* لم تلجأ العولمة إلى الآليات السلمية وحدها لفرض هيمنة النظام العالمي والدول الكبرى في العالم، بل استعملت الشرعية الدولية متمثلة في هيئة الأمم المتحدة وسائر فروعها السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية، كما استعملت القوة العسكرية لحلف الناتو، باعتبار الدول الأعضاء في حلف الأطلسي تمثل المركز في العالم، أما بقية الدول الأخرى فهي في الأطراف، وتحولت وظيفة حلف الناتو من حلف أُنشأ لمواجهة حلف "وارسو" في عصر الاستقطاب والحرب الباردة إلى حماية العولمة، وردع أية قوة في العالم تقف في وجهها، خاصة وأنّ حلف الأطلسي يملك أقوى ترسانة حربية، إلى جانب القوة العسكرية الأمريكية التي تعمل إلى جانب قوة حلف "الناتو" وتُسخر للدفاع عن العولمة ونشرها بقوة الحديد والنار ومن دون اعتبار للتنوع الثقافي والديني والطبيعي والجغرافي وغيره لدى الشعوب، ومن وراء هذه الآليات جميعا تعمل كل من الحركة التنصيرية والحركة الصهيونية العالمية على دعم العولمة، فإذا كانت الحركة الصهيونية تعمل في الخفاء وفي انغلاق لأنها لا تكشف عن مخططاتها القذرة وعملها في العلنية يقضي عليها لخطورته على الإنسانية، فإن التنصير على أشدّه
في السر والعلن يمارسه الجميع، العمالة الفنية الأجنبية، المنظمات الخيرية، والجيوش وبأساليب ووسائل عديدة. ولكن رغم قوة العولمة وقوة آلياتها فإن ذلك لم يثن الشعوب عن تمسكها بثقافتها وتراثها وتاريخها المجيد، ولم تنصهر في الكوكبية كما كان ينتظر رعاة العولمة، خاصة الشعوب التراثية التي مازال فيها التراث حيّا في وعيها ووجدانها وفي سلوكها وممارساتها، وهي تدفع ثمن ارتباطها الوطيد بهويتها بتعرضها للعزل والعدوان.
* من الشعوب التراثية التاريخية الشعوب العربية والإسلامية، التي لم تستطع العولمة صهر هويتها أو تطهيرها، رغم كل الممارسات التي تقوم بها قوى مختلفة وعلى مستويات عديدة وبأساليب مشروعة وغير مشروعة، لأنّ هذه الشعوب لا تملك إمكانيات العولمة والنظام العالمي بل مسلحة بثقافة عريقة متجذرة في التاريخ وبإيمان قوي وراسخ بالله وبدينه الذي أنزله على نبيه وارتضاه لعباده ولفّه بعنايته وحفظه، إنّه الإسلام الذي وقف في وجه هيمنة العولمة وطغيانها، يكشف عن فساد أصولها ومراجعها، ويميط اللثام عن قيّمها الدنيا الوضيعة وعن عدم توازنها واختلالها، ويفضح أساليبها ومخططاتها ووسائلها الفاسدة التي تستهدف حفظ مصالح قوى الاستكبار والاستعلاء والغطرسة وقهر الآخرين من دون مشفقة أو مرحمة، ويعارض أهدافها ومطامحها التي تكرّس إرادة الهيمنة وحب التسلط على الآخر وقهره كما قهره بالأمس الاستعمار الحديث، والعولمة هي شكل من أشكال الاستعمار يمارس القهر والعدوان بمختلف صنوفه. يعارض الإسلام العولمة والأمركة والنظام العالمي في الفكر والممارسة، بما ينطوي عليه من قيم ومعاني تحفظ للوجود الإنساني الفردي والاجتماعي والعالمي حياته و
كرامته وتوازنه، توازن بين المادة والروح، بين الفرد والجماعة، بين العقل والوحي، بين الدين والدنيا، بين الأخلاق والاقتصاد، بين النظر والعمل، بين المقدس واللاّمقدس، بين الله والإنسان، إنسان الخلافة والرسالة، لا إنسان المال والأعمال والمادية المفرطة والعلمانية المختلة والرأسمالية الفاسدة والديمقراطية الليبرالية المشبوهة، لا إنسان الغريزة والشهوة والخلاعة والإباحية الجنسية، إنسان يحيا في البهيمية ويموت ميتة حيوانية.
