يقولُ اللهُ - عزَّ وجلَّ- في سورة البقرة: " يَسْألونَكَ عَنِ الأَهلَّةِ قلْ هِيَ مواقيتُ للنَّاسِ والحَجِّ وليسَ البرُّ بأنْ تأتوا البيوتَ مِنْ ظُهورِها ولكنَّ البرَّ مَنِ اتَّقى وأْتوا البيوتَ مِنْ أبوابِها".
في هذه الآيةِ روعةُ نظمٍ وجمالُ رصفٍ وحُسنُ سبكٍ يتجلى في استحضار العطفِ بقوله تعالى: " وليسَ البرُّ بأنْ تأتوا البيوتَ مِنْ ظهورِها" ؛ ذلك أنَّ مدار العطف على الربط بين جملتينِ تتفقانِ معنًى، فكيفَ ذلك وفي ظاهرِ الآيةِ بُعدٌ بين السؤال عنِ الأهلةِ وحكمِ إتيانِ البيوت؟
لقد أوضح ابن الزملكاني في كتابه التبيان في علم البيانِ المُطلع على إعجاز القرآن أنَّ ما قد نراهُ في النص القرآني معطوفًا منقطعًا في الظاهرِ عما قبله لا بُد من اتصاله به معنًى، وقد عالجَ فهمَ الآيةِ السابقةِ، وبيّنَ النَّظمَ البيانيَّ بها، فقال: كأنهم قيل لهم عند سؤالهم عن الحكمةِ في نقصانها وتمامها معلومٌ أنَّ كل ما يفعله اللهُ تعالى فيه حكمةٌ ظاهرةٌ ومصلحةٌ لعباده فدعوا السؤال عنه وانظروا في واحدةٍ تفعلونها أنتم مما ليس من البر في شيء وأنتم تحسبونها برًّا.
فما هو هذا الشيءُ الذي ليس من البرِّ؟ يقول صاحب التحرير والتنوير: " كانوا إذا أحرموا بالحج أو بالعمرة من بلادهم جعلوا من أحكامِ الإحرامِ ألا يدخل المحرم بيتَه من بابه أو لا يدخل تحت سقفٍ يحول بينه وبين السماء، وكان المحرمون إذا أرادوا أخذ شيءٍ من بيوتهم تسنَّموا على ظهور البيوتِ أو اتخذوا نقبًا في ظهور البيوت إن كانوا من أهل المدر، وإن كانوا من أهل الخيام دخلوا خلف الخيمة".
فكيف نفهم ارتباط الجملتين في الآية الكريمةِ من جهة المعنى الذي لا بد من اتصاله، يقول ابن الزملكاني في ذلك: " يجوز أن يكونَ ذلك من قبيل التمثيل لما هم عليه من تعكيسهم في سؤالهم وأنَّ مثلهم فيه كمثل من يترك باب الدار ويدخل من ظهر البيت فقيل لهم: ليس البر ما أنتم عليه من تعكيس الأسئلة ولكنّ البرَّ من اتقى ذلك، ثم قال: وأتوا البيوت من أبوابها؛ أي باشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ولا تعكسوا".
الدكتور عبد الله نصار