المجتمع المدني بين تظاهرات المساجد والديمقراطية
ميس الكريدي (( مجلة ثرى))
المجتمع المدني يمثل الشكل الأرقى المتناغم مع ممارسة الديمقراطية, والتي
بدورها تمهد للانتقال لهذه الصيغة المدنية الحضارية للمجتمع بوصفها ضامنة
لحق الشعوب في مشاركة فاعلة في السلطة السياسية وصناعة القرار, وحيث إن
المجتمع المدني يشكل حالة شراكة مع الدولة بحيث تتولى هيئاته التمثيل
العصري الذي من خلاله تصبح الجماهير فاعلة ومبادرة وشريكة على أرض
الواقع من خلال تلك الصيغ المجتمعية, وإذا كانت المنطقة لم تتمثل هذه
الحالة فلأن من أهم العقبات التي تواجه هذا التحرك المجتمعي, أزمة دولة
أولا.
في نمطية هذه البلدان هناك سلطة تعتمد سيطرة القوى الأمنية فتعمد لمسخ
هيئات المجتمع صلة الوصل بين الناس والدولة التي يفترض أن تمارس من
خلالها الجماهير الشراكة في القرار فتعمد لتفصيلها على قياس هذه العقلية
القمعية المتخوفة من تحرك المجتمع خارج أطر مفاهيمها الضيقة,وبالتالي
تصبح تمثيلا شكليا للشعب الذي لا يتمكن عندها من ممارسة هذه الشراكة,
ولذلك يمكن تجسيد معوقات الانتقال لمجتمع مدني حضاري بمايلي:
1- عدم وجود دستور ضامن لحرية الفرد, وحماية هذه الحرية, ولو كانت صيغ
الدساتير عموما تبدو متطورة في تبنيها لحقوق المواطنين ولكنها في بلدان
تخضع لأنظمة توصف بالشمولية تحتوي منافذ و اختراقات تهيمن أو تسهل انتهاك
هذه الحرية فعليا سواء فيما يتعلق بمصونية حرية الفرد أو حتى استقلال
المجتمع, وتبقي بابا مواربا لشرعنة حالة الاستبداد التي تمثل سمة عامة
لممارسات هذه الأنظمة.
2- عدم وجود قوانين عصرية تحمي هذه الهيئات التي يفترض أن تمثل نواة
المجتمع المدني المنشود, فتتمكن من تطوير نفسها من خلال تواجدها الفاعل
في الساحة, فهي ليست محمية بوجه الآلة الأمنية, وحتى النقابات المهنية
كمثال طبعا على هذه الهيئات, لأن الكلام ينسحب على كل مفاصل المجتمع, فتم
الاستيلاء على قرارها والتدخل فيه, فتصبح ممارسة الديمقراطية بعمليات
انتخابات القيادات مثلا حالة ظاهرية لا تعكس استقلالية أو تمثيل فعلي
لتلك الحالة, سواء بفرض قوائم جاهزة أو أشخاص مرضي عنهم أمنيا, أو
تقييدها بقوانين ومرجعيات تؤمن هذه الهيمنة وتحد من فاعليتها.
3- فرض حالة الطوارئ طوال عقود, ومن نتائج هذه الحالة منع التجمعات خارج
دور العبادة مما أضعف المنابر العلمانية ومظاهر التجمعات الحضارية
كالمنتديات الثقافية خارج نطاق محكوم بقواعد صارمة, وهذا ساهم في الشقاق
مع حالة المجتمع المدني.وأدى لتكريس الانتماءات البديلة الإثنية
والطائفية والعشائرية, لصعوبة الانفتاح على المجتمع وهزال الحركة الفكرية
والسياسية نتيجة ممانعة الطقوس الجماعية التفاعلية وحالة الانغلاق.
4- حرية التعبير والرأي مقيدة ومبتورة جدا في هذه المجتمعات, مما يضعف
المبادرات الفردية والجماعية, ويعرض النشطاء للملاحقة والمحاسبة خارج
هوامش محددة تفرض رؤيتها وقرارها على الأفراد والمجتمع مما يعيق حركتهما
معا.
وطبعا تتضمن المعطيات السابقة في تفصيلاتها كل ما يرتبط بعدم فصل
السلطات, وعدم استقلال القضاء, وتراجع الحراك السياسي لأن هذه نتائج
حتمية لما ذكر أعلاه, وهذا ينعكس على قيام المجتمع المدني, وليس صحيحا أن
الدين عامل إعاقة لنشوء هذا المجتمع لأن الدولة المدنية بقوانينها
العصرية قادرة على توحيد المجتمع بعيدا عن الهامش الديني,الذي يتحول في
الدول المتطورة إلى شأن ذاتي عندما يخضع الشعب الواحد لقانون واحد.
أما القوانين الدينية أو المرتبطة بإرضاء عقلية دينية مرتبطة بعقلية
الاستبداد من خلال تكريس هذه الإيديولوجيات والتشدد بها حيث أن حراكها
يتمحور بين هياكل المحرمات التي لا سبيل لتجاوزها أو تطويرها, عكس
المجتمع المدني الخاضع للتطور التاريخي والحراك المجتمعي, وهكذا يبدو
جليا أن حكاية معاناة الأنظمة الاستبدادية مع التطرف الديني, ليست أصيلة,
لأن الخطر عليها يأتي من المجتمع الطامح لتحجيم سلطتها وتقييدها, لامن
حركات عبر التاريخ كان رموزها في خدمة تكريس سلطة الحاكم, بدليل عدم
ممانعتها لتوسع قاعدة التدين ويمكن أن نجد آلاف دور العبادة, تبنى وتنشط
وبدعم من هذه الأنظمة, في حين هناك عدائية وقمع أحيانا لقيام جمعية أو
منظمة حقوق إنسان, أو تشكيل حزب سياسي, وطبعا لا سقوف حماية حقيقية لهذا
النوع من التجمعات.
فالتدين متلازم مع القدرية والخضوع للواقع, وفي المنطقة ظهرت الاستثناءات
التي تدعو إلى الجهادية ذات طابع إسلامي, لكن لا تتم تغذيتها إلا في
مواجهة ما تعتقده تلك الفئات مهددا لعقيدتها(( الاسلام السياسي)).
وتنجح الأنظمة عادة باحتواء هذه الحركات, والوصول لتسويات معها, وعندما
تتفاقم وتضطر لدخول صراع معها, تلقى دعما دوليا يزداد كلما أظهرت نفسها
في حرب مع التطرف مما يزيد في تثبيت وجودها .
إذا أردنا أن نعرج على ظرف سورية الحالي, ومع قناعتي بأن مفهوم المجتمع
المدني في منطقتنا حالة نظرية لا خبرة متجذرة, أو ذاكرة للشعب في
التعاطي معها , مما يجعل دراساتنا حوله مجرد كلام نظري لم يخضع لتجربة
واختبار في الواقع, أما ما يحصل الآن وهو حراك شعبي غير مألوف أو متوقع
للقيادات السياسية والمجتمعية, فمسألة انطلاقه من الجوامع ليس دلالة على
هوية دينية بقدر ما هو ممارسة للمتاح حيث لا تجمعات خارج هذه الأماكن,
فهو تحصيل حاصل لممارسات طويلة الأمد, أما التغيير الديمقراطي الذي انطلق
مطلبا ملحا سواء بكلمات واضحة, أو بين السطور عندما يرفع شعار الحرية,
والمطالبة باستعادة القرار والوطن من خلال التعبير السلمي , و الشعور
بالتوحد بين فصائل الشعب من مختلف الإثنيات والطوائف الدينية, ورفع شعار
الشعب الواحد.
آخر ما يمكن قوله هنا أن التحرك الشعبي العفوي والمنسلخ من أي إيديولوجيا
يؤكد أن لا قلق على القادم من التحول من وجه شعبي لوجه ديني, أو افتراض
دين لهذا الحراك, هذا لا ينفي أن تكون ضمن هذا الحراك عناصر متدينة لها
مشروعها ولكن علينا اليوم أن نؤمن باتساع الساحة للجميع, بكل ما يحملون
من فكر أو خلفيات, وهذا وجه من وجوه الديمقراطية أي مسألة قبول الآخر وهو
ما أثبت الشعب السوري وعيا غير متوقع فيه سواء بالشعارات أو الممارسات.
والطبيعي أننا قد نكون أمام مرحلة انتقالية طويلة لا نعرف معالمها لكن
على الشعوب بالنهاية أن تخوض غمار التجربة وتتطور تطورها الطبيعي.