صكّ الانتداب
مقالات ملفقة (30\2)
بقلم محمد فتحي المقداد
للاستعمار ألوان أدهاها خُبثًا من يجيء مُغطًّى بعباءة النّواحي الإنسانيّة والمساعدات؛ فبعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى، أُنشئِت (عُصبة الأمم) وهي أوّل منظمة أمن دولية هدفت إلى الحفاظ على السلام العالمية، كانت هذه المنظمة سلفًا للأمم المتحدة، تأسّست عقب مؤتمر باريس للسلام عام (1919)، الذي بموجبه انتهت الحرب العالميّة الأولى.
كما أنّ عصبة الأمم هي شِرعة دول الحلفاء المنتصرة في الحرب (أمريكا – فرنسا – بريطانيا- روسيا)، وضعت قوانينها الضّامنة لهم السّيطرة على العالم، واقتسام أراضيه وثرواته، أمّا الشقّ القانونيّ ما أرادوا لاغتنام تركات الدّول المحور المنهزمة (ألمانيا – تركيا – إيطاليا – اليابان). وقد وجدت في هذه الفكرة الدولتان الغربيتان فرنسا وإنجلترا ضالتهما المنشودة لتغليف مطامعهما بهذا القالب الجديد، الذي أتاح لهما احتلال الأقطار العربية المنفصلة عن الدولة العثمانيّة بِحجّة الوصاية على شعوبها.
وعلى إثر هذا المناخ المليء بتجاذبات الأطماع ظهر نظام الكتلتين الغربية بزعامة أمريكا، والشرقيّة بزعامة الاتّحاد السّوفياتي، بين عالميْن رأسماليّ واشتراكيّ، وظهر مصطلح الحرب الباردة التي انتهت بعد تفكّك الاتّحاد السّوفيتي، فصار العالم بقطب واحد تتزّعمه أمريكا.
لابدّ من هذا المدخل الطويل؛ لأستطيع الكلام عن الانتداب هدفي من هذه الملفّقة، وهوكما نصّ عليه ميثاق عصبة الأمم: (هو تمكين دولة تدعي مساعدة البلدان الضعيفة المتأخّرة على النهوض، وتدريبها على الحكم، حتّى تُصبح قادرة على أن تستقلَّ، وتحكم نفسها بنفسها). وفي الشرق الأوسط وتضم الدول التي "وصلت إلى درجة من التقدم تسمح بالاعتراف مُؤقّتاً بوجودها كدول مستقلة"، على أن تقدم إليها إحدى الدول المعونة الإداريّة، مندوبيّات ثلاث (سوريّة ولبنان نصيب فرنسا)، بينما (شرق الأردنّ وفلسطين والعراق من نصيب بريطانيا).
يُجمِع المُؤرّخون على أنّ الانتداب اتُّخذ ستارًا لرغبة دول الحلفاء في السيطرة على البلاد التي كانت واقعة تحت السيطرة العثمانيّة. في تموز (يوليو) 1920 احتّلت فرنسا سوريّا بالقوّة، وفرضت عليها الانتداب عمليًّا. وبعد ذلك بعاميْن، اعترفت عُصبة الأمم رسميًّا بالانتداب الفرنسيّ على سوريا ولبنان.
ولم تعترف فرنسا بالاستقلال السّوريّ إلا عام 1943 في الحرب العالمية الثانية، ولم تجلُ القوّات الفرنسيّة جُيوشها عن الأراضي السّوريّة حتّى نيسان (أبريل) 1946، حيث يوجد أيضًا الانتداب البريطانيّ لفلسطين الذي اتْبِعَ بقيام دولة "إسرائيل".
الموضوع كبير جدًّا بحيثيّاته وجُزئيّاته التي لا غنى عنها، وذِكرها يُثري الموضوع لإزالة بعضًا من اللّبس والتشويش لدى القارئ، خاصّة إذا كان بأهميّة هذه النقطة؛ لمساسها بحياتنا المتأثّرة انفعالًا بها منذ قرن مضى، ومازالت آثاره وتبعاته مُنسحبة على واقعنا إلى الآن.
بعد سفري قاصدًا العمل لفت انتباهي وظيفة مهمة منتشرة على نطاق واسع في الدوائر الرّسميّة وشركات القطّاع الخاصّ (مندوب العلاقات العامّة)، هذا المندوب مُفوّض بموجب التخويل القانونيّ بمُراجعة ومُتابعة كافّة معاملات وأشغال من كلٍّفه بذلك، ويستطيع التوقيع على المعاملات لدى دوائر الهجرة والإقامة والعمل وغيرها التي تستدعي مُتطلّبات الترخيص السنويّ وتأشيرات العمل. كما أنّ المندوب المالي وغير ذلك من مُسمّيات وظيفيّة، وانتُدِب الشَّخصَ للأمر: ندَبه، دعاهُ إليه، كلّفه إيّاه: أي انتدبه للقيام بمهمّة لفتح ملفّ الانتدابات، وعضو مجلس الإدارة المنتدب: هو المكلَّف بإدارة العمل على المستوى التنفيذيّ للشركة يُسمّى المندوب الموظّف المنتدب".
ومن ندَبَ شخصًا إلى أمرٍ: دعاه إليه، ورشّحه للقيام به، كمن ندَب شخصًا إلى الإشراف على بناء إنشائيّ، أو ندبَه لإنجاز صفقة تجارية أو تخليص معاملات التصدير والاستيراد، أو لإصلاح ذات البيْن بين خصوم، أو لتنفيذ مهمة قذرة بتفجير أو اغتيال وقتل، تتسّع فكرة المندوب لتتحوّل إلى ظاهرة مُتساوقة مع تطوّرات الحياة، لتشمل المُنظّمات الدوليّة التي تستقبل مناديب دول أعضائها، ويحصل أن يُرشّح الأمين العام للأمم المتّحدة إرسال مندب عنه لمهمّة يُكلّفه بها في منطقة مُعيّنة من العالم.
وقد ندبت الشاعرة الخنساء أخيها صخرًا بعد مقتله زمانًا طويلًا، وهي تُعدّد محاسنه وشجاعته ووسامته وكرمه ونُبل أخلاقه، وكلّ امرأة تحترفُ البُكاء على الميّت وتُعدّدُ محاسنه، وعلا صوتها أثناء تشييع الجنازة؛ فهي الندّابة وإذا كثر عددهنّ فهنّ النّدّابات، كما تندُب الأمّهات أبناءهنّ حين موتهم، والزّوجات أزواجهنّ، فبكت الخنساء على أخيها صخر حتّى عُميت ولهذا، نجد أنّ أغلب شعر الخنساء في الرّثاء، وأشهر ما يتردّد على الألسنة من قصائدها:
أعينيّ جودا ولا تجمُدا \\ ألا تبكيانِ لصخرِ النّدى؟
ومن أطرف المراثي التي وصلت عبر كتب الأدب، مرثيّة الشاعر الفارس (مالك بن الرّيْب) حينما رثى نفسه، وقد تخيّل مشهد موته ومصرعه، وهو ما زال على قيْد الحياة، والقصيدة من عيون الشّعر العربي في هذا النّوع من الأدب، ومنها اخترتُ:
ألا ليتَ شِعْري هل أبيــــــــــــــــــــــــــــــــــــتَنّ ليلةّ بجنب الغضا أُزجي القِلاصَ النَّواجِيا
فليت الغضا لم يقطع الركبُ عَرضَهُ وليــــــــــــــــــــــــــت الغضا ماشى الرِّكابَ لياليا
أُقلّبُ طَرْفي حـَـــــــــــــوْلَ رَحْلي فلا أرى به من عُيون المُؤنســـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــات مُراعِيا
وبالرّمل منّي نســــــــــــــــوةًّ لو شَـــهِدنَني بكين وفدّين الطبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــب المداويا
فمنهنّ أمّي وابنتاهـــــــــــــــــــــــــــــــــا وخالتي وباكيةٌ أخـــــــــــــــــــــــرى تُهيـّــــــــــــــــــــــــــــــــــــــجُ البَوَا كِيا
والموت من النّدوب التي تعلق زمانًا طويلًا في النّفس البشريّة، ومثلها نُدوب الجِراح، وندوب على الجِباه حفرة أخاديدها بعمق مآسي الحياة، ليتني أجيدُ الشّعر لأفعل كما مالك بن الرّيب وأرثي نفسي، لشعوري الدّاهم بأنّه لن يندُب عليّ أحد بعد فترة الشّتات التي أصابتنا، أفراد العائلة كلّ في بقعة من الكرة الأرضيّة ما بين الشرق والغرب، ولا أمل في لقاء قرب يجمع شمل المُشتّتين السّوريين.
عمّان – الأردن
30\ 11\ 2020