ماذا قال الله ورسوله عن القتال في سوريا؟
هل يوجد حسم فقهي وشرعي لتحديد البغاة والضحايا في هذه الحرب السوداء؟إنه السؤال نفسه الذي نعاني غربته وقسوته منذ ألف وأربعمائة عام، وحين اندلعت الحرب السياسية الطاحنة في فجر الإسلام كان علي وعمار وسلمان رضي الله عنهم، يقاتلون بكل عزيمة وصلابة ضد عائشة والزبير وطلحة رضي الله عنهم أجمعين.وهؤلاء الستة المنقسمون بين الفريقين منصوص على أنهم مبشرون بالجنة، وأنهم رعيل الإسلام الأول، وكان يتبعهم آلاف الناس، وعنهم روينا حديث إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار..
والمشهد إياه لم يزل يتكرر في كل فتنة وفي كل حرب داخلية، كما يتكرر اليوم بشكل صارخ في مشهد الجهاد والجهاد المضاد في لهيب الثورة السورية.في القتال ضد الروس صدرت الفتاوى المترافدة بوجوب الجهاد ضد الروسي وقتاله، عن مشاهير الشيوخ السوريين شيخ قراء الشام كريم راجح ورئيس رابطة علماء الشام الشيخ أسامة الرفاعي والشيخ سارية والشيخ راتب النابلسي، وهؤلاء المشايخ معروفون لكل سوري، ومنذ عقود يذهب السوريون إليهم ليعرفوا كل شيء في دينهم ودنياهم.والنظام أيضاً له فقهاؤه ومشايخه بدءاً من الشيخ البوطي رحمه الله وهو فقيه كبير لا يجادل في منزلته، وهو مستمر في ولده رئيس اتحاد مشايخ الشام الذي كان يرأسه أبوه، إضافة الى تيار المدارس الشرعية جميعاً مجمع كفتارو بتلامذته ومشايخه، ومجمع فرفور بالعمائم المائة التي تشكل هيئته العامة، ودكاترة الشريعة الذين يقرا الكل كتبهم التعليمية في المساجد وحلقات الجهاد، ومجمع الفرقان الشرعي ومجمع بدر الدين الحسني ومشايخ حلب العاملين في الأوقاف، وهؤلاء كلهم صدرت عنهم الفتاوى بالقتال إلى النهاية ضد الثوار، ووجوب حربهم وجوباً عينياً.وفي دعم التدخل الروسي ذهب فريق النظام من المشايخ في وفود إسلامية مثيرة إلى السفارتين الإيرانية والروسية يشكرونهم على دورهم (الجهادي) في سوريا ويترحمون على شهدائهم الأبرار، ويناشدونهم الاستمرار في الحرب ضد إخوانهم من المشايخ الذين يفتون بوجوب الجهاد ضد النظام وضد الروس، وبدون أن يرف لهم رمش أكدوا للروسي أن ما يقوم في سوريا هو أعظم الجهاد في سبيل الله.وعلى مستوى الفصائل الإسلامية المجاهدة فالمقاتلون لديهم جيش من الفقهاء والمشايخ والقضاة الشرعيين يدرسون كل مواقف الفصائل ويصدرون فيها الأحكام الشرعية المناسبة على هدي الكتاب والسنة.والأمر نفسه لدى داعش التي تباهي بهجرة دكاترة الشريعة إليها واختيارهم دار الخلافة على ما سواها من الأرض ولديهم حين يرتكبون أي لون من الفظائع يشردون به من خلفهم ألف تبرير مدجج بحجج الكتاب والسنة.والذين يقولون إن داعش لا فقه لها واهمون، فالقوم على الرغم من توحشهم وجنونهم ينطلقون من تأصيل فقهي وبإمكاننا أن نتابع على سبيل المثال صفحة الدكتورة ايمان مصطفى البغا التي تركت التدريس في كلية الشريعة والتحقت بدولة الخلافة وهي تكتب كل يوم بالأدلة الشرعية لما تقوم به دولة الخلافة من سلوك.ولكن الفصائل في حرب مع داعش وداعش في حرب مع الجيش الحر، والكل في حرب مع النظام، ولا تزال كل رصاصة قاتلة تنطلق مؤيدة بفتاوى لفريق من المشايخ الذين يرون فيها جهاداً وبطولة فيما يراها الآخرون رصاصة كفر وغدر وخيانة.