* لما كانت العولمة بالشكل الذي أراده الغرب الأوربي الأمريكي تُشكل وضعا خطيرا لا يمكن تجاهله، هذا الوضع يشق طريقه نحو المستقبل ويتحكم فيه، هذا لا يمنع إمكانية تهذيب العولمة وتطويعها وترشيدها بالتوجه نحو نماذج وأنماط تبتعد عن التوحش وهيمنة القوى العظمى لفائدة عولمة مؤنسنة تراعي مصالح الجميع. ففعل أنسنة العولمة يقتضي من جميع الدول وشعوبها بما في ذلك الدول العظمى احترام المبادئ والغايات التي لأجلها تأسست المنظمات الدولية والهيئات العالمية، وهي مبادئ تحافظ على حقوق الإنسان والسلم المدني والأمن العالمي وتحد من السباق نحو التسلح ونزع أسلحة الدمار الشامل وغيرها. إنّ ارتباط العولمة بالتفوق العلمي والتكنولوجي في الغرب الأوربي والأمريكي ونفوذ النموذج الليبرالي سياسيا واقتصاديا وعسكريا لا يعني تقويض دور الدولة الوطنية والقومية كما يريد الغرب، بل يمكن استفادة سائر الدول والشعوب من التقدم العلمي والتكنولوجي ومن النموذج الليبرالي دون التخلي عن خصوصيتها الثقافية والتاريخية والحضارية، خاصة إذا كانت الشعوب تاريخية تراثية مثل الشعوب العربية والإسلامية. فسبيل أنسنة العولمة وتخليصها من التوحش يست
لزم الاحتكام إلى نظام إنساني يحترم القيّم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية من عدل ومساواة وأخوة وتعاون وتكافل وغيرها، كما يحترم التنوع الثقافي والتعدد الديني والمذهبي ويحارب الظلم والقهر والاستبداد والاستعباد. العولمة المتوحشة التي يفرضها العالم المتقدم لا تجلب إلا التوتر وفساد العلاقات بين الدول والشعوب ولا تنتج إلاّ الكراهية والبغضاء والفتن والحروب وسقوط الجميع في الانحرافات التي تُفقد البشرية إنسانيتها، ولا تكون العولمة صالحة إلاّ بالتشبع بالقيم الإنسانية والأخلاقية واحترام الآخر في ثقافته وأفكاره ودينه وفي جميع حقوقه، ويُصبح ذلك واقعا مجسدا وعالما مشخصا ثقافة وفكرا وسلوكا وحضارة.
* إنّ كل من عقيدة العولمة وصنوها إيديولوجية التطرف الليبرالي في الغرب الأوربي وفي الولايات المتحدة الأمريكية تتجاهل حقيقة الآخر وهويته التاريخية والدينية، وتتعامى عن كون الدين مقوّما أساسيا من مقومات هذه الهوية، على عكس ما هو سائد في المجتمعات اللائكية التي تفصل الدين والأخلاق عن حياة الأفراد والجماعات وعن الدولة والسياسة، فهي إيديولوجية تتجاهل كل ذلك وتنادي بالإصلاح الديني والتربوي قبل الإصلاح السياسي والاقتصادي، وبالتنوير وبغيرها من مبادئ الحداثة والليبرالية، وتضع الإسلام في مرتبة واحدة مع النصرانية وأوضاع الكنيسة التي عرفتها أوربا في القرون الوسطى واستمرت إلى مرحلة ما قبل النهضة الأوربية، حيث رحلت الكنيسة من الحكم بفعل الإصلاح الديني والتربوي والسياسي، وهو الأمر الذي ينبغي أن يتحقق في المجتمعات المعاصرة التاريخية التراثية الدينية المتخلفة، لتنهض وتواكب الركب الحضاري الذي انطلق بعد ثورته في وجه كل قديم فكري وفلسفي وعلمي وديني وغيره، ولا يتسنى لأي جماعة بشرية تعيش على الماضي في الحاضر أن تتحرر من الانحطاط ما لم تأخذ بالسبيل الذي انتهجته أوربا قبيل النهضة، والانقلاب على الترا
