أهداني – إعارة! – أخي الدكتور ناجي حين، كتابين هما ( الطريق إلى مكة / ليوبولد فايس "محمد أسد" / ترجمة : رفعت السيد علي / منشورات الجمل / الطبعة الأولى 2010 في 553 صفحة )،أما الثاني فهو ( اللاطمأنينة / فرناندو بيسوا / ترجمة : المهدي أخريف / المركز الثقافي العربي / الطبعة الأولى 2016 في 556 صفحة).
نظرت إلى الكتابين .. يتربعان على طرف المكتب .. كأنهما توأمان .. عدد الصفحات .. القطع ... ربما اللون فقط هو المختلف .. ثم – بالقراءة – بدا لي أنني أمام "عملة" واحدة .. أحد وجهيها" ليوبولد فايس"ووجهها الآخر" فرناندو بيسوا"!! ينتميان إلى نفس العصر – ولد بيسوا سنة 1888،وولد فايس سنة 1900 – نفس القلق .. نفس الأسئلة .. إلخ.
إلا أن أحدهما سافر إلى الشرق – أسد – والآخر،ظل يجتر أسئلته وتهويماته في البرتغال.
مع أن كتاب"بيسوا"كله شعر نثري – إن جاز التعبير – ومليء بالاستعارات المدهشة .. فهو الذي يقول : " أهدهد إيايّ،هدهدة أم مجنونة لابن ميت" و"غرقت،بغير عاصفة،في البحر الذي كنت أستطيع أن أقف فيه على قدميّ"! ويخبرنا بمصدر الجمال .. "حبنا ولد من لقائنا،كما ولد الجمال من لقاء القمر مع المياه"! رغم ذلك إلا أن الفصلين الأولين – إن صحت تسميتهما فصلين - أبعد ما يكونان عن الشعر،والتهويمات .. فهو يقول :
(لقد ولدت في عصر فقد فيه أغلب الشباب الإيمان للسبب نفسه الذي امتلك به هذا الإيمان من هم أكبر سنا : بدون معرفة لماذا. حينئذ،ولأن النفس الإنسانية تتجه إلى النقد بدافع من إحساسها لا من تفكيرها. اختار أغلبية الشباب الإنسانية كبديل لله. شخصيا،أنتمي مع ذلك،إلى من يوجدون دائما على هامش ما ينتمون إليه،لا ينظرون فحسب إلى الحشد الكبير الذي منه يتكونون ،وإنما كذلك إلى الفضاءات الكبيرة الكائنة بجوارهم. لم أتخل تماما عن الله مثلهم ولم أقل البتة بعقيدة الإنسانية. لقد اعتبرت الله ممكن الوجود باستبعاد إمكانية وجوده،وإذن فمسألة عبادته واردة،لكن الإنسانية – باعتبارها فكرة بيولوجية محضة ،ولا تخص سوى النوع الحيواني الإنساني – ليست جديرة بأي عبادة من أي نوع حيواني آخر. لقد بدت لي عبادة الإنسانية بشعائرها عن الحرية والمساواة ابتعاثا للعبادة القديمة التي كانت الحيوانات فيها بمثابة آلهة وكانت الآلهة تبرز بروس حيونات.
وهكذا ظللت لعدم معرفتي كيف أؤمن بالله،ولعدم إيماني بمجموع حيواني آخر مُعين مثل غيري من الهامشيين داخل تلك المساحة المدعوة انحطاطا. فالانحطاط هو الفُقدان التام للاوعي ،لأن اللاوعي هو دعامة الحياة .ماذا تبقى ،بالنسبة إلى من هو مثلي يحيا بدون أن يعرف،امتلاك حياة خاصة به. ماذا يبقى له أسوة بالقلة من نظرائه سوى الانسحاب ،وتأمل المصير؟){ ص 33 – 34( كتاب اللاطمئنينة) / فرناندو بيسوا / ترجمة : المهدي أخريف / المركز الثقافي العربي / الطبعة الأولى / 2016م}.
هذا الفصل يمتد من الصفحة 33 و حتى الصفحة 36
أما"فايس"فيقول :
(لقد كانت سنوات غريبة تلك التي ألفت العقد الثالث من هذا القرن في أوربا الوسطى. لقد ساد جو عام من الخطر الاجتماعي والأدبي،وأدى إلى نشوء أمل يائس عبر عن نفسه بتجارب جريئة في الموسيقى والتصوير والمسرح وبالتلمس أيضا،وبالأسئلة والتحقيقات الثورية عن طبيعة الثقافة وتكوينها. ولكن فراغا روحيا كان يصاحب هذا التفاؤل القسري : نسبية غامضة تهكمية نشأت من اليأس المتعاظم من مستقبل الإنسان.
