هشام السلامونى يرحل إلى ذاكرة الوطن
بقلم/ سمير الأمير
كيف يمكن اختصار الإنسان فى سطور قليلة، ما أتعس الكتابة حين تكون مرغمة على التعبير عما يصعب التعبير عنه- هنا لا يصلح سوى الشعركما علمتنا كلمات الراحل العظيم "أمل دنقل" فى رثاء صديقه " يحيى الطاهر عبدالله" حين قال " هل يموت الذى كان يحيا كأن الحياة أبد؟" أليس من المدهش أيضا أن هشام كان دائما حفيا بالاثنين معا بقدر اقترابهم من الوطن ومن " الحياة الخالده للشعب وللنيل وللأرض المخضبة بدماء الشهداء وعرق الفلاحين الفقراء ، نعم لقد كان هشام السلامونى أيضا يحيا كأن الحياة أبد ، كان ذلك جليا فى كتابته المسرحية ومقالاته السياسية والنقدية و أشعاره الرائعة التى واكبت أحداث الوطن، ألم ينتظر لعامين كاملين ظل يقاوم فيهما المرض حتى اطمأن على الثورة التى قادها شباب مصر فى ميدان التحرير؟إذ ليس ثمة فرق كبير بين هؤلاء الشباب الذين أشعلوا ثورة يناير وجيل السبعينات الذين انشغل د. هشام السلامونى بالتأريخ لحركته الوطنية فى دراسته الوثائقية عن الحركة الطلابية من 1968إلى 1977 والتى صدرت بعنوان" الجيل الذى واجه عبد الناصروالسادات" عن دار قباء سنة 1999، ومن المدهش أيضا أنه كان توصل فى دراسته تلك إلى حقيقة أن الحركات الإسلامية التى يختلف هو نفسه مع الكثير من توجهاتها هى حركة وطنية بامتياز وقد ساعده تناوله الموضوعى لما جاء فى التحقيقات مع تلك التنظيمات على الوصول لتلك الحقيقة , ففى مقدمة الدراسة يقول عن الجماعات الإسلامية " فوجئنا بهم وقد طالت لحاهم يشبهون الشيوعيين ويقولون نفس كلامهم ( يعارضون الفقر والفساد والفشل الإدارى) ثم ينقل مقولة السادات عنهم " إن الشيوعيين تخفوا داخلهم " ثم يستطرد هشام السلامونى " الأمر هو غضب شريف للشباب يشوه ويقمع فينحرف إلى ساحات العنف"_ أظن أن ما حدث فى ميدان التحرير يؤكد ما ذهب إليه الدكتور هشام فى بحثه، فرغم أن الدراسة هى فى جوهرها وثائقية و تاريخية إلا أنها جاءت معجونة بروح " هشام السلامونى" المفعمة بالسخرية المرة أحيانا وبالنكتة الحلوة أحيانا أخرى ، وبأسلوب يكتنز ملاحة وخفة دم المصريين الذين لم ينفصل عنهم حتى آخر رمق، نعم "فهشام" الذى تربى فى كنف أبيه د. محمد السلامونى أستاذ اللغات الأوربية القديمة ، هشام الذى أرانى صورته فى ألبوم الأسرة وهو طفل مدلل يرتدى " الشورت ويرفع يده ليسلم على جمال عبد الناصر بينما يقف الوالد مبتسما للرجل العظيم الذى عشقه وعشق ثورته، هو نفسه هشام الذى عنًون أول فصل من فصول كتابه عن الحركة الطلابية بكلمات والدته البسيطة فكان العنوان" قالت أمى :- عيناه زائغتان .. سيعلن مصيبة" و ذلك كان تعليقا من الأم حين أطل ناصر على الجماهير من شاشة التليفزيون ليعلن مسئوليته عن النكسة، ثم تترى عناوين الفصول الأخرى وهى ليست أقل طرافة من العنوان السابق ومنها مثلا" السادات يدخن " الكنت" فى مجلس الأمة " وهى الدلالة التى استخدمها هشام ليدلل على أن توجهات السادات نحو أمريكا والغرب كانت توجهات مبكرة منذ أن كان رئيسا لمجلس الأمة وربما أبعد من ذلك.
