قصة قصيرة: (7) ألفيلسوفه التائهة
قحطـان فؤاد الخطيب / العراق
" بات من المستحيل أن اصمت وفي فمي الدم ... وبات من المستحيل أن أعيش في النار ما دامت هناك الجنة . " هكذا راحت الآنسة الشابة جوليت تبعث بعباراتها المنسابة التي عجزت عن تدوينها بما احتوته من عمق في الفكرة ، وجمال في الأسلوب ، وخصوبة في الخيال . ثم وجدتني مندهشاً أمام هذا النوع من الحواء.
قالت بلهجة تمثيلية رائعة ..... " أنا اكره أبي وأمي ... أكرههما ، لأنهما تسببا في وجودي. " ثم استدركت قائلة: " أتدري لماذا اكرههما ؟"
عجبت من أمرها وأنا لم يمض على تعرفي عليها سوى أيام تعد بالأصابع ثم أردفت قائلة : " إن وجودي يعني ، بالنســبة لي الخطأ الكبير . " ثم راحت تبعث بتفسيراتها وتعليلاتها قائلة : " فأبي لم يقرر الحصول على أطفال: لا بنين ولا بنات . ولكن جئت صدفة . " ثم رفعت عينيها وهي تتأملني كأنني أريد أن انتزع منها الاعتراف . ومضت تقول : "إن أبي كان تحت الأمر الواقع .... بل قل كان يندب حظه حين عرف بأن أمي ستضع مولوداً . " ثم تساءلت بعصبية : " فلماذا تزوجها أذن ؟ ! " وتوقعت أن أعلل لها سؤالها ، ولكنها راحت تقول : " أتدري كم أثق فيك .... ؟ " ثم ابتسمت وقالت : " أجل، إنني أثق فيك ، ويتراءى لي بأنك خبير بالحياة" !
كانت فتاة خضراء العينين ، معتدلة القامة ، شعرها مفحم بالسواد ، رشيقة الحركة ، رقيقة الحديث . كانت تضحك ثم تسكت ، تسأل ثم تجيب نفسها . لقد سبق وعرفت بأنها في سنتها الجامعية الأخيرة . كانت ذكية ..... تتحدث في كل شيء بلباقة . وكانت تريدني أن افهم بأنها أحسن حواء !
قلت لها : " هل أنت فيلسوفة ؟ ! أجابتني كمن أحبت هذا السؤال كثيراً . ثم راحت ، بغرور، تعدد بأصابعها ذات الأظافر الطويلة الملونة بلون زهور الربيع ، أسماء الكتب والكتاب الذين قرأت لهم وتأثرت بهم . فذكرت المذاهب الأدبية والشخصيات الفكرية بلا حساب ثم قالت : " أحب الرمزية ... أحب اللامعقول ... أحب سارتر ... أحب الفن ... الأدب ... التمثيل ... آه ، أعشق التمثيل . وهنا لفظت عبارتها التالية التي أبعدتنا عن الطريق الذي كنا نسير فيه ، قائلة :
" لاشيء يعيد للخضرة نظرتها . غاب القمر الذي كان يتلألأ..............."
كنت ألاقي صعوبات شتى وانأ أدون أفكارها الغامضة . ثم واصلت تقول : " لتحرسك الشمس ، ولترعاك النجوم ."
لست أدري من كانت تعني ، وماذا كانت تريد أن تعني . قلت لها : " هل أنت تحت وطأة الحب؟" أجابت ببرود : "سؤال مألوف ... أبدا" "وهل فشلت في الحب ؟ " قالت " بكل تأكيد ... أبداً . " فقلت لها " وماذا تريدين بكلماتك هذه ؟!" قالت : " أما عن الحب فلا أؤمن به ... أعني أنه زيف ... وكذلك لا أؤمن بالإنسان.... . " ودفعني الفضول كي استطلع رأيها في لغتها هذه فإذا بها تقول : " أحب استعمال اللغة التي لا يفهمها الآخرون ، لأن وقعها طيب في نفسي . " قلت لها : وهل كل البنات هكذا ؟!" أجابت " كل ما اعرفه أن هناك فتيات سخيفات وعظيمات ، وضيعات ومخلصات ، عالميات ومحليات . " قلت لها متهكماً : " وهل لك أن تحدثيني عن العالميات والمحليات ! ؟ " قالت برباطة جأش : " إنني لا أحب التدخل في شؤون الأخريات إلا إذا جلبت لهن السعادة . إنني غير سعيدة لأنني لا اعرف ماذا أريد . " وهنا افترضت في نفسي طبيباً سيكولوجيا ، وتمنيت فرويد بقربي ليحل رموز هذا الطراز من الفتيات . و امتلكت عواطفي محاولاً وضعها في جو تستطيع خلاله الإفضاء بأفكارها لعلها تفسر هذه الطلاسم . ثم تحدثت بلهجة حزينة :
" أنا أؤمن بأن السعادة ليست في إدخال السرور إلى نفسي بل إلى القلوب التي تحتاجها . " ثم سألتها وماذا تقصدين بالذين يحتاجونها ؟ قالت " الرجال بالأخص ... وأنى ارثي لهم . إنهم يتغزلون بالفتاة ولكنها ألاعيب."
أحست بأن وقع الكلمات كان ثقيلاً علي ، فاستدركت تقول : " ليس كل الرجال ... فانا أعجب بالرجل المفكر ، والأديب ، والحزين ، والعميق ! أعجب بالرجل الذي يقيم أفكاري ، ويعجبني أن أدللـه ، وفي الوقت نفسه يعجبني أن أتسلى به وهو يتلوع ...... انه طفل كبير" !
لم تكن الفتاة مسلمة ، ولم تكن متدينة ، بل كانت تتباهى بأنها عصرية .... متحررة ، كانت ضائعة ... عابثة ... كانت لا تعرف ماذا تريد ... كانت تضحك ثم تحزن . كانت تشكو الفراغ ، وربما ساعد حبها للتمثيل وحياة النجوم على تغذية هذا الفراغ . لقد جمعتني بها ظروف شاذة لم أكن أتوقعها ... ولست ادري ماذا كانت تهدف وهي تبعث باعترافاتها بسخاء . ولم يكن يدر بخلدي أن تنطلق حواء فتحدثني عن قلبها ونفسها وعقلها بهذه الشفافية .
لقد عرفت بأن أفكارها سترى النور وستترجم إلى حروف وكلمات فإذا بها تقول:
" أحب أن أرى جوليت في المرآة ... ترى هل ستقبل المرآة ؟ " ثم أجابت نفسها وهي تهز رأسها ويديها الناعمتين :
" لابــــــد وأنهــــــــــا ســــــــتقبل في يـــــــــوم من الأيـــــــــــــــــــام !
بغداد 1969