الحياة ماذا علمت الدكتور جلال أمين؟
أنهيت قراءة كتاب (ماذا علمتني الحياة : سيرة ذاتية) للدكتور جلال أمين،والكتاب يقع في 394 صفحة،وقامت بنشره دار الشروق بالقاهرة،والطبعة التي بين يديّ – أعارنيها الدكتور ناجي حين،مشكورا – هي الطبعة الرابعة،والتي صدرت في مارس من عام 2008م.
في البداية،وقبل كل شيء لابد أن أهنئ الدكتور جلال على كتابه (ماذا حدث للمصريين؟)،كما أعزيه في أخته التي قال عنها : ( توفيت أختي نعيمة في سن مبكرة نسبيا،إذ لم تبلغ الثالثة والستين)ص 58.
لابد أن أشير – أيضا- إلى مسألتين مهمتين – من وجهة نظري- الأولى أنني استمتعت جدا بقراءة الكتاب،والثانية أنني أشعر أن لديّ بعضا من عادات المصابين بمرض (التوحد)!! إذ يقال أن (التوحدي) لا يرى الغابة،غابة .. بل يراها شجرة .. شجرة !!! ووجه الشبه بيني وبين (التوحديين) أنني حين أقرأ كتابا فإن الجزئيات الصغيرة تلفت نظري،وأتوقف عندها بتمعن!!! لذلك سوف أبدأ ببعض الملاحظات التي أظنها سوف تثبت وجهة نظري.
توحديات :
1- إن أول ما يلفت نظري في الكتب – الحديثة تحديدا- كثرة الأخطاء المطبعية،وفي هذا الكتاب تحديدا ما إن بدأت تتبع تلك الأخطاء حتى وجدت تكرارا عجيبا لأحد أكثر الأخطاء المطبعية شيوعا – كما ظهر لي من تتبع الأخطاء - منذ أن انتشرت الحاسبات الآلية،أعني وضع (ى) الألف المقصورة بدلا من (ي) – الخطأ الثاني لمن يهمه الأمر هو وضع (ه) بدلا من (ة) – في صفحة واحدة،و هي الصفحة 14 وجدت ذلك الخطأ يتكرر 14 مرة في عشرة أسطر تقريبا!!! لم ألا حظ أخطاء مطبعية تذكر غير خطأين صغيرين،الأول مبرر جدا،فبعد أن ذكر د.جلال أنهم في (الكنترول) يتناولون (سندوتشات من الفول والطعمية من محل قريب اسمه (نجف) (..) قطعة أو قطعتين من البسبوسة من محل ملاصق له اسمه "الدتشيس" (..) ولكن أستاذا بالغ الكرم (هو د. حلمي مراد) كان يتبرع من حين لآخر بشراء كمية من الكباب و الكفتة،لجميع أعضاء الكنترول ) ص 222 بعد ذلك ذكر أن الدكتور حلمي مراد ( كان يطبق ذلك القول المأثور " كل كلمتك وامض" ..) ص 223 لعل من كان يقوم بالطباعة كان جائعا فتأثر بجو الطعام!!! فوضع كافا،مكان القاف.
و في الصفحة 263 نجد خطأ مطبعيا آخر،وذلك حين وصف الدكتور المصريين بأنهم (.. لا تثير فيهم الدعابة ( بالباء،المنقوطة بنقطة واحدة من أسفلها – محمود) السياسية من خلال وسائل الإعلام إلا السخرية المعلنة أو الصامتة ) ص 263،ولا شك أن المقصود "الدعاية ( بالياء – محمود) السياسية".
إذا كانت (الدعابة) قد اختلطت بـ(الدعاية) فإن الدعابة هنا واضحة،وذلك حين قال وزير التعليم : (لأخي عبد الحميد : " هوهّ إحنا عندنا كم واحد زيّك يا دكتور عبد الجليل؟" ..)ص 194!!!!!!!!!!
2- جاء في الصفحة 69 : ( ويبتسم من جرأتي وكأنه يتذكر تصرفاتي أثناء التلمذة،ولا يرى في هذا إلا استمرارا لذاك). بينما نجد في الصفحة 142 : ( كنت في ذلك الوقت صبيا مراهقا خجولا إلى درجة المرض). فهل كان الدكتور جريئا ثم أصابه الخجل؟ أم أنه كان خجولا فأصابته الجرأة؟
3- أعجبتني كثير من العبارات التي يستخدمها الدكتور،مثل قوله في الصفحة 308 : ( مما أكد لي أن من الممكن أن نعرفّ الكتاب ((الجيد)) تعريفا لا بأس به،بأنه الكتاب الذي يقول لك ما كنت تعرفه بالفعل،أو الذي يمدّك بالحجج التي تحتاج إليها لتأييد وجهة نظرك). ما إن وصلت إلى الصفحة 382 حتى وجدت الدكتور جلال يقول : ( لجورج أورويل قول طريف يعّرف فيه الكتاب الجيد بأنه : ((الكتاب الذي يقول لك ما كنت تعرفه من قبل)) ..).
أعتقد أن هذا يكفي للتدليل على ما أعنايه من (توحد).
الشجاعة المخجلة!!!
بالنسبة لي لا بد أن أشكر الدكتور جلال،والذي نقل لنا مقولة جورج أورويل، في مقدمة الكتاب :
( .. "إن كتابا في السيرة الذاتية لا يمكن أن يصبح محلا للثقة إلا إذا كشف بعض الأشياء التي تشين صاحبها". وأظن الرجل كان هنا على صواب،كما كان عادة. ولكني لا أظن أنني ارتفعت إلى هذا المستوى الذي يطلبه) ص 15.
في البدء لاشك أن الدكتور جلال يعلم أن كثيرا من مثقفينا،ينفون وجود فن السيرة الذاتية – أصلا - لدى العرب،بسبب خلوها من الفضائح،والفضائح الجنسية تحديدا – قبل سنوات انتقدت إحدى الكاتبات،في مجلة الهلال،كتاب "حياتي" للأستاذ أحمد أمين،لخلوه من الحديث عن المرأة – وهو أحد الذين انتقدوا رواية (الخبز الحافي) للمغربي محمد شكري. لذلك فنحن نشكر الدكتور جلال على تجاوزه عن ذكر ما لا نظن أن له كبير فائدة،ولعله اكتفى بــ(تمرير) تلك الإشارة وهو يحن إلى الأيام التي قضاها في لندن :
(حتى بدأت أشك في أن تلك السنوات الست لم تكن حقيقية بل كانت حلما. لقد مررت خلال هذه السنوات الست بتجارب عميقة الأثر في نفسي،عاطفية وجنسية وفكرية) ص 184. تقول العرب : يكفيك من السوار ما أحاط بالمعصم!!!!
د. جلال "ماركة مسجلة"
من آراء الدكتور جلال التي أعجبتني كثيرا،رأيه في الاعتماد على المؤلف،وليس على الكتاب،إذ وجدت فيها ما يؤيد فكرة ترسخت لديّ منذ مدة،يقول الدكتور في الصفحة 150 :
(يدهشني الآن أيضا طول الوقت الذي احتجت إليه لكي أتعلم كيف أن عليّ أن أضع ثقتي لا في الكتاب،مهما بدى جذابا باسمه أو موضوعه،بل في مؤلفه. وأن أدرك أن هناك بعض الكتّاب الذين يمكن أن يشعر معهم القارئ بالأمان). سبق لي وأن وصفت بعض الكتاب الذين وضعتُ فيهم ثقتي – حسب تعبير الدكتور- بأنهم : ( ماركة مسجلة). .. أستطيع أن أقول هنا،بأن الدكتور جلال أمين ( ماركة مسجلة).
من المصادفات أنني قبل أسابيع من قراءتي لكتاب الدكتور جلال، كتبت كلمة صغيرة مرفقة مع كتاب قمت بإهدائه :
(يقينا أن معظم الناس يفضلون أن يرتكبوا الأخطاء بأنفسهم .. فذلك يدخل ضمن (التجريب الذاتي) .. وهو شيء يشبه أن تقول لسائق سيارة أمامك (حفرة) .. فلا يتحاشها حتى (يجرب) .. أي حتى يقع فيها!!!!!
ليس بمقدورنا أن نجبر سائقا على تفادي الحفرة .. لكن علينا أن نخبره بوجودها .. ثم نشمت فيه حين يخالف نصيحتنا .. تتوقف الشماتة على حجم الضرر الذي أصاب السيارة).
مع الفارق طبعا، وجدت الدكتور يكتب في الصفحة 209 :
( هل هناك أي أمل حقيقي في أن ينقل أي جيل تجربته للجيل الذي يليه؟ أم أن من المحتم على كل جيل أن يمر بالتجربة بنفسه،وأن يستخلص كل جيل بنفسه ما يستطيع استخلاصه من تجربته هو،دون أي أمل في أن يحصل على أي مساعدة من الأجيال السابقة؟). لا يخفى على الدكتور،أن المشكلة ليست في أن (يحصل) الجيل الجديد على (المساعدة)، بل في أن (يتقبلها).
الظهور على الشاشة :
من أكثر المناظر التي تزعجني وأنا أشاهد بعض البرامج المتلفزة – خصوصا تلك التي يقدمها بعض شيوخنا الأفاضل- تلك الحركة التي لا تنتهي للشيخ وهو يتحدث إلينا،فما إن يتحول إلى اليمين،حتى تأتيه التعليمات بالتحرك شمالا .. وهكذا.
تحدث الدكتور جلال عن علاقته بالتلفاز،فقال في الصفحة 385- 386:
(.. بعد أن ظهرت في التلفزيون ثلاث أو أربع مرات، بدأ يعتريني الشعور بالضيق من طريقة معاملة المشتغلين بالتلفزيون لضيوفهم. تبين لي أن جماهيرية التلفزيون تضفي على العاملين فيه أهمية لا يستحقها معظمهم،فإذا بهم يتصرفون و كأنهم وسطاء بين ضيوف التلفزيون وهذه الأعداد الغفيرة من المشاهدين،فيصدرون الأوامر لهؤلاء الضيوف بالالتفات إلى اليمين أو اليسار،وبأن يتحركوا على هذا النحو أو ذاك،فتشعر بعد لحظات بأنك كالمشلول أو بالشخص ( لعلها أو كالشخص – محمود) الذي قيدت قدماه وذراعاه فتسمر في مكانه،ويخرج الكلام مغتصبا وبلا روح،ريثما يقطعه مقدم البرنامج بإعلان الجمهور والضيوف بأنه لابد من قطع الكلام لمشاهدة فاصل من الإعلانات التجارية التي لا توجد صلة بينها وبين ما كنت تتكلم فيه،بل المنافية تماما لموضوع الحديث. وقد تظن أن لديك قدرة على الانسحاب وعدم الاستمرار في هذه التمثيلية التي تقدم وكأنها فرصة ممتازة للحوار والكلام بحرية،ولكنك في الحقيقة تدرك بسرعة من كل هذه الجدية والصرامة التي يحاط بها البرنامج أن الانسحاب مستحيل،إذ أن هذا الجمهور المتوحش الذي ينتظر البرنامج،أو يفترض أنه ينتظره،يجب أن تلبى رغباته ويشبع نهمه للتفرج على هؤلاء الحمقى الذين قبلوا المجيء للتحاور أمامه،ولا وظيفة لهم في الحقيقة إلا تسليته والترويح عنه،وهو،أي هذا الجمهور المتوحش،يستطيع في أي لحظة بضغط إصبعه على زرار صغير أن يمحوك تماما من الصورة ويستغني عنك ويستبدل بك راقصة أو مغنية أو فيلما سينمائيا. وهذه الحرية المزعومة للحوار التلفزيوني يقلل من قيمتها بشدة قدرة إدارة التلفزيون على أن يحذفوا أي جملة من جملك يعتبرونها مخالفة للسياسة العليا للتلفزيون أو للدولة،دون أن يشعر المشاهد بأن أي حذف قد حدث،ومن ثم يجد ضيف التلفزيون نفسه وقد نسب إليه رأي غير رأيه.).
بالنسبة للنقطة الأخيرة،لعل البرامج (المباشرة)،قيدت قدرة القنوات على الحذف،كما أن الفضائيات،أتاحت فرصة أكبر للحوار الحر،وليس ذلك على إطلاقه،على كل حال! فلا زلت أتذكر سؤالا طُرح على أحد المسؤولين العراقيين السابقين،عبر قناة (الحوار)،قال،قبل أن يجيب على السؤال .. لا أعرف بالضبط سياسة القناة .. فقاطعه المذيع قائلا : ليس للقناة سياسة .. قل ما شئت!!! كما لا ينفي وجود الفضائيات،القدرة على حذف بعض الأشياء التي لا ترغب القنوات في أن يسمعها الناس مرة أخرى! وقد حدث ذلك حتى مع قناة (الجزيرة)،حين حذفت جزء من قصيدة للشيخ أمين الديب،وهو مقطع يتعلق بالحجاب،كان،المقطع، قد أذيع على الهواء.
أما حديث الدكتور جلال عن (الجمهور المتوحش) أو ( توحش الجمهور)،فلسنا يا سيدي،على المستوى الفردي،أكثر من مجموعة من (المستضعفين)،تطاردنا إعلانات التلفاز لأكثر من أسبوع،وكأنها تمن علينا،بأنها سوف تحضر لنا الدكتور جلال أمين – مثلا- والذي يحمل ماجستير،ودكتوراه من جامعة لندن ... وعمل في المناصب الفلانية .. وألف كذا،وكذا من الكتب ..إلخ.
ثم نجلس أمام التلفاز،فاغرين أفواهنا،نسمع كلاما لا نفهم كثيرا منه،وما تكاد بعض أفكار الضيف،تصل إلينا،حتى يقاطعه المذيع،بحجة أخذ اتصال،أو للذهاب إلى إعلان تجاري،أو الإعلان عن مواعيد برامج القناة،والتي نحفظها عن ظهر قلب!! لذلك يا سيدي نستعمل الحرية الوحيدة المتاحة لنا،وهي الضغط على جهاز التحكم وتغيير القناة،حتى تنتهي الإعلانات التجارية على الأقل ... وأحيانا نستعمل تلك الحرية،حين يستغفل أحد الضيوف عقولنا،مثل ذلك الروائي المشهور جدا،الذي بدأ حديثه بالقول .. كان جمال عبد الناصر،ديمقراطيا .... أليس من حقي أن أغير القناة؟!!!
ثقافة (أبو عواد) .. السجن في قفص التغريب
أبو عواد – لمن لا يعرفه – ممثل أردني كان له مسلسل فكاهي،عرّفت إحدى حلقاته الثقافة بأنها حفظ أسماء الكتب،وأسماء مؤلفيها!!!!!
بهذا التعريف زادت ثقافتي جدا،لكثرة الكتب التي ذكرها الدكتور جلال في مذكراته!!!
لا أهدف إلى مجرد الإشارة إلى كثرة عناوين الكتب التي ذكرها المؤلف،ولكنني أردت أن أقف عند شيء محدد،والذي يتعلق بالكتب التي أخبرنا الدكتور أنه قرأها سنة 1951م،وهي بسرعة :
(عشرة كتب لوليام سارويان ( متنوعة)،و جزءا كبيرا يضم الأعمال الشعرية والمسرحيات الكاملة لطاغور،و نساء صغيرات و زوجات طيبات، للويزا ألكوت،و رواية : عصر العقل / لسارتر،و رواية : لتولستوي،يظنها،رواية : البعث / و أربع روايات / لتروجنيف،و الجريمة والعقاب / لدستويفسكي ( وروايتين أخريين،له)،و الباب الضيق / لأندريه جيد ( وروايتين أخريين،له)،و مجموعة من القصص القصيرة / لتشيخوف،و مسرحية : الضابطة بربارا / لبرنارد شو، و مسرحية : البطة البرية / لإبسن، و مجموعة من القصص القصيرة / لموباسان، و بعض قصص أوسكار وايلد – كما قرأ باللغة العربية - و كتب عن ابن زيدون والمتنبي، و كتاب عن الفيلسوف إسبينوزا، و أربعة كتب للحكيم، و إبراهيم الكاتب / للمازني ، و آلام فيرتر / لجوته، و تاييس / لأناتول فرانس، و البيت والعالم / لطاغور، و جزءا من أصل الأنواع / لداروين، و كتاب لديكارت). وكان سيقرأ كتبا أكثر بكثير : ( لو لا انشغالي المستمر في تلك السنة بما تفعله بنت الجيران) ص 85 .
إضافة إلى الكتب التي قرأها الدكتور سنة 1951م،أستطيع أن أقرر أن المؤلف لم يخبرنا أنه قرأ شيئا من كتب (التراث) – ولا حتى ألف ليلة وليلة - إذا استثنينا ذكره لابن رشد،والغزالي،وابن طفيل،و مقدمة ابن خلدون :
(و أثار حماسي أن أكتشف أن كاتبا عربيا أحرز كل هذا التقدم في صياغة بعض الأفكار الاقتصادية المهمة قبل آدم سميث بأربعة قرون ) ص 278.
لقد انتظرنا 277 صفحة – والدكتور يعلم طلاب الجامعة الأمريكية سنة 1979م – حتى عثرنا على أسماء بعض كتب التراث!!!!!
لا زلت أتذكر للدكتور جلال كلمة يقول فيها :
(من الواضح لي أن الدكتور رشدي سعيد لا يميل مثلما أميل إلى التفريق تفريقا صارما بين التقدم والتغريب،بل الأرجح أنه يكاد يعتبرهما مترادفين،بينما لا أعتبرهما كذلك){ مجلة الهلال القاهرية،ديسمبر 1995م، مقال : (رد على الدكتور رشدي سعيد،هل التنمية هي وهم العصر؟!)}.
عطفا على موقف الدكتور من التغريب،وقوله، عن أحد كتبه :
(وسيكون عنوانه فيما أتصور ( المشرق العربي والغرب : 1789 – 1975 ) وهو يتناول أساسا أثر اتصالنا بالغرب في تعطيل النهضة العربية،والوحدة العربية.) ص 269.
عطفا على ذلك كله نتساءل : هل نجح التغريبيون في عزل الإنسان العربي – خصوصا وهو في طور التكوين الفكري – عن تراثه،ليصبح سجينا في قفص الثقافة الغربية؟!!!! وعاجزا بعد ذلك عن البحث عن حلول لمشاكله خارج إطار الثقافة الغربية؟! فتصبح التنمية – في نظر التغريبيين – والتغريب عنوانين لحقيقة واحدة!!


تحليل أمريكا
لا يمكن لمن يقرأ كتاب الدكتور جلال،إلا أن يلفت نظره التحليل العميق لبعض القضايا،وسوف أقف عند بعضها،يقول الدكتور عن الأمريكيين :
( وجدت في الأمريكيين أمة،وإن كانت تباهي بتشجيع الفردية والتميز،يعشق أفرادها أن يكونوا أعضاء في فريق،يفعل كل منهم مثلما يفعل الآخرون،ويهتفون نفس الهتافات ويهيمون بنفس الأبطال أو النجوم. وهم يثقون في رؤسائهم أكثر من اللازم ويقبلون ما يقال لهم بدون شك أو تمحيص،وهو ما يسهل مهمة الدولة في حكمهم،إذ يبدوا الأمريكيون وكأنهم أسهل أمم العالم حكما،وأكثرها انقيادا. يمكن أن تغير وسائل الإعلام مسار الرأي العام من اتجاه إلى نقيضه بمجهود بسيط،ولا يحتاج الأمر إلى استخدام الكثير من الحجج والبراهين،كما يحتاج هذا في أوروبا،بل يحتاج فقط إلى بعض الإلحاح واستخدام نفس أنواع المؤثرات التي تستخدم في الدعاية للسلع،وهي مؤشرات – هكذا بالشين – لا تخاطب المنطق بقدر ما تخاطب اللاشعور (..) وسلطان الدولة الذي يبدو ضعيفا ولكنه في الحقيقة أقوى في أمريكا منه في الكثير من الدول المسماة بالشمولية،مستمد من قوة الشركات وأصحاب الأعمال. ومن ثم فليس صحيحا الظن بأن الخطر الذي يهدد الحرية الفردية واستقلال الرأي إنما يأتي فقط من ازدياد قوة الدولة،كما يظهر مثلا في رواية 1984 ( رواية جورج أورويل المشهورة - محمود) بل قد يأتي أيضا من ازدياد قوة الشركات وأرباب الأعمال الذي قد يؤدي إلى ازدياد سلطان الدولة.
