رؤية نقدية في
«ربيـع ورغيـف خبــز»القاصة سوزان ابراهيم حاصلة على إجازة في الأدب الانكليزي، وهذه القصة من مجموعتها القصصية «لأنني لأنك»، ولها مجموعة قصصية أخرى بعنوان «امرأة صفراء ترسم بالأزرق» وديوان شعر.
عنوان القصة ربيع ورغيف خبز، وهذا يعني اذا كان معك قرشان فاشتر بأحدهما رغيفاً والآخر زهرة، فاسم ربيع يحمل في طياته الزهور والرياحين والنرجس وعبق الورد، والرغيف أساس عيش الانسان ليتابع مسيرته الحياتية في إعمار الكون.
تبدأ سوزان القصة بكلمات قالها غجري وصارت دستوراً