الصداقة فلسفيا
« ﺃﻳّﻬﺎ ﺍﻷﺻﺪﻗﺎﺀ، ﻟﻴﺲ ﻫﻨﺎﻙ ﺃﺻﺪﻗﺎﺀ «!
ﺃﺭﺳﻄﻮ
« ﻭﻗﺒﻞ ﻛﻞ ﺷﻲﺀ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﺜﻖ ﺑﺄﻧّﻪ ﻻ ﺻﺪﻳﻖ، ﻭﻻ ﻣﻦ ﻳﺘﺸﺒﻪ ﺑﺎﻟﺼﺪﻳﻖ «!
ﺃﺑﻮ ﺣﻴﺎﻥ ﺍﻟﺘّﻮﺣﻴﺪﻱ
ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟّﺘﻲ ﻧﺎﻗﺸﻬﺎ ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﺑﻜﺜﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻻﻫﺘﻤﺎﻡ، ﻭﻗﺪ ﺍﺣﺘﻠﺖ ﻣﻜﺎﻧﺎًّ ﺑﺎﺭﺯﺍً ﻓﻲ ﻓﻜﺮ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻥ ﺍﻟﻘﺪﻣﺎﺀ، ﻛﺴﻘﺮﺍﻁ ﻭﺃﻓﻼﻃﻮﻥ ﻭﺃﺭﺳﻄﻮ ﻭﻏﻴﺮﻫﻢ . ﻭﻳﻨﻈﺮ ﺇﻟﻰ ﻣﻔﻬﻮﻡ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻣﻦ ﺩﺍﺧﻞ ﻣﺒﺤﺚ ﺍﻷﺧﻼﻕ، ﻷﻧّﻬﺎ ﻗﻴﻤﺔ ﺃﺧﻼﻗﻴّﺔ ﻣﺮﻛﺰﻳّﺔ ﻭﻋﻨﺼﺮ ﺟﻮﻫﺮﻱ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺼﺎﻟﺤﺔ .
ﻋﻼﻭﺓ ﻋﻠﻰ ﺫﻟﻚ، ﻓﻘﺪ ﺷﺪﺩ ﻋﺪﺩ ﻛﺒﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻋﻠﻰ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ، ﻻ ﻓﻘﻂ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴّﺔ ﻓﺤﺴﺐ، ﻭﺇﻧّﻤﺎ ﺃﻳﻀﺎً ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻌﻤﻠﻴّﺔ .
ﻏﻴﺮ ﺃﻥ ﺍﻟﺒﺎﺣﺚ ﻣﻴﺸﻴﻞ ﺣﻨﺎ ﻣﺘﻴﺎﺱ ﻳﺮﻯ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﺔ ﻋﻦ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺃﻥ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﻗﻴﻤﺔ ﺃﺧﻼﻗﻴّﺔ ﻣﺮﻛﺰﻳّﺔ ﻏﺎﺑﺖ ﻋﻦ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺧﻼﻝ ﺍﻷﺭﺑﻌﻤﺎﺋﺔ ﺳﻨّﺔ ﺍﻟﻤﺎﺿﻴّﺔ . ﻭﺫﻟﻚ ﺭﺍﺟﻊٌ، ﻓﻲ ﻧﻈﺮﻩ، ﺇﻟﻰ ﺗَﻐَﻴﺮ ﻓﻲ ﻓﻬﻢ ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻭﺍﻟﻼّﻫﻮﺗﻴﻴﻦ ﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﺴّﻠﻮﻙ ﺍﻷﺧﻼﻗﻲّ، ﻭﻟﺤﺪﻭﺙ ﺗﺤﻮﻻﺕ ﻧﻤﻮﺫﺟﻴّﺔ ﺃﺧﻼﻗﻴّﺔ ﻣﻨﺬ ﺗﺮﺍﺟﻊ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺍﻟﻬﻠﻨﺴﺘﻴﺔ ﻭﺇﻋﺎﺩﺓ ﺍﻟﻨّﻈﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ .
ﻭﻳﺮﻯ ﺍﻟﺒﺎﺣﺚ ﻣﻴﺸﻴﻞ ﺃﻧّﻪ ﻋﻠﻰ ﻋﻜﺲ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﺍﻟﻌﺼﻮﺭ ﺍﻟﻮﺳﻄﻰ ﻭﺍﻟﺤﺪﻳﺜﺔ ﻟﻢ ﻳﺘﺨﻠﻰ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﺍﻟﻌﺼﻮﺭ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ ﻋﻠﻰ ﺍﻋﺘﺒﺎﺭ ﺍﻟﺼّﺪﺍﻗﺔ ﻣﻦ ﺷﺮﻭﻁ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴّﺔ . ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻧﺠﺪ ﺃﻥ ﺍﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻑ ﺃﺑﻴﻘﻮﺭ ﻳﻜﺘﺐ :
« ﺑﻴﻦ ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻷﺷﻴﺎﺀ ﺍﻟّﺘﻲ ﺗﺴﺘﺜﻤﺮﻫﺎ ﺍﻟﺤﻜﻤﺔ ﻹﻧﺠﺎﺯ ﻧﻌﻤﺔ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻜﺎﻣﻠﺔ، ﺍﻣﺘﻼﻙ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺃﻓﻀﻠﻬﺎ . »
ﻭﻧﺠﺪ ﺍﻟﻔﻴﻠﺴﻮﻑ ﺩﻳﻤﻘﺮﻳﻄﺲ ﻳﻘﻮﻝ :
« ﺣﻴﺎﺓ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﻟﻴﺴﺖ ﺟﺪﻳﺮﺓ ﺑﺄﻥ ﺗﻌﺎﺵ ﻣﻦ ﺩﻭﻥ ﺻﺪﻳﻖ ﻭﺍﺣﺪ ﻋﻠﻰ ﺍﻷﻗﻞ »
ﻟﻜﻦ ﺃﻫﻢ ﻓﻴﻠﺴﻮﻑ ﻗﺪﻳﻢ ﻧﺎﻗﺶ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﻗﻴﻤﺔ ﻣﺮﻛﺰﻳﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺘّﻨﻈﻴﺮ ﺍﻷﺧﻼﻗﻲ ﻫﻮ ﺃﺭﺳﻄﻮ .
ﻭﻗﺪ ﺍﻋﺘﺒﺮ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻧﻮﻉ ﻣﻦ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﻤﺤﺒّﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻌﺎﻃﻔﺔ . ﻭﻓﻲ ﻧﻈﺮﻩ ﺃﻥ ﻫﻨﺎﻙ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻣﻮﺭ ﺗﺪﻓﻊ ﺍﻟﻔﺮﺩ ﺇﻟﻰ ﺃﻥ ﻳﺤﺐّ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﺍﻵﺧﺮ؛ ﻭﺑﺎﻟﺘّﺎﻟﻲ، ﻫﻨﺎﻙ ﺛﻼﺛﺔ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ : ﺻﺪﺍﻗﺔ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﺔ، ﻭﺻﺪﺍﻗﺔ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠّﺬﺓ، ﻭﺻﺪﺍﻗﺔ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻴﺮ . ﻭﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺍﻟّﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﺔ ﻫﺪﻓﻬﺎ ﻣﺼﻠﺤﺔ ﻣﺎ، ﻭﻟﻴﺲ ﺣﺒّﺎً ﻟﻤﻴﺰﺍﺕ ﺍﻷﺻﺪﻗﺎﺀ ﺍﻷﺧﻼﻗﻴّﺔ . ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨّﻮﻉ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻔﻘﻴﺮ ﻭﺍﻟﻐﻨﻲ، ﺃﻭ ﺍﻟﺠﺎﻫﻞ ﻣﻊ ﺍﻟﻌﺎﻟﻢ .. ﺇﻟﺦ، ﺃﻱ ﻣﻊ ﺃﺷﺨﺎﺹ ﻣﺘﻔﺎﻭﺗﻴﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻤﻴﺰﺍﺕ . ﺃﻣّﺎ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺍﻟّﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠّﺬﺓ ﻓﻬﺪﻓﻬﺎ ﺗﺤﻘﻴﻖ ﺍﻟﻤﺘﻌﺔ، ﻭﻫﻲ ﻣﻦ ﺃﻗﻮﻯ ﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ ﺍﻟّﺘﻲ ﺗﺤﺮﻙ ﺍﻟﺸﺒﺎﺏ . ﺃﻣّﺎ ﺍﻟﻨّﻮﻉ ﺍﻟﺜﺎﻟﺚ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻓﻬﻮ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺍﻟّﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻴﺮ، ﻭﺗﻨﺸﺄ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺃﻧﺎﺱ ﺻﺎﻟﺤﻴﻦ ﻭﻣﺘﺸﺎﺑﻬﻴﻦ ﻓﻲ ﻣﺤﺒّﺔ ﺍﻟﺨﻴﺮ، ﻓﺘﻜﻮﻥ ﺍﻟﺼﻔﺎﺕ ﺍﻟﺨﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﺷﺨﺺ ﻣﺎ ﻫﻲ ﻣﺎ ﺗﺪﻓﻌﻨﺎ ﻟﺼﺪﺍﻗﺘﻪ، ﻭﻫﺬﺍ ﺍﻟﻨﻮﻉ ﺍﻷﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻫﻮ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ، ﻓﺎﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻻ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻠّﺬﺓ ﻭﺍﻟﻤﻨﻔﻌﺔ، ﻭﺇﻧّﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻴﺮ .
ﻫﻜﺬﺍ، ﻧﺠﺪ ﺃﻥ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﻳُﻌﻠﻲ ﻣﻦ ﻗﻴﻤﺔ ﺍﻟﺼّﺪﺍﻗﺔ ﺍﻟّﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻴﺮ، ﻭﻳﺠﻌﻠﻬﺎ ﺍﻟﺼّﺪﺍﻗﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴّﺔ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﻛﻞّ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺎﺕ ﺍﻷﺧﺮﻯ، ﻷﻥّ ﺍﻟﺼّﺪﺍﻗﺔ ﺍﻟّﺘﻲ ﺗﻘﻮﻡ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻧﻨﺸﺪ ﻓﻴﻬﺎ ﺍﻟﺼّﺪﻳﻖ ﻟﺬﺍﺗﻪ ﻭﻟﻴﺲ ﻷﻱ ﻣﻴﺰﺓ ﻋﺎﺭﺿﺔ ﻳﻤﺘﻠﻜﻬﺎ ﻭﻗﺪ ﺗﺰﻭﻝ ﻓﻲ ﺃﻱ ﻟﺤﻈﺔ . ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ، ﻓﺎﻷﺻﺪﻗﺎﺀ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﻮﻥ، ﺣﺴﺐ ﺗﺼﻮﺭ ﺃﺭﺳﻄﻮ، ﻫﻢ ﺍﻟﺠﺪﻳﺮﻭﻥ ﺑﺎﻟﻤﺤﺒّﺔ ﻷﻧّﻬﻢ ﺃﺧﻴﺎﺭ، ﻭﻷﻧّﻬﻢ ﻛﺬﻟﻚ، ﺃﻱ ﺃﺧﻴﺎﺭ، ﻓﺈﻧّﻬﻢ ﻣﺼﺪﺭ ﺍﻟﻠّﺬﺓ ﻭﺍﻟﻤﻨﻔﻌﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺘﻴﻦ، ﻷﻥّ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﻧﺎﻓﻊٌ ﺩﺍﺋﻤﺎً، ﻭﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻳﻜﻮﻥ ﻣﺆﺩﻳﺎً ﺃﺑﺪﺍً .
