محاضرة بعنوان : ( دور الشعر في العلاج النفسي ) _ د. محمد رائد الحمدو
مقدمة :
قبل الخوض في غمار المحاضرة يجب أن نعترف أن أبرز ضحايا الألم النفسي هي حواء
لماذا؟
لأن المرأة مخلوق جميل وشفاف وبين كل مخلوقات الله الذكور أجمل من الإناث إلا في الجنس البشري المرأة هي الأجمل والأكثر رقة والأصدق عاطفة وهي مادة الأدب العالمي عبر التاريخ والفرق بينها وبين الرجل كالفرق بين الشعر والنثر فالروح تتذوق الشعر بأقصى درجات الرهافة وتتذوق النثر بدرجة أقل بكثير والمرأة جمالها لوحة شاملة للجمال في الروح والجسد ولأنها كذلك فهي مادة الأساطير وقطرات الندى التي تمنح الحياة نضارة لا تتوقف..
وهي تتعرض للكثير من الضغوطات النفسية في المجتمعات الذكورية ..
منها حرمانها من الكثير من خياراتها في الحياة..
ومن هنا اهتم أستاذ التحليل النفسي فرويد بتلك الناحية واعترف أن الشعراء هم الأكثر قدرة على فهم مكنونات النفس عند حواء..
كذلك الفيلسوف الفرنسي ليوم يقول إن النساء يكن مريضات عندما يردن ذلك..
وفي الطب يعتبر التمارض مرض وهو عبارة عن الأعراض الجسدية الانسحابية لحالة نفسية معينة يشكو منها المتمارض..
ومن إنجازات فرويد في التحليل النفسي تصنيفه للكيونة البشرية النفسية إلى التالي:
1_ اللاشعور:
وتعريفه عند فرويد أنه افتراضية في النفس تحتوي الدوافع والذكريات والمخاوف والاحاسيس والوجدان وأفكار ممنوعة من الظهور في الوعي من المكبوتات والعقد النفسية وتشمل على الاحاسيس المتبقية من فترة الطفولة والدوافع الغريزية إلى آخره..
2_ الشعور:
وهو الإدراك المعتمد على الحواس والأنا بأنواعها الثلاث عليا ودنيا ومتوسطة
3 _ الفلتات أو الأفعال المخطئة لأهدافها:
فلتات اللسان أو القلم والأفعال الطائشة والنسيان غير المبرر.. الخ، وهي تخون وتفضح في الغالب وبالفعل أسرار الشخص الأكثر حميمية، حيث نجد أن النية المكبوتة استطاعت أن تفلت وتطفو على السطح عن طريق اختلال الخطاب العادي.
4 _الحلم :
وهو منطقة اللقاء بين الشعور واللاشعور وهو كما يقول فرويد التحقيق الوسواسي للرغبة
والشعر فن أدبي يصور الحياة كما يحسها الشاعر ويعتمد على الإيقاع والعاطفة والخيال وتلك هي ثنائية حواء العاطفة والخيال ..
ولأن من أعرق الفنون الأدبية في معظم ثقافات الأمم وخاصة العرب ..
فهو الأجدر بالتعاطي بإيقاعه الجميل مع أجمل الخلائق وهي حواء إعترافا ً لامجاملة ً..
والشعر من وجهة نظري هو تهذيب اللاشعور وتقريب له من ساحة الشعور..
وهو يوقظ الحلم ليجعله دواء ً وليس داءً..
ندخل في الموضوع..
الفتاة في سن المراهقة كالشاب كلاهما يميل للآخر..
مع اختلاف جدي في مقاربة كل منهما لتحقيق هذا الميل..وتلعب البيئة دورا في ذلك ..
في يوم مشمس يحنو بدفئه على طبيعةٍ ودعت الشتاء أو تكاد... ونحن نقترب من التخرج من كلية الطب .. مدرج الكلية يضج بنا.. طلاباً وطالبات .. دخل أستاذ مادة الطب النفسي وبرفقته فتاة ريفية لم تصل ربيعها العشرين بعد.. ورغم الرهبة المفترضة وهي تدلف إلى مدرج المحاضرات الوثير إلا أنها دخلت رافعة الرأس وكأن كل ماهو موجود لم يعبر مساحة اهتمامها.. طبعاً نحن تعودنا أن يصطحب أستاذنا كل مرة مريضاً نموذجاً للدرس المقرر في الجدول الدراسي لمادته ، وهكذا بدأ المحاضرة بتعريف الصمت الهيستريائي والذي بعني بإيجاز الصمت الذي لا أمراض عضوية تسببه بل هو عرض لسبب ما من طيف الإضطرابات النفسية الواسع وقال هذه الفتاة مصابة بالصمت الهيستريائي .. وأردف أنه يعزو الأمر لغياب أبويها لتأدية فريضة الحج وهي صغيرتهما المدللة .. وقد أوصيا قريباً لهما بالإشراف عليها حتى عودتهما .. وهكذا كان ، والنتيجة فإن هذا الغياب هو الذي سبب لها هذه الإصابة.. وتابع أنه لم يفلح حتى الآن بإعادة النطق لها..وطلب منا المحاولة ووعدنا بدرجات إضافية لمن يستطيع أن يعيدها إلى التغريد من جديد .. ودلنا على سرير مرضها في المستشفى الجامعي وأذن لمن أراد أن يحاول ذلك خلال الدرس وحاول البعض بسذاجة ولكن دون جدوى..عادت الفتاة لسرير مرضها في المستشفى الجامعي وانتهى اليوم الدراسي ولكن موضوعها أشغل تفكيري وناقشت زميلاً لي كان حاضراً .. وقلت له أنني أعتقد أن سبباً عاطفياً يقف وراء صمت زهرة الخزامى تلك ولا سبب آخر يفعل ذلك في مثل هذه المرحلة من العمر ..وهكذا قررنا أن نذهب لزيارتها في المستشفى ..وهكذا كان ..الآن نحن نقف إلى جوار سرير مرضها ..طلبت منه أن يلتزم الصمت حتى أشير له بطرح السؤال المتفق عليه..
هنا تذكرت مقولة فرويد الطبيب النفسي النمساوي الشهير والذي مفاده أن الشعراء هم الأقدر على فهم النساء وها أنا طالب طب وشاعر .. وقبلت التحدي ...
الفتاة ما تزال تلتزم الصمت المطبق غير آبهة بالأسئلة الأولى التي تعمدت أن تكون استفزازية ولكن دون جدوى .. وهنا قلت لها ألست من جنس البشر أومأت بالإيجاب إيماءةً اعتبرتها أول الغيث .. قلت لها ما يميز البشر ليس الكلام فقط ولكن التفكير ربما يميزهم أكثر وإذا قبلنا منك الصمت عن الكلام فلن نقبل الامتناع عن التفكير فتفاعلت أكثر وأجابت هامسة بالموافقة ..قلت لها لاشك أن رأسك ممتلئ بالكثير من الأفكار فعلا همسها أكثر ..تابعتُ ولكن هناك موضوع واحد يشغل كل تفكيرك يقظةً ومناماً أليس كذلك فغدا الهمس صوتاً خفيضاً فنظرت في وجه زميلي الذي باغتها بطرح السؤال المتفق عليه قائلاً أنت في حالة عشقٍ عميقٍ وجارف ..
فصرخت كالملسوعة نعم ولكن أرجوكم أن تكتموا عني قلنا لها هذا سر المهنة ولا تخافي.. وكان اعترافها بوح بمكنون صدر ضاق بكتمانه وهذا( البوح بمكنون الصدر) مبدأ علاجي مهم في الطب النفسي فطلبنا منها البوح الكامل فقالت لواحد منكما فقط وقبلت أن تعترف لي فاصطحبتها إلى شرفة تطل على حديقة المستشفى وانفجرت سيلاً جارفاً من الكلام ..قالت أنه في غياب والديها أخذ الرجل المكلف بالإشراف عليها بطرق باب عاطفتها العذراء وكان حبها الأول وكل يوم تزداد تعلقاً به حتى استولى على عرش قلبها ولا سبيل للحياة بدونه ..وهكذا عاد أهلها من رحلتهما فطلبت من أميرها أن يتقدم لخطبتها ففعل ولأنه متزوج وأب لستة أطفال رفضه أهلها فدخلت في غيبوبة الصمت ...........
هنا ذهبت لأستاذي وقلت له مازحاً ليس ذهاب أهل الفتاة هو سبب صمتها الهيستريائي هذا بل عودتهم.. ضحك الأستاذ وانشرحت أساريره لتعافيها من حالتها وطلب مني أن أعود لها لمحاولة تقوية شخصيتها لمساعدتها على نسيان الحبيب ففعلت ولكن ماذا كان الرد..قالت إن نسيانه مستحيل لا سبيل لتحقيقه واعترفتُ أنا هذه المرة بصواب ما تقول فالنسيان في مثل هذه الحالة نعمة معلقة بالثر يا قد يستحيل نيلها.. وما نحن عن قيس وليلى بغرباء..
المهم..هذه القصة رافقت ممارستي اليومية لمهنة الطب حيث كنت أبحث عن طيف لألم دفين يتخفى وراء شكايات مبهمة وغالباً ما كنت أصيب..
مثال آخر:
فتاة في نفس العمر..تعرضت لفقدان مفاجئ للقدرة البصرية ..
أخذها أهلها لكل أطباء أمراض العين والأمراض العصبية في سوريا تقريباً..
وقبل الوقوع في حفرة الانهيار بالنسبة للأهل نُصحت والدتها بالمجيء لعيادتي وقد كان..
ذكرت لها القصة السابقة..
ومن دون تفصيلات كان هذا العمى الهيستريائي الذي يعصف بها يعلن هزيمته
من الجلسة الثانية اعترفت أنها ترى وحلت المشكلة..
تُختصر هاتين الشكايتين ومايماثلهما هنا:
لاتنظري لي والجوى
من مقلتيك يمطرُ
لاتشتكي من ألم ٍ
كوردة ٍ تنتحرُ
بريقُ عينيكِ وشريانك ِ
عنك ِ يخبرُ
بأن داءَ العشق ِ فيك ِ
مزمنٌ منتشرُ
وذاك لايكشفه ُ
أشعة ٌ أو مخبرُ
إني طبيبٌ شاعرٌ
في النفس ِ دوماً أبحرُ
وأعرفُ القلبَ بما
التخطيط عنه ُ يقصرُ
عرفت مافي قلبكِ العاشق ِ
مهما ينكرُ
ما احتجتُ أن يسعفني
[إيكو] وبعدُ {القسطرُ}
فابتسمي وانتظري
قد فازَ من ينتظرُ.
إمرأة مطلقة..
تزوجت بعد قصة حب جارف ..تكالبت الظروف وانفرط عقد هذا الزواج..
تكاثرت الشكايات المرضية ..فقدمت لها الوصفة التالية:
مزقي حزنك القديم وعودي
لحياة ٍ مليئة ٍ بالورود ِ
فبكاء القديم عامل هدم ٍ
يسلب العمر متعة التجديد ِ
إن يأس َ المريض ِ يأخذُ منه
فرصة الطب في العلاج المفيد ِ
وأنا بعد برهة ٍ واختبار ٍ
وفحوص ٍ بذلت فيها جهودي
وبرسم ٍ للقلبِ رسماً دقيقاً
قد وضعت ُ التشخيص َ بالتأكيد ِ
إنني قد وجدت ُ قلبكِ طفلاً
باحثاً عن حضانةٍ من جديدِ
إن دوري دور الطبيب المداوي
لمريض ٍ من يأسه المنكود ِ
هذه وصفتي وخبرة عمري
فخذيها كحقنةٍ في الوريد ِ
فانطلقت من قفص الألم مغردة في خمائل الأمل:
ضحكتها قد غردتْ
يا سادتي في مسمعي
كأنها فيروز في
الصبح الجميل الأروع ِ
وإنها من سحرها
قد سافرت في أضلعي
قلت لها يا حلوتي
إلى ضفافي أسرعي
واغتسلي من حزنك
القديم ثم استمتعي
عندي الشفاءُ جرعةٌ
تُعطى بلا توجع
إني طبيبٌ شاعرٌ
أحمل ترياقي معي
عيادتي قصيدةٌ
من المقام ِ الأرفع
سماعتي قافيةٌ
ومن حنانٍ مبضعي
فسلمي أمرك لي
طوعاً بلا تمنع ِ
عندي الشفاءُ جرعةٌ
تُعطى بلا توجع
أرملة ..
تزوجت وهي صغيرة من رجل ثري قيدها بإنجابه عديد الأولاد منها ورحل:
خدي على يدي أنا..
وفي المدى مستغرقُ..
يمر بي هذا الجمالُ..
الشاحبُ المحترقُ..
تحكين لي حكايةً..
عن كأسِ عمرٍ يهرقُ..
عن تاجرٍ فظٍ غليظ ِ..
القلب ِ فيهِ نزقُ..
من كان بالمال الوفيرِ..
من صباكِ يسرقُ..
تحكين لي والدمع من..
عينيكِ عنكِ ينطقُ..
عن مكرهِ عن قيده ِ..
عن باب سجنٍ يُغلَقُ..
مسكينةٌ أنت وفي..
عينيك حزنٌ مطبقُ..
وهل يفيد الطب في..
إنقاذ ِ حسنٍ يغرقُ..
المالُ ربٌ ٌظالمٌ..
وليس فيه منطقُ..
مريضة:
تقول أنها تسرعت في ارتداء الثياب الربيعية..
وفوق ذلك فهي تدخن الأركيلة..
فحدث معها نوبة كريب ( التهاب طرق تنفسية عليا) شديدة..
تلك الثياب رقيقة ياحلوتي..
وأخاف من برد الربيع عليك..
هذي النتيجة بعض آلامٍ هوتْ..
بين الضلوع تجوس في رئتيكِ..
وإذا الحرارة أنشبت أظفارها..
وإذا الجفاف يلوح في شفتيكِ..
وإذا يحط ُ على الجبينِ تعرقٌ..
وإذا احمرار الضعف ِ في عينيك ِ..
وإذا السعال كطعنة ٍ من خنجر ٍ..
تهوي على الصدرِ الجميل لديك ِ..
فلتسمعين نصيحتي بتمامها..
ولتكسري أركيلةً بيديك ِ..
هذا الجمال أمانةٌ من ربنا..
أتفرطين به.. حرام عليك ِ..
زوجتي شكت لي تعرضها لنزلة برد فقلت لها:
نزلةُ برد ٍ..
حطتْ عليكِ..
لتزرع في..
رئتيك ِ السعال..
فيخرج منها ..
منها السعالُ..
معطرْ..
وبعضُ الحرارةِ..
تجعلُ قلبك ِ..
يخفقُ ببنَ..
ضلوعك ِ أكثر..
وبحةُ صوتك ِ..
حين تغردُ..
أسمعُ لحناً..
من الشعر ِ..
أشعرْ..
وهذا التعرقُ..
فوقَ جبينكِ..
خذي جففيه ِ..
بمنديل ِ حب ٍ..
ليغدو ..
كمرج ِ السنابل ِ..
أخضرْ..
وماتزال الشكايات تتكرر والقصائد ترصد وتعالج..
الطبيب الشاعر : محمد رائد الحمدو