أدب الموجوعين

يبدو أن أعظم الأعمال الأدبية عربيًا وعالميًا، هي المرتبطة بالبؤس والحرمان والوجع؛ لدرجة أن كثيرين يعتقدون أن قدر الأنبياء وورثتهم أن يعيشوا أيتامًا ينازلون أشكال الوجع والحرمان، ويقيمون حيث أقام البلاء.قبل أن يعيش يوسف في بيت العزيز أدّبه الجبّ، وقبل أن ينام موسى في بيت فرعون كانت تتقاذفه أمواج اليمّ، وحتى بعده كان منفيًا شاردًا في أطراف الأرض حافيًا خائفًا يترقّب.ومحمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام كان يتيمًا وابنًا لذبيح، ويدعو: “اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرني في زمرة المساكين”.وعاش الكثير من الفلاسفة والمؤثرين أوجاعًا منهم من نفي ومن جلد ومن صلب ومن أوشك أن يموت مرتين، وقال بعضهم أعظم قصائده في المنفى كما فعل شوقي في سينيته، أو أصدر أهم مشروعاته كما فعل محمد عبده والأفغاني في المنفى حين أصدرا “العروة الوثقى”، وكتب بعضهم أعظم كتبه في السجن كما فعل فولتير في ملحمته الشعرية وغرامشي في كراساته وسيد قطب في معالمه والفقيه السرخسي في “المبسوط”، وغيرهم،وهناك إلى جوار ذلك من ألهم الأدب عبر رصده لظاهرة الحرمان والبؤس عالميًا مثل هيجو ودوستويفسكي، ليصبح في مرحلة ما معنى الأدب العظيم مرتبطًا بحكايا البؤس والوجع ومرتبطًا بمعاني تقدم القصة المحكية بطريقة تشعر معها بأن الإبداع لا يكون إلا حين تحرث مواطن الوجع وتبثّ الهموم، وتتبع مواطئ الحرمان والألم.كل ذلك طَبَع الأدب والثقافة والتاريخ بالنزعة الإنسانية التي تنحاز للمهمشين والموجوعين والمضطهدين، وهي نزعة حميدة في الأساس ومن حيث المبدأ؛ حيث كل ذلك الجهد الأدبي المختلف والمتعدد ساعد على إيضاح صور المعذبين في الأرض وحث القارئ والمتابع والسامع على رعاية حقوقهم والدفاع عنهم والإحساس بمعاناتهم، وسماع صوتهم المكتوم.وفي سياق النشاط المرتبط بالمهمشين تطورت حركات مختلفة حول العالم، خرجت واستفادت من ذلك التراث العالمي والإرث القديم المرتبط بقضايا المهمشين، وفي الواقع اليوم أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي هي الإعلام البديل غير التقليدي الذي لا يحتاج فيه عموم الناس في المجتمع من الارتباط بحزب أو شبكة مصالح أو دولة أو تيار مسيطر أو “حزب وطني” لكي يكون صوته مسموعًا؛ فكل ذلك ساعد على حضور المهمشين والموجوعين اجتماعيًا وسياسيًا من غير جهدٍ خارق.ولكن، ذلك الارتباط النفسي والنشاط السياسي المرتبط بمهمة الدفاع عن المحرومين قد يطوّر أدواءه هو الآخر ويصنع مشاكله الخاصة، وقد يصبح في لحظة ما أو تجاه قضايا ما في الموقع الغلط؛ فيصطفّ إلى جوار الطغيان الآثم وجبروت أصحاب القوة، حينما ترتبط تلك القوة الآثمة بشبكة من المصالح التي قد يظن الناشط أو المهتم أنها في النهاية تخدم الصالح العام أو المصالح الاستراتيجية لمجموعة أو لأخرى، وهنا قد يتخذ الناشط أو المهتم القرار الخطأ بالاصطفاف إلى جوار الظلم والبغي.كتب الماركسي راؤول فنجام في عام (1998) كتابًا يمكن ترجمته بعنوان: “ثورة كل يوم”، ينقد فيه المناضلين الماركسيين من أصدقائه. وتحدث عن التضحية كقيمة نضالية، وأن تقديم التضحية كل مرة يعني أن الحياة الإنسانية لها مقابل وهذا مفهوم رأسمالي صرف لا ينبغي للماركسيين أن يتبنوه.فالتضحية بالنفس لذات التضحية تتحول لغرض مادي صرف هدفه البقاء والذكر وليس المحافظة على الإنسان وحريته وقيمته. وتأسف على أن التضحيات التي قدمها الماركسيون قد تتحول مع الوقت لغرض ذات التضحية وتفقد كل قيمتها. وانتقد هذا الماركسي أصدقاءه بأنهم قد يدافعون عن الماركسيين المعتدين والديكتاتوريين فقط بسبب هذا الانتماء الحزبي أو الفكري.وفي جريدة المحايد كتب واعي المقبل في عام (2004) مقالة: (صناعة القربان في الفكر الإسلامي) ينتقد فيها الإسلاميين بالعموم في تحويل مفهوم القربان إلى صناعة خالصة، ويقول بأنه في الفكر الإسلامي قد تتحول التضحية إلى غرض لذاتها؛ خصوصًا بعد مرور الفكر الإسلامي والحركات بالكثير من الضغط والتضييق فتتحول مع الوقت إلى باحثة عن هذه التضحية ومستمتعة بممارسة دورها عوضًا عن البحث عن الحفاظ على حرية كل أحد وقيمته وكرامته، وانتقد أصدقاءه الإسلاميين الذين قد يحسون بالتضحية ولكنهم قد يبررون الظلم ذاته تجاه غير الإسلاميين.في النهاية، قيمة التضحية شيء في غاية النبل والعظمة، ومثاليًا، تتم بشكل لا يبحث المصلحون والحقوقيون لصناعتها والبحث عنها وتقصّدها وتعريض الناشطين لها، ولكنها قد تحصل كضريبة طبيعية للابتلاء المدني، والعمل الشعبي العام.وفكرة الاهتمام بقضايا الحرمان والموجوعين والمهمشين غاية رشيدة، لكن ينبغي لها أن لا تصطف مع نواع واحد أو شكل واحد أو لون واحد من ألوان الموجوعين حينما يتعلق الأمر بالحزب أو الطائفة أو التيار؛ فالمحرومون والبؤساء أشقاء الوجع، ولا يجوز التفريق بين الأشقاء!