ث الثقافي والديني الذي كان ولا يزال العائق الأكبر أمام النهضة والتطور والازدهار، لكن هذا المنظور يعي جيدا أنّ الظروف التي عرفتها أوربا قبيل نهضتها الحديثة تختلف تماما عن ظروف العالم العربي والإسلامي الحديث والمعاصر، وهو على دراية كافية بأنّ الإسلام ليس هو النصرانية، لكن بدوافع سياسية واقتصادية وإيديولوجية وعقائدية لا حدّ لها يتجه المركز لاختراق غيره عقائديا باسم العولمة وغيرها، وساعده على ذلك انهيار المنظومة الاشتراكية والشيوعية وسقوط الاتحاد السوفيتي وبقائه في القطب الواحد، كما ساعده كذلك تطور وسائل الإعلام والاتصال، فأصبح حريصا على صهر الشعوب كاملة في بوتقة واحدة فكرية وثقافية وأخلاقية وعقائدية، لكي لا تكون للشعوب أصولها وثوابتها الثقافية والدينية، وهو ما ترفضه الثقافات المتأصلة والمتجذرة في التاريخ وفي الماضي في أهلها مثل الثقافة الإسلامية وغيرها من الثقافات الأخرى.
* إن الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها الإنسان في العالم المعاصر ترتبت عن التناقض بين القول والفعل في آليات العولمة ولدى دعاتها ومنفذيها ، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، فممارساتها تتصف بالأخلاقية واللاإنسانية، فلا مراعاة لحقوق الإنسان الأساسية، حق الحياة والملكية والتعبير، ولا مراعاة لمصالح الشعوب الضعيفة اقتصاديا، ولا مراعاة لتحقيق العدالة وإعطاء الحقوق المغتصبة لأصحابها، ولما كان هذا حال العولمة، فهي ليست ذات طابع أخلاقي وإنساني الذي يروج له خطابها النظري ومن ثم فهو خطاب وهمي تنفيه وتنقضه الممارسات القائمة على أرض الواقع.
* إنّ الأخلاق التي يركز عليها النظام العالمي وتستند إليها العولمة كما أرادتها الأمركة الصهيونية تنبذ الآخر الذي لا يملك التقدم العلمي والتكنولوجي الذي جعل العالم المتقدم بقيادة أمريكا على ما هو عليه، مثل الشعوب الغابرة التي عرفت حضارات راقية نمت وازدهرت ثم توقفت وانتهى أمرها، مثل الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية وغيرها، وهي حضارات قامت على العالمية ومن منطلق الأخذ والعطاء والتبادل الثقافي والعلمي، لا من منطلق الهيمنة وسحق الآخر ثقافيا ودينيا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، لا لسبب سوى لكونه ضعيفا ولرغبة القوي في التسلط وممارسة القهر، إنّ النظام العالمي نظام معاد للإنسان. إن دعوة النظام العالمي الجديد لنشر الديمقراطية في أرجاء العالم لا تهدف إلى تمكين الجماهير من التحكم في مصيرها وإنما هي أداته في فتح الحدود وإضعاف الآخر، حتى يتسنى له ترشيد كافة البشر. ولكن هذه الدعوة كانت لا تزال ليخفي بها مخططات بسط السيطرة على الشعوب والاستيلاء على ثرواتها. ومن جهة أخرى فإنّ تصور الديمقراطية التي تسوق لها أمريكا من سوق حرة، تصور "دينا" جديدا لا يمكن للإنسان أن يجد ح
