لاشك أن التصور الذي يحمله الإنسان، ونظام القيم الذي يرتبط به، يترك أثره في سلوكه سلبًا أو إيجابًا، وينعكس ذلك الأثر -بطبيعة الحال- على سير المجتمع وبناء الحضارة برمته.. فما هي آثار القيم الإسلامية في بناء الشخصية وبناء المجتمع؟ سأسلك في الإجابة على السؤال الطريقة التالية: ‏
أ- بيان آثار القيم التربوية الإسلامية في الشخصية الإنسانية. ‏
ب- بيان ذلك الأثر في بناء المجتمع. ‏
‏(أ) آثار القيم التربوية الإسلامية في الشخصية الإنسانية: ‏
تعريف الشخصية: عرف بعضهم الشخصية: (بأنها وحدة متكاملة الصفات والمميزات، الجسمية والعقلية والاجتماعية والمزاجية التي تبدو في التعامل الاجتماعي للفرد، والتي تميزه عن غيره من الأفراد تمييزًا واضحًا، فهي تشمل دوافع الفرد وعواطفه وميوله واهتماماته وسماته الخلقية وآراءه ومعتقداته، كما تشمل عاداته الاجتماعية وذكاءه ومواهبه الخاصة ومعلوماته وما يتخذه من أهداف ومثل وقيم اجتماعية)(1). وقد عرفت مجلة علم النفس (المجلد الأول، العدد الأول) الشخصية Personnality‏، بأنها: (نظام متكامل من مجموعة من الخصائص الجسمية والوجدانية النزوعية والإدراكية التي تعين هوية الفرد وتميزه عن غيره من الأفراد تمييزًا بينًا) (2). ‏
بتأملنا هذين التعريفين يتبين لنا أنهما يرتكزان على البعد الذاتي الفردي الذي يجعل كل فرد من الأفراد في إطار مجتمع معين يتميز عن غيره من الأفراد في مجموعة من السمات والخصائص المتصلة بمختلف جوانب الشخصية.. والذي أريد أن أبينه هنا في حديثي عن أثر القيم التربوية في بناء الشخصية، هو تلك الخصائص العامة التي يصنعها الإسلام بطبيعة الفلسفة التي يقدمها للإنسان، والقيم والتي يدخلها إلى بنائه النفسي، بحيث كل فرد من أفراد المسلمين مهما تكن خصائصه، الوراثية الجسمية، البيولوجية والفيزيولوجية، فإنه يأخذ حظه من الآثار التي تولدها التربية الإسلامية في شخصيته، والتي يصبح بفضلها كائنًا يجمعه قاسم مشترك مع غيره من الأفراد داخل نفس المجتمع. ‏
إن أول شيء تثمره القيم التربوية الإسلامية في البناء الشخصي للإنسان المسلم هو تقوية صلته بالله عز وجل، إلى الدرجة التي تجعله يراقبه في السر والعلن، في كل حركاته وسكناته، فهو لا يقدم على شيء إلا وهو يراعي حرمة الله ويرجو له وقارًا.. ومعنى ذلك أن المسلم في علاقته بربه، يستشعر الخشية والخوف منه، في نفس الوقت الذي يتوجه إليه بالرجاء.. وذلك الخوف وهذا الرجاء يملآن قلبه بشعور عارم من التحرر من جميع المخاوف، لأنه يشعر بقوة أن الله وحده هو مالك أمره ومقرر مصيره، وإليه يرجع الأمر كله، هو الذي يملك تبارك اسمه أن يضره وأن ينفعه، أما غيره فأسباب عرضية ليس لهـــا من الأمر شيء. وهكذا فإن المســـلم الذي يتشـــبع بقيم الإسلام يتحــرر من الشعور بالخوف على الحياة، أو الخوف على الرزق، أو الخوف على المكانة والمـركز، فالحياة بيـــد الله، ليس لمخلوق قـــدرة على أن ينقص هذه الحياة ساعة أو بعض ساعة: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) (التوبة : 51)(3). ‏
وهنا، نؤكد على أن هذه الثمار الطيبة للقيمة الإيمانية، رد قاطع على من يخوضون في الأمور بغير علم ولا كتاب منير، فيدعون أن أسلوب الدين الإسلامي في زرع الخوف من الله ومن الحساب في الآخرة يتعارض مع بناء الشخصية الحرة النامية المستقلة. فهؤلاء الأشخاص ينكرون ضرورة توفر عنصر الخوف في التربية، لارتباط ذلك بطبيعة الإنسان. (وإذا كان لا بد من الخوف، فليكن ممن بيده ملكوت كل شيء، ولنسد أبواب الخوف بعد ذلك) (4). ‏
‏(وليس هذا ما يقرره المؤمنون بالدين فحسب، بل هذا ما يعترف به المنصفون من المتدينين والمنكرين على السواء. فمن الملحدين من يرى الدين خرافة، ولكن الخرافة لا تستقيم بدونه (...) ويقول الأديب الفرنسي الشهير "فولتير" ساخرًا: لم تشككون في الله، ولولاه لخانتني زوجتي وسرقني خادمي! ويقول ثالث: إني لا أعتقد في وجود جهنم، ولكن أعتقد أن الفكرة عنها قد باعدت بين كثير من الناس، وبين ارتكاب الشر) (5). ‏
إن من الآثار الواضحة لصلة الإنسان بربه، ذلك التركيز لفكر الإنسان وجهوده وطاقاته حول محور واحد هو الولاء لله ولرسوله وملة الإسلام، فهذا التركيز هو الدرع الواقي من التشتت والانشطار الذي يضرب الذات بعنف في غياب الإيمان بالله. وتزداد المسألة وضوحًا إذا أخذنا بعين الاعتبار خصائص مرحلة الشباب، التي يفيض فيها الأفراد حيوية وعنفوانًا، مما يولد لديهم ميلاً جارفًا إلى الاندفاع والانفعال والمجازفة، ومن هنا فهؤلاء الشباب في حاجة إلى كثير من التروي والتحلي بالصبر والاتزان في اتخاذ المواقف(6). ‏
وإذا كانت القيم التربوية الإسلامية وعلى رأسها القيمة الإيمانية، تترك أثرها في النفس والجسم، طمأنينة وسكينة، فإنها في ترابط عضوي مع تلك الآثار، تخلف أثرها الواضح في عقل الإنسان المسلم بفضل ذلك النسيج المحكم من الحقائق والتشريعات وأنماط السلوك التي يتصل بها كيان المسلم. يقول د. عماد الدين خليل مشيرًا إلى ذلك التحول النوعي الذي طرأ على عقل المسلم لدى اتصاله بالقرآن: إن (نسيج القرآن الكريم نفسه، ومعطياته المعجزة، من بدئها حتى منتهاها، في مجال العقيدة والتشريع والسلوك والحقائق العلمية، تمثل نسقًا من المعطيات المعرفية كانت كفيلة، بمجرد التعامل المخلص الذكي المتبصر معها، أن تهز عقل الإنسان وأن تفجر ينابيعه وطاقاته، وأن تخلق في تركيبه خاصية التشوق المعرفي لكل ما يحيط به من مظـــاهر ووقائـــع وأشياء) (7). ‏
وفي صدد تحليل العلاقة بين العقائد والأمزجة العقلية للناس، يصنف د. محمد سلامة العقائد إلى عقائد دينية وغير دينية، كل منها يؤدي إلى تشكيل نمط معين من الأمزجة، ثم يخص العقيدة الإسلامية بالتحليل قائلاً: (فالعقيدة الدينية الإسلامية مثلاً، يصاحبها المزاج المتفائل، الذي يعترف للفرد بكل حقوقه في الحياة، ويطالبه بالسعي لتأكيد الذات. ولهذا فهو مزاج يدفع للنشاط والعمل، كما يطالب الشخص بالسعي نحو المعرفة لإدراك الكون من حوله، وتحديد دوره ووظيفته في هذا الكون. وهكذا فالوعي في العقيدة الدينية وعي شمولي، يقوم على إدراك الذات والوعي بالكون كله. وهو في نفس الوقت وعي تقدمي يطالب بالتغيير والإصلاح عن طريق الفهم والبحث والابتكار والاختراع، ولذا فالإنسان في العقيدة الإسلامية طاقة حيوية مؤثرة، وليس كمًا سلبيًا) (8). ‏
وهذه الخصائص الشخصية الممتازة، هي وحدها التي تفسر سر ذلك الانطلاق الهائل الذي حققه الإنسان المسلم في كل ميدان من ميادين الحياة العلمية والإنتاجية، وتفسر لنا مدى الالتزام بمبدأ الإتقان في العمل، والحرص على اجتناب قبائح النفس ورذائل السلوك. ‏
إن أثر القيم الإسلامية في الشخصية لا يخص، كما سبقت الإشارة إليه، جانبًا من جوانب النفس دون الأخرى، بل إنه ليهيمن عليها حتى لا يدع دقيقة من دقائقها، إن تلك القيم الشاملة لا تجعل المسلم صدقًا في معاملاته وممارساته الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والتجارية، متعاونًا فيها على البر والتقوى، عفيفًا معتدلاً في تعامله معها وحسب، ولكنها لتنفذ إلى أعماق نفسه فتغرس فيها رهافة في الحس وشفافية في الذوق والضمير.. ( قال البخاري في سبب نزول قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) (الحجرات : 2): كاد الخيران أن يهلكا: أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم ركب تميم في السنة التاسعة للهجرة. وقد أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤمر عليهم رجلاً منهم، فأشار أحدهما بتأمير الأقرع بن حابس، وأشار الآخر بتأمير القعقاع بن معبد، وفي بعض الروايات أن أبا بكر قال لعمر: ما أردت إلا خلافي! قال عمر: ما أردت خلافك! وارتفعت أصواتهما، فنزلت الآيات.. فلما أخذا ذلك الدرس وعياه، ولم يعـودا يتحدثان في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الســــــــرار أو أخا الســـرار) (9). (وقـــد روي أن أبـــا بكر وعمر بعد أن انتهــيـــــا وأعلنا تأدبهما في القـــول مع رســـول الله صلى الله عليه و سلم نزل قول الله سبحــــــانه: (إن الذين يغضون أصواتهم...) (الحجرات : 3). فهكذا تتجاوب السماء معهم رقة كما تتجاوب معهم زجرًا لتصقلهم صقلاً كريمًا، وتطهرهم من كل ما يمس الذوق الرفيع أو يصدم الشعور النبيل)(10). ‏
وهكذا يتضح لنا الأثر البناء الذي تتركه القيم التربوية الإسلامية في الشخصية الإسلامية الإنسانية، بحيث تصوغها صياغة ربانية تمس كل موطن من مواطنها، وتهز كل وتر من أوتارها، لينخرط الإنسان بكل كيانه وطاقاته في رفع البناء الذي أمره الله برفعه، على هدى من الله. ‏
‏(ب) أثرالقيم التربوية في بناء المجتمع والحضارة: ‏
لقد رأينا في المحور السابق كيف أن القيم التربوية الإسلامية قد صنعت من الأفراد الذين تشبعوا بها كائنات فذة، تحمل من عناصر القوة والحيوية ما استطاعوا بفضله أن يواجهوا تبعات الحياة ومشاق السير في دروبها الوعرة... فإذا كان المجتمع ليس في حقيقته سوى مجموعة الأفراد الذين يتألف منهم، فمعنى ذلك أننا بإزاء مجتمع متماسك البنيان، راسخ الأركان، سائر إلى الأمام، مضطرد النمو، لأن الإسلام يعتمد في بنائه للمجتمع على أفراد أقوياء النفوس ممتلئين بالعزم والقدرة على الثبات. فكلما كان الطابع الغالب على المجتمع طابع هؤلاء الأفراد الأفذاذ، كلما كانت شبكته الاجتماعية شبكة متينة الإحكام. ‏
ومن هنا نخلص إلى الحقيقة التي يقررها القرآن في قضية التغيير الحضاري، وهي أن الإنسان هو الأساس في ذلك التغيير، مصداقًا لقوله تعالى: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (الرعــــــد : 11).. فسنة البناء والتغيير تمر من خلال جهد البشر وتفاعلاتهم. وحديث رسول الله صلى الله عليه و سلم (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرالجسد بالسهر والحمى) (11). هذا الحديث يعرض لنا صورة المجتمع الإسلامي في غاية التضامن والترابط والتساند، حتى لكأنهم كالجسد الواحد الذي يتأثر مجموعه بتأثر أي عضو فيه. ‏
وحتى لا يصيب التخلخل ذلك البنيان، فإن هناك جهازًا دقيقًا يحرسه داخل كل فرد مسلم، إنه جهاز المحاسبة للنفس.. هناك النفس اللوامة التي أقسم بها العزيز الجبار، لعلوها وعظم شأنها، ولضرورتها في استمرار الحياة سليمة، واستمرار مجراها هادئًا صافيًا من الأكدار.. فالكدورات التي ترين على المجتمع وتهز بناءه، إنما مصدرها النفوس التي تأصلت فيها أدواء الأنانية والأثرة، والكذب والحسد والخيانة.. فإذا ما خلصت النفوس من تلك العلل والأمراض، فإن أفراد المجتمع يكونون متعاونين على البر والتقوى، أي على كل ما تصلح به الحياة وتسعد به النفوس، من جلب للمصالح والمنافع والخيرات التي تخدم المجتمع في حركته نحو تحقيق أهدافه.. فسياسة الأمة وتسيير دواليبها وأجهزتـــها في ميــادين التعليم والقضاء والزراعة والتجارة والصناعة، لا مفر لها من الاعتماد على رصيد القيم التربوية. ‏
إن المجتمع المسلم لا يتألف من أفراد متقوقعين على أنفسهم، مستغرقين في ذواتهم، لأنهم يدركون أن ذلك يتنافى مع الغاية من الوجود التي لا تتحقق بغير التعاون واستشعار آصرة الأخوة. لقد حدد الإسلام العلاقات بين أفراد المجتمع، وأرسى قواعدها بإحكام، بحيث تؤدي إلى أمن المجتمع واستقراره وطمأنينته. ‏
ويمكننا أن نقول: إن كل الآداب والأخلاق والتشريعات التي جاءت في القرآن الكريم ذات صبغة اجتماعية واضحة، وإن الهدف منها تنظيم الحياة في المجتمع الإسلامي على أساس مبادئ العدل والمساواة والحق التي جاء بها الإسلام(12). إن مجتمعًا تسري في أوصاله مثل تلك القيم، لا يمكن أن يتسرب إليه الوهن والاختلال، لأن أفراده لا يكتفون بالوقوف عند حدودهم، فذلك حد أدنى، بل إنهم ليتجاوزون ذلك إلى تقديم العون إلى بعضهم بعضًا، وتفريج كرب بعضهم بعضًا، عملاً بما دعا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته. ومَنْ فرّجَ عن مؤمنٍ كربةً مِنْ كربِ الدنيا، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة) (13). ‏
والحقيقة التي ينبغي أن تظل حاضرة في الأذهان، هي أن المنهج التربوي الإسلامي كيان مترابط الأجزاء، تتشابك فيه العقيدة مع العبادات، وهذه مع الأخلاق، والكل يعطينا تلك الثمرة الطيبة التي هي الإنسان المسلم، وبالنتيجة المجتمع الإسلامي الفاضل. وعلى سبيل المثال، فالصلاة هي إحدى الوسائل التي يجسد بها المسلم قيمة العبودية لله عز وجل، يرغب الإسلام في إقامتها مع الجماعة ويرفع درجاتها إلى سبع وعشرين درجة، تأكيدًا لروابط المسلمين وتعزيزاً للتعارف فيما بينهم.. والزكاة عبادة اجتماعية، لا يخفى دورها في دعم بنيان المجتمع الاجتماعي والاقتصادي، من خلال ما تزود به بيت مال المسلمين، ومن خلال معاني المحبة والتكافل التي تشيعها بين الأغنياء والفقراء، وقس على ذلك بقية الفرائض. ‏
وإذا كان نظام القيم الإسلامي له ذلك الأثر العظيم في بناء الشخصية والمجتمع، فمن الطبيعي أن يكون له أثره في البناء الحضاري الشامل، وأساس ذلك النظام القيمي الإسلامي يستأصل نزعات الشر من النفوس، المتمثلة في الظلم والجبروت والتسلط على رقاب الناس والسعي إلى استعبادهم وإذلالهم لإشباع النزوات الفردية المريضة. ‏
والخلاصة من كل سبق، أن المجتمع الإسلامي والحضارة الإسلامية، لا يزالان قائمين ما دامت قيم الإسلام سائدة.. وكلما ضعفت وتلاشت، كلما كان ذلك إيذانًا بالانحلال وانفكاك عرى المجتمع والحضارة... إن تمثل النظام القيمي الإسلامي يمكن أن نجمله في كلمة واحدة تجمل معانيه وتجسد غايته، وهي كلمة العبودية لله عز وجل، وإن لحظات الصعود (في التاريخ الإسلامي الطويل، كانت تبدأ مع ساعات الإحساس الكامل بهذه العبودية لله، وتحولها إلى حركة كاملة، تحكم الفرد المسلم والمجتمع المسلم، وإن حالات (الهبوط) فيه كانت تتزامن مع فقد الإحساس، ولو إلى حين) (14). ‏
أثر القيم المادية في بناء الشخصية والمجتمع والحضارة
‏(أ) أثرها في بناء الشخصية الإنسانية: ‏
إذا كان نظام القيم التربوية في الإسلام يجمع شتات الإنسان ويركز طاقاته وإمكانياته حول مركز واحد هو الولاء لله عز وجل وابتغاء وجهه الكريم، فإن نظام القيم التربوية المادية يعصف بقوى الإنسان ويذهب بها طرائق قددًا، ويلحق بها تشوهات مريعة يتحول معها الإنسان إلى كائن مستلب، غريب عن نفسه وغريب عن الكون الذي يحيط به... فيصيبه الدوار والغثيان، ويشعر بالعبثية وانعدام معنى الحياة. إن الشخصية الإنسانية في ظل القيم المادية، وقد فقدت صلتها بخالق الوجود، تنجرف مع تيار التطور والتغير دون ضوابط ولا قيود، (وذلك لأن أداة الاختيار والتمييز في هذه الشخصية من عقل وضمير وإرادة ، فلت زمامها وفقدت السيطرة على نفسها، شأنها شأن الساعة التي أصابها خلل جعل عقاربها تتحرك بسرعة في كل اتجاه، فلم تعد صالحة لمعرفة الزمن، وهكذا فقدت هذه الشخصية القدرة على الاختيار السوي، فاندمجت تأخذ من هنا وهناك أي فكرة أو أي شيء دون قاعدة أو مبدأ) (15). ‏
وعندما يجد الإنسان نفسه وحيدًا، مقفرًا قلبه من نور السماء، فإنه يشعر بالخواء القاتل الذي يسحقه بغير رحمة، وعندها لابد أن يفعل أي شيء يوهمه بالإشباع والاطمئنان، ولن يجد أمامه غير الارتماء في أحضان الملذات يكرع منها كالكلب المسعور. ‏
وقد تأثرت نظرية التربية بذلك، فأصبحت ترى غايتها في إحداث التجـــانس في الرغبـــات بين أفـــراد المجتــمع الواحد. أما إذا تجانـــست فلا سؤال ولا استفهام بعد ذلك في خيرها أو شرها. وعلى المستوى الجمــــاعي، وجدت العصبية القومية حجتـــها لتبــــريـــر استكبارها على شعوب الدنيا واستعمارها للضعيف منها، فالإرادة القومية تعلو ولا يعلى عليها، وكل ما تمارسه حق لكونه إرادة قومية(16). ‏
والواقع أن بذل الجهد من طرف المنظرين الغربيين لإحداث التجانس بين الرغبات المتضاربة، هو ضرب من العبث وطلب المحال، فالرغبات الفردية التي لا يشدها أصل غير اللهاث وراء الإشباع المادي، لا يمكن أن تتجانس، لأن ذلك يتعارض مع الإشباع المادي نفسه. إن الإنسان المادي يمضي في تيار الشهوات إلى أن يسقط صريع المرض النفسي القاتل، الذي لم يزده الترف ووفرة المتاع المادي إلا تفاقمًا، لأنه كائن لا انتماء له بالمعنى الحقيقي للانتماء. ‏
وإذا كانت الرؤية الإسلامية للحياة ونظام القيم المنبثق منها، يؤديان بطبيعتهما إلى إقامة الانسجام والتكامل بين الإنسان والكون، بحيث يسيران بإيقاع متوازن، جنبًا إلى جنب، نحو تحقيق مراد الله في الوجود، فإن الرؤية المادية (ونظامها) القيمي يقودان حتمًا إلى ارتطام الإنسان بالكون، إذ العلاقة بينهما تصور في إطار المنظور المادي، في صورة الصراع الرهيب.. وكأن كلا منهما قد وضع في استقلال عن الآخر... وأن ما يجري بينهما خلال عصور التاريخ هو عملية سطو وعداء لا علاقة توافق وإخاء. لقد كان لهذا التصور الغريب عن حقيقة وجود الإنسان في هذا الكون، أثره المدمر على موقف الإنسان من العمل وما يتمخض عنه من إنتاج، وقد تمثل ذلك الأثر في تخريب الإنسان ما تفتقت عنه عبقريته العقلية، وما أنتجته يداه، فأصبح (كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا) (النحل : 92). ‏
لقد أصبحت فكرة الصراع هي التي تحكم حركة الإنسان المادي، الصراع مع كل شيء، مع نفسه، ومع الكون، ومع الآخرين، ولا مفر له من ذلك ما دام سجين النظرة المادية. ‏
ولا ننس، ونحن بصدد أثر القيم التربوية المادية في الشخصية الإنسانية ، أن الإنسان المادي بعد أن أرقته ليالي العذاب ورحلة المعاناة والشقاء، بدأ يتحسس الطريق التي تعيد إليه نفسه الضائعة ومعناه المستلب... ولكن لسوء حظه أنه كثيرًا ما يسقط في شراك الأدعياء والدجالين الذين يقذفون به في دوامة الشقاء من جديد، ولكن في أشكال جديدة تخلب الأنظار. وفي أحسن الأحوال فإن الغربيين قد انتهوا إلى دين (لا يمتد ظله إلى أكثر من الأخيلة والأحاسيس النفسية المجردة، فلا هو يملك سلطانًا على ما وراء ذلك، ولا هم يريدون أن يملك أي سلطان خارج حدوده النفسية هذه، ولكنهم اعتمدوه قيمة روحية قد تساعد في تخفيف الآلام النفسية التي يتعرض لها الإنسان الأوروبي، خلال مغامراته واندماجه وسط أمواج عاتية من الإباحية واللذة المطلقة) (17). ‏
ب- أثر القيم التربوية المادية في بناء المجتمع والحضارة: ‏
إن ذلك التفكك الذي عاناه، ويعانيه الإنسان الغربي على مستوى نفسه التي أرهقها الشرود عن الصراط المستقيم، كان لا بد أن ينعكس على جهاز المجتمع أو التنظيم الاجتماعي بالتهلهل والتحلل، حيث إن المجتمع لا يعدو أن يكون أشتاتًا من النـــاس الذين لا تجمعهم وحدة، ولا ينتظم عقدهم خيط واحد، إن كل الأمراض والنواقص النفسية من انحلال وتهالك على الملذات المحرمة والحسد، وسوداوية النفس، تنتهي بخنق المجتمع وامتصاص طاقاته، ووقف تطلعاته نحو الأفضل. ‏
لقد ضربت النظرة المادية نفس الإنسان الغربي وتركتها صفصفًا مهجورة من قيم الخير والاستقامة، وخرّبت بذلك المجتمع وقوّضت دعائمه وجففت منابع الخير والصلاح فيه، فقد ظهر بعد قرن كامل من الصراع المرير، أن الإنسان بطبيعته عاجز تمامًا عن إيجاد القيم المجردة عن المصالح الذاتية، لأن حبه لمصلحته حجب عنه حقيقة نفسه، وحال بينه وبين فهمها في شموليتها، وبالتالي بينه وبين وضع نظام القيم التي تستجيب لتلك الشمولية. وكان من نتائج الفرويدية تقويض دعائم الأسرة ونسق ضوابطها، بسبب الفوضى الجنسية التي طبعت علاقات الأفراد، ومن خلال الانحرافات التي أغرقت الناس في مستنقع الأمراض الجنسية، وألقت بهم في جحيم من القلق والأمراض النفسية لا يطاق، أما البرجماتية فقد كان من نتائجها حدوث خلل في الحياة الاجتماعية، وهو أمر مترتب لا محالة على نظرتها التي تحقق المصلحة دون التفات إلى القيم الروحية ومبادئ الحق والعدل(18). ‏
وهكذا فإن النظرة المادية، قد فجرت في الإنسان طاقاته في إنتاج وتكديس المنتجات المادية، في نفس الوقت الذي ألقته في أتون التنافس المحموم على تلك المنتجات، فجعلت بعض الناس فريسة ونهبًا لبعضهم الآخر، ينهشه بغير رحمة، ويحوله من شريــك إلـــى أداة(19). ‏
وليس في هذه النتيجة تناقض مع ما قلناه سابقًا من أن القيم المادية كفيلة بامتصاص طاقات الإنسان وتوهين قواه، لأن العبرة بالمآل، فالكارثة وإن لم تحل بالشكل النهائي، فإنها ستحيق بالمجتمع الغربي ولو بعد حين، وفقًا لسنن الله في النفس والمجتمع، قال تعـالى: (وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدًا) (الكهف : 85).. فالبناء الاجتماعي الغربي وإن كان يبدو قائمًا، محتفظًا ببعض بريقه الذي يسلب الأعين المسطحة، فهو يحتوي في جوفه على جراثيم الموت والانهيار. ‏
ونخلص من هذا الحديث عن أثر القيم التربوية المادية في المجتمع، إلى الحديث عن أثرها في البناء الحضاري.. فكما سبقت الإشارة، فإن تلك الشروخ التي أحدثتها أمراض النفس في الكيان الاجتماعي لن يظل أثرها محصورًا في نطاق معين، بل إنها لتبتلع كل العناصر والمقومات التي تقوم عليها الحضارة. ولقد أجمع عقلاء الغرب على أن الذي سيذهب بالحضارة إلى حتفها هو العامل المادي، الذي هو أبعد ما يكون وحده كافيًا لتفسير الوجود الإنساني، وتقويم نجاح المسيرة الإنسانية أو إخفاقها. ‏
وبعد، فإن بعض هؤلاء العقلاء قد أدركوا بنفاذ، بعد التأمل في تجربة الغرب المريرة، أنها لم تفصل على حجم الإنسان ولم تراع أشواقه وتطلعاته، إنها انطلقت منذ بدايتها انطلاقة خاطئة، زجت بها في ظلمات، بعضها فوق بعض، فكانت النتيجة هي الحيرة والتمزق، والارتداد إلى أسفل سافلين، ليصبح الإنسان مجردًا من إنسانيته،ومن التكريم الذي أسبغه الله تعالى عليه. ‏

الشبكة الاسلاميه