مقدمــــة
-------------------

بينت للأحبـة في منتـدى الفرسـان من خـلال موضوع سـابق قناعتي بمقـدرة اللغـة العربيـة على مواكبـة كل شيء. وكنت منـذ عام 1995 عضـوا في لجنـة التحريـر لإحـدى المجـلات العربية المتخصصة في مجـال الحاسـب. وهي تصدر من واشنطن في الولايـات المتحـدة، ويقـوم عليهـا مجموعـة من الشـباب العرب المقيم هنــاك. واسـتمرت المجلـة في الصـدور لعـدة سـنوات وكانت تــوزع في منطقـــة الخليــج.

كنت أنـادي دومـا بضرورة فعـل أقـل الشيء تجـاه علوم الحاسـب ونظــم المعلومــات باللغة العربيـة. لأن هذا العلم هو علم المســتقبل بكل معنى الكلمة. وكان الزخـم والحجـم المتدفـق من تطـور علوم التقنيــة بشكل عام آنــذاك (وليس اليوم بالطبع) باللغـة الانجليزيـة فقط ... كــان أغـزرَ بمئات (إن لم نقـل ألاف) المرات من أحجام جميع قواميس العربيـة كلهـا مجتمعة بأضعاف لايعلمـها إلا اللـه (وأقصد هنا الحجم وليس القيمة). إلا أني كنت مصـرا على تطويـع بعض الكتب الأساسية لأعربـه تعريبـا دقيقـا فاعـلا يتيح الفرصة الكاملة لرجـوع الباحث إليـه وفـق معلومـة غنيـة وقـوة تعبيـرية من الناحيتين الفنيـة واللغويـة.

وشـاءت الظروف أني انتهيت آنـذاك من تعريب أحد الكتب المهمـة فيما يتعلق بأحد الأنظمة الأساسية الخاصة بمايكروسوفت. وقامت الشـركات ذات العلاقة بطباعـة ونشـر ماأنجـز. وبـرزت نقاشات طويـلة وشـائكة فيما يتعلق بجـدوى التعريب وفائدته، فقمت بالـرد على ذلك، والثنـاء على هذه المجلـة العربيـة، والعتب على من أنكـر جدوى التعريب. وأردت أن يكـون ردي ليس مجـرد مقـال .. بل أردتـه أن يكـون مقـالا مزخرفـا لأبيـن أن العربيـة قادرة على التعبيـر العلمي مستشـهدا بالكتاب الذي أنجــزت، والرد (ليس العادي فحسب) بل المنمـق والمنظـوم .. على المنكـرين.



المقامــــة الحاســــوبية
هشـام الخانــي
1995


أعتبـر نفسـي في الغـالبِ، أني من أصحـاب الحاسـبِ. فاللـه العلـي القديـرْ، أراد لي هذا المصيـرْ. ورغم صعوبـة العمـل، تراودنـي نفحـات الأمـل. لأن ما يأســـر القلوبْ، جهـاز يدعـى الحاســوبْ. وبفتـرة وجيـزة من الزمـان، أصبحت واحـدا من الخـلان، الذين سـاهموا بكل أمـان، بالفكـر والقلب واللسان. فرحت أصـول وأجـولُ، وعن التمحيص لاأحـولُ، ليشــملني القبـولُ، فيما أكتب وأقــولُ.

أما أهـل التحريـر والإدارة، فقـد قدمـوا للعربيـة بجـدارة، مايسـتحق التقديـر، من دعــم غزيــر، وجهـد كبيـر. فنقلوا أخبـار الحاسـوب، لأهـل الشــمال والجنــوب، بكل مقـروء ومكتـوب، على مانالهـم من لغــوب. وانتـدبوا لتلك المهمـة، المخلصين ذوي الهمـة، فبلغـوا المنال في القمـة. وأســعد مقـالهـم أخوتهـم القـراء، ليحـاكي هدفهـم ويزيـد الإثـراء، وينثـر أفكـاراً نيــرة قمـراء، ويسعد الأحبـاب وينشر الآراء, ويغنـي مكتبة عربيـة غـراء.

فالمجلـة جـاءت بالدفـاع عن العربيـة، وأؤيـد ذلك بحـق دون حميـة. فالعقـل يقـول: أنقلـوا الخبـر، بلغة القـارىء .. ليستوعب إذا قـرأ ونظـر. وليست الهـوة بيننا وبيـن الغرب، إلا لما لاقتـه العربيـة من الحرب. فهـم يحبسـوا عنـا المصـدر، ليتيحوا لأجيالهـم أن تتصـدر، ومازلنــا نبحث سـبب تعثرنـا .. ومامن شيء للتـو قـد تقـرر!

وبموجب هذا الظرف، ســنبقى في الخلف، ننظـر من خفي الطرف. فيصيبنــا الحزن والتأثـر، ولانـدري لمـاذا التأخـر؟ وإلى متى السـكوت والتعثـر. والحـق ينــادي الأحبـاب: أعْمِلـُوا العقـول والألبـاب. فالمسـألة تحــدد المستقبل والمصيـرَ، والأمـر لايحتـاج جهـدا وتفكيـرا. فالواقع يقــول: اعرفـوا السـببَ، لتبطـلوا العجبَ.

إن الغربي في عملـه يجيـدُ، وعن المثـابرة لايحيـدُ. أمسـى في كل العلـوم خبيـرا، ينهـل منهـا نهـلا غزيـرا. وغيـره من الناس لايليـهِ، وكـان الأمــر لايعنيـهِ. فهـل فكـر أحدنـا بذلك؟ وسـلك إلى العلـة المسـالك؟ ربمـا ذلك قـد حصـلَ، وربمـا البعض قـد وصـلَ. ولكــن ...

إن الغـربي في عملـه يجيـد، لأن المرجـع لديـه عـديد، بلغتـه ... فلاهـدر للوقت ولاتبـــديد. ومن غمرتـه المصـادر والعلـوم، لايعاتبـه أحـــد أو يلـــوم. فالموضوع بلغتـه مكتوب، مفتوحـة أمامــه الدروب، لايعيقـه غامض أومحجوب. فلديـه الموسوعــات، والمراجـع والمخطوطـات، وماتـزود بـه دور النشـرْ، ممــا ليس له حصــرْ. فكيف له أن يتعثـر؟ وألا يعـي ويتبصـر؟ أمامـه مفتوحـة سـبل المعابــر، ليعمـل على كـل المحـاور. فــإذا انتابتـه مشــكلة، مســألة أم معضلــة، تنـاول مصـدرها الميســر، يتمعـن فيــه ويتبحـر، ويـزداد علمـا ويتنـور. كيف لا .. وهي بلغتـه منشــورة مكتوبـة، ويزعـم أنهـا لأصـوله منسـوبة !

وطـالبنا إذا ذهب إلى الغرب، فـلابد قبـل ســلوك الدرب، أن يقـدم المراسـم، ليفك الرمـوز والطلاسـم. فيكابـد ويعــاني، وتتحطـم الأمــاني. فاللغـة باتت هي العقبـة، ولابـد أن يقصـر الرقبـة. ولكــنه عـربي أصيـل، ولغيـر لغتـه لايميــل، مسكين .. غـاب عنــه البديـل. الدراســة أمامــه ممــدودة، والطريـق إليهـا مســدودة. فباللـه ياأهـل الفكـر دبــروه، ومن تلك الوطــأة حــرروه.

دبــروه يــاأهـل الفكــر، بمـا خبرتـم من الدهــر، كيـلا يموت من القهـر. وحققــوا لـه كل الأمــل، بما تقدمـوا له من عمــل، دون كــلل أو مــلل. أجــل .. أغنــوا العربيـة بكـــل جديــد، من كـل علـم مفيـد. وصـوغوا ذاك المصطلح بالاســم، الذي يوافقــه في الرســم. وابتغـوا لذلك الوســيلةْ، لتغنـوا النتـــاج والحصيلــة. فتزدهـي لغتنـا بالمصطلحـات، وتواكب بدقتهـا الحضــارات، مهمـا كان مصـدر اللغــات. ولتـُـسْـبَرُ الأغـوارُ والعلــومُ، بمــا نريـد ونـروم، فتعــز بكــم الأمـة المجيــدة، وتعـود لهـا مكانتهـا العتيـدة.

وتذكـروا أن أســلافنا العرب، قـد نشــروا العلــم والأدب، وشــجعوا من إليهمــا انتســب. فعـزّ بجهدهـم الكــاتب والأديب، ونبـغ بفضلهـم العـــالم والأريب. أليس ذلك لنــا بدليــل؟ أو عبـــرة لشــفاء واقعنــا العليــل؟

ياأهـل الفكـر والبيــان، ياأصحـاب القلـم واللسـان. صـدقوني .. مازالت لغتنــا زاخـرة جديــرة، تشــمل الكـل صغيــرة وكبيـرة. فمفرداتهـا كثيـرة، وعباراتهـا وفيـرة. فهي طيعـة هينـة، وسلســة لينــة. اختــارها ربكـم للإنســان، لتكـون له خيــر بيــان. فحـوت كل ماجـاء في الديـن، بلسـان عربـي مبيـن، تنزيـل من رب العالميـن. واســتوعبت مافيــه من أحكــام، بدقــة صياغــة وإحكــام. وحســبي على ذلك دليـلا، ماأقـره علمـاء الغرب قيــلا، من أن اللغــة تتصف بالإعجـاز، إذا تميـزت بالإيجـاز، وللغتنـا في ذلك خيـر امتيــاز.

فبجملــة واحـدة قصيــرة،ْ تتجـلى المعـاني الكثيــرة ْ. وإضافـة إلى دقــة المعنــى، يســحرك ســبك المبنــى. أربـكَ حُسنـُها وبيانـُهـا الأعــداء، وشـاؤوا أن يُحـِـلـّوا بهــا الـداء. لكن الكيـد إلى النحـر ردّ، وكـان عنـد اللــه عهـدا. فقـال الرحمــن في كتابـه المكنــون: إنــا نحن نزلنــا الذكــر وإنــا له لحافظــون. تبـاركت اللغـة بالذكـر الحكيـــم، وتشرفت العربيـة بالخيـر العميـم.

إنهـا اللغـة الكريمـة العليـة، زانت بهـا النفوس الأبيـة. ملئت بكل الخيـر الوفيـر، ونعـم بهـا كل ذي تدبيـر. صـاغ العلـومَ بهـا الأجـدادُ، وســعد بفيض عطائهـا الأحفـادُ. وكانت وسـيلتهم إلى كل الأمـور، من علـم أو شــعر أو بحـور. حمـاها ربي الحفيظ الخبيـر، وأذل أمامهـا كل شــرير، فهـو على كل شـيء قـدير.

هشــام الخـاني