رحل هشام السلامونى إذن إلى ذاكرة الوطن وسنبتعد قليلا عنه لنجده فينا على حد تعبير الشاعر " محمود درويش" سنجده حين نعاود قراءة مسرحياته" العدو فى غرف النوم" بما يحمل عنوانها من دلالة على عبقريته ككاتب مسرحى مصرى آمن بدور المسرح فى نشر الوعى بالقضية الوطنية ومسرحية "كان يوما صعبا جدا " التى كتبها عن شهداء المقاومة وأبطالها مستخدما أسماءهم الحقيقية مبتعدا عن الأسلوب التسجيلى الذى يركز على الحقائق التاريخية فقط ومشكلا نصا إنسانيا عاديا يسهل علينا التعايش مع أبطاله واستلهام تجربتهم فى نص الحياة إذ هم أنفسهم بنفس أسمائهم الحقيقية أبطال المقاومة الشعبية فى السويس الذين صدوا تقدم العدو وحرموه من التقدم إلى العمق المصرى ، وكذلك مسرحية"المعذبون فى الأرض، ومسرحية "الخطر فى ثياب بيضاء" والزهور لا تموت" والبرج اللى فاضل"، وكذا أعماله الإذاعية " خلوصى حارس خصوصى" واثنين فى الهوى" و " مين بيضحك على مين؟ كما كتب للسينما المصرية أيضا "الأرملة والشيطان" و"النيل يجرى شمالا" و "المخربون"
لقد كان هشام يوظف كل نصوصه الإبداعية لخدمة النص الأعمق والأشمل وهو " نص " الوطن والإنسان" الذى يكتبه الشعراء والمسرحيون والسنمائيون والمهندسون والمدرسون والعمال والفلاحون إذ آمن هشام السلامونى دائما بالشعب المصرى وكان يرى أبعد مما نرى نحن بل وكثيرا ما أشفقت على قلبه وهو يناقش الأصدقاء بحدة تكاد تودى به أو تودى بالصداقة نفسها ولكنه أبدا لم يخسر صديقا ، بل كان يجمع أحبابا ومريدين كل يوم كصوفى مشدوه بحب بلاده ، أذكر حين جاء إلى قريتى فى محاقظة الشرقية بصحبة صديقه الشاعر سمير عبد الباقى بعدما حكيت له عن بيوتها التى ظل معظمها يقاوم ثقافة الأعمدة الخرسانية حتى وقت قريب، قال لى " عليك أن تأخذنى فى جولة لأرى الناس وأتحدث إليهم " كنت أنا الريفى متحفظا بينما لبى هو دعوة كل فلاح دعاه إلى كوب من الشاى أو إلى تناول قطعة من الجبن القريش وحين قلت له علينا أن نرجع للبيت لأن أمامى رحلة العودة للمنصورة و أمامهما رحلة العودة إلى القاهرة قال فلتعد أنت أما أنا فسوف ألحق بك حين أكمل جولتى" وبالفعل عدت لتسألنى أمى "أين ضيفك يا سمير .. عيب أن تتركه وحده وتعود.." فيرد عليها الشاعر سمير عبد الباقى " لا تخافى علي هشام .. سيعود ومعه كل أهل القرية " وهذا تقريبا ما حدث إذ جاءت العمة "نفيسة " وهى فلاحة جاوزت السبعين كان قد مر ببيتها ودعته إلى كوب شاى ومع رشفات الشاى حكت له قصة موت زوجها وكفاحها لتربية أبنائها وتعليمهم – جاءت العمة نفيسة لكى تستأذننا فى أن يتناول هشام طعام الغذاء عندها, ورغم أنها من أقاربى إذ القرية كلها عبارة عن عائلة ممتدة ، إلا أنها لم تفتح قلبها إلا لهشام ولم أعلم من حكاية كفاحها فى سنوات ما حكته لهشام فى ساعتين وظلت العمة نفيسة" بعد ذلك تسألنى عنه عاما بعد عام أو تخبرنى هى وغيرها من الفلاحين الذين دخل هشام إلى بيوتهم وقلوبهم أنهم شاهدوه فى التليفزيون أو استمعوا إليه فى الإذاعة وأقسم أننى الآن أبكى ليس لفقده فقط فأنا أعلم أنه سيظل فى ذاكرتى ما حييت ولكن لسببين آخرين أولهما أننى عجزت عن زيارته وهو مريض حين أخبرونى أنه لا يستطيع الكلام والثانى هو حيرتى إذ كيف سأرد حين يسألنى الفلاحون من أهلى عن صحته وأكاد أرى العمة " نفيسة" وهى تعاتبنى" أين صاحبك الطيب الذى زارنا يا سمير لم لا يأتى فقد اشتقنا إليه وإلى كلامه؟؟" بالفعل يا هشام.. أيها العزيز الغالى سيكون " يوما صعباً جداً"
****************************
سمير الأمير

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي