يقول أبو فراس الحمداني من قصيدة من أربعة وخمسين بيتا:
أَراكَ عَصِيَّ الدَمعِ شيمَتُكَ الصَبرُ = أَما لِلهَوى نَهيٌ عَلَيكَ وَلا أَمرُ
بَلى أَنا مُشتاقٌ وَعِندِيَ لَوعَةٌ = وَلَكِنَّ مِثلي لايُذاعُ لَهُ سِرُّ
إِذا اللَيلُ أَضواني بَسَطتُ يَدَ الهَوى = وَأَذلَلتُ دَمعاً مِن خَلائِقِهِ الكِبرُ
تَكادُ تُضيءُ النارُ بَينَ جَوانِحي = إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ
مُعَلِّلَتي بِالوَصلِ وَالمَوتُ دونَهُ = إِذا مِتَّ ظَمآناً فَلا نَزَلَ القَطرُ
وزن الصدر
3 1 3 4 3 1 3 4 .........3 2 3 4 3 1 3 4
ووزن البيت الثاني :
3 1 3 4 3 1 3 3 ..........3 2 3 4 3 1 3 4
إذا راقبنا مقاطع أواخر الأشطر وجدنا أن كل الأعجاز ( عجز البيت شطره الثاني ) تنتهي ب 4 وسائر الصدور ( صدر البيت شطره الأول ) تنتهي ب 3 ( معادلة القول بمفاعلن في العروض التفعيلي ) عدا صدر المطلع ( المطلع أول بيت في القصيدة ) فإن آخر هذا الصدر ينتهي ب 4 ( معادلة القول بمفاعيلن في العروض التفعيلي ) كآخر العجز ويتفق معه كذلك في القافية وهذا يسمى التصريع. ولا يجوز أن ينتهي صدر أي بيت ب 4 إلا إذا كان مصرعا. والتصريع في الأغلب مقتصر على الصدر ولكنه يجوز في بعض الأبيات لغرض أو آخر.
فلو قال الشاعر :
تَكادُ تُضيءُ النارُ يصلى بها الصدرُ ............... إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ
فإن هذا تصريع جائز ينتهي فيه الصدر كما العجز ب 4 وتتوحد في الشطرين القافية بما فيها الروي ( الراء )
ولو قال الشاعر:
تَكادُ تُضيءُ النارُ يصلى بها القلبُ ............... إِذا هِيَ أَذكَتها الصَبابَةُ وَالفِكرُ
فإن انتهاء الصدر ب 4 لا يصح لعدم وجود التصريع. فإن انتهاء الصدر ب (قلْ بو = 4 ) المماثل وزنا لوزن آخر العجز المنتهي ب (فكْ رو = 4 ) لايصح لأن التصريع غير موجود. وانتفى وجود التصريع لاختلاف حرف الروي فهو في الصدر باء (القلب ) وفي العجز راء (الفكر ) ولو انتهى الصدر بكلمة ( صدري ) لم يكن هناك تصريع لاختلاف حركة الراء وهي الكسرة في ( راء صدري في الصدر ) والضمة في راء ( الفكرُ في العجز )
تشربت الذائقة العربية ذلك وخالطها، حتى إذا اقتضى التجديد أو سواه تكرر نهاية الأشطر ب 4 لم يقدمالشاعر العربي على ذلك إلا في إطار شكل جديد ما يسوغ ذلك.
يقول ابن زيدون من قصيدة مكونة من مجموعات من الأبيات ( الأشطر ) كل مجموعة مكونة من خمسة أبيات (أشطر ). :
تَنَشَّقَ مِن عَرفِ الصَبا ما تَنَشَّقا
وَعاوَدَهُ ذِكرُ الصِبا فَتَشَوَّقا
وَما زالَ لَمعُ البَرقِ لَمّا تَأَلَّقا
يُهيبُ بِدَمعِ العَينِ حَتّى تَدَفَّقا
وَهَل يَملِكُ الدَمعَ المَشوقُ المُصَبَّأُ
-
خَليلَيَّ إِن أَجزَع فَقَد وَضَحَ العُذرُ
وَإِن أَستَطِع صَبراً فَمِن شيمَتي الصَبرُ
وَإِن يَكُ رُزأً ما أَصابَ بِهِ الدَهرُ
فَفي يَومِنا خَمرٌ وَفي غَدِهِ أَمرُ
وَلا عَجَبٌ إِنَّ الكَريمَ مُرَزَّأُ
-
وَلا يُغبِطُ الأَعداءَ كَونِيَ في السِجنِ
فَإِنّي رَأَيتُ الشَمسَ تُحصَنُ بِالدَجنِ
وَماكُنتُ إِلّا الصارِمَ العَضبَ في جَفنِ
أَوِ اللَيثَ في غابٍ أَوِ الصَقرَ في وَكنِ
أَوِ العِلقَ يُخفى في الصِّوارِ وَيُخبَأُ
-
وَكائِن عَدَونا مُصعِدينَ عَلى الجِسرِ
إِلى الجَوسَقِ النَصرِيِّ بَينَ الرُبى العُفرِ
وَرُحنا إِلى الوَعساءِ مِن شاطِئِ النَهرِ
بِحَيثُ هُبوبُ الريحِ عاطِرَةِ النَشرِ
عَلا قُضُبَ النُوّارِ فَهيَ تَكَفَّأُ
لو تتبعنا الوزن والقافية في هذه المجموعات لوجدنا:
1- أن الأبيات التي ترتيب كل منها الخامس في كل مجموعة تتوحد في الروي وفي القافية وهي بذلك تشكل آصرة تحدد شخصية القصيدة التي حيكت على نحو جديد.
2- في المجموعات الثانية والثالثة والرابعة نجد الأبيات الأربعة أو الأشطر الأربعة الأولى في كل مجموعة تنتهي ب 4
مثال: فإني رأيت الشمس تحصن بالدجْنِ
= 3 2 3 4 3 1 3 4
ولو وجدنا قصيدة كاملة كلها حيكت على هذا الوزن وتماثل أواخر الأشطر كافة فيها فإننا نعتبر كل شطر بيتا مستقلا ونسمي هذا مشطور الطويل كما في النص التالي :
خَليلَيَّ إِن أَجزَع فَقَد وَضَحَ العُذرُ
وَإِن أَستَطِع صَبراً فَمِن شيمَتي الصَبرُ
وَإِن يَكُ رُزأً ما أَصابَ بِهِ الدَهرُ
فَفي يَومِنا خَمرٌ وَفي غَدِهِ أَمرُ
وَلا يُغبِطُ الأَعداءَ أن ضمني الأسْرُ
فَإِنّي رَأَيتُ الشَمسَ يأتي بها الفجرُ
وإني لعضب صارم طبعه البتْرُ
أَنا الليثُ في غابٍ وفي وكنه الصقرُ
وَكائِن عَدَونا تحتنا يقبع الجسرُ
إِلى الجَوسَقِ النَصرِيِّ فيه الرُبى العُفرُ
وَرُحنا إِلى الوَعساءِ يسري بها النَهرُ
بِحَيثُ هُبوبُ الريحِ ضمّخها العطرُ
من هذا نستنتج أنه عندما تنتهي كل صدور قصيدة ما بما ينتهي به الضرب وزنا وقافية بما فيها الروي وحركته فإن كل شطر يعتبر بيتا مستقلا ويسمى ذلك بمشطور البحر.
وقد أدرك الشاعر النبطي ذلك بفطرته فجعل للقصيدة النبطية قافيتين إحداهما للصدر والأخرى للعجز فغدت القصيدة كأنها قصيدتان متداخلتان. أو قل غدا الصدر بيتا وغدا العجز بيتا أو قل بصورة أدق إنها جمعت بين صفتين أولهما شكل القصيدة الواحدة من حيث كتابتها على شكل شطرين. وثانيهما مقتضى القافية التي أملت أن يكون كل شطر بيتا قائما بذاته.فكأن القصيدة تداخل قصيدتين كل منهما مشطور ذات البحر ويقبل آخر كل منهما أحكام العجز.
نوى القلب نية مانواهـا لاحـد غيـرك =نوى القلب يمشي لك على السمع والطّاعة
مع الشك والغيـرة وهجـرك وتقصيـرك = أحبك وأقول امرك لـة الـروح خضّاعـة
جمعنا طريق الحـب وأنـوار بتنويـرك = على صدفـه قلـوب الاحبـاب جمّاعـة
ملكنـي هـواك وقادنـي بامـر تدبيـرك = أمانة معك روحـي مـن البعـد ملتاعـة
تغزلت بك والشعر مـن بعـض تعبيـرك = كلامك سحـر يخلـف موازيـن سمّاعـة
فإن لنا من حيث الشكل اعتبار كل من الأشطر الأول والأشطر الثواني أبياتا مستقلة من حيث الشكل ( على أن تسمح المعاني ) على النحو التالي :
نوى القلب نية مانواهـا لاحـد غيـرك
مع الشك والغيـرة وهجـرك وتقصيـرك
جمعنا طريق الحـب وأنـوار بتنويـرك
ملكنـي هـواك وقادنـي بامـر تدبيـرك
تغزلت بك والشعر مـن بعـض تعبيـرك
القصيدة الثانية من مشطور الطويل كقصيدة بن خلدون المركبة من مشطور الطويل المنتهية أشطره أو أبياته ب 4
نوى القلب يمشي لك على السمع والطّاعة
أحبك وأقول امرك لـة الـروح خضّاعـة
على صدفـه قلـوب الاحبـاب جمّاعـة
على صدفـه قلـوب الاحبـاب جمّاعـة
أمانة معك روحـي مـن البعـد ملتاعـة
كلامك سحـر يخلـف موازيـن سمّاعـة
ولْ قلْ بيمْ شي لك علسْ سمْ عوطْ طا عهْ = 3 2 3 4 3 2 3 4
أجل أدرك العربي ذلك بفطرته وهذا لا ينفي وعي الأمير الشاعر وهو شاعر فصيح في الأساس على أحكام العروض والضرب.
كان ما تقدم تداعيات لأبيات فصيحة للشاعرة عنود الليالي وهي في الأصل شاعرة نبطي ويظهر فيها أثر النبطي على الفصيح مقرونا بضوابط الفطرة المتقدم ذكرها لدى الشاعر العربي.
فـي كـل يـوم أسائلْ = هـل في بريدي رسالة
والـدمع في الخد سائلْ= ولا أطـيـق احتمالهْ
جـربت كـل الوسائلْ = والـصبر في كل حالهْ
أرسـلت قـلبي إليهم = لـكـنهم قـد نسوني
لنأخذ الأبيات الثلاثة الأولى
فـي كـل يـوم أسائلْ = هـل في بريدي رسالة
والـدمع في الخد سائلْ= ولا أطـيـق احتمالهْ
جـربت كـل الوسائلْ = والـصبر في كل حالهْ
هنا يبدو أن الشاعرة متأثرة بما ألفته في الشعر النبطي من حيث أن كل شطر بيت مستقل وأوائل الأشطر تشكل مشطور قصيدة وثواني الأشطر مشطور قصيدة أخرى.
وأنا عندما أستسيغ هذه الصياغة فليس لي من سند سوى ذائقتي التي أراها من جنس ذائقة الشاعر العربي النبطي.
لولا أن الصدور كافة انتهت بروي اللام الساكنة لما جاز لها أن تسكن الإسم إلا على سبيل التصريع كالقول :
فـي كـل يـوم أسائلْ = هـل في بريدي رسائلْ
والـدمع في الخد نهرٌ = كالنار إذ هو سائلْ
جـربت كـل طريقٍ = فأعجزتني الوسائلْ
وها شعر مستوف لشروط العروض والقافية عند الخليل.
وقد استوقفني البيت الرابع من حيث شذوذه عن بقية الأبيات وقلت في نفسي ليت الشاعرة قالت:
أرسـلت قـلبي يجاملْ ................. فما أتاني بطائلْ
بدل
أرسـلت قـلبي إليهم ..............لـكـنهم قـد نسوني
لينسجم البيت مع بقية الأبيات. ثم تذكرت قصيدة ابن زيدون من مشطور الطويل والبيت الخامس الذي يشكل عروضيا المحور الذي ينتظم أبيات القصيدة.
وقلت لعل هذا الشذوذ الظاهري يمثل شيئا من ذلك القبيل فتجتمع في القصيدة خصائص قصيدتي ابن زيدون والأمير عبد الله الفيصل. وهنا محاولة للبناء على أصل القصيدة في هذا الاتجاه:
فـي كـل يـوم أسائلْ = هـل في بريدي رسالة
والـدمع في الخد سائلْ= ولا أطـيـق احتمالهْ
جـربت كـل الوسائلْ = والـصبر في كل حالهْ
أرسـلت قـلبي إليهم = لـكـنهم قـد نسَوْني
.=.
ويحي عرتني الظنونْ = ولست أدري المآلْ
كم ماطلتني السنونْ = وشاب مني القذالْ
ولم يعد لي الحنونْ = ولم يجبْ لي السؤالْ
وإنني أفتديهم = من كلّ همٍّ وأَيْنِ
.=.
يا من أطلت الغيابا = ولم تُبالِ بأمري
أكان حلمي سرابا = عليه ضيعت عمري
مما ارتويتُ عذابا = سكرت من غير خمر
أدعو لهم لا عليهمْ = مهما طويلا جفَوْني
والأمر في تقييم هذا وتقويمه متروك للسادة الشعراء والعروضيين والنقاد.
ملاحظة : كتبت لي الشاعرة أن القصيدة ليست لها فلزم التنويه. وهذا لا يؤثر على فحوى الموضوع.