كرة الثلج
_قراءة في القصة القصيرة جدا _
تعد القصة القصيرة جدا حلقة هامة في سلسلة طويلة وهامة بوسائل التعبير السردي التي حاول بمجملها ان تقدم إمكانات سردية قادرة على التوصيل في زمانها ومكانها ابتدأ من السرد الأسطوري الذي حاول في الإنسان القديم التعبير عن صراعه مع الطبيعة ونشر مظلة حماية تحميه فلجأ إلى تصوير الآلهة بوصفها قوة كونية قادرة على حمايته......
وما أن بدأ ينتج ويطوع الطبيعة لصالحه ويبني دولا وإمارات وممالك و يشعر بأهميته بوصفه بانيا للحضارة وقائدا لدول تبني وتخوض حروب من أجل الأمجاد الوطنية اشرأب عنقه مرة أخرى إلى الآلهة غيره انه هنا متحديا مقلدا فكان السرد الملحمي الذي يتغنى بالقادة والعظماء ويشبههم بالإلهة مثل كلكامش وادسيوس واخيل وغيرهم...............
وما ان شعر باستقلاله عن الإله والتفكير الأسطوري حتى بدأت الأنواع السردية الأخرى كقصص الفرسان والرعاة والشطار والعيارين وغيرها وصولا إلى الرواية الحديثة مع (دون كيشوت لسرفانتس) وفي السرد الروائي والقصصي حاول الإنسان التعبير عن ذاته وأرائه ونفسيته وبدأ ت الرواية تتقصى تفصيلات الحياة كلها حتى سميت ب (فن سرد التفصيلات) . وحتى القصة القصيرة والطويلة لاتخلو من التفاصيل.
وما ان بدا العصر الحديث حتى نرى التطورات العلمية والاجتماعية والاقتصادية تتواصل بسرعة حتى أصبح الإنسان يجرى خلفها بلاجدوي وبدا هو أيضا يسرع كي يلاحق الزمن وتطوراته فظهرت وسيلة تعبير سردية تعبر عنه وتلخص همومه واوجاعه واحباطاته فكانت القصة القصيرة جدا.
وهكذا ظهرت القصة القصيرة جدا بوصفها وسيلة تعبير سردية تتميز بالقصر والتكثيف والثراء السردي واللغوي والدلالي الموجة على نحو رمزي لتتشكل بنية سردية تتميز بالإيجاز الشديد لغة وأسلوبا منفتحة على أفق من الدلالة المتعددة والمتكاثرة التي سرعان ما تكبر عند كل قراءة ككرة الثلج التي تبدأ صغيرة فتكبر.
ان اية مقاربة تجنسيه ل( ق.ص.ج) لابد ان تلاحظ إنها تنتمي للسرد على نحو عام وهي تحتفظ بالبنية السردية كلها غير أنها تعبر عنها على نحو موجز ويمكن تحديد أهم سماتها على النحو الأتي:-
1- الاحتفاظ بالبنية السردية كاملة
2- القصر السردي والتكثيف الدلالي
3- استخدام الرمز المفتح الدلالة على أفاق متعددة ومختلفة
4- تقديم الأفعال في لحظة فاعلة سريعة بحيث تتلاحق الأحداث وترقص على إيقاع العصر السريع وأحداثه المتلاحقة
5- تقديم الصراع لحظة الذروة القصصية
6- تقديم انطباع واحد له زمن محدد ومكان محدد
7- تنطوي على شخصية مركزية واحدة
8- تتسم المفارقة كي توضح تناقض الحياة وتكشفه
9- كسر توقع القارئ
10- السرد تلميحي لاتصريحي
11- البساطة المركبة
12- الاتجاه نحو التحليل النفسي
13- تجرد الراوي عن التعليق
14- تركز على لحظة شعورية يتناقض فيها الداخل إنساني مع خارجه
ان ماتقم ماهية إلا ملاحظات أولية حاولت ان تضع اليد على أهم الخصائص العامة ل(ق ص ج ) . غير ان هناك امر في غاية الأهمية هو الأسلوب الفردي للمبدع وكيفية تطويع الغة والأساليب السردية بغية إرسال رسالة سردية معبرة لذلك سنحاول تقديم قراءات لعدد من القصص القصيرة جدا.
ولنبدأ من نص ثائر الزعزوع وهو:
حكاية رجل
سار الرجل على الرصيف ، بمحاذاة النهر ، بين الجموع الكثيرة ، وقت الظهيرة ، أواخر شهر نيسان الغائب ، وكان جائعاً ، لأنه مفلس ، لأنه يفكر....
يحاول القاص ان يقول شيء ما بكلمات قصيرة جدا من دون ان يخل بالنية السردية فنلاحظ السرد بضمير الغائب (سار) وضوح الزمان والمكان والشخصية .... الخ غير أنها تقدم بألفاظ قليلة العدد ولكنها موحية مكثفة الدلالة تبين مدى الافتراق بين الفكر والعقل والحياة الطبيعية وربط سبب الجوع بالتفكير أنها رؤية كونية للذي أدركته حرفة الأدب فكرة تبدأ صغيرة ككرة الثلج غير أنها سرعان ما تتدحرج وتكبر كي تضع اليد على وضع المفكر أو المثقف بدلالة منفتحة زمانا ومكاننا.
إذا كان ثائر يقدم رؤية فكرية عميقة فان القاصة( عائدةمحمد) تحاول استثمار شعرية البساطة فتقدم مشهدا بسيطا بلغة بسيطة غير أنها في غاية العمق الفكري والرؤيوي حين تقول(جاءت مسرعة إلى الصالة بعد أن سمعت بكاء ابنتها ذات الثماني سنين.. كانت الصغيرة ترتعد خوفا’ وعيناها معلقتان بشاشة التلفاز.. تنظر بخوف وتوتر ظاهر إليها..تفرك يديها الصغيرتين ببعضهما..
التفت الأم إلى الشاشة..
كانت أشلاء الصغار متناثرة.. ورأس ذاك الرضيع يرقد على قارعة الطريق..
والدماء تملأ الأرض .. كأنها تسقيها..
هالها المنظر..
اقتربت من ابنتها
احتضنتها
صرخت الصغيرة بهلع..
ببراءة ..
وبصوت متهدج..
- أمي ..أمي.. قلبي صغير ولايحتمل كل هذا الحزن.)
__________________
تسرد القصة المعنونة ( قلبي صغير)بوصفها مشهدا بسيطا بلغة بسيط وإمكانات سردية بسيط غير انه سرعان مايكبر وتتعمق الدلالة مع القراءات المتعددة ومحاولة بيان المشار إلية رمزا وهو الاحتلال في العراق وفظائعه ومشاهد الدم والدمار واذهب ابعد فترى الإشارة إلى من يتاجر بالدماء العراقية ....... الخ..... الخ ... إذن كرة الثلج تكبر مع كل قراءة مع كل وقفة بوساطة جماليات البساطة التي لايستطيع استثمارها إلا المبدع
وإذا كانت عائدة قد افادة من شعرية وجماليات البساطة فان ريمه الخاني تحاول ان تقدم سردا مقاوما للموت سرد اجتماعي ينهض على التضاد بين الحب والموت في قصتها
(
برد في بطن الأرض!
كان موتها متوقعا...استقبلته بشجاعة \
كان موتها متوقعا...استقبلته بشجاعة الإيمان....بحلاوة الروح وقمة الإشباع من الدنيا....
تتصلب رويدا من الداخل..وكأنها تودع الحياة تدريجيا....
تحاول الانسحاب بهدوء وصمت....
-هذه المرة سأموت لا محا له..هاتوا الأكسجين..أو لا أريد أن أكون حرة....سأتدبر نفسي....
جميل منا أن نستقبل نذير الموت باستسلام وقناعه...
فلو كنا كذلك وتسري روح الشباب في عروقنا سنكون مثلها؟
استعدت شريط حياتي معها...لا أحد سيصدق أنني أحبها....
غمرتني بعطائها....
عوضتني عواطف مسروقة...سلبها زمن العمل المضني...والشتات العصري..
وفقد هداة النفوس الغضة....
أحس بفقد من الآن...بتأنيب ضمير خفي....
بحاجه لها الآن وليس غدا.....
تبكي نفسي بصمت ....
زرت قبرها....
بكيت على ورق الغار ورائحة الرياحين...
- هل تشعرين بالبرد يا حبيبتي....؟
كيف سأساعدك في وحشتك؟ بل كم ختمه قرآن تحتاجين؟
أعجز عن البوح بحبك...
كنت غارقة في وحشتي..عندما أتى زائر في السواد من بعيد....
المفارقة الاساسية هنا إننا نشعر بأهمية الأشياء بعد فقدانها كاهمية الحب بعد موته و الأحبة بعد فقدانهم ... وكأن القاصة تقول ما فائدة ذلك وكأنها تثور على إهمال الإحياء والاهتمام م بالموتى يتجلى ذلك بتأنيب الضمير الذي يشعر به الزوج(أحس بفقد من الآن...بتأنيب ضمير خفي....)
ولا تتوقف الرؤية و جماليات السرد عند حد معين بل هي إمكانات متعدد ومختلفة وهاهو (ركادحسن خليل في قصته الحب الأول يحاول استثمار شعرية المفارقة بين الماضي والحاضر ليقدم قصة جميلة ومعبرة عندما يقول(
الحب الأوّل
في إحدى المحطـّات توقـّف القطار...صَعَدَت إليه..وجلست في مقعدٍ قبالتي.
جحظت عيناها، وفغرت فاها حين رأتني...يا إلهي..هذا أنت؟
عشرون عـامـًا وأنا أبحث عنك ...يوم تـَرَكتـَني، أحسست أنّ الأرض انشقـّت وابتلعتني.
تَحدّثـَت..وتَحدّثـَت..وأنا أنصـِتُ إليها...
توقف القطار في المحطـّة التالية..وصلنا إلى المطار.
توجـّهَ كلٌّ منـّا إلى بوّابة، ليستقل طائرة..وافترقنا
وتتجلى المفارقة حين تقول المرأة (...يوم تـَرَكتـَني، أحسست أنّ الأرض انشقـّت وابتلعتني( وبعد ذلك يستمر الحديث إلى النهاية التي يتوقع فيها القارئ ان يتعانقا ويعودا إلى الحب القديم ولكن (..وصلنا إلى المطار.
توجـّهَ كلٌّ منـّا إلى بوّابة، ليستقل طائرة..وافترقنا) لتشكل المفارقة المرتكز الأساسي لهذه القصة القصيرة جدا بحروفها والكبيرة جدا بدلالاتها الموحية المنفتحة الدلالة على أفاق مختلفة
حاولنا في ما مضى ان نقدم مقاربة ربما تكون قابلة للنقاش
مع أسمى اعتباري