ملاحة الخاني و بنـات حارتنـــاد. عبد الله ابو هيف
شغلت ملاحة الخاني بالقضية الاجتماعية في كتابتها السردية كلها، وعلى الرغم من عنايتها الفائقة بقضية المرأة، وقضية تحررها، فإنها أوغلت عميقاً في رؤية القضية الاجتماعية في بعدها التاريخي والانساني، وتجنبت قدر الامكان النزعة التعليمية والتبشير العقائدي، وهي الكاتبة الملتزمة، وقد ظهر ذلك جلياً في روايتها «خطوات في الضباب» التي عالجت مصير اسرة وفئة اجتماعية في أتون التغيير الاجتماعي، واذا كانت القصة القصيرة فناً اثيرياً يتأبى على المواضعات الاجتماعية والتاريخية، فإن الخاني جاوزت ذلك الى اندغام قصصها بالقضية الاجتماعية حريصة على منظورها الاخلاقي وصوغها الواقعي.
تتناول «بنات حارتنا» جوانب من سيرة الفتاة سلمى ضمن عائلتها ومحيطها ومعارفها، وتحاول ان تربط بين السيرة الشخصية وسيرة الوطن، حين اصبحت سلمى كاتبة محترفة، ثم تنتهي الرواية باعتقالها وحبيبها ورفيق كفاحها أحمد في عهد الوحدة بين سورية ومصر، وثمة اشارة الى أنهما شيوعيان او يدوران في مدار الحزب الشيوعي.
تمعن الخاني في وصف اسرة سلمى المؤلفة من الام ، والاب امين جمرك دمشق ، والاخوات الثلاث: سلمى، مها التي تزوجت صبري افندي، وهدى التي تزوجت الى مدينة اسكندرون، ثم ما لبث زوجها ان انتقل الى ديار بكر في الشمال بعد خسارته في القمار، والاخوة الاربعة: هشام وسامي وعادل وزهير.
مهدت الخاني لروايتها بكلمة مفتاحية عامة تسوغ سردها الذاتي:
«لكل انسان حكاية يغزل خيوطها مع رفاق درب تابعوا أم لم يتابعوا مسيرة الحياة معه. وحكايتي أنا حكاية أناس من دمشق الحبيبة، ظل نبضهم حياً في خاطري، رغم غيابهم تركوا بصماتهم على خط الحياة، تأرجحوا مع الايام لكنهم لم يتقهقروا ويطأطئوا.
أناس حارتي، بنات حارتي، شباب حارتي، حملوا قيماً ورواسب ، ومفاهيم اصلتها بأصالتها الحياة، وغيرتها بتغييراتها الحياة، فإن وجدت نفسي بينهم ووجدت نفسك معهم، فلأننا نعيش افراحهم واتراحهم، ويعيشون افراحنا واتراحنا، فما زالت الدنيا خيرة، ومن لا يقع لايقف ولا يصل، هكذا مات بعضهم واقفين»(ص5).
تشير هذه الكلمة المفتاحية الى طبيعة السرد الروائي لدى الخاني في هذه الرواية:
- يعد هذا التمهيد اعترافاً ذاتياً باختيار الروائية لجوانب من سيرة ذاتية آثرت ان توسعها لتشمل سيرة - حكاية أناس من حارتها، على الرغم من مجافاة العنوان لمحتواه، فالرواية، ترصد جوانب من سيرة سلمى منذ الاربعينيات الى نهاية الخمسينيات، ولا توجد سير او حكايات أخرى لبنات اخريات إلا عرضاً مما يضيء سيرة سلمى نفسها.
- عمدت الروائية الى استخدام الضمير العارف الذي يتطابق احياناً كثيرة مع ضمير سلمى، تعاطفاً ملتفتاً عن امكانات هذا الضمير في الاحاطة بالتاريخ والتغير الاجتماعي، ولكن انطباق الضمير على ضمير سلمى جعلها تلوذ بمدار ذاتي دون الغوص في الوصف التاريخي او الاجتماعي او النفسي. يعرض الراوي، قليلاً لمثل هذا الوصف، ولكننا لا نعول عليه كثيراً في وجهة النظر مثل:
«تعرض الرجال كما تعرضت البلاد في اواخر عام 1943 لدعايات شتى غزت رؤوس الشباب باحلام البطولة عملاء بريطانيا المأجورين جعلوا يجوبون المدارس، ويدعون ويزينون الانخراط في صفوف الجيش الانكليزي لمحاربة عنجهية ونازية الألمان، التي تضعنا في اسفل السلم البشري تخلفاً وانحطاطاً»(ص21).
من الواضح ان هذا الوصف يحيل الى ضمير سلمى ووعيها العقائدي الناجز، لأن المانيا آنذاك موضع خلاف ونظر بالنسبة الى النخب السياسية والعسكرية، والوطنية، ولأن العنجهية والنازية الألمانية ولوازمهما من مفردات الحزب الشيوعي، حتى ان الراوي لا يغفل عن ذلك:
«تشد الدعاية تارة ازر الألمان، وتارة أزر الحلفاء، والشعب دائخ بين رحى الطاحون»(ص21).
- ألحّت الروائية على الطابع الاخلاقي لسردها وسط تغيرات الحياة أو التغير الاجتماعي المتسارع، لاحظ الأحكام:
« لكنهم لم يتقهقروا او يطأطئوا...
..هكذا مات بعضهم وافقين»(ص5).
وفي هذا المسار الاخلاقي للأسرة والحارة ولسلمى دافعت الروائية خلال تفاصيل مفيدة وغير مفيدة عن المرأة وشرف الحياة على ان الرواية مكتوبة بوعي المرأة- الكاتبة الناجز اليوم، سعياً الى الامساك بوعي تاريخي مقنع. لقد مضت سلمى بعناد الى التحقق الذاتي في التعليم والعمل والكتابة والعمل السياسي.
تتماهى الكاتبة مع الراوي، وبطلة الرواية، لأن الغالب هو انطباعات الكاتبة ووجهة نظرها:
ولأن الغالب على السرد الروائي هو السرد السيري، فثمة تفاصيل كثيرة كما رأينا تقارب السيرة الذاتية، وثمة منطوق سردي كثير يقترب من وعي الكاتبة، ولا تغفل هنا- كما اشرنا- ان الرواية مكتوبة بوعي الكاتبة الناجزاليوم. ولعل الكاتبة ارادت ذلك لتقديم امثولة اخلاقية واجتماعية عن سيرة كفاح المرأة في سورية من خلال نموذج ساطع، هو نموذج سلمى التي نهضت مثل آلاف النساء المناضلات من الحارة الى رحاب المجتمع والانسانية كاتبة متألقة مفعمة بالكرامة والاصالة
http://www.albaath.news.sy/user/?id=487&a=44721