فساد قول القائل: "النحو في الكلام كالملح في الطعام"
(أ)
عندما بدأت قواعد النحو تنتشر لم يألفها كثيرون؛ لأنها كانت حادثة في عهدهم وكانوا قد ألفوا عدم وجودها، فهاجمها من هاجمها من هذا المنطلق، وأخذوا يشنعون.
ومن هذا التشنيع قولهم الذي اشتهر: النحو في الكلام كالملح في الطعام.
وفي كتب البلاغة في علم البيان في مبحث التشبيه ناقش العلماء هذا التشبيه وبينوا زيفه وخطأه، وهذه وقفة مع نقول من كتبهم لعل من يردد هذه الكلمة يمتنع عن ذلك.
(ب)
1- "أسرار البلاغة" للجرجاني
"الأصل الثاني" وهو أخذ الشَّبه من المحسوس للمحسوس ثم الشبهُ عَقليٌّ
وعلى هذه الطريقة جرى تمثيل النحو في قولهم: النحو في الكلام كالملح في الطعام؛ إذ المعنى أن الكلام لا يستقيمُ ولا تحصل منافعه التي هي الدلالات على المقاصد إلاّ بمراعاة أحكام النحو فيه من الإعراب والترتيب الخاصّ، كما لا يُجْدِي الطعامُ ولا تحصُلُ المنفعة المطلوبةُ منه وهي التغذية ما لم يُصْلح بالملح.
فأمَّا ما يتخيّلونه من أن معنى ذلك أن القليلَ من النحو يُغني، وأن الكثيرَ منه يُفسد الكلام كما يُفسد الملحُ الطعامَ إذا كثر- فهو تحريفٌ، وقولٌ بما لا يتحصَّل على البَحْث، وذلك أنه لا يُتَصَوّر الزيادةُ والنقصانُ في جريان أحكام النحو في الكلام؛ ألا ترَى أنه إذا كان من حكمه في قولنا: كان زيدٌ ذاهباً، أن يُرفَع الاسم ويُنصَب الخبر- لم يخلُ هذا الحكم من أن يوجد أو لا يوجد؛ فإن وُجد فقد حصل النحوُ في الكلام، وعَدَلَ مِزاجَهُ به، ونُفِي عنه الفسادُ، وأنْ يكون كالطعام الذي لا يَغْذو البدن. وإن لم يوجد فيه فَهُو فاسدٌ كائن بمنزلة طعام لم يُصلح بالملح، فسامعه لا ينتفع به بل يستضرُّ لوقوعه في عمياء وهجوم الوحشة عليه، كما يوجبه الكلام الفاسد العاري من الفائدة. وليس بين هاتين المنزلتين واسطةٌ يكون استعمالُ النحو فيها مذموما.
وهكذا القول في كلِّ كلام، وذلك أن إصلاح الكلامِ الأول بإجرائه على حكم النحو لا يُغْني عنه في الكلام الثاني والثالث، حتى يُتوَّهم أن حصولَ النحوِ في جملة واحدة من قصيدة أو رسالة يُصلح سائر الجمل، وحتى يكون إفراد كل جُملة بحكمها منه تكريراً له وتكثيراً لأجزائه، فيكون مَثَلُهُ مَثَل زيادة أجزَاء الملح على قدر الكفاية.
وكذلك لا يُتصور في قولنا: كان زيد منطلقاً، أن يتكرَّرَ هذا الحكم ويتكثّر على هذا الكلام، فيصير النحو كذلك موصوفاً بأن لَهُ كثيراً هو مذمومٌ، وأن المحمودَ منه القليلُ، وإنما وِزَانه في الكلام وِزَانُ وقوف لسان الميزان حتى يُنبئ عن مساواة ما في إحدى الكفتين ما في الأخرى، فكما لا يُتصور في تلك الصفة زيادةٌ ونقصان حتى يكون كثيرُها مذموماً وقليلها محموداً، كذلك الحكم في الصِّفة التي تحصل للكلام بإجرائه على حكم النحو ووَزْنِهِ بميزان.
فقول أبي بكر الخوارزمي: "والبُغْضُ عِنْدِي كثرةُ الإعراب" كلامٌ لا يُحصَل منه على طائل؛ لأنّ الإعراب لا يقع فيه قلة وكثرة إن اعتبرنا الكلام الواحد والجملة الواحدة، وإن اعتبرنا الجُمُل الكثيرةَ وجعلنا إعراب هذه الجملة مضموماً إلى إعراب تلك، فهي الكثرة التي لا بدّ منها، ولا صلاح مع تركها، والخليقُ بالبُغْض مَنْ ذَمَّها وإن كان أراد نحو قول الفرزدق:
وَمَا مِثْلُه في النّاس إلاَّ مملَّكاً أبو أمِّه حيٌّ أبُوه يُقَارِبُهُ
وما كان من الكلام معقَّداً موضوعاً على التأويلات المتكلَّفة- فليس ذلك بكثرةٍ وزيادة في الإعراب، بل هو بأن يكون نَقْصاً له ونقضاً أولى؛ لأن الإعراب هو أن يُعرب المتكلم عما في نفسهُ ويبيّنه ويوضِّح الغرض ويكشفَ اللَّبْسَ، والواضعُ كلامه على المجازفة في التقديم والتأخير زائلٌ عن الإعراب، زائغٌ عن الصواب، متعرّض للتلبيس والتعمية، فكيف يكون ذلك كثرةً في الإعراب? إنما هو كثرة عناءٍ على من رام أن يردَّه إلى الإعراب، لا كثرة الإعراب، وهذا هو كالاعتراض على طريق شجون الحديث، ويُحتاج إليه في أصل كبير، وهو أن من حق العاقل أن لا يتعدَّى بالتشبيه الجهةَ المقصودةَ، ولا سيما في العقليات.
2- "الإيضاح في علوم البلاغة" للخطيب القزويني
وإذا عُلم أن وجه الشبه هو ما يشترك فيه الطرفان عُلم فساد جعله في قول القائل: النحو في الكلام كالملح في الطعام- لكون القليل مصلحا والكثير مفسدا؛ لأن القلة والكثرة إنما يتصور جريانهما في الملح وذلك بأن يجعل منه في الطعام القدر المصلح أو أكثر منه دون النحو؛ فإنه إذا كان من حكمه رفع الفاعل ونصب المفعول مثلا فإن وجد ذلك في الكلام فقد حصل النحو فيه وانتفى الفساد عنه وصار منتفعا به في فهم المراد منه وإلا لم يحصل وكان فاسدا لا ينتفع به، فالوجه فيه هو كون الاستعمال مصلحا والإهمال مفسدا لاشتراكهما في ذلك.
3- "مختصر المعاني"- سعد الدين التفتازاني
(فعلم) من وجوب اشتراك الطرفين في وجه التشبيه (فساد جعله) أي وجه الشبه (في قول القائل: النحو في الكلام كالملح في الطعام؛ لكون القليل مصلحا والكثير مفسدا)؛ لأن المشبه أعني النحو لا يشترك في هذا المعنى؛ (لأن النحو لا يحتمل القلة والكثرة)؛ إذ لا يخفى أن المراد به ههنا رعاية قواعده واستعمال أحكامه مثل رفع الفاعل ونصب المفعول، وهذه إن وُجدت في الكلام بكمالها صار صالحا لفهم المراد وإن لم توجد بقى فاسدا ولم ينتفع به، (بخلاف الملح)؛ فإنه يحتمل القلة والكثرة بأن يجعل في الطعام القدر الصالح منه أو أقل أو أكثر بل وجه الشبه هو الصلاح بإعمالهما والفساد بإهمالهما.
فريد البيدق