لم أتحمس قط،إذن، لما يسمى بالديمقراطية الأمريكية بل وجدت فيها الكثير من الزيف والإدعاء،إذ اعتبرت أن أقل أنواع النظم حرية وديمقراطية هي تلك التي يظن فيها الناس بأنهم أحرار ويتمتعون باستقلال الرأي والفكر دون أن يكونوا في الحقيقة كذلك. بل اعتبرت أن مصر وأمثالها،مما شاع اعتبار نظام الحكم فيها شموليا،وهو بالفعل كذلك،قد ينعم أهلها بدرجة أكبر من الاستقلال وحرية التعبير عن النفس،مما يتمتع به الأمريكيون،لمجرد أن المصريين لا يعتريهم أي شك في أي وقت في زيف ما يزعمه نظامهم من ديمقراطية،ولا تثير فيهم الدعابة ( هكذا بالباء ) السياسية من خلال وسائل الإعلام إلا السخرية المعلنة أو الصامتة،بينما يبدي الأمريكيون استعدادا مدهشا لقبول ما تقوله لهم وسائل الإعلام.(..) كنت على استعداد،ولا أزال،للاعتراف بفضل التجربة ( أو الحضارة ) الأمريكية في الارتفاع بمستوى معيشة الشخص العادي أو المتوسط،ليس في أمريكا وحدها بل في العالم ككل. فالنموذج الأمريكي موجه في الأساس لخدمة الرجل العادي والمرأة العادية،متوسطي الذكاء والخيال والخلق،وهذا في رأيي هو السبب الحقيقي وراء انتشار النمط الأمريكي في الحياة،في مختلف بقاع الأرض،انتشار النار في الهشيم،وهذا هو سر جاذبيته. ولكن الوجه الآخر لهذا النجاح هو ما تتسم به الثقافة الأمريكية بوجه عام من تراجع مختلف أنواع الثقافة الرفيعة أمام ذلك التيار الكاسح الذي يخاطب أكثر نوازع الإنسان سطحية،والاستعداد للتضحية بالكيف لحساب الكم،وإهمال ما لا يمكن قياسه وحسابه بالأرقام لصالح التقدم المادي البحت الذي يمكن قياسه وحسابه. (..) وبدا لي أن للأمريكي غراما لاحد له بإثبات تفوقه على الطبيعة وقدرته على الاستغناء عنها. واستغربت بشدة كيف يمكن في بلد تسخوا فيه الطبيعة ( أو يسخوا به الله .. يا سيدي ) هذا السخاء على الإنسان أن يبدي الإنسان نحوها كل هذا العداء؟ رأيت مثلا في ولاية كاليفورنيا،التي قضيت فيها معظم فترة إقامتي بالولايات المتحدة،ولا تكاد تضاهيها ولاية أمريكية أخرى في جمال مناخها واعتداله على مدار العام،أني أدخل بناء بعد الآخر،ومقهى أو مطعما تلو آخر،فماذا أجد؟ أجد النوافذ مركبة على نحو يجعل من المستحيل فتحها،أو مصنوعة من زجاج ملون يحجب ضوء الشمس عما وراءها،وأجد أجهزة تكييف الهواء شائعة الاستعمال على نحو يخيل إليك معه أنك في أشد بلاد العالم حرارة وأقساها مناخا ( إذا تركوا الأمور على طبيعتها فمن أين يعيش صناع المكيفات،ومن يقومون بصيانتها،وتركيبها،وتشغيلها ..الخ؟!!! - محمود) ثم ما هي المعجزة الشهيرة في كافة أنحاء الأرض (..) (( ديزني لاند)) (..) والمكان كله لا نهاية فيه لما يبدو وكأنه حيوانات وليست في الحقيقة كذلك،وطيور ليست بالطيور،وأشجار ليست بأشجار. فإذا أعياك هذا كله وذهبت إلى مكان لتناول الطعام،فإنك ستجلس إلى مائدة تبدو وكأنها مصنوعة من الخشب ولكنها ليست كذلك،وسوف يقدم إليك شيء شبيه بالطعام ولكنه ليس طعاما،إذ أن من بين ما يغرم به الأمريكي أن يصنع لبنا خاليا من الدسم،وسكرا لا يحتوي على مادة سكرية،وخبزا لا يؤدي إلى السمنة،وقهوة لا تحول دون النوم) الصفحات 262 – 266 .
نظرة على أرض الكنانة
لا نتوقع أن يخلو كتاب الدكتور جلال من بعض اللفتات التحليلية للواقع المصري :
( حتى وقعت حرب 1967،فلم تعد الحياة في مصر بعد 1967 مثلما كانت قبلها. كانت هذه الحرب هي البداية الحقيقية لما سمي في مصر ((بالانفتاح الاقتصادي)) أي إدخال مصر في العالم الواسع. وقد أشاع هذا الانفتاح على العالم درجة عالية من التوتر في المجتمع المصري،وأثار من الآمال لدى شرائح واسعة من المصريين أكثر بكثير مما يمكن تحقيقه. ولم يكن من قبيل الصدفة أن اقترنت بداية عصر الانفتاح في مصر ببداية عصر التضخم الجامح،الذي وضع حدا لعصر مدهش لا تكاد الأسعار تتغير فيه بين عام وآخر،ولا تزيد فيه الدخول والثروات إلا ببطء شديد،ولا يكاد يغيّر فيه المرء وظيفته التي بدأ بها،ولا زوجته،ولا يشيع في النفوس قلق ممض مما يمكن أن يأتي به المستقبل. (..) لقد بدا أبي وأمي وكأنهما قد اطمأنا على أولادهما تمام الاطمئنان عندما رأوهم قد أتموا دراستهم الجامعية،فظنوا أنهم لا يمكن أن تصيبهم بعد اليوم أي ضائقة مالية. ولكن أبي وأمي لم يريا،ولا كان من الممكن أن يتوقعا ما حدث بعد وفاتهما بعشرين عاما. أصبح المرتب الذي تأتي به الوظيفة الحكومية غير كاف بالمرة،حتى للحصول على ثلاجة أو غسالة كهربائية،فما بالك بجهاز التكييف والتلفزيون الملون وجهاز الفيديو (..) مثل هذه الأشياء أفقدت الوظيفة الحكومية،بمرتبها البسيط والثابت تقريبا في مكانه،أبهتها التي عرفها أبي وأمي،بل وعرفتها أنا وإخوتي. وعندما فقدت الوظيفة الحكومية أبهتها فقدت الشهادة الجامعية،التي تضمن الحصول على هذه الوظيفة،الكثير من قيمتها. لا عجب أن تغيرت مشاعر الشباب نحو أساتذتهم ومدرسيهم،ولمح هؤلاء الأساتذة والمدرسون مظاهر هذا التغير فتغيرت بدورها نظرتهم هم إلى تلاميذهم بل ونظرتهم إلى أنفسهم. (..) أصبحت الكلمة التي تتردد بكثرة على ألسنة هذا الجيل الذي ينتمي إليه أولادي وأولاد إخوتي هي كلمة (مشروع) وكانوا يقصدون بها مشروعا استثماريا يأتي بربح كاف للحصول على هذه السلع التي لم تكن معروفة من قبل،والتي بدت أسعارها أبعد بكثير عن متناول أيدي أصحاب الوظائف ذوي الدخل الثابت. صاحب هذا التحول دخول التلفزيون إلى البيوت وانتشاره كانتشار النار في الهشيم،ثم أصاب التلفزيون بدوره تحولات سريعة في برامجه و كمية ونوع إعلاناته،أدت إلى تقريب مصر،أكثر فأكثر،مما يجري في العالم الواسع،وإذا بالتلفزيون يقول للناس أن الحياة يمكن أن تكون ممتعة، بل من الواجب أن تكون ممتعة،والذي يقصر في إمتاع نفسه هو شخص مقصّر في القيام بواجب مقدس،أو بالأحرى شخص فاشل بكل معنى الكلمة،لا يصلح لا كزوج ولا كصديق. فإذا كان الحصول على هذه المصادر الرائعة للمتعة متعذرا في مصر بسبب الارتفاع الباهظ في الأسعار وقلة الدخول،وقلة الفرص المتاحة لإقامة ((مشروع)) يحقق الدخل المطلوب،فلا مانع من السفر،بل ولا مانع حتى من الهجرة الدائمة. (..) من المذهل إذن كيف بدا للغالبية العظمى من هذا الجيل أنه لا حل أمامهم إلا السفر. لقد فتحت مصر أبوابها أمام العالم فجاء العالم إليها ولكنه طرد المصريين منها. ومع هذا فنادرا ما حققت الهجرة الآمال التي عُقدت عليها. (..) هناك من لم يسافر لا إلى أمريكا ولا إلى أستراليا ولا إلى الخليج،ووجد الحل في الاشتغال في مؤسسة أجنبية داخل مصر تزيد مرتباتها بنفس سرعة التضخم. أي أن الحل في ظل الانفتاح كان ينحصر إما في خدمة الأجانب في الخارج أو خدمتهم في الداخل. أما من ضعفت همته وانعدم طموحه وبقي على ما كان عليه قبل الانفتاح فقد أصبح معرضا لمختلف أنواع النقد ممن حوله،أو للشعور بالذنب وتأنيب الضمير مما أصاب حياته العائلية هو الآخر بالتوتر والاضطراب.) الصفحات 354 – 357 .
أظن أن الدكتور جلال يلخص لمن يتعجب مما وصلت إليه الحالية المصرية الآن،بقوله :
(إن كثيرين ممن استعانوا بهم في تلك الأيام والأيام التالية ( بعد هزيمة 67 – محمود) كانوا من النوع الذي لا يؤمن بشيء على الإطلاق،ألقوا محاضرات على الشباب في الاشتراكية في ذلك الوقت،أي في منتصف الستينات،ثم ألقوا محاضرات وكتبوا مقالات في التنديد بالاشتراكية في السبعينات،وأصبحوا وزراء في الثمانينات أو التسعينات) ص 183.
مثل تلك الأجواء التي وصفها الدكتور جلال لا نستغرب،معها وصفه لبعض ما يحصل في مجلس الوزراء :
(وقبل أن يدخل رئيس الوزراء،كثيرا ما يأتي موظف إلى الوزير فينحني هامسا في أذنه ليخبره بآخر ما وصل إلى الجمعية التعاونية من سلع،للوزير الأولوية في الحصول عليها،وكان آخر ما يذكره ( يقصد إسماعيل غانم – محمود ) هو شحنة من البطاطين الصينية كانت قد أرسلت كجزء من معونة صينية لبعض المحتاجين في مصر (!!!!! – محمود) فإذا بالموظف يسأله عما إذا كان الوزير يرغب في إرسال بعضها إلى بيته.) ص 234 .
نتوقف هنا على أمل أن نكمل هذه الجولة في كتاب الدكتور جلال أمين .. إذا أذن الله.

عدم معاداة الدين
فيما يتعلق بالدين يخبرنا الدكتور جلال عن والديه فيقول،عن والده الأستاذ أحمد أمين في الصفحة 303 :
(ورغم أن أهم كتاباته كانت تدور حول الإسلام،لم يكن متدينا بمعظم المعاني الشائعة اليوم. إني لا أتذكر مثلا أني رأيت أبي وهو يصلي،ولا أذكر أني رأيته وهو يقرأ في المصحف،إني أتذكر اعتذاره عن الصوم بسبب مرض أو آخر). ثم (يمرر) عبارة أخرى فيقول في الصفحة 319 : (نعم، لقد مرت بأبي فترة كان موقفه من الدين ينطوي على بعض الفتور أو الشك،ولكني لا أظن أنه فقد في أي من الأوقات ثقته في دور الشعور الديني في استعادة الأمة لفتوتها وشبابها). أما والدة الدكتور فيقول عنها في الصفحة 304 :
( أما أمي فلم تكن أكثر تدينا من أبي). ثم يخبرنا الدكتور جلال في نفس الصفحة :
( لم يتخذ أي منا قط أي موقف عدائي من الدين،لا جهرا ولا سرا،ولكن كان هناك بلاشك نوع من قلة الاهتمام بما إذا كانت شعائر الدين تؤدى كاملة أو ناقصة،ولا أذكر أن أبي أو أمي اتخذ أي موقف يحاول به إعادتنا إلى حظيرة الدين.).
لسنا قطعا في (محكمة للتفتيش)،ولكن بعض التساؤلات الصغيرة خطرت في بالي وأنا اقرأ ما كتبه الدكتور جلال عن (الدين). بعيدا عن كون الإنسان – أي إنسان- وجد نفسه من أسرة مسلمة،ألم يلفت نظر الدكتور هذا الدين - الإسلام - الذي يشترط في المسلم – ليكون مسلما – أن يشهد أن محمدا رسول الله،و عيسى رسول الله،وموسى رسول الله،وصولا إلى نوح عليهم جميعا الصلاة والسلام؟!!! أليس الإسلام لافتا للنظر حين نجد المسلم يقف ليتعبد الله بطريقة صنع السدود ؟! ({آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً }الكهف96 .
لا يتعبد المسلم بطريقة صنع السدود فقط،بل يتعبد كذلك بطريقة تكوين الجنين،وغيره،وغيره من الأمور التي تلفت النظر،والتي تسببت في دخول كثير من العلماء غير المسلمين – غربا،وشرقا- في الإسلام،مثل الفرنسي الدكتور موريس بوكاي ... والذي ألقى محاضرة في الأكاديمية الفرنسية عن العلوم التي اكتشفت حديثا،ولكنها موجودة في القرآن الكريم،قبل اكتشافها بأكثر من ألف سنة. .. ألم يلفت نظر الدكتور – وهو الاشتراكي السابق – خروج نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم بسبب الجوع،ومعه أبو بكر الصديق،وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما،بينما ينعم أغنياء الصحابة رضي الله عنهم جميعا؟!! ألم يلفت نظر الدكتور أن نبي الإسلام صلى اله عليه وسلم،يستأذن (طفلا) في أن يسقي قبله من هم أكبر منه سنا،ممن يجلسون في اليسار،بينما يجلس الطفل عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم،وفي النظام الإسلامي،من يجلس في اليمن يشرب أولا أيا كانت مكانة،أو سن،من يجلس في اليسار؟!! ألا يلفت النظر أن ذمة الإسلام بريئة ممن بات شبعانا وجاره جائع؟
الهدف من الأسطر السابقة،أننا كنا نتوقع من الدكتور جلال أن يدرس الإسلام بعمق كما درس الاشتراكية،وغيرها من النظريات،وكما قرأ عن القومية العربية،,خصوصا حين .. ( ضعضع انبهاري بالوضعية المنطقية من انبهاري بالماركسية،شاهدت من تطورات الحياة في الغرب ما ساعد على مزيد من ضعضعة الاثنين.) ص 311.
في نفس الإطار،نتذكر حديث الدكتور جلال عن الرسالة التي حصل بموجبها على درجة الدكتوراه،وعدم فائدتها من الناحية العملية، كنا نتمنى،أن يوجه عنايته إلى (الوقف ) في الإسلام، وهو الذي قال عنه عند حديثه عن الشيخ عبد الوهاب خلاف،في الصفحة 112 :
( كان المقرر الذي يحاضرنا فيه – نظام الوقف – قد فقد الكثير من أهميته،بسبب قيام الثورة بإلغاء الوقف الأهلي،وكنت وقتها أصغر من أن أدرك خطأ هذا الإلغاء،وأن هذا النظام كان من الممكن،لو أحسن تطبيقه،أن يساهم بدور فعال في التنمية،والنهوض بمستوى التعليم والصحة،ومختلف المرافق الاجتماعية).
شيء بهذه الأهمية ألا يستحق دراسة معمقة،بعد أن اكتشف الدكتور الدور الفعال الذي يمكن لنظام الوقف أن يلعبه؟!
السادات،أباظة،المحجوب .... الكويت!!!!!!
تعهد الدكتور جلال بأنه لن يخفي أسماء الشخصيات العامة التي يتحدث عنها،في هذه المذكرات،وقد كان قاسيا بالفعل،أو أبدا وجهة نظره بعنف – إن جاز التعبير- عن أشخاص مثل الرئيس أنور السادات،و الدكتور رفعت المحجوب،و ثروت أباظة،وهذا كله مفهوم – قدم له الدكتور ما يبرره- ولكنني لم أفهم موقفه من الكويت،وخصوصا تكراره لذلك الموقف،بشكل لافت!!!!
( .. كان الكويتيون مكتفين بأنفسهم،إلى حد كبير ولا يميلون إلى أي نوع من التآلف مع الوافدين العرب) ص 129. وأيضا :
( في الكويت لم ألمس مثل هذه المشاعر ( مشاعر اليمنيين – محمود) نحو مصر والمصرين إلا عند بعض كبار السن،ولم ألمس مثلها قط عند شباب الكويتيين. قال لي أحد المسئولين الكويتيين مرة معبرا عن أسفه لجهل معظم الشباب الكويتي بفضل مصر على الكويت : " إنه يرجح أنه لو فتح كويتي أدراج المكاتب الحكومية بالكويت لوجد في بعضها أقلاما وكراريس مكتوبا عليها ( هدية من المملكة المصرية)،ترجع إلى أيام الملكية في مصر عندما كانت الكويت فقيرة لدرجة اضطرارها إلى الاعتماد على كرم الحكومة المصرية وسخائها في إرسال المدرسين وبعض المواد التعليمية إلى الكويت دون مقابل) ص 131.
مداخلة :
تعمدت الإطالة في نقل كلام الدكتور جلال لأنه يكشف عن إحساس بالمرارة!! لذلك رأيناه يُذكّر الكويتيين بفضل مصر، وهو فضل اعترف به المسؤول الكويتي،ولا يمكن لأحد أن ينكره- لا على الكويت وحدها،بل على معظم،إذا لم نقل كل الدول العربية،التي كانت فقيرة،وفي طور التأسيس- فهل تبرع الكويت لمصر،بعد أن اغتنت الكويت،بقيمة تلك الأقلام،والمواد التعليمية،ومرتبات المدرسين- بحسب قيمتها في ذلك الزمان- .الخ هل يكفي ؟!!
إن العلاقة بين الأشقاء،حين لا تخفي وراءها هدفا سياسيا – وكذلك كانت الخدمات التي قدمتها مصر لشقيقاتها العربيات،في ذلك الزمان،أو هكذا نظنها- أو غيره من الأهداف،لا يمكن أن يتحول إلى (منة) يمن بها هذا الطرف أو ذاك... الميزان الذي يجب أن توزن به المعونات التي يقدمها الطرف العربي – أو المسلم – المقتدر للطرف الأقل قدرة،أو المحتاج،يجب أن يكون بعيدا عن (المنة)،وبعيدا عن أن يعير الغني الفقير بما يقدمه له من معونات.
ولعلي هنا أعرج على رأي آخر للدكتور جلال جاء في الصفحة 133 :
(كذلك لم أشعر بذلك التقارب والاتفاق في المشاعر والمشارب،اللذين شعرت بهما في كل البلاد العربية التي زرتها (المفروض أن يقول باستثناء الكويت!! – محمود) عندما زرت إستانبول،مما جعلني أشعر بغلبة رابطة اللغة والثقافة على رابطة الدين).
يجب ألا ينسى الدكتور جلال أنه غير شديد الحماسة للدين ( أو كما قال عن نفسه : " يمكن أن أجمل هذه الاختلافات في القول بأن نظرتي للتراث كانت سوسيولوجية أكثر منها ميتافيزيقية،وتعاطفي مع الدين واحترامي له وحرصي على حمايته ينبع من تعاطفي مع أمتي واحترامي لها وحرصي على حمايتها وليس العكس" ص 315) لذلك من الطبيعي أن يكون إحساسه برابطة الدين أقل بكثير من رابطتي اللغة والثقافة.
أتذكر هنا قصصا كان يحدثنا بها معلم الجغرافيا في المرحلة الثانوية،والذي أخبرنا عن زيارته لبعض الدول الشيوعية،وكيف كان المارة يجهشون بالبكاء، عند رؤيتهم أستاذنا ومن معه،يؤدون شعائر الصلاة... رغم أن المارة لا يفهمون اللغة العربية.
لعلي أذكر للدكتور حادثة لم أشهدها – فلست كبيرا إلى تلك الدرجة – وهي أن الملك فاروق حصل من الحكومة السعودية على قطعة أرض،في المدينة المنورة،ليبني عليها قصرا،يكون مقرا له عند زيارته المدينة المقدسة. بعث الملك فاروق بمواد البناء،ومعها العمال المصريون،فكان ذلك مشهدا يستحق (الفرجة) فلم يكن أحد يتصور أن المصري – الثري جدا في ذلك الزمان- يحمل مواد البناء،ويبني ..الخ تلك الأعمال. .. كل ذلك يا سيدي ضمن قول الحق سبحانه وتعالى : { وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ }آل عمران140
نعود إلى موقف الدكتور جلال من الكويت،والتي يقول عنها في الصفحة 240 :
(وقد استمرت إقامتي في الكويت أربع سنوات ونصفا،ولم تعد لي بعد تركي لها أي رغبة في العودة إليها إلا لحضور ندوة أو مؤتمر ليوم أو يومين،ولم يستمر سروري بالإقامة بها أكثر من عام واحد بدأت بعده المنغصات (..) فبقيت دون أن تعود إليّ راحة البال أو الرضا عن حياتي بالكويت (..) فأمسكت بهذه الفرصة ( الذهاب إلى أمريكا – محمود ) بكلتا اليدين،وانصرفت من الكويت غير آسف).
ويقول أيضا،في الصفحة 242- 243 :
( أو ليس الكويت بلدا حقيقيا؟ قال لنا مرة أستاذ مصري ظريف ممن عاشوا في الكويت مدة طويلة : إن الكويت تذكره بما كنا نفعله أحيانا ونحن أطفال إذ يقول أحدنا للآخر : (( تعال نلعب مدرسة!)) أو (( تعال نلعب دكتور ومريض!)) هكذا الكويت في نظر هذا الأستاذ مجموعة من الناس قرروا أن يلعبوا،أو قرر لهم أحد أن يلعبوا،فأنشأوا دولة لها علم وسلام وطني،وحكومة وبرلمان،وجامعة ومستشفيات وبوليس ومحاكم .. إلخ.
والتشبيه مبالغ فيه بالطبع. ولكن من الممكن فهم المقصود منه عندما ترى الشوارع الرائعة بالغة الاتساع والمضاءة إضاءة باهرة (..) ولكن دون أن ترى شخصا واحدا يسير فيها،أو مطاعم ومحلات وفنادق فاخرة فيها كل ما تجده في مطاعم ومحلات وفنادق باريس أو لندن،ولكنك تشعر فيها بوحشة شديدة لقلة من فيها من الناس. وأنت حيثما ذهبت،على الأقل طوال السنوات التي قضيتها في الكويت،تفتقد بشدة منظر امرأة من أي نوع،ومن أي جنسية.).وحين يذهب الدكتور بأسرته إلى المسبح،ويسمع ضحكات الأولاد والزوجة، فذلك :
( مما يصرف عن ذهنك فكرة أنك قد أذنبت في حق أولادك وزوجتك بمجيئك إلى الكويت).
يتعجب الإنسان من هذه المرارة التي تبدو في حديث الدكتور جلال عن الكويت!! ونتعجب مرة أخرى حين يحدثنا الدكتور عن الفنادق الفخمة،والمحلات الفخمة .. إلخ. فهل تبنى تلك الفنادق – وهي جهات استثمارية – للفراغ؟!! كما أتعجب من عدم رؤية الدكتور للناس،وخصوصا جنس النساء!! فهل يسجن الكويتيون من يأتي للعمل في بلدهم في أحياء خاصة بالمقيمين؟!! أقول ذلك وفي ذهني مفارقة عجيبة مفادها أنه في الوقت الذي يشتكي فيه الدكتور جلال من عدم رؤية أية امرأة،كانت الفتيات الكويتيات يعدن إلى ارتداء الحجاب،وذلك يعني أن الكويت بها شابات خلعن الحجاب،ثم عدن إليه،وقد أثار ذلك غضب إحدى مناصرات سفور المرأة،فكتبت مقالة في مجلة المجتمع ( أي مجتمع،في بلد يخلو من البشر؟!!) الكويتية،بتاريخ 13 / 3 / 1979م :
( الحجاب كله نفاق ورياء،والعودة إلى الحجاب هو عودة فاشلة للتستر أكثر منها للتدين(..) أفاجأ بأن العباءة تعود من جديد خاصة وأن فتيات الجامعة بدأن في لبسها){ د. صلاح الدين جوهر ( المرأة العربية المعاصرة إلى أين؟)/ القاهرة/ دار آفاق الغد/ 1402هـ } .
يعني يا دكتور جلال في الكويت نساء،يخلعن الحجاب،ثم يعدن إليه،أليس ذلك من العجائب؟!!!!!!!!!
عجيبة هي الكويت حتى الموسيقى والقراءة لا طعم لهما فيها!!! يقول الدكتور في الصفحة 243 - 144:
( الشيء الغريب حقا،وهو ما قد يصعب أن يدركه من لم يعش في مكان كالكويت لفترة طويلة،هو أن القراءة،التي كانت تشغل جزءا كبيرا من وقتنا في القاهرة،أو حتى الاستماع إلى الموسيقى،وهما ما قد تظن أنك لابد أن تمارسهما بدرجة أكبر في بلد كالكويت،حيث لديك الوقت الكافي لأن تفعل أي شيء،سوف تجد نفسك أقل رغبة بكثير في ممارستهما مما كنت من قبل. ليس من السهل تفسير ذلك،ولكني أظن أن السبب هو أنه كما أنك لا تستطيع القراءة أو الاستماع إلى الموسيقى بسهولة في مكان صاخب يعج بالحركة والضوضاء (..) إذا كان كل هذا قد يمنع من استغراقك في القراءة أو يضعف من رغبتك في الاستماع إلى الموسيقى،فإن العكس بالضبط قد يؤدي إلى نفس النتيجة. فالراحة المفرطة وخلوّ حياتك من أي إثارة أو أي قلق من أي نوع،ورتابة الحياة وخلوها من أي حادث مهم (..) يضعف ميلك إلى اتخاذ قرار بالجلوس للقراءة أو الاستماع إلى موسيقى.(..) نعم، قد تقرأ وقد تسمع بعض الموسيقى،ولكن حتى القراءة والموسيقى تفقدان في الكويت جزءا كبيرا من متعتهما لنفس السبب الذي تفقد بسببه أبهتها مصابيح الكهرباء الباهرة في الشوارع،وتفقد بسببه الفنادق والمحلات الفاخرة،بل و في كثير من الأحيان أنواع الطعام الفاخرة نفسه،طعمها ونكهتها التي كانت لها في بلد آخر).
لم ننقل كل معاناة الدكتور جلال في الكويت،ولكننا نشير في ختام هذا النقل، إلى بعض حسنات العمل في الكويت،والتي ذكرها الدكتور،وهي بطبيعة الحال كلها مادية،فقد صرف من مدخرات عمله في الكويت وهو في أمريكا،كما اشترى كوخا، أو شيئا من هذا القبيل،في لندن،وأصبح يقضي فيه الإجازة الصيفية،ويؤجره بقية الأشهر للأستاذة الزائرين،أو ما شابه ذلك.
إذا كان الدكتور جلال قد شد الرحال من الكويت،عند أول فرصة لاحت له،فنحن أيضا نغادر محطة الكويت التي سببت كل ذلك الملل للدكتور.
سوف نتوقف عند بعض المحطات التي أعجبتني،وأولها موقف الدكتور حسين خلاف،يقول الدكتور جلال في الصفحة 114 :
( قصدته مرة في منتصف الخمسينات،وكنت قد تقدمت بطلب التعيين في وظيفة معيد في كلية الحقوق،وكان وقتها رئيسا لقسم الاقتصاد بالكلية،وكنت أطمع في تأييده لطلبي،فسألني عن ترتيبي في التخرج فقلت له : إني الرابع،فصمت برهة ثم قال : كل ما أستطيع أن أعدك به هو أني لن أسمح بأن يعين الخامس بدلا منك،ثم أردف،هل تفهم ما أقول؟ قلت : نعم. قال : بارك الله فيك.).
يلفت الدكتور جلال،نظرنا إلى السلوك العجيب لبعض الناس،وذلك حين يخبرنا عن أحد اصدقاء صباه :
( .. لم أره قط بعد تخرجه إلا حزينا متأثرا بما يراه من حال المرضى الفقراء والمعاملة التي يلقونها في مستشفى قصر العيني. وكان يقص علينا قصصا كثيرة مؤثرة عن رجال أو نساء أتوا إلى قصر العيني من أقصى الصعيد وهم لا يكادون يملكون ثمن تذكرة السفر،و اضطروا للعودة دون علاج لأنهم لم يجدوا سريرا في المستشفى(..) كان الحل الذي وقع عليه اختيار صديقي الرقيق،هو أن يترك مصر كلها ويبحث عن عمل مناسب في الخارج،لا يعرضه لرؤية مثل هذه المواقف الصعبة.وانتهى به الأمر طبيبا وأستاذا في جامعة مرموقة في الولايات المتحدة(..) هو حل لا بأس به من بعض الوجوه،وإن كان يخطر ببالي أحيانا أن هناك شيئا من الغرابة في أن يكون حل مشكلة المرضى الفقراء في مصر هو الاشتغال بعلاج المرضى ميسوري الحال في أمريكا.) ص 71-72.
من العبارات اللافتة،قول الدكتور – بعد مقابلته للدكتور روبنز،المشرف على رسالتة للماجستير- في الصفحة 145:
(كان جهلي حينئذ بمقدار جهلي،أمرا مفيدا للغاية،إذ لو كنت أعرف قدر هذا الجهل وأعرف في نفس الوقت أهمية هذا الرجل الذي عين مشرفا عليّ،لو عرفت ذلك لما استطعت أن أفتح فمي بكلمة واحدة في تلك المقابلة.).
يبدو أننا في طريقنا للعودة إلى الكويت،ولكن بشكل إيجابي هذه المرة!! يقول الدكتور في الصفحة 249- 250:
( أتاحت لي وظيفتي في الصندوق الكويتي بعض الفرص الذهبية لرؤية بلاد لا أظن أني كنت سأحظى برؤيتها لو لا عملي بالكويت. ( ..) أثرت في نفسي جدية الباكستانيين وحماسهم،أو ما بدا لي كذلك،وحكمة الهنود ورصانتهم،وروح ماليزيا الشابة وحيويتها،وسلبية الإندونيسيين ويأسهم من الإصلاح،وصرامة أهل سنغافورة وانضباطهم،وبؤس بنجلاديش وقلة حيلتها،وبراءة أهل نيبال وطيبتهم.).
للدكتور جلال ملاحظة جديرة بالاهتمام،ذكرها في إطار حديثه عن شعب نيبال،والذي يتميز بروح، مرح ودعابة :
(أكثر من 90% من السكان يعتمدون على الزراعة ( لابد أن هناك علاقة بين ارتفاع نسبة التصنيع وثقل دم الشعب). ص 253... المشكلة الحقيقية إذا كان الشعب لا يزرع،ولا يصنع ولا يتمتع بروح الدعابة!!!
من عبارات الدكتور جلال،ننتقل إلى عبارة للإيرلندي الساخر برنارد شو،قالها عن التدريس والمدرسين :
( .. " من يعرف كيف يقوم بعمل ما،يقوم به بالفعل،ومن لا يعرف،يقوم بتدريسه".
هناك بعض الصحة،بلاشك،في هذا القول،ولكنه قاس أكثر من اللازم. فالمدرس ليس دائما شخصا فاشلا دفعه فشله إلى الاشتغال بالتدريس،بل قد يكون دافعه إلى ذلك بعض الصفات الطيبة للغاية (..) والشخص المفرط في خجله من الناس أو خوفه منهم،أو المفرط في الحساسية،لا يمكنه فيما أظن أن يكون أستاذا ناجحا. وكذلك الشخص الثرثار بطبعه،أو العاجز عن رؤية ما يضحك في موقف ما،أو الذي يسئ تفسير ما يرتسم على وجوه تلاميذه أو المستمعين إليه ..إلخ. المدرس الناجح يحتاج إلى صفات تقترب من صفات الممثل الناجح : لابد أن يهمه أن يحصل على إعجاب الناس وتصفيقهم،وتسرّه بشدة رؤية وجوه المستمعين أو المتفرجين وقد علتها ابتسامة أو تعبيرات الدهشة أو الانفعال،ناهيك بالطبع عن قوة الصوت ووضوح نبراته وبعض الفصاحة. لابد أن بعض هذه الصفات تتوافر فيّ بدرجة معقولة،وإلا ما ظللت راضيا عن نفسي (..) ولكن وظيفة التدريس أتاحت لي أيضا مزايا أخرى كانت ذات أهمية كبيرة لي. فقد وجدت أن أفضل طريقة لفهم المشكلة المعقدة أن يضطر المرء إلى تدريسها،إذ إن الطلبة رقباء ممتازون على درجة فهم الأستاذ لما يقول،وهذا يجبر الأستاذ،ما لم يكن نصابا،على فعل المستحيل حتى يصبح قادرا على مواجهة أي سؤال لتوضيح ما يقوم بشرحه. (..) فالمحاولة المستمرة للتعمق في الفهم استعدادا لمواجهة التلاميذ كثيرا ما تقود الأستاذ إلى أفكار جديدة قد يكون بعضها ذات قيمة. والحقيقة أنني مدين للتدريس بكثير من مقالاتي وكتبي،فإذا كان لبعضها بعض النفع فهو بلاشك نابع في الأصل من خوفي من أن أقول كلاما غير مفهوم). الصفحات 286 – 288.
التعليم بين الغاية والوسيلة
للدكتور جلال رأي لافت فيما يتعلق بالمدرسة،فهو يقول في الصفحة 65 :
(عندما أقرأ الآن ما كتبه أبي عن حيرة جدي،والجهد المضني الذي بذله لاختيار نوع التعليم المناسب لابنه (..) أشعر بالإشفاق على أبي وجدي على السواء. أشعر أيضا بالإشفاق كلما سمعت الآن عن حيرة الكثيرين من معارفي وأصدقائي لنفس السبب،والتضحيات الكبيرة التي يبذلونها لكي يتعلم أولادهم في مدرسة دون أخرى. ذلك أنه لم يعد لديّ شك في أننا نبالغ بشدة في أهمية المدرسة في تنمية القدرة العقلية للطفل أو تنمية حسه الخلقي. نعم،هناك بلاشك مدارس أكثر قدرة على إدخال البهجة في نفوس تلاميذها وأقل تعذيبا. ولكن لم يعد يخامرني أي شك،بعد ما شاهدته في إخوتي من ناحية،وفي أولادي من ناحية أخرى،وفي أصدقائي ومعارفي وأولادهم،في أن أثر الأسرة والمناخ السائد في البيت في التربية العقلية والخلقية أهم من أثر المدرسة،ولكن الأهم بكثير من هذا وذاك هو الاستعداد الفطري الذي يولد به الطفل.فإذا توفر هذا الاستعداد الفطري فما أسهل أن يعوض الجهد الشخصي عما فشلت المدرسة في تحقيقه.).
خشية الإطالة،يكفي أن أذكر أنني أشرت في وُريقات ( حتى لا يذيب الصمت ألسنتنا)، إلى ما أسميته (الحول الفكري)،الذي يقع الطلاب تحت طائلته،بسبب خطابين متنافرين،خطاب مدعوم من قبل الدراما المتلفزة،المتلفزة بالذات،تحث على،وتروج لاختيار التخصص الذي يحبه الشاب،أو الشابة،فهو – في أدنى صوره - رمز لإثبات الذات،والتمرد على السلطة الأبوية. الخطاب الثاني يحث على الاهتمام بمتطلبات السوق،أو التخصصات التي يحتاج إليها سوق العمل،أي التخصصات التي لها (مستقبل).
لا يبدو أن الدكتور جلال من النوع الذي يستثار غضبه بسهولة،وهذا موقف أثار غضبه ،وجعله يكتب مقالة غاضبة :
(ففي صيف 1980،عادت ابنتي من امتحان الشهادة الابتدائية الذي جلس فيه أكثر من 600 ألف تلميذ وتلميذة متوسط أعمارهم 11 – 12 سنة،ودخل معهم أكثر من نصف مليون أسرة مصرية تمثل أكثر من 5% من مجموع الشعب المصري. وأصابني الذهول عندما قرأت ورقة امتحان اللغة العربية.
فالامتحان يتكون من عشرة أسئلة ( بما في ذلك أسئلة الخط والإملاء) كانت أربعة منها تتعلق بالسلام. فسؤال المحفوظات يبدأ بالعبارة الآتية : (( أشرقت يا يوم السلام))، وسؤال النحو يطلب إعراب ((رفرفت راية السلام))،والفعل المضارع المطلوب استخراجه من القطعة هو (( يشيد العالم بحب مصر للسلام))،والموضوع المختار من موضوعات القراءة المقررة يتكلم عن استرداد مصر لقناتها ((لتثبت للعالم رغبتها في السلام)). بل ولم يجد واضعوا الامتحان في القرآن الكريم ما يطلب من التلاميذ شرحه إلا (( وجعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا))،ولم يجدوا في السيرة النبوية إلا أن (( مولد الرسول صلى الله عليه وسلم كان يوم السلام)) ...) ص 293.
في الختام،ولابد لكل شيء من خاتمة،أستطيع أن أقول بكل أمانة أنني استمتعت كثيرا بقراءة هذا الكتاب،كما قلت في البداية،وأكرره هنا عمدا،ولكن ذلك لن يمنعني من إبداء ملاحظة صغيرة. رغم أنني حين أنظر إلى فهرسة الكتاب أجد فها شيئا من التسلسل الزمني – إن صح التعبير- فهي تبدو هكذا : ( الإهداء- تمهيد- مقدمة – ولادة متعسرة – أبي وأمي – مذكرات أبي عن أمي – البيت – الإخوة السبعة ( هل هذا عنوان رواية – محمود) أصدقاء الصبا – مباهج الصبا – الجامعة – البعث – البعثة ..إلخ). أقول رغم ذلك إلا أنني أشعر أن الكتاب لم يأخذني معه – كقارئ – لننمو سويا .. ثم ندخل المدرسة سويا .. إلخ. الشيء الوحيد الذي أتذكره ... ( الشاي "الكمبليه" برأس البر ... في فندق ماذا؟ لعله .. رويال ...
ختاما،يقول الدكتور جلال،في آخر أسطر الكتاب عند الصفحة 394 :
(هكذا تحولت الذكرى المحزنة فجأة إلى حادث سعيد،وإذا بنهاية حياة حافلة بكل أنواع الحزن والسرور،تتحول إلى بداية واعدة بكل أنواع السرور والحزن).


محمود المختار الشنقيطي – المدينة المنورة
mahmood-1380@hotmail.com