وبالرغم من حداثتي فإنه لم يبق خافيا عليّ أن الوضع بعد كارثة الحرب العالمية لم يعد صحيحا في العالم الأوربي المتفكك المتململ،المتوتر العواطف والأحاسيس.إنه إله ذلك العالم لم يعد،كما رأيت،من نوع روحي : كان الرخاء. ليس ثمة شك في أنه كان هناك أفراد كثيرون كانوا يشعرون ويفكرون،دينيا،ويبذلون جهودا يائسة إلى أبعد الحدود للتوفيق بين معتقداتهم الأخلاقية وبين روح مدنيتهم،ولكن هؤلاء لم يكونوا إلا قلة. لقد بدا أن الأوربي – سواء كان ديمقراطيا أو شيوعيا أو عاملا يدويا أو رجل فكر – كان يعرف دينا إيجابيا واحدا : عبادة التقدم المادي،الاعتقاد بأنه لا يمكن أن يكون في الحياة أيما هدف سوى جعل تلك الحياة نفسها أكثر سهولة ويسرا،أو كما كانوا يقولون في ذلك الحين : "مستقلة عن الطبيعة".وكانت معابد ذلك الدين المصانع الجبارة ودور العرض السينمائية،والمختبرات الكيمائية،وقاعات الرقص والمشاريع المائية والكهربائية،وكان كهانها الصرافين والمهندسين والسياسيين ونجوم السينما،والإحصائيين و وزعماء الصناعة،والطيارين و"مفوضي الشعب".وكانت الخيبة الروحية متجلية في الفقدان الشامل للاتفاق على معنى الخير والشر،وفي إخضاع الأحداث الاجتماعية والاقتصادية جميعا إلى قاعدة"المصلحة" – تلك المرأة الداعرة،الراغبة في أي إنسان،وفي أي وقت،كلما دعيت إلى الاستسلام .. ){ص 101 – 102 (الطريق إلى مكة) : طبعة دار العلم للملايين }.
يقول"بيسوا" أيضا :
(عندما جاء الجيل الذي أنتمي إليه إلى الوجود لم يجد أي سند عقلي أو روحي. ذلك أن العمل الهدام الذي قامت به الأجيال السابقة لنا جعل العالم الذي وُلدنا فيه مفتقرا إلى الأمان الديني،وإلى الدعم الأخلاقي،وإلى الاستقرار السياسي. لقد ولدنا إذن في أوج القلق الميتافيزيقي،في أوج القلق الروحي،في أوج اللاطمئنينة السياسية. الأجيال التي سبقتنا لجأت،متخمة بالصيغ الخارجية،وبالمسائل البحتة للعقل والعلم،إلى الإطاحة بأسس الإيمان المسيحي كافة،لأن نقدها للكتاب المقدس ،بانتقاله من نقد النصوص إلى النقد الميثولوجي،حول الأناجيل والعهد القديم لليهود إلى ركام مشكوك فيه من الأساطير والخُرافات ومن الأدب المحض،أما نقدها العلمي فقد دل بالتدرج على الأخطاء وعلى السذاجات الهمجية لـ"العلم"البدائي للأناجيل،وفي الوقت نفسه فإن حرية الجدل التي أخرجت إلى النقاش العلني سائر المعضلات الميتافيزيقية،سحبت معها أيضا كل القضايا والمُشكلات الدينية المنتمية إلى الميتافيزيقيا. لقد انتقدت تلك الأجيال،ثَملة ومتيمة بما أسمته"الوضعية"الأخلاقية كلها،وقلبت كافة قواعد الحياة. ومن صدمة تلك المعتقدات لم يبق سوى يقين زوالها الكامل. إن مجتمعنا مقوضا من نظامه وأسسه الثقافية لم يكن بقادر على أن يكون شيئا آخر بالطبع،سوى ضحية ،للانظامية تلك.وكذلك جرت الأمور كما لو أننا أيقظنا عالما متعطشا إلى الجديد الاجتماعي. سيمضي ذلك الجيل مُبتهجا بتحقيق حرية لم يعرف كنهها،وتقدم لم يتمكن قط من تحديد ما هيته.){ ص 39 – 40 ( كتاب اللاطمئنينة)} .
وهذا الفصل يمتد من الصفحة 39 و حتى الصفحة 42 .
ويقول "فايس"أيضا :
(.. ولكنني أشعر،وهذا شعور كثير من الناس الذين هم من جيلي،أشعر أن هناك خطأ ما في التمييز بين "الجوهر" و "العرض" في تركيب الإنسان،وفي التفريق بين الروح والجسد باختصار،إنني لا أستطيع أن أقر أن الدافع الجسماني والجسد والمصير الدنيوي خالية من إصلاح.إن رغبتي تسير في اتجاه مخالف : إنني أحلم بشكل من الحياة – ولو أنني يجب أن أعترف بأنني لا أراه بوضوح إلى الآن – فيه يسعى الإنسان كله – روحا وجسدا – ويجاهد في سبيل تحقيق ذاتي أعمق – شكل لا تكون فيه الروح والمشاعر عدوين كل منهما للآخر){ص 110}.
إذا تجاوزنا "وجهي العملة"فسنجد "بيجوفيتش – المولود سنة 1925،يلقي الضوء على قضية غياب دين"الله"عن الغرب – وقد وفق "بيسوا"حين سمى الأمور بأسمائها "دين الإنسانية" : الإنسانية،التي أصبحت رائجة على ألسنة"مثقفينا" – ومعاناتهم من"العبثية"و"العدمية"،,لكنه ينظر إليها من زاوية أخرى،أكثر عمقا .. من "التمرد"أو الشعور بالغثيان" – ما أكثر ترديد"بيسوا" لعبارة : العثيان الميتافيزيقي – يقول بيجوفيتش :
(العدمية وفلسفة العبث،هما ثمرة أكثر بلاد العالم ثراء وتقدما. هذه الفلسفة تتحدث عن عالم بلا منطق،عن فرد منقسم على نفسه سيكلوجيا ومحطم،عن عالم أصم أبكم صامت. إنها ليست على الإطلاق فلسفة سامة،كما يزعم بعض الناس ،هي في الحقيقة فلسفة عميقة قادرة على التنوير. إنها تعبير عن مقاومة الإنسان،عن عدم رضاه عن العالم الذي ينمو بعكس الصورة التي أرادها لنفسه،إنها تمرد على الحضارة ذات البعد الواحد. وللسبب نفسه وجد بعض الناس في العدمية الجديدة نوعا من الدين وسنرى أن هذه الفكرة ليست بدون أساس. (..) إن العدمية ليست إنكارا للألوهية ولكنها احتجاج على غيابها،وكما هي عند"بِكِت"احتجاج على غياب الإنسان،أو احتجاج على حقيقة أن الإنسان غير ممكن أو غير متحقق. هذا الموقف ينطوي على فكرة دينية لا فكرة علمية عن الإنسان وعن العالم. فالإنسان كما يتصوره العلم ممكن ومتحقق،ولكننا نجد في التحليل النهائي أن كل ما تحقق هو شيء غير إنساني.إن عبارة "سارتر" التي يصف فيها الإنسان بأنه عاطفة لا جدوى منها،هي عبارة دينية بمنطقها وبروحها معا. في المادية لا توجد عاطفة أو تفاهة ،فلا يمكن أن يكون في العلم تفاهة لأنه لا توجد عاطفة. (..) البحث عن الله"سبحانه وتعالى" بحث ديني ،ولكن ليس كل بحث ينتهي بالاكتشاف. فالعدمية خيبة أمل ليس بسبب العالم والنظام،وإنما بسبب غياب الخير من العالم, فكل شيء تافه وعدم إذا كان الإنسان يموت إلى الأبد. إن الفلسفة العدمية لا تتحدث مباشرة عن الدين،ولكنها تعبر عن القلق،والقلق بجميع درجاته – فيما عدا نتيجته – هو قلق ديني. عند العدمية وعند الدين الإنسان غريب في هذا العالم،ففي العدمية هو غريب ضائع بلا أمل،وأما في الدين فهناك أمل في الخلاص.
إن أفكار"ألبير كامو"يمكن فهمها فقط إذا اعتبرناه مؤمنا مخيّب الرجاء.
"في عالم خبا فيه الوهم وانطفأ الضياء يشعر الإنسان بالاغتراب ،إنه الطرد الذي لا فكاك منه ولا مهرب،فلا توجد ذكريات عن طرد مفقود ولا أمل في الوصول إلى أرض موعودة .. لو أني شجرة بين الشجر،فقد يصبح لهذه الحياة معنى،ولعلها تصبح أفضل ..{يقول بيسوا : "وثمة شيء آخر يجرحني،يمزقني،ويفتت روحي بالكامل. هو أنني،أنا،في هذه الساعة،عند هذه النافذة،أمام هذه الأشياء الكئيبة والناعمة،كان ينبغي أن أكون صورة جامدة،جميلة،مثل صورة في لوحة – وأنا لست تلك الصورة،ولست حتى غيرها ..." "اللاطمأنينة ص 367: - محمود } لم تكن هذه المشكلة لتنشأ لأني حينذاك جزءا من هذا العالم الذي أقاومه بكل قوة في ضميري. كل ذلك جائز طالما أن الله غير موجود وأن الإنسان يموت"{ في الهامش: Camus:The Strnger} هذه العبارة الأخيرة ليس بينها شيء مشترك مع الإلحاد المصطنع القاطع عند المفكرين العقلانيين. إنما على العكس،هي لعنة صامتة للروح التي أجهدها البحث عن الله دون أن تجده،إنها "إلحاد اليأس".){ص 138 – 140 ( الإسلام بين الشرق والغرب)}
نعود إلى "وجهي العملة" يقول "بيسوا"
( أثناء انحداري من شارع ألمادا،وجدتني أحدق فجأة في ظهر الرجل الذي كان ينزل قدامي،كان ظهرا غوغائيا لرجل نكرة،بسترة بدلة بسيطة على كاهل عابر سبيل عرضي. كان يحمل حافظة عتيقة تحت ذراعه الأيسر،ويطأ الأرض،بإيقاع السائر مشيا،مستعملا مطرية مقفلة،بواسطة قبضة يده اليمنى){ص 78 – 79 }.
يبدو"ظهر"الإنسان ووجهه سيان .. ولكن "بيسوا"يحدثنا – في مكان آخر – عن "الأُخوة":
(بسبب ما أحدثه لديّ الإحساس الجسدي من ضيق وقلق قديم يصل أحيانا إلى حد الانفجار،لم آكل،اليوم،جيدا،ولا شربت ما أشرب دائما،في المطعم،أو في بيت الوجبات الطعامية،الذي في طابقه الوسيط تتأسس استمرارية وجودي.ولأن النادل لاحظ،عند خروجي،أن قنينة النبيذ تركت مملوءة للنصف،فقد اتجه نحوي قائلا :"إلى اللقاء،يا سيد سوارش،أتمنى أن تتحسن حالتك".
ما إن تلفظ بهذه العبارة البسيطة حتى انفرجت روحي كما لو أن غيوما في سماء أزيحت فجأة بفعل الريح. وحينئذ اكتشفت ما لم أتمكن قط من اكتشافه بوضوح : ذلك أنني وجدتُ في نُدل المطاعم والمقاهي هؤلاء،في الحلاقين،في حمالي الزوايا لطاقة تلقائية،وطبيعية،لا أستطيع أن أزهو بتلقيها ممن يعاملونني بكثير من الحميمية.
إن للأخوة لطاقتها.){ ص136 – 137 }.
هذه الكآبة التي يتحدث بها"بيسوا"ما الذي يقابلها لدى"فايس" .. بعد أن ألقى بنفسه في أحضان الشرق؟
يقول "فايس"،والقطار يشق به مصر .. (ووقفنا مرات عديدة في محطات صغيرة لم تكن عادة اكبر من ثكنات من خشب وصفائح.وكان الأولاد السمر،وعلى أجسامهم خرق بالية،يركضون هنا وهناك يحملون السلال ويعرضون على المسافرين التين والبيض المسلوق وأرغفة الخبز العربي الطازج.ونهض البدوي الذي كان جالسا قبالتي ببطء،وحل كوفيته ثم فتح الشباك،فإذا به دقيق الوجه اسمر اللون،واحد من تلك الوجوه الصقرية التي تتطلع دائما إلى الأمام بعمد وتصميم.لقد ابتاع قطعة من الكعك ثم استدار،وكان على وشك الجلوس عندما وقعت عيناه عليّ،ودون أن ينطق بكلمة،قسم كعكته إلى نصفين وقدم إليّ إحداهما. وعندما رأى ترددي ودهشتي،ابتسم ورأيت أن الابتسامة اللطيفة كانت تلائم وجهه كذلك التصميم الذي بدا عليه منذ لحظة – وقال كلمة لم افهمها عندئذ ولكنني اعرفها الآن : تفضل. وأخذت قطعة الكعك وشكرته بإيماءة من رأسي.){ص 116 (الطريق إلى مكة) : طبعة دار العلم للملايين }.
لا يشبه الأمر "نادل""بيسوا" فثمة معرفة بين النادل والزبون .. وقد يكون الأمر ليس أكثر من "صورة "أدبية .. أو أمنية .. وفي زاوية من زوايا الذاكرة .. تبدو لي صورة .. نادل آخر .. يسعد بترك زبون آخر زجاجة شبه ممتلئة .. يأخذها إلى المنزل ليستعملها .. قرأت ذلك في مشهد من فيلم،أو شاهدته في رواية .. أما "فايس" و"العربي" فنحن أمام عالمين مختلفين .. لا يشتركان في شيء .. لا اللغة ولا الدين ولا الملابس .. ولا السحنة أو الشكل ..فكانت لفتة ذلك العربي مشحونة بالإنسانية،ولعلها هي التي زرعت "حب العرب"في قلب "فايس" اليهودي .. والذي يحدثنا عن مشهد آخر .. وهو في طريقه إلى دمشق،سائرا على قدميه :
(وبعد الظهر أشرفت على مرج ابن عامر إلى اليمين ثم مررت بالناصرة. وقبل مغيب الشمس وصلت إلى قرية عربية تظللها أشجار الكافور والسرو. وعند البيت الأول يجلس ثلاثة أو أربعة من الرجال والنساء.توقفت عن المسير،وسألت القوم ما إذا كانت تلك قرية (الرينة).ولما أجابوني بالإيجاب،كنت على وشك أن أستأنف سيري،إلا أن المرأة نادتني قائلة :
- "يا سيدي،ألا تريح نفسك قليلا؟" ثم قدمت إلي إناء من الماء البارد،وكأنما تكهنت بما كنت أعانيه من العطش.وبعد أن ارتويت،سألني واحد من الرجال،وكان واضحا أنه زوج المرأة:
- "ألا تحب أن تشاركنا طعامنا وتقضي ليلتك في بيتنا؟"
إنهم لم يسألوني من أنا ولا إلى أين كنت أقصد،وما كانت غايتي. (..) إنهم متحررون من الشك والريبة في أنفسهم إلى درجة تجعل من اليسير عليهم أن يفتحوا قلوبهم إلى أيما إنسان آخر. إنهم ليسوا بحاجة إلى أيما قدر من الجدران الكاذب {هكذا} تلك الجدران التي يقيمها كل شخص في أوربا بينه وبين جاره.(..) وتعشينا معا رجالا ونساء،جالسين القرفصاء على حصيرة (..) وعندما رقدنا لننام – وكنا نحوا من دزينة من الأشخاص في غرفة واحدة – أخذت أحدق في الدعائم الخشبية){ص 152 – 153 (الطريق إلى مكة) : طبعة دار العلم للملايين }.
يتحدث"فايس" عن أيام"الأحد"الكئيبة،في الغرب،ويقارنها بأيام"الجمعة"السعيدة عند المسلمين،فيقول :
(وفي يوم الجمعة كنت تشاهد تبدلا في أسلوب الحياة في دمشق – إعصار خفيف من المرح البهيج،وفي الوقت نفسه : خشوع ومهابة. ولقد فكرت في أيام الآحاد في أوربا،في شوارع المدينة الصامتة والمخازن المغلقة،وذكرت كل تلك الأيام الفارغة،وضيق الصدر الذي كان ينتج عن ذلك الفراغ. (..) إن الحياة اليومية،بالنسبة لمعظم الناس في الغرب،عبء ثقيل لا يريحهم منه سوى أيام الآحاد.إن يوم الأحد لم يعد يوم راحة فحسب،بل أصبح أيضا مهربا إلى اللاحقيقي،نسيانا خادعا تكمن وراءه "أيام الأسبوع" مضاعفة الثقل والنذر(..) أما بالنسبة للعرب،من ناحية أخرى،فإن يوم الجمعة لم يكن يبدو فرصة لنسيان أيام عملهم (..) كان الصناع وأصحاب الدكاكين الصغيرة في أسوق دمشق يعملون ساعات قليلة،ثم يتركون دكاكينهم بضع ساعات ينصرفون خلالها إلى المساجد يؤدون صلاة الجمعة،ويلقون أصدقاءهم بعد ذلك في أحد المقاهي،ليعودوا من ثم إلى دكاكينهم حيث يعملون بضع ساعات على رسلهم وكما يشاء كل منهم.(..) إن الإسلام لم يبد لي دينا بالمعنى الشائع للكلمة بمقدار ما بدا طريقة في الحياة،ولا نظاما لاهوتيا بمقدار ما تبينته منهجا للسلوك الشخصي والاجتماعي قائما على ذكر الله){ص 168 – 170}
أما"بيسوا"فأشار كثيرا إلى ذلك الأحد الكئيب .. مثل قوله :
(بإمكاني تمضية يوم أحدٍ خامدٍ بلاد قنط،وقد يحدث أن أعانيه فجأة ،مثل ضبابة خارجية،في أوج عمل متيقظ.){ ص 329}.
ويقول أيضا :
(الوضع السيئ بسبب الأكل في وقتٍ غير مناسب ،كون الأحد وعدا هوائيا بغروب سيئ،كوني لا أحد في العالم هو الميتافيزيقيا برمتها..){ ص 157 – 158 }.
وهنا يتدخل "بيجوفيتش"لا ليقارن بين "الأحد"و"الجمعة" بل بين"الكنيسة"و"المسجد" :
(يمكن استخلاص نتائج (..) من المقارنة بين المسجد والكنيسة،فالمسجد مكان للناس أما الكنيسة فهي"معبد الرب". في المسجد يسود جو من العقلانية،وفي الكنيسة جو من الصوفية،المسجد بؤرة نشاط دائم وقريب من السوق في قلب المناطق المعمورة بالسكان،أما الكنيسة،فتبدو أقل التحاما ببيئتها. يميل التصميم المعماري للكنيسة إلى الصمت وللظلام والارتفاع،إشارة إلى"عالم آخر". عندما يدخل الناس كاتدرائية قوطية يتركون خارجها كل اهتمام بالدنيا وكأنهم يدخلون إلى عالم آخر". أما المسجد،،فمن المفروض أن يناقش الناس فيه بعد انتهائهم من الصلاة هموم دنياهم. وهذا هو الفرق){ص 271 ( الإسلام بين الشرق والغرب)}.
ويتحدث"بيسوا" عن نفسه :
(لا أملك فكرة عني،حتى ولا تلك المتمثلة في عدم وجود فكرة،عن ذاتي نفسها. إنني رحال داخل جغرافية وعيي بذاتي. / قطعان ثروتي الباطنية ضلت الطريق منذ البداية /.){ ص 324}.
ثم يتحدث عن"القنوط" :
(القنط .. هو ربما،في العمق،عدم رضا الروح الباطنية لأننا لم نزودها بإيمان أو عقيدة،إنه أسى الطفل الحزين الذي هو نحن حميميا،لأننا لم نشر له اللعبة الإلهية. القنط هو ربما الافتقار إلى الأمان بالنسبة إلى من يحتاج إلى يدٍ تقوده بدون أن يحس بوجودها،في الطريق الحالك للإحساس العميق،أكثر مما في سكينة ليل عدم القدرة على التفكير،في طريق عدم المعرفة بالإحساس.){ ص 330 – 331}.
هنا يتدخل"بيجوفيتش" ليحلل الأمر من وجهة نظره،فيقول :
(إن الاضطرابات العصابية والتشوه الذي أصاب الإنسان الغربي،يُعتبر جزئيا نتيجة للصراع الداخلي بين المثل العليا للمسيحية وبين النماذج السياسية للمجتمع التي تطورت منفصلة مستقلة عن المثل العليا. وهو وضع أصبحت الكنيسة فيه ترعى الروح،وأصبحت الدولة تتحكم في الأجسام وفقا للمسلمة القائلة"أعط ما لقيصر لقيصر وأعط ما لله لله". لقد سُمح للإنسان الغربي أن يكون مسيحيا في حياته الخاصة،وأن يكون""ميكافيليا"في معاملاته العامة وأعماله. والذين لا يستطيعون أن يحلو هذا الصراع أو يتحملونه يقعون فريسة للاضطرابات العصابية){ ص 300 ( الإسلام بين الشرق والغرب)}.
ويضيف :
(كنتيجة لاعتراف الإنسان بعجزه وبالخطر وعدم الأمن يجد أن التسليم لله في حد ذاته قوة جديدة وطمأنينة جديدة. إن الإيمان بالله والإيمان بعنايته يمنحنا الشعور بالأمن الذي لا يمكن تعويضه بأي شيء آخر. ولا يعني التسليم لله سلبية في موقف الإنسان كما يظن كثير من الناس خاطئين. في الحقيقة:"كل السلالات البطولية كانوا من المؤمنين بالقدر". إن طاعة الله تستبعد طاعة البشر والخضوع لهم،إنها صلة جديدة بين الإنسان وبين الله ،ومن ثم بين الإنسان والإنسان){ ص 373 ( الإسلام بين الشرق والغرب)}.
تلك الطمأنينة،التي يتحدث عنها"بيجوفيتش"لم يجدها"بيسوا"أما "محمد أسد"فقد وجدها،بعد بحث .. وتجلت له في البؤس المرسوم على وجوه قوم يمتلكون رخاء اقتصاديا،وحرية سياسية،يقول "أسد"
(في ذات يوم من أيام شهر أيلول من سنة 1926 كنت راكبا مع زوجتي في قطار برلين تحت الأرض،فوقعت عيني اتفاقا على رجل أنيق الملبس جالس قبالتي. كان،على ما بدا لي،تاجرا تبدو عليه آثار النعمة والثراء،على ركبتيه حقيبة صغيرة جميلة وفي أصبعه خاتم ماسي كبير.وأخذت أفكر بتكاسل كيف أن مظهر هذا الرجل الحسن كان يعكس الرخاء الذي كان المرء يقع عليه في كل مكان في أوربا الوسطى في تلك الأيام (..) إن معظم الناس كانوا يلبسون جيدا ويأكلون جيدا،ومن هنا لم يكن الرجل قبالتي خلاف غيره من الناس.إلا أنني عندما نظرت إلى وجهه خيل إلي أنني لم أكن انظر إلى وجه سعيد،فقد بدا لي قلقا : لا قلقا فحسب،بل شقي بصورة حادة،ترسل عيناه نظرات فارغة إلى الأمام،وزاويتا شفتيه متقلصتان ألما – ألما غير جسماني.وإذ لم أرد أن أكون وقحا،فقد أشحت بوجهي فرأيت إلى جانبه سيدة على شيء من الظرف.لقد كان وجهها هي أيضا يعبر تعبيرا غريبا عن عدم سعادتها،كأنما كانت تعاني أو تفكر في شيء يسبب لها الألم.ومع ذلك فقد كان ثغرها يفتر عما يشبه ابتسامة جامدة لم اشك في أنها لا بد أن تكون عادية لديها.وعندئذ أخذت أجيل بصري في جميع الوجوه الأخرى – وجوه أناس كانوا جميعهم دون استثناء يرتدون الملابس الحسنة ويقتاتون بالغذاء الجيد – وفي كل وجه منها استطعت أن أميز تعبيرا عن الألم الخبيء،إلى درجة أن صاحبه بدا وكأنه لا يشعر به. (..) كانت الانطباعة قوية إلى درجة جعلتني اذكرها لزوجتي،فأخذت هي أيضا تنظر حولها بعيني رسام حريص اعتاد دراسة القسمات البشرية.ثم استدارت إليّ دهشة وقالت : أنت على حق .. إنهم جميعا يبدون وكأنهم يعانون آلام الجحيم .. وإنني لأتساءل هل يعرفون هم أنفسهم ماذا يعتمل في نفوسهم؟ "
لقد عرفت أنهم لم يكونوا يعلمون .. وإلا لما كان باستطاعتهم أن يستمروا في إضاعة حياتهم وتبديدها كما كانوا يفعلون،دون أيما إيمان بالحقائق الرابطة،دون أيما هدف ابعد من الرغبة في رفع "مستوى معيشتهم"،دون أيما أمل غير حيازة المزيد من الملذات المادية والمزيد من الممتلكات،ولربما المزيد من القوة ..
واتفق عندما عدنا إلى البيت،أن ألقيت نظرة على مكتبي،وكان عليه نسخة مفتوحة من القرآن كنت أقرا فيها من قبل. وبصورة آلية،رفعت الكتاب لأضعه جانبا. ولكن ما إن هممت بإغلاقه حتى وقعت عيني على الصفحة المفتوحة أمامي وقرأت : (( َلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ{1} حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ{2} كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ{3} ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ{4} كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ{5} لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ{6} ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ{7} ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ{8})) واعتراني الصمت لحظة،واني لاعتقد أن الكتاب كان يهتز في يدي. ثم قلت لزوجتي : "اصغي إلى هذا. أليس هو جوابا عما رأيناه في القطار؟" اجل لقد كان. كان جوابا قاطعا إلى درجة أن كل شك زال فجأة. لقد عرفت الآن،وبصورة لا تقبل الجدل،أن الكتاب الذي كنت ممسكا به في يدي كان كتابا موحى به من عند الله . فبالرغم من أنه وضع بين يدي الإنسان منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا فانه توقع{بما أن الحديث عن الخالق،سبحانه وتعالى،فالأصح أن يُقال "أخبر بوضوح"} بوضوح شيئا لم يكن بالمكان أن يصبح حقيقة إلا في عصرنا هذا المعقد الآلي.
لقد عرفت الناس التكاثر في جميع العصور والأزمنة : ولكن هذا التكاثر لم ينته قط من قبل إلى أن يكون مجرد اشتياق إلى امتلاك الأشياء،والى أن يصبح ملهاة حجبت رؤية أيما شيء آخر : حنين لا يقاوم إلى التملك،والعمل،والاستنباط أكثر فأكثر. اليوم أكثر من أمس،وغدا أكثر من اليوم : عفريت راكب على أعناق الناس يسوق قلوبهم بسوط إلى الأمام نحو أهداف تتلألأ عن بعد ولكنها تنحل إلى لاشيئية زرية خسيسة حالما تصبح في متناول اليد : وذلك الجوع،ذلك الجوع النهم إلى أهداف جديدة لا تنتهي ينمو في قلب الإنسان : "كلا، لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم .."
لقد عرفت أن هذا لم يكن مجرد حكمة إنسانية من إنسان عاش في الماضي البعيد في جزيرة العرب النائية،فمهما كان مثل هذا الإنسان على مثل هذا القدر من الحكمة فانه لم يكن يستطيع وحده أن يتنبأ بالعذاب الذي يتميز به هذا القرن العشرون : لقد كان ينطق لي،من القرآن،صوت أعظم من صوت محمد ..(..) سعيت إلى صديق مسلم لي،{ صديق لي مسلم هندي } هندي كان في ذلك الحين رئيسا للجالية الإسلامية الصغيرة في برلين،وأعلمته برغبتي في اعتناق الإسلام،مد يده اليمنى نحوي ووضع يدي اليمنى فيها. وبحضور شاهدين قلت : اشهد أن لا إله إلا الله،وان محمدا رسول الله.){ص 326 – 329 }.
وأخيرا يقول"بيجوفيتش":
(ولكن لكي نفهم موقف الإسلام فهما صحيحا،لابد أن ننظر إلى أفكار : الطبيعة والثروة والسياسة والعلم والقوة والمعرفة والسعادة بطريقة مختلفة عما اعتاد عليه الناس في الحضارة الغربية){ص 289 (الإسلام بين الشرق والغرب ) : علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : محمد يوسف عدس / القاهرة / دار الشروق / الطبعة الخامسة 2014}.
لعل مربط الفرس في "بعيدا عما اعتاد عليه الناس في الحضارة الغربية" .. كي لا ننزلق إلى استبدال "دين الله"بـ"دين الإنسانية" .. وكما قال غربي آخر .. ما ينزع "القداسة"عن شيء .. يتحول هو إلى مقدس .. يقصد"اللبرالية"
وبعد .. ثمة خطأ يقع فيه مثقفو "إلحاد اليألس"- حسب تعبير "بيجوفيتش" – وهو قياسهم الجنة على الدنيا .. فكثيرا ما يتحدثون عن الملل في الجنة .. في الخلود .. رغم ان الإنسان السوي في الدنيا،والقادر على التمتع بالحياة،بجانبيها الروحي والجسدي .. قد لا يشعر بالملل .. بل إن جانبا واحدا من الحياة هو"القراءة"يمثل جنة في الدنيا .. يقول،مونتيسيكيو :
( حب المطالعة،هو استبدال ساعات السألم،بساعات المتعة)،ويقول لويس لامور،مؤلف "مغامرات الغرب المتوحش":
(إذا اكتشف المرء المتعة التي يجدها في القراءة والبحث عن المعرفة فلن يعرف الملل طريقه إلى حياته يوما. وعندئذ يزداد ولعه بالقراءة مع كل كتاب جديد).
تلويحة الوداع :
كتب بيسوا :
( ها أنا فريسة لقلق غامض. فجأة،كفّ السكون عن التنفس. فجأة،نهارٌ نهائيٌ،من فولاذ،تشظى،تأهبتُ مثل حيوان،في مواجهة المائدة،باليدين المخلبين اللامجديين فوق اللوحة الملساء. ثمة ضوء بلا روح نفذ إلى الزوايا وإلى الروح،وصوت جبل قريب هوى من الأعالي،ممزقا بصيحة حجاب الهاوية الصلب،توقف قلبي،خفقت حنجرتي.لم يبصر وعيي سوى لطخة حبر على ورق جف){ص 92}.
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني