها على الأقل لا تتفق معه."[2] لأنها مناهج لم تدرس من قبل ولم يعيها أصحابها وضعت بالتقليد أو بالعادة أو رغبة في الكسب أو لغرض آخر لا صلة له بالبحث العلمي في مصدره ومنتهاه، الأمر الذي يُسقط البحث العلمي ويتحول التأليف إلى ظواهر بعيدة عن العلم، "لذلك فإن إعادة طرح مسألة التفكير المنهجي فيما يتعلق بالدراسات الإسلامية يمكن بواسطته إحياؤها من جديد لتجنب الأحكام الخاطئة الشائعة، ولربطها بحياة الدارسين القدماء أو الجدد، ما دام التراث قضية وطنية وجماعية، ولصبّها داخل الثقافة الوطنية، وعلى هذا النحو تتحرك قضية الموروث، وتُحيي في أذهان الباحثين شبابهم وذلك بالبدء بالتفكير المنهجي."[3] فأزمة المنهج في الدراسات الإسلامية في أصلها تعود إلى خطأين، الأول يطبع دراسات وبحوث المستشرقين وهو "النعرة العلمية" والثاني يسيطر على أغلب الدراسات الإسلامية لدى الباحثين والمفكرين من أهل الإسلام وهو "النزعة الخطابية". وتبادل المستشرقون مع غيرهم النعرة العلمية والنزعة الخطابية في حالات عديدة ويعود الخطئان إلى الطابع الحضاري لكل جهة من الجهتين.
التراث موضوع بحث بطابع النعرة العلمية التي تسود دراسات المستشرقين يكون بمنهج يخالف تماماً طبيعة الموضوع بحيث تقوم هذه الدراسات على مناهج تدرس التراث كظواهر فكرية، "مادية خالصة، وكتاريخ خالص مكوّن من شخصيات وأنظمة اجتماعية وحوادث تاريخية محصنة، يمكن فهمها بتحليلها إلى عوامل مختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية تحدد نشأتها وطبيعتها، وتحاول ابتداء من هذه العوامل المتفرقة تركيب الظاهرة بدعوى تفسيرها. وهكذا تفقد الظاهرة طابعها المثالي، وتنقطع عن أصلها في الوحي، وعن أساسها في الفكر والواقع، وتصبح ظاهرة مادية خالصة لها أصلها في التاريخ الذي أعطاها أساسها وفي المجتمع الذي أعطاها طبيعتها."[4] فظاهرة التراث تعكس الوحي وتعبر عنه حضارياً وطريقة دراسة التراث في ارتباطه بالوحي والحضارة ينبغي أن تأخذ في الحسبان صدور التراث من النص وهو وصف التكوين الظاهري الذي يكشف نشأة وتطور التراث أولا ثم رد التراث إلى النص مرة أخرى لإزاحة وتصفية ما يمكن تصفيته مما اتصل بالتراث من آثار لثقافات أخرى أو من أبنية فكرية وأحكام بيئية وهو وصف الموضوع وصفاً ظاهرياً ارتداديا. فالدراسة التاريخية والاجتماعية للتراث عند المستشرقين وعدم رده إلى أصوله في الوحي يعود إلى كونهم من أهل الكتاب وينكرون الوحي الإسلامي وإلى تفكيرهم القائم على ترك النظرة المثالية والأخذ بالنزعة المادية، بالإضافة إلى التعوّد على السهولة واليسر في جمع التراث من خلال مادة تنحصر في الأسماء والتواريخ وغيرها، وعدم تخصص المستشرقين منذ البداية في بيئتهم الأوربية التي تشكل العامل الرئيسي وراء 'النعرة العلمية'، "لذلك فإن دراسات المستشرقين ليست دراسات موضوعات بل موضوعات دراسة أي أنه لا يمكن استعمالها كمصادر علمية أو كبراهين يمكن الاستدلال بها والاعتماد عليها قبل تمحيصها أولاً والتحقق من صدقها وبيان ما يرجع منها للباحث المستشرق بتكوينه وثقافته ومزاجه وما يرجع منها إلى الظاهرة نفسها وإبعاد كل التحليلات التي من شأنها إما القضاء عليها أو إفراغها من مضمونها أو تحليلها تحليلاً صناعياً أو إرجاعها كلية إلى التاريخ... لذلك فالاستشراق ليس جزءاً من الحضارة الإسلامية ولا يرتبط بها ولا يفيد شيئاً بل هو جزء من الحضارة الغربية يكشف عن تكوين الباحث الأوربي ومزاجه ويكشف عن حقيقة ما يسمى: الموضوعية أو العلمية، كما يبيّن عمل شعور الباحث الأوربي في دراساته لحضارات أخرى غير حضارته ويعرض تحيزاته."[5] كما ارتبط منهج الاستشراق في دراسة التراث الإسلامي بالوضعية وظل حبيساً فيها رغم ثورة المفكرين الأوربيين على المنهج الوضعي في القرن التاسع عشر والعشرين في العلوم الإنسانية، ولزم المستشرق الوضعية المتخلفة فكرياً ومنهجيا، "لأن الدوافع ثابتة، وأهداف الاستشراق لم يتغير، ووجدوا المناهج الوضعية في القرن التاسع عشر أكثر استعداداً لتحقيق هذه الأهداف، ولم يخرج على هذا إلا القليل الذي تابع تطور مناهج العلوم الإنسانية."[6]
تظهر 'النعرة العلمية' في مناهج المستشرقين من خلال ما تقوم عليه هذه المناهج من التزامها مجتمعة أو على كل بمفرده بالتاريخية أو طريقة تحليلية أو أسلوب إسقاطي أو طريق الأثر التأثر. فالمنهج الأول يتكون أساساً "من البحث عن الوقائع التاريخية أو الاجتماعية ووضعها بجوار بعضها البعض وترتيبها ثم الإخبار عنها والتعريف بها باعتبارها الظاهرة الفكرية ذاتها تاركاً كلية أصول الظاهرة في الوحي أو الشعور، وخالياً من كل تفسير أو فهم أو تأويل أو بحث عن دلالة أو تعرّف على قانون... ليس المطلوب الآن هو الإخبار بل اكتشاف تصورات العالم في علومنا القديمة التي تحدد نظراتنا إلى واقعنا المعاصر والبحث عن وجهات سلوكنا في أبنيتنا النفسية القديمة التي ورثناها. لقد نشأ الاستشراق لهذه الغاية، وهي الرغبة في الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن البلاد الأخرى التي وقعت تحت الاحتلال الأوربي حتى تستغل هذه المعلومات في فهم روح الشعوب القاطنة هناك حتى تسهل السيطرة عليها ومخاطبتها بلغتها."[7] ناهيك عن كون المنهج التاريخي يزيل الوحدة والاستقلالية في الظاهرة التاريخية أو الاجتماعية ويعيدها إلى عوامل مادية لكن مهمة الباحث تكمن في نقل الموضوع من أسسه المادية تاريخ أو حداثة أو فرقة إلى أسسه الفكرية الشعورية من أجل تحديد تصورات العالم، و"مهمة التجديد أنه باستطاعته اقتراح الفروض، وإلقاء وجهات النظر. التي يمكن العثور عليها إما من الوحي وهو المصدر أو من العقل وهو الأساس أو من الواقع وهو المحك والمقياس... يحاول الباحث المجدد أن يعيد بناء الموقف القديـم بـثقافة العـصر... وهي معادلة صعبة أن يجمع الباحث بين التاريخ والفكر. فلا تهمنا الوقائع التاريخية بقدر ما يهمنا الفكر والتحليل النفسي للأفكار ومدى أثرها وفاعليتها في الجماهير عن طريق إعادة بناء الموضوع نفسه في الشعور وتجربته على الباحث نفسه، وعلى هذا النحو يتم الخلاص من عيوب المنهج التاريخي."[8]
وإذا كان المنهج التاريخي يقوم بجمع الوقائع التاريخية ووصفها إلى جانب بعضها البعض وترتيبها والإخبار عنها والتعريف بها باعتبارها وقائع فكرية مهملا أصول الوقائع التاريخية في الوحي أو الشعور فإن المنهج التحليلي يقوم بتفتيت وتفكيك الظاهرة إلى مجموعة من المكونات يحصل التركيب بينها في كومة غير متجانسة، وكأنها ظاهرة مركبة تركيباً صناعياً ولتوضيحها وفهمها ضرورة تحليلها إلى عناصرها الأولية. والمنهج التحليلي "مخالف تماماً لطبيعة الظاهرة الفكرية المدروسة التي تكونت أساساً من تحويل النص الموحى به إلى معنى والمعنى إلى بناء نظري، ففكرة العوامل التي تحدد تكوين الظاهرة وتتحكم فيها وفكرة العناصر التي تتكون منها مادة الظاهرة لا يمكن أن تساعد على فهم الظاهرة الفكرية التي نشأت طبقاً لمنهج في تفسير النصوص أي طبقاً لمنطق في فهم الوحي وحسب منطق عقلي آخر حدد طبيعة البناء النظري الظاهرة الفكرية الناشئة من تحول الوحي إلى حضارة ليست ظاهرة مركبة تركيباً صناعياً من عناصر ووقائع مادية أنشأتها عوامل تاريخية بل ظاهرة معنوية نشأت من تحول النص الديني في شعور المفكر إلى معنى ففي امتداد للنص الديني على مستوى الفكر."[9] ارتبط التفتيت والتفكيك للظواهر إلى عناصرها الأولية بعقلية ومزاج وثقافة وبيئة الباحث الأوربي للقضاء على الطابع الكلي والشامل للظواهر والفكر والتفسير وهو ما تتميز به الحضارة الإسلامية وقد انتبه مفكروا الغرب إلى المسألة وظهرت مناهج تكاملية تستبعد الدراسة الأحادية. هذا لا يعني أن المنهج التحليلي غير مجدي بل التحليل مهم في إطار البناء الكلي للوحي والشعور والتاريخ والواقع. أما المنهجية الإسقاطية اللاشعورية تقوم على الإطلاق حيناً وعلى النسبية في حين آخر. فالباحث المستشرق أما أن يرى الظاهرة موضوع الدراسة من خلال صورته الذهنية أو يرى الظاهرة موضوع الدراسة فيبعد تفسيرها الحقيقي ويعطي بدلاً عن ذلك تفسيراً مرتبطاً بأبنيته النظرية وصوره الفكرية وفي الحالتين يُسقط الباحث صوره الذهنية وأبنيته النظرية على بحثه فتغيب الموضوعية. والإسقاط ظاهرة سلبية يقع فيها الإدراك بحيث لا يدرك المستشرق في العالم الخارجي من الموضوعات إلا ما هو حالّ في داخل ذاته كصور ومعاني ذهنية. وتكوّن الإسقاط بسبب خضوع الباحث لهواه ولانطباعاته والأحكام المسبقة العقلية والانفعالية والتحرر منها شرط البحث العلمي: "والضامن الوحيد لموضوعية الذاتية هو أنها تعتمد على الوحي باعتباره حقيقة موضوعية مستقلة غير موضوعة من الأفراد الذين قد تغلب عليهم وجهات النظر والمصالح والأهواء والنظريات أحادية الطرف. كما أن براءة الشعور الأصلية قادرة على توجيه الذات نحو الموضوع دون قضاء عليه أو تزييف له، وهي البراءة التي تعبر عن النية الخالصة من حيث وظيفتها المعرفية."[10]
يؤكد "حسن حنفي" أن المنهج الرابع الممثل للنعرة العلمية يحمل أسلوبا يُفرغ الموضوع المدروس من مضمونه ومحتواه بعدما كان المنهج التاريخي قد عزله عن مصدره واعتبره ظاهرة تاريخية بحتة وبعد أن فتته المنهج التحليلي إلى عناصر كثيرة مركبة تركيباً صناعياً وبعد أن فسّره الإسقاط بصور ذهنية في ذات الباحث. فمنهج الأثر والتأثر يقوم على "إصدار أحكام على موضوع البحث بمجرد وجود اتصال بين بيئتين ثقافيتين، وظهور تشابه بينهما مع أن هذا التشابه قد يكون كاذباً وقد يكون حقيقياً وقد يكون لفظياً وقد يكون معنوياً."[11] فالفلسفة الإسلامية حسب هذا المنهج مجرد ترديد للفكر اليوناني، والتصوف الإسلامي مصدر خارجي إيراني أو غيره وكذلك الأمر بالنسبة للعلوم الإسلامية الأخرى. ويعود أسلوب الأثر والتأثر إلى ارتباط الاستشراق في نشأته ببيئة الغرب الأوربي الخاضعة لهذا الأسلوب الذي يجرد الموضوع المدروس من مضمونه وجدّته وأصالته ورده إلى الخارج. في حين أن الأثر والتأثر فعل حضاري معقد يتم على مستوى اللغة والمعاني والأشياء. فإذا حصل التشابه بين حضارتين في اللغة فهو استعارة وإذا حصل في المضامين قد يكون السابق دافعا للتالي على الإبداع. لأن هناك حقائق إنسانية عامة وثابتة بلغتها عقول متفتحة أدركتها من دون أثر وتأثر الذي يقضي على فعل الروح ودور العقل ويردّ كل شيء إلى مصادر خارجية وتلك هي غاية المستشرق الغربي.
إلى جانب أخطاء النزعة العلمية الإستشراقية يوجد الخطأ المضاد وقع فيه أصحاب النزعة الخطابية وهم ممن ينتسب إلى الحضارة الإسلامية. "وبالرغم من النزعة الخطابية تعطي الأولوية للوحي على التاريخ إلا أن الاتجاه اتجاه ساذج يعبر عن نوع من المراهقة الفكرية حيث تسود العاطفة ويسود الانفعال. ويصدر الفكر مندفعاً في حمية ودون وضوح نظري. فهو ناتج عن أزمة أكثر من صدوره عن موقف فكري، أزمة الحق الضائع، والعجز العقلي والتخلف الجماهيري...النعرة الخطابية إذن نقص في الجدلية ونقص في الوعي الإدراكي للمشاكل، يساعد على ذلك نقص في التكوين النظري للباحث. فهو يعبر عن المستوى الحالي من تطور الحضارة ولكنه متخلف عن المستوى الثقافي للتراث القديم الذي استطاع دفع المشاكل وإيجاد حلول عقلانية لها، وقد بلغ التعقيل في تراثنا القديم درجة أن التراث كله أصبح نظرية في العقل."[12]
وما دامت النزعة الخطابية ذات طابع تميز بالسطحية والسذاجة والمراهقة الفكرية، فإنها لا تتوفر على مناهج محكمة ذات أصول وقواعد وخطوات فهي عبارة عن دراسات تتميز بالتكرار والاجترار أو بالدفاع أو بالجدل والمهاترة أو بالحدس قصير المدى. بالنسبة للبحوث التي يطغى عليها التكرار والاجترار نجد غلبة مضمون النصوص القديمة المدروسة من غير فهم أو تفسير. فالخطر الآن ليس في المحافظة على التراث لأن التراث مدون ومحفوظ بل الخطر في التكرار بغير فهم والإعادة بدون وعي وغياب تفسير معاصر للموروث القديم. قد يكون التكرار رسالة ودعوة وليس وظيفة أو مهمة ويكون تعبيراً عن الحدس وليس مجرد تحصيل حاصل فالفكر الهادف لا يملك إلا واقعة واحدة يعبر عنها بصيغ وأساليب متعددة. فالحدس رؤية للواقع والواقع لا أن يتجلى على درجات متعددة ومستويات مختلفة وهذا ليس بتكرار بل إبراز وحدة الحدس بالرغم من تعدد المستويات واختلافها. ومن صفات النزعة الخطابية التقريظ للتراث والدفاع عنه وهو ضرب من الخلط بين التفكير والتبرير ويتميز التقريظ بالدفاع عن التراث وعن التاريخ ككل بدون فحص وتمحيص. ولقد نشأ كل من التقريظ للتراث والدفاع عنه لتبرير العجز والفشل في استخدام الاستدلال وفي تحديد الهدف والتخطيط للوصول إليه. وجاء استخدام الجدل والمهاترات نتيجة لاستعمال التقريظ والدفاع لأنهما "بقايا من وجود فكري للموضوع فإن هذه البقايا تُمحى كلية في الجدل والمهاترات. فالجدل لا يهدف إلى الوصول إلى الحقيقة بل يهدف إلى الانتصار على الخصم... المجادل لا يفكر بل يريد هزيمة الآخر ولو على حساب موضوعه ومنطقه ومواقفه الفكرية... فالمجادل لا يفكر ولا يحايد بل يعارك ويحارب وهنا أيضاً يضيع العقل وتسود العاطفة والانفعال ويكون أمام الفن الأدبي القديم، فنّ المناقضات الأدبية، ولسنا أمام فكر موضوعي وتحوّل الباحثون إلى شعراء لا يقرضون شعراً."[13] وهذا لا يعني أن الجدل فعل مذموم في ذاته فلم يخل ماضينا ولا واقعنا من المعارك الفكرية والمناظرات العلمية لكن هناك فرق بين الجدل والتنوير. فصراع الأفكار حول الواقع والتاريخ والتراث والمستقبل جزء من التنوير خالي من الذاتية والمهاترات ففي أصول الفقه مثلا قام الجدل بين الفقهاء "يدل على جدل آخر بين النص والواقع. وهو جدل منطقي سلوكي من أجل توجيه الوحي لحياة الناس. فالجدل ليس مداناً بذاته بل هو مدان إذا تحول إلى مهارات وسفسطة في حين أنه يمكن أن يكون دليلاً على الحوار وعلى خصوبة الفكر."[14]
إن الاتجاهات التجديدية الحالية ارتبطت بالنزعة الخطابية التي تقوم عليها ظاهرة الحدس قصير المدى ويعني ملاحظة الباحث لحقائق تعتبر ابتداء من الوحي، ويعتبر قصير المدى لأنه مجرد رؤى مشتتة بغير إجماع في بنية نظرية كاملة لا تكون نموذجاً لوصف الظواهر الفكرية أو منطقاً لتحليل الوحي وتفسيره وهو محدود في تكوينه الفكري النظري وفي تطبيقه في الواقع وهو جزئي لأنه لا يقدم صورة عن التراث ككل بل في جزء منه فقط. ويعود الحدس قصير المدى إلى ضعف في تكوين الشخصية الحادسة وإلى غياب الاستمرار عليه.
وإذا كانت دراسات المستشرقين تدل على التكوين النفسي والثقافي للباحث أكثر مما تدل على واقع مدروس ومُفسر فإن دراسات مفكري الإسلام المحدثين والمعاصرين تدل على تكوينهم النفسي والاجتماعي وثقافتهم وواقعهم أكثر مما تكشف وتدل على واقع مدروس ومفسر. "وإذا كان خطأ النعرة العلمية أنها تعرف 'كيف تقول؟' دون أن تعرف 'ماذا تقول؟' فإن خطأ النزعة الخطابية أنها تعرف 'ماذا تقول؟' دون أن تعرف 'كيف تقول؟'. والتراث والتجديد لتفادي الخطأين معاً يحاول أن يعرف 'ماذا يقول؟' وهو التراث 'وكيف يقول؟' وهو التجديد."[15]
التراث والتجديد تصور وخطة، التراث تصور لمعطى له عناصره ومكوناته وتركيبته وبيئته، له شكله ومحتواه، له جماله وقبحه، له قوته وضعفه، له أبعاده وله منتجوه، له شتاته ووحدته، هذا وغيره هو ما يظهر عليه المعطى، ويتم تسجيله في ثنائيات وغيرها، فيتشكل التصور مرتبطا بالذات والفكر والثقافة وكل محددات المحيط الذي يعرف استمرار التراث ويعيش عليه، فيكون التصور مفعما بالذاتية أو على درجة من الموضوعية، أو تمتزج الذاتية بالموضوعية وهو الغالب، ومشروع التراث والتجديد يستهدف معرفة التراث بأعلى درجة من الدقة والموضوعية والعمق ليعيش فعلا في الوجدان لا على اللسان، وفي العمل لا في النظر، وفي الواقع لا في النص، وفي الإبداع لا في النقل، وفي الثورة لا في السكون، وفي البقاء لا في الفناء.
أما كون التراث والتجديد تصورا وخطة فإذا كان التراث تصورا ومعطى فإنّ التجديد خطة ومطلوب، مطلوب تتحدد فيه سائر الآمال والآلام، الأفراح والأحزان، المرامي والغايات البعيدة والقريبة، مطلوب لا يتجرد البتة من الحاضر ولا من الماضي والتاريخ ولا من التراث خاصة إذا كان التراث يتمتع بالقوة والمناعة والإشراق، والتجديد خطة وأسلوب في الفكر وفي العمل تتحدد فيه المفاهيم والتصورات والشروط والآليات، وتتحدد معها المناهج والسبل والميادين على مستوى النظر والعمل، على مستوى الواقع والنص، على مستوى النقل والإبداع، على مستوى التراث والتجديد ذاته، رسالة التراث والتجديد في جوهرها الجمع بين ماذا نقول؟ وكيف نقول؟.


[1] - حسن حنفي: التراث والتجديد، ص69-70.

[2] - المرجع نفسه : ص70.

[3] - المرجع نفسه : ص70.

[4] - المرجع نفسه : ص71.

[5] - المرجع نفسه : ص74.

[6] - المرجع نفسه : ص75.

[7] - المرجع نفسه : ص81.

[8] - المرجع نفسه : ص 84- 85.

[9] - المرجع نفسه : ص85-86.

[10] - المرجع نفسه : ص91.

[11] - المرجع نفسه : ص92.

[12] - المرجع نفسه : ص96-97.

[13] - المرجع نفسه : ص101.

[14] - المرجع نفسه : ص102.

[15] - حسن حنفي: التراث والتجديد: ص105.