ﺇﻥّ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﻔﺎﻫﻴﻢ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﻴّﺔ ﺍﻟّﺘﻲ ﺗﺠﻌﻠﻨﺎ ﻧﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﻋﻼﻗﺘﻨﺎ ﺑﺎﻵﺧﺮ، ﺑﻞ ﺇﻧّﻬﺎ ﺗﻌﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﻌﻼﻗﺎﺕ ﺍﻹﻳﺠﺎﺑﻴّﺔ ﺍﻟّﺘﻲ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﺗﺒﻨﻰ ﻣﻊ ﺍﻟﻐﻴﺮ . ﻭﻟﻜﻦ، ﻣﻊ ﺫﻟﻚ، ﻳﺤﻖ ﻟﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﻔﻜّﺮ ﻓﻲ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ، ﻓﺈﺫﺍ ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺍﻟﻐﻴﺮ ﻏﻴﺮ ﻣﻤﻜﻨﺔ ﺣﺴﺐ ﺗﺼﻮﺭ ﻓﻼﺳﻔﺔ ﻛﺒﺎﺭ ﺃﻣﺜﺎﻝ ﺳﺎﺭﺗﺮ ﻭﻣﺎﻟﺒﺮﺍﻧﺶ، ﻓﺈﻧّﻪ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﺃﻥ ﻧﺸﻚ ﻓﻲ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ .
ﻭﺍﻟﺤﻖّ ﺃﻥ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﻨّﻔﺲ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴّﺔ ﺍﻟّﺘﻲ ﻳﺼﻌﺐ ﻣﻌﺮﻓﺘﻬﺎ، ﻷﻧّﻬﺎ ﻓﻲ ﺗﻐﻴﺮ ﻣﺴﺘﻤﺮ، ﻓﺎﻟﻔﺮﺩ ﻓﻲ ﺗﻔﻜﻚ ﺩﺍﺋﻢ، ﻭﻓﻲ ﺑﻨﺎﺀ ﻧﻔﺴﻲ ﻳﻮﻣﻲّ . ﻭﻗﺪ ﺫﻛﺮ ﺃﺑﻮ ﺣﻴﺎﻥ ﺍﻟﺘّﻮﺣﻴﺪﻱ ﻓﻲ ﻛﺘﺎﺑﻪ ” ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻭﺍﻟﺼﺪﻳﻖ ” ﻋﻠﻰ ﻟﺴﺎﻥ ﺃﺑﻮ ﺳﻠﻴﻤﺎﻥ ﺃﻥ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺗﺼﺢ ﺃﻭ ﻻ ﺗﺼﺢ ﻋﻠﻰ ﺣﺴﺐ ﻣﻜﺎﻧﺔ ﺃﺻﺤﺎﺑﻬﺎ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻴّﺔ، ﻓﺎﻟﻤﻠﻮﻙ ﻣﺜﻼً ﺟﻠﻮﺍ ﻋﻦ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ، ﻭﺍﻟﺘّﺠﺎﺭ ﻻ ﺗﺨﻠﺺ ﻟﻬﻢ ﻟﻐﻴﺎﺏ ﺍﻟﻤﺮﻭﺀﺓ ﻋﻨﻬﻢ، ﺃﻣّﺎ ﺍﻟﻜﺘﺎﺏ ﻭﺃﻫﻞ ﺍﻟﻌﻠﻢ ﻓﺘﺼﺢ ﻟﻬﻢ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺑﺸﺮﻁ ﺃﻻ ﻳﻜﻮﻥ ﺑﻴﻨﻬﻢ ﺗﺤﺎﺳﺪ ﻭﺗﻤﺎﺭﻱ ﻭﺗﻤﺎﺣﻚ . ﻭﻫﻜﺬﺍ، ﻓﺎﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻣﺮﺗﺒﻄﺔ ﺑﺎﻟﻮﺳﻂ ﺍﻻﺟﺘﻤﺎﻋﻲ، ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺑﺎﻷﺧﻼﻕ ﺍﻟﻔﺎﺿﻠﺔ .
ﻭﺍﻟﻤﻘﺼﻮﺩ ﺑﺎﻷﺧﻼﻕ ﺍﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﻫﻨﺎ ﺃﺧﻼﻕ ﺍﻹﻳﺜﺎﺭ ﻭﺍﻟﺘﻀﺤﻴﺔ ﻭﺍﻟﺼﺪﻕ ﻭﺍﻟﻮﻓﺎﺀ، ﻓﻤﻊ ﺍﻷﻧﺎﻧﻴّﺔ ﻭﺍﻟﻨّﺮﺟﺴﻴّﺔ ﻭﺍﻟﻜﺬﺏ ﻳﺴﺘﺤﻴﻞ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﻋﻦ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ، ﺃﻭ ﺣﺘّﻰ ﻣﺎ ﻳﺸﺒﻪ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ، ﻭﺇﻥ ﻧﺸﺄﺕ ﻓﺈﻥّ ﻫﺬﻩ ﺍﻟﺼّﺪﺍﻗﺔ ﻫﻲ ﺻﺪﺍﻗﺔ ﺍﻟﻤﻨﻔﻌﺔ ﺃﻭ ﺍﻟﻠّﺬﺓ ﻭﻟﻴﺴﺖ ﺻﺪﺍﻗﺔ ﺍﻟﺨﻴﺮ ﺍﻟّﺘﻲ ﺃﻋﻠﻰ ﺃﺭﺳﻄﻮ ﻣﻦ ﻗﻴﻤﺘﻬﺎ ﻭﺍﻋﺘﺒﺮﻫﺎ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻴﺔ ﻣﻦ ﺑﻴﻦ ﻛﻞ ﺃﻧﻮﺍﻉ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺎﺕ ﺍﻟﻤﻤﻜﻨﺔ .
ﺗﺮﺗﻴﺒﺎً ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺳﺒﻖ ﻳﻤﻜﻦ ﺃﻥ ﻧﻘﻮﻝ : ﺇﺫﺍ ﺃﺭﺩﻧﺎ ﺍﻟﺘّﻔﻜﻴﺮ ﻓﻲ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ، ﻓﺈﻧّﻪ ﻳﻨﺒﻐﻲ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺃﻻ ﻧﻔﻜﺮ ﻓﻲ ﻭﺟﻮﺩﻫﺎ ﺧﺎﺭﺝ ﻧﻄﺎﻕ ﻃﺒﻴﻌﺔ ﺍﻟﻨّﻔﺲ ﺍﻟﺒﺸﺮﻳّﺔ، ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻓﺎﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻗﺪ ﺗﻮﺟﺪ ﻓﻲ ﺯﻣﻦ ﻣﻌﻴﻦ، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﺳﺮﻋﺎﻥ ﻣﺎ ﺗﺨﻤﺪ ﻭﺗﺨﺘﻔﻲ، ﺇﻣّﺎ ﺑﻔﻌﻞ ﻇﺮﻭﻑ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ، ﺃﻭ ﺑﺴﺒﺐ ﺗﻐﻴﺮ ﺍﻟﻔﺮﺩ، ﻭﻣﻦ ﻫﻨﺎ، ﻓﺎﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻟﻴﺴﺖ ﻣﻘﺎﻣﺎً، ﺇﻥ ﺷﺌﻨﺎ ﺍﻟﺤﺪﻳﺚ ﺑﻠﻐﺔ ﺍﻟﺼﻮﻓﻴّﺔ، ﻭﺇﻧّﻤﺎ ﻫﻲ ﺣﺎﻝ ﻳﺰﻭﻝ . ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻓﺈﻧّﻬﺎ ﺗﺘﺸﺎﺭﻙ ﻣﻊ ﺍﻟﺤﺐّ ﻭﻣﻊ ﻣﺨﺘﻠﻒ ﺍﻟﻌﻮﺍﻃﻒ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴّﺔ ﻓﻲ ﻛﻮﻧﻬﺎ ﻟﻴﺴﺖ ﺩﺍﺋﻤﺔ، ﻣﻤﺎ ﻳﺤﺘﻢ ﻋﻠﻴﻨﺎ ﺃﻥ ﻧﺤﺮﺹ ﻋﻠﻰ ﺭﻋﺎﻳﺘﻬﺎ ﻭﺍﻟﺤﻔﺎﻅ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺃﻃﻮﻝ ﻣﺪﺓ ﻣﻤﻜﻨﺔ، ﺃﻱ ﻣﺪﺓ ﻭﺟﻮﺩﻧﺎ ﺍﻟﻤﺆﻗﺖ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﻩ ﺍﻷﺭﺽ .
ﺇﻥ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻣﺜﺎﻝ ﺟﻤﻴﻞ ﻣﻦ ﺃﻣﺜﻠﺔ ﻣﺤﺒّﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻷﺧﻴﻪ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ، ﻣﺜﺎﻝ ﻳﻨﺴﻴﻨﺎ ﺗﺼﻮﺭ ﻫﻮﺑﺰ ﺍﻟﻤﺘﺸﺎﺋﻢ ﻋﻦ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ ﺍﻹﻧﺴﺎﻧﻴّﺔ ﻭﻋﻦ ﺣﺎﻟﺔ ﺍﻟﻄﺒﻴﻌﺔ . ﻭﻗﺪ ﺍﻧﺘﺒﻪ ﺍﻟﻔﻼﺳﻔﺔ ﻣﻨﺬ ﺍﻟﻘﺪﻡ ﺇﻟﻰ ﺃﻫﻤﻴﺔ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻴّﺔ، ﺇﺫ ﺭﺃﻯ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎﻧﻴﻮﻥ ﺃﻧّﻪ ﻣﻦ ﺍﻟﺸﺮﻭﻁ ﺍﻷﺳﺎﺳﻴّﺔ ﻟﻘﻴﺎﻡ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﻔﺎﺿﻠﺔ ﺩﺍﺧﻞ ﺍﻟﻤﺪﻳﻨﺔ ﻭﺟﻮﺩ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ . ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻓﺈﻥ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﻄﺮﻕ ﺍﻟّﺘﻲ ﺗﻮﺻﻠﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺴﻌﺎﺩﺓ ﺍﻟّﺘﻲ ﻳﻨﺸﺪﻫﺎ ﺍﻹﻧﺴﺎﻥ ﻭﻳﺒﺤﺚ ﻋﻨﻬﺎ، ﻷﻧﻪ ﻻ ﺳﻌﺎﺩﺓ ﺑﺪﻭﻥ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻓﺎﺿﻠﺔ، ﻭﻻ ﻣﺪﻳﻨﺔ ﻓﺎﺿﻠﺔ ﺑﺪﻭﻥ ﺻﺪﺍﻗﺔ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻤﻮﺍﻃﻨﻴﻦ !
ﺇﻻ ﺃﻥ ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ ﺑﺎﻋﺘﺒﺎﺭﻫﺎ ﻣﻔﻬﻮﻣﺎ ﺗﺒﻘﻰ ﻣﺜﺎﻻً، ﺃﻱ ﻓﻜﺮﺓ ﻛﻠﻴﺔ ﻣﺠﺮّﺩﺓ، ﻧﻘﺘﺮﺏ ﻣﻨﻬﺎ ﺣﻴﻨﺎً، ﻭﻧﺒﺘﻌﺪ ﻋﻨﻬﺎ ﻓﻲ ﺃﺣﺎﻳﻴﻦ ﻛﺜﻴﺮﺓ، ﻭﻟﻬﺬﺍ ﻓﺈﻧﻬﺎ، ﻛﻜﻞّ ﺍﻷﻓﻜﺎﺭ ﺍﻟﻤﺜﺎﻟﻴﺔ، ﺗﺤﺘﺎﺝ ﻟﻠﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺑﻬﺎ، ﻭﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻮﻥ ﺩﺍﺋﻤﺎً ﻗﻠﺔ ﻓﻲ ﻭﺍﻗﻊ ﻣﺎﺩﻱ ﻻ ﻳﺮﺗﻔﻊ !
*******
ﻫﻮﺍﻣﺶ :
1 ـ ﻣﻴﺸﻴﻞ ﺣﻨﺎ ﻣﺘﻴﺎﺱ، ﺍﻟﺼﺪﺍﻗﺔ، ﺳﻠﺴﻠﺔ ﻋﺎﻟﻢ ﺍﻟﻤﻌﺮﻓﺔ، ﻋﺪﺩ : 444 ، ﻳﻨﺎﻳﺮ .2017
2 ـ ﺍﻟﻤﺮﺣﻠﺔ ﺍﻟﻬﻠﻨﺴﺘﻴﺔ ﻫﻲ ﻣﺮﺣﻠﺔ ﻓﻲ ﺗﺎﺭﻳﺦ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺗﻤﻴﺰﺕ ﺑﺘﺸﺒﻊ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﺑﺎﻟﺤﻜﻤﺔ ﺍﻟﻤﺸﺮﻗﻴﺔ.
#م.ن