-
عنايــة مركــزة
عنايــة مركــزة
بقلم أ.إسماعيل أحمد
رصيف عريض بأرضية رخامية ملونة يرتفع خلفه سور شاهق لبناء فخم، وفي الركن الملاصق للسور تتكوم جثة آدمية لرجل مهلهل الثياب أشيب الشعر حافي القدمين تنساب من انفه قطرات دم.. تمرق السيارات يتزاحم الناس يعبرون جيئة وذهاباً دون أن تستوقفهم نظرة إشفاق تتعثر بالجسد المسجى ولو للحظة واحدة.. مرت ساعات حين تعثّر احد أطباء المستشفى بساق ممدودة .. يلتفت إليه...:
ـ ما هذا ؟ من أنت أيها الرجل ـ ............
إنه فيما يبدو مصاب .. ولكنه ما الذي رمى به عند سور مستشفانا؟ هل يملك مثله رسم الدخول أو مصروفات الإقامة بالمستشفى؟ .. لكن ...
أعضاؤه تكاد تتيبس من البرودة .. نبضاته ضعيفة للغاية ، هبوط حاد في دورته الدموية .. وبسرعة تنغرس في الجلد المجعد المتيبس إبرة في إثر إبرة ولا يكاد الرجل يبدي حراكاً تمددت قامته بطول السرير وتقلصت كفه بعصبية .
غياهب سحيقة تسبح فيها ذاكرة المسجّى.. أشباح متداخلة.. همهمة الجند في حملة ليلية على منزل شاب ملتح ..الجند يحيطون بأضلاع الميدان وشباب الجامعات يتقوقعون في صرّة الميدان.. الجند.. الجند يتخاذلون عن نصرة عرابي في موقعة التل الكبير .. يتخاذلون .. والعسكر يحاصرون قصر السلطان عبد الحميد الثاني .. يتخاذلون .. والتتر يقتحمون قصر الخلافة في بغداد .. يتخاذلون والدم نوافير في فلسطين.. يامليكي "ائذن لي ولا تفتنّي" لا أقدر على جلاد بني الأصفر... مجالدة بني الأصفر في شرق أوروبا متعة لا تضاهى ،.. بنو الأحمر وبنو الأصفر وبنو الأبيض.. صراعاتٌ لا تنتهي .. تطفو جثث بني الأبيض في استسلام عجيب ..
- عجيب أمر هذا الرجل أجهزته كلها لا تعمل .. ما يضخه القلب من دم يرتد في تقاعس واستخزاء إلى شرايينه، المقاومة الطبيعية في جسده مستسلمة لأمراضه للغاية .. جهاز المناعة الطبيعية متوقف... " إيدز" همس أحد الأطباء في رعب .. زفر آخر وقال :
لا تتعجل في حكمك .. لا بد أولاً من التحليل .
قسماته الهادئة تنبئ عز غابر .. قامته الفارعة تؤكد عنفوانه القديم... إنذارات المرض الخبيث تهدد أحشاءه وقلبه .
أوامرنا: أن تكشف عن وجه امرأتك ..أن تتوقف عن ختن بناتك.. سوف تتأكد أجهزتنا المعنية من التزامك بالأوامر خلال أسبوع .. وإن لم تفعل ..تهتز أصابع كبيرهم بتهديدٍ واضح أمام عينيه.. عمورية .. والجند الرومان .. قهقهة في السوق .. يراودون امرأة عن نفسها.." رب وا معتصماه انطلقت..." مائتا ألف رجل دخلوا عمورية وأتوا بالجندي الرومي في لحظة عزٍ لا تنسى..." ماذا نفعل يا امرأتي عارك عاري " أوتاد حديدية بطول النخيل تنغرس على عتبات بيته .. الطرقات تتعالى تصم أذنيه تقلق رأسه طم طم طم .
العلاقة: بين أعضائه متهتكة لم تشعر ركبته بشكة الإبرة في أصبع قدمه ، لا يتألم وجهه لوهج النار عند كفه اليسرى عقله لا يصدر أوامره بالمقاومة.. بدا لهم من الأشعة المقطعية أن رئتيه انفصلتا وتعقدت أمعاؤه في تلبك لا نهائي "
- أنـا "رابطة العقد وعاقدة المجد على كل جبينٍ ..ما رماني رامٍ وراح سليماً."..انفلتت رابطة العقد..
- يا أهل بدر... يا أهل بيعة الرضوان، فلوي الفرسان أعنة الخيل ..وعاد هتاف التكبير
شكه طبيب في قدمه فتقلص وجهه، وانفرجت أسارير الطبيب .. عروقه بدأت تستقبل المحاليل عن طيب خاطر .. يملأ رئتيه من هواء معقم، انتظمت نبضاته، حرك ساقاً، رفت عينه... تأوه في ضعف.
خريطة: عمل الأطباء بدأت من القلب ضخوا للقلب دماءً حية تنشط كرياتها الحمراء عند الانفعال وكرياتها البيضاء معدة للمقاومة .. توسعة الشرايين احتاجت همة عالية، وافقتها إرادة الحياة في جسده المضعضع .. ومعدته أجهدتها لحوم فاسدة وأغذية مغشوشة .. أفرغوها مما فيها .. حنكوه بتمر مهروس وجرعة حليبٍ.. وارتفع أذان الفجر يشق سكون الليل .
الأشباح: تتكاثف الآن متداخلة في هيئات متمايزة صف الجنود يحول بين امرأته وبينه .. جيرانه يتلصصون من وراء نوافذهم المغلقة.. يقف هو في وسط الشارع بثوبٍ لم يحكم إزاره .. أصابع المأمور تتحرك أمام عينيه في تهديد استفزازي .. أشقاؤه تفرقوا في بلدان الخليج طلباً للمال، بنو العمومة طحنتهم الدنيا وأعجزتهم مطالب العيال وأذلّهم الفقر .
تأوه بقلب موجوع واهتزت رأسه يمنة ويسرة..ثم فتح عينيه.. هرول الأطباء وتحلقوا حوله .
ـ مستحيل !؟ يعيش رغم كل هذا
ـ أسرعوا بالفاتورة واسألوه عن أقربائه .
ـ لا أظن أن لمثله أقرباء يدفعون حسابه... ولا أخاله يملك شيئأ من حطام الدنيا.
ـ ليس مهماً من يدفع التكاليف، المهم أنه لا يزال حياً .
( تمت)
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى