بيني وبين الحزن أنسابُ!!
كيف الفرار وسجني ماله بابُ= يعلو و قضبانُهُ همّ وأوصابُ
درس المواجعِ بالآماقِ أشرحه=ويلي إذا لم يفد بالدمع إسهابُ
أريدُ أسرقُ نومي دونما هدبٍ=وليس لي في ليالي السهد أهدابُ
أبيتُ في حانة الأوهام أسكبني=قلبا به شقوة ٌ والهمّ شرّابُ
ومن أباريقَ حلمي يستقي شجني=والعمر منسكبُ والوقت ُ أكوابُ
وخيّبتْ منيتي لم ألق من فرحٍ=و مُزِّقتْ بضياع الحلم أعصابُ
يبرُّ بي الحزن لا ينسى مواصلتي=تُرى أتجمعُنا يا حُزنُ أنسابُ ؟
حتى الطريق بكى من خطوتي أسفا=ففي الرصيف دموع الدرب تنسابُ
لبست ُ حزني بل الأحزان تلبسني=كأنما القلب للأحزان ِ جلبابُ
حرائقي في دمي تجري بلا تعبٍ=دقائقي من لهيب الحزن أحقابُ
ولم أر اليوم مثلي في شكايته=أشكو إليّ إذا ما الهم ينتابُ
و لا أبوحُ بحزني للصحاب فإنْ=وصفتُ معشار مابي للورى ذابوا
ظميان غدير
قصيدة من الروائع التي كتبها الشاعر الكبير ظميان غدير , خاصة أنه وصف الحزن بطريقة جديدة لم يسبقه إليها أحد ولم نجد فيها من غريب الألفاظ
كانت عاطفة النص قوية , عبرت بدقة عما يعتلج الشاعر من مشاعر وآلام,ونجحت في توصيلها للقارئ,بلغة شعرية رقيقة رائعة وقد وفق في الصور الشعرية أيما توفيق لانها اتت متوافقة مع الحالة النفسية الواضحة في النص
دون تعمية ولاغموض:
عنوان للقصيدة :
بيني وبين الحزن أنساب..
عنوان صارخ ومعبر جدا ً عن حالة الشاعر, ويصرح في ذات الوقت :
أن الحزن قد تمكن من الشاعر وجعله عميقا راسخا وكأن النسب يجمعهما وهو مرتبط به أشد الارتباط...
ويبدأها كذلك ببداية قوية تنضح بالحزن العميق:
كيف الفرار وسجني ماله بابُ= سجانه أرقٌ ينمو همّ وأوصابُ
من الطبيعي أن لكل سجن باب...لكن سجنه ماله باب ليفكر بالهروب يوما ًما ً أو حتى المحاولة ...وحتى السجان هو عبارة عن هم وغم كبيرين, فكيف سيخرج إذا؟.
***
درس المواجعِ بالآماقِ أشرحه=ويلي إذا لم يفد بالدمع إسهابُ
ويكمل في البيت الثاني وصفه لحالة الحزن كذلك شارحا ً إياها في نفسه قائلا:
هو درس يتلقاه كل يوم رغما عنه,وفي عينيه دمع يحرقنه, ويحكي عن حاله, فهل ينفع الدمع في شرح حالتي وهمي وحزني؟ وهل ينفع الاسهاب واطالة الدمع في شرح الحالة؟
فهو يقول ويلي على سبيل التحسر واحساسه بأن اطالة الشرح بسكب الدمع ربما لن تكون مفيدة
****
أريدُ أسرقُ نومي دونما هدبٍ=وليس لي في ليالي السهد أهدابُ
هو يحاول النوم عبثا ً فيقول:
يحاول دوما ليسرق النوم عبثا ً..وتعبيره بقوله أريد أسرق نومي
يدل على انه لا يملك النوم لكنه يحاول اختلاسه اختلاسا
ولكن عينيه لاتسعفانه ولاتساعدانه أبدا ً,, ولن تكون السرقة ناجحة (دونما هدب ٍ) تعبير قوي يشرح بقوة الحالة المذكورة وكأن فقدان الهدب والقدرة على النوم زاد مرارة الشاعر أيضا,فلا يستطيع ان يغفو وينسى همه ،هو دائم السهر قلق مشغول ,لايفتأ كل يوم يعاني ويتألم.
***
أبيتُ في حانة الأوهام أسكبني=قلبا به شقوة ٌ والهمّ شرّابُ
إنه في حانة الوهم ..القلب المعذب الذي يشقى فيها هو الشراب المقدم لمرتادي تلك الحانة
ومن يرتاد تلك الحانة ويشرب من قلبه هو الهم ..
الهم وحده يشرب من قلبه كما يشرب مدمن الخمر ..وهو تشبيه استطاع من خلاله الشاعر
ان يوصل لنا مدى تمكن الهم منه
.
***
ومن أباريقَ حلمي يستقي شجني=والعمر منسكبُ والوقت ُ أكوابُ
وكان للبيت علاقة بما قبله , ولكن بصورة جديدة:
حلمه بات إبريقا يحوي همه وغمه ومنه يستقي شجنه وحزنه ً,فالعمر منسكب بأكواب الوقت
وهذا يدل على ان الشاعر يعيش لحظات ضياع العمر وانسكابه مثل انسكاب الماء في الاكواب
وهو تعبير قوي وتشبيه موفق
*******
وخيّبتْ منيتي لم ألق من فرحٍ=و مُزِّقتْ بضياع الحلم أعصابُ
وقد جرى وراء المنى عبثا ً,فكانت سرابا ووهما ً لم يطاله أبدا ولاحتى الفرح مسه واقترب,وقد تعبت الأعصاب منه لأن الحلم بات هباء أيضا ً ووهما ً كبيرا ً...
****
يبرُّ بي الحزن لا ينسى مواصلتي=تُرى أتجمعُنا يا حُزنُ أنسابُ ؟
الحزن بار ٌ به جدا ً و دوما ً,ويبقى على صلة معه ولا يقاطعه ,
ومن الروعة ان تخيل الشاعر ان بينهما النسب...كأنه والهم اخوة..
وهذا المعنى استطاع من خلاله الشاعر ايضا ان يوصل عمق الحزن وطول مدته
***
حتى الطريق بكى من خطوتي أسفا=ففي الرصيف دموع الدرب تنسابُ
حتى الطريق بكى من حالته الصعبة تلك, فخطوته حزينه مثله ,يأسف عليها الطريق ,
والرصيف بات مبتلا ً غارقاً بالدموع شفقة على حاله وهذا توصيف رائع ايضا .
***
لبست ُ حزني بل الأحزان تلبسني=كأنما القلب للأحزان ِ جلبابُ
لم يعد يدري هل لبس الأحزان ؟ أم هي التي لبسته؟ فقد باتا سويا ًفي كل الأمور والحالات,وكأن القلب بات جلبابا ً للاحزان ساترا ومدرايا ً و غلافا له وحاميا ًمن التفلت والرحيل.
****
حرائقي في دمي تجري بلا تعبٍ=دقائقي من لهيب الحزن أحقابُ
بات حزني لهيبا ً. نارا ًتشتعل , تجري معه مجرى الدم , دون أن يكون له يد فيها ولاجهد, حتى دقائقه استنادا للنظرية النسبية فهي احقاب وسنوات طويلة .
لأن دقائق العذاب تعتبر سنوات ..وسنوات الفرحة تعتبر دقائق
***
ولم أر اليوم مثلي في شكايته=أشكو إليّ إذا ما الهم ينتابُ
وكأنه يجد نفسه وحيدا ً في حالته هذه,ولايظن أن أحدا ً ما يماثله في شكايته ,فهو يشكو حاله لحاله, إذا الهم أقبل وانتابنه بقوة وقلة رحمة.
****
و لا أبوحُ بحزني للصحاب فإنْ=وصفتُ معشار مابي للورى ذابوا
من عادته ألا يبوح لأحد في الشكوى فالتفرد فيها ومعاناتها وحده أكثر راحة , إن لم بيكن في البوح خيبة أمل ومعاناة جديدة,فلن يجد من يشعر به وإن وجد سوف يذوب من معاناته والمه.
**************
كانت نسبة التـ م/ع ( مقياس رقمي لمعرفة درجة حرارة المشاعر لدى الشاعر وله طريقة خاصة)واضحة الصعود والهبوط معبره عن الحالة الخاصة التي يعيشها الشاعر يتبين من الأرقام والمعدل لكل بيت:
البيت الاول: م/ع=11/9=0.8
البيت الثاني: م/ع=7/12=1.7
البيت الثالث: م/ع =6/9=1,5
البيت الرابع: م/ع=8/9=1.12
البيت الخامس :م/ع=4/12=3
البيت الخامس: م/ع=9/7==0.7
البيت السادس: م/ع=6/8=1.3
البيت السابع : م/ع =5/11=2.2
البيت الثامن : =م/ع=11/4 =0.3
البيت التاسع: =م/ع=5/8=1.6
البيت العاشر: =م/ع =10/6=0.6
وكما نلاحظ بلغت المشاعر أوجها في القصيدة : في الأبيات : الثاني الثالث الرابع والسادس والتاسع وهو ملاحظ تماما في تعبيره:
درس المواجعِ بالآماقِ أشرحه=ويلي إذا لم يفد بالدمع إسهابُ
وهو تعبير واضح عن الألم والوجع, شاعرنا مقل في هذا النمط من البوح رغم انه يظهر مقدرته الشعرية الرائعة , وتفتج له آفاق لأغراض شعرية لم يكن بالغها شاعر من قبل.
ورغم أن النمط الحزن لون طاغي في شعره ونلمس هذا في معظم الشعر المعاصر . إلا ان توظيفه يجعل من العمل والجهد اتجاها اكثر إثمارا ونضجا.
نتمنى لشاعرنا الكبير كل التوفيق .
وتقبلوا جهدنا المتواضع.
أم فراس 25-9-2010