لا أعتقد أننا نمارس أي نوع من المبالغة فيما نصفه من حال، فالأمر على الواقع أشد هولاً وأكثر فظاعة مما نرويه أو نحكيه ولدى القارئ أمثلة أكثر هولاً وشدة وواقعية.لقد صار واضحاً أن الاصطفاف إلى جانب الشعب المظلوم له فريقه المؤيد من الفقهاء ورجال الدين الذين يرفعون أصواتهم بوجوب الجهاد والقتال ضد النظام وحلفائه الايرانيين والروس، عملاً بكتاب الله وسنة رسول الله.ولكن المعسكر الآخر طافح أيضاً بالفقهاء ورجال الدين الدين يقسمون على منابرهم ومعاهدهم أشد المواثيق أنهم يقومون بواجب الجهاد ضد البغاة والخوارج تطبيقاً لكتاب الله وسنة رسول الله.وفي مشهد النصوص المتبادلة فبإمكانك متابعة قنوات الثورة الدينية سوريا الغد وسوريا الشعب وشامنا وقناة الجيش الحر، أو قناة نور الشام الدينية التابعة للنظام، فالآيات نفسها والأحاديث نفسها، والمحدثون هنا وهناك هم البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، والمفسرون هنا وهناك هم الطبري وابن كثير والقرطبي، والصحابة هنا وهناك هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي.ولكن كل فريق يستنتج موقفاً معادياً للآخر عبر الأدوات والوسائل والألات والشواهد ذاتها.فهل بعد هذا المشهد الصارخ من تأكيد لحقيقة قول الإمام علي كرم الله وجهه إن القرآن حمَّال أوجه؟والمشهد نفسه يمكنك أن ترصده في ثنائيات مشابهة في طول العالم الإسلامي وعرضه: في مصر حزب النور والإخوان، وفي تونس النهضة وأنصار السنة، فجر ليبيا والجيش الاسلامي في ليبيا، وجمعية العلماء والجهاديون في الجزائر، المحاكم الإسلامية وتنظم الشباب في الصومال، طالبان وحكمتيار في أفغانستان، السلفية الجهادية والسلفية العلمية،وهو بالتالي ليس شيئاً جديداً في تاريخ الحرب في الإسلام ، فالقتال بين السنة والخوارج كان قائماً على حجج راسخة من السنة والكتاب، والقتال بين الفاطميين والأيوبيين، وبين المرابطين والموحدين، إلى آخر الحلقات المتقاتلة في تاريخ الإسلام.متى سيدرك السوريون أن السياسة والحرب نشاط دنيوي محض، ينطبق عليه قول الرسول الكريم: أنتم أعلم بأمور دنياكم، وأن أصول الفقه مهما كانت راسخة ومتينة لا تستطيع إنتاج موقف فقهي موحد في كل حدث سياسي.بالنسبة لي لم اجد أي استدلال مقنع بالحرب لا عند هؤلاء ولا عند هؤلاء، ولا أخلط أبداً بين الجلاد وبين الضحية، ولكن عسكرة الثورة كانت قراراً خاظئاً، وأي نتيجة كانت ستأخذنا إليه السلمية هي أقل شراً وضرراً من المآل المريع الذي انحدرنا إليهليس المطلوب إعادة صناعة التاريخ ولا إعادة اكتشاف الدولاب، ولكنه بالضبط الدولة المدنية التي يعرفها العالم كله، ويحتكم الناس فيها إلى مصالحهم ومطالبهم، ويتحدث فيها رجل الدين كما يتحدث رجل الدنيا وفق مصالح من فوضوه وليس وفق نصوص الغيب التي يحتكرها وفق رؤيته، فهذه الآيات والأحاديث الواردة في الجهاد والقتال جاءت كلها في قوم غابرين، أصبحوا ذكرى من الماضي، ومن عجز العقل ان نرسم المستقبل بريشة الماضي، ولتأكيد هذه الحقيقة وردت الآية الكريمة الواضحة مرتين في القرآن الكريم: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون.