ما العلوم؟ إنها أعراف معلوماتية. اصطلاحات منهجية مستقرة. وهذه الأعراف وتلك الاصطلاحات تتغير إذا تغيرت العوامل المصاحبة تغيرا يلائمها. وهذه التغيرات منها ما يكون إيجابيا فيبقى ويستمر ويشكل علامة تطوير يميز مراحل نحو العلم، ومنها ما يكون سلبيا فيفنى ويمضي مع أصحابه ليسكن زوايا النسيان.
وعلوم اللغة العربية تطورت وتغيرت تغيرا داخليا بنائيا زمن التكوين، وتمثلت علامات هذه التغيرات في أعلامنا الذين أتت أعمالهم علامات فارقة مميزة في مراحل النمو. واستفاد اللاحق من السابق، ونتيجة لتراكم هذه الخبرات نتجت في اللغة العربية علوم نضجت واحترقت، وعلوم نضجت ولم تحترق.
وفي عصور الضعف النفسي والعلمي –كعصورنا المتتالية منذ زمن بعيد- تحدث محاولات تغيير؛ لكنها لا تكون داخلية، ولا تكون بنائية كلية؛ إنما تكون جزئية سطحية كتلك المحاولات التي حاولها الذين اطلعوا في أماكن بعثاتهم على الوصفية فعادوا بها، وحاولوا تطبيقها على اللغة العربية، وظلوا عليها عاكفين؛ حتى ظهرت التحويلية فانعطفوا إليها. والمعيب في كلتا الحالتين أنهم يقيمون اللغة بمنظار الآخرين، ويتهمون الأجداد، وربما يشفقون فيخلقون لهم مبررات التقصير.
ويظلون مندفعين في ذات الاتجاه ناسين أن أدوارهم تدعو إلى الخجل إذا حاولوا إجابة السؤال الآتي: لو لم تطلعوا على هذه النظريات ماذا كنتم فاعلين؟ لن يجدوا إجابة؛ بل سيجدون فراغا وصمتا محرجا. وإذا استشعروا حرجهم حاولوا العثور على أقوال أو إشارات للأجداد تقارب ما جاءوا به من الغرب، وحتى لا يواجهون بالخجل في محاولاتهم التعليمية نجدهم يكونون حوصلة هلامية لتحميهم –كما في وهمهم-؛ فنجدهم يزعمون أن محاولاتهم لتغيير العلوم هدفها التيسير.
وإذا رأينا منهجهم في التغيير أصابنا التعجب الحزين. ما منهجهم في التغيير؟ إنه منهج اللامنهج. كيف؟! إذا رأوا صعوبة لا يحاولون إيجاد طريقة جديدة لإيصالها وتعليمها؛ بل يطالبون بحذفها. فمثلاً في "النحو" نجدهم يطالبون بالتغيير من خلال حذف بابي ( الإعراب التقديري، والإعراب المحلي ). ومن خلال محاكاة التقسيم الثماني للكلمة في اللغة الإنجليزية يريدون القضاء على التقسيم الثلاثي للكلمة في اللغة العربية، ويستشهدون بكلام أحد الأجداد الذي يرى أن الأداة – الخالفة – قسم رابع.
وفي "الصرف" نجدهم يطالبون بحذف باب ( الإعلال والإبدال ). وفي "الإملاء" نجدهم يقترحون كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، ومنهم من يقترحون تقليل القواعد للقضاء على الاستثناءات. ومن يطلع على محاضر جلسات مؤتمرات مجمع اللغة العربية، ويطلع على الاقتراحات الخاصة بتيسير علوم اللغة المختلفة يجد أشياء لا يمكن أن يتخيلها لو لم يقرأها.
وإذا كانت هذه المحاولات تجري على المستوي التعليمي الذي يرونه غير مضر باللغة العربية؛ فإن ذلك ليس بصحيح؛ إذ أن جل المتحدثين بالعربية يعتمدون على هذا المستوى في صلتهم باللغة العربية، و مما يزيد الأمر خطورة أن كل هذه المحاولات تجري في العلوم التحتية التأسيسية.
ولا عيب في التغيير، ولا عيب في الاستفادة من تجارب الآخرين؛ لكن العيب –كل العيب- يتمثل في استحضار تجارب الآخرين، وتقييم علومنا وفق رؤاها. لا عيب في التغيير إذا انبعث من تجربة حية داخلية يعيشها صاحبها مع العلم بالتحليل والتعمق؛ فيواجه المشكلات تلو المشكلات ولا يجد لها حلاً في العلم القائم؛ فيحاول وضع الحلول. ويأتي غيره فيتصل بالخصائص الحقيقية للعلم، ويواجه المشكلات ويقترح الحلول، وتتراكم الحلول.
ويأتي –بعد زمن- من يتمتع بالذهن التحليل التركيبي التعقيدي؛ فينظم تلك الحلول؛ فينشأ علم جديد، أو مبحث جديد في العلم القائم؛ كما حدث مع الدكتور السمان في كتابه "العروض الجديد"، والذي نتج من استقراء الدواوين المتعدده؛ لاستجلاء الخصائص الجديدة وتنظيمها. هذه هي التجربة الحقيقية للتغيير الذي يضيف رغم تعدد تجارب تجديد العروض وتعدد مناهجها. لم يطالب بالحذف ولم يتهم؛ بل صبر على مشاق البحث، ووضع لبنة جيدة جديدة، بعكس من لا يملك الوقت أو الفكر –رغم الألقاب- اللازم لإحداث النقلة النوعية؛ لكن يمتلك الرغبة غير المؤهلة بالمؤهلات الحقيقية.