قوقه خارجها، فالغرب ينعتنا بالتخلف والانحطاط فيما هو يريد لنا أن نبقى كذلك، أو يتهمنا بالإرهاب ولكنه لا يحملنا إلا على ممارسته. إنه يخلق مجتمعات غير متكافئة، يقصد من خلالها الطرف الأقوى إخضاع الآخر إلى تبعية اقتصادية وسياسية وعلمية وفكرية وثقافية، ويحوله إلى موضوع حمّال لكل مظاهر النقص والقصور والتخلف، وبذلك يمهد لتبعية لا محدودة. إنّه النظام الذي يشل الشعوب عن التنمية لفرض التبعية، ويزرع فيها الخذلان والعجز عن استعمال إمكانياتها الذاتية والموضوعية، من منطلق إيديولوجي سفيه يجردها تماما من النضج الحضاري ويتهمها بالشر والإرهاب، ويربطها بالطبيعة البدائية المتوحشة، ويطبق عليها قانون الغاب ويضربها بقوة في حالة العصيان والتمرد، إن الإرهاب الذي ينسبه النظام العالمي للشعوب المستضعفة في العالم الثالث والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة مارسه ويمارسه الغرب على نحو أكثر فظاعة كما تشهد موجات الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين "الهنود"، والحروب العالمية.لا يملك النظام العالمي المصداقية، لا في عقلانيته ولا في واقعه وممارسات القائمين عليه، فطلب الديمقراطية وباقي حقوق الإنسان والتطلع إلى ال
سلام العالمي لا يكون بالقوة العسكرية، بقدر ما يكون بقوة الانفتاح والحوار والتعاون بين الشعوب، أما واقع الحال يكشف عن الإفراط في استعمال القوة العسكرية ضد الشعوب والحركات المناهضة لتوجه العولمة والأمركة والصهيونية، ولصالح الأمن والسلام في دولة الولايات المتحدة الأمريكية وفي الدول المتحالفة معها، وفي غياب تام للاعتبارات الأخلاقية والدينية والعلمية، الأهم في الأمر بقاء الولايات المتحدة على قمّة هرم العالم تفعل فيه ما تشاء وكيفما تشاء وساعة تشاء من دون حسيب أو رقيب.
* إن الطابع المادي العلماني لثقافة العولمة طبع الفكر والوجدان والسلوك الإنساني بطابعه، وأدى إلى انحراف مدنية العولمة عن قيم ومقولات الحداثة التي بُنيت عليها الحضارة الحديثة وتطورت وازدهرت، وتعمل العولمة على تعميم التوجه العلماني المادي ليصبح توجه جميع الثقافات وكل الديانات في العالم، والإسلام بمقتضى العولمة مطالب بتغيير قيمه وتحوير مبادئه وأسسه، فيقبل بالمادية العلمانية التي تقوم على الشك والإلحاد، وهو أمر مستحيل لأن هوية الإسلام في مركبه الروحي والمادي معا، وفي قيمه المتوازنة الجامعة بين مطالب الروح ومطالب البدن، بين العقل والوحي، بين الفرد والأمة، بين الاقتصاد والأخلاق، بين الدنيا والآخرة، بين الله والإنسان، هذا التوازن لا تُقره العولمة ولا الشرائع والنظم الأخرى التي عرفتها الإنسانية عبر تاريخها الطويل، فالإسلام سمح متوازن سامي في عقائده وشعائره ومعاملاته وأخلاقه، جاءت رسالته جامعة شاملة، وجاء ما لا يختلف باختلاف الزمان والمكان بها مثل العقائد والعبادات والأحكام القطعية واضحة ومفصلة تفصيلا تاما بالآيات العديدة الشارحة وبالسنة النبوية الصحيحة وليس فيه اجتهاد ولا تغيير. أما م
ا يختلف باختلاف الزمان والمكان فقد جاء يحتاج لاجتهاد العلماء حسب العصر وظروفه، فأمة الإسلام واحدة بمعنى أنها واحدة في دينها وثقافتها واقتصادها وقواعدها ونظمها الاجتماعية وواحدة في مفاهيمها السياسية وغيرها من النواحي الحضارية، ويكفي الإسلام يقينا مطلقا، وتكريما عظيما، وشرفا عاليا، وكمالا ليس محدودا ولا منقوصا، وديمومة أبدية، وشمولية تامة، وكونية صالحة، وخيرا لا ينضب، وعقيدة الفطرة السليمة والمحجّة البيضاء، وخاتم الرسالات، وسبيل الخلاص في الدنيا والآخرة، وأنّه دين الله الذي اختاره الله وارتضاه لعباده، ونزّله على نبيه ورسوله وحفظه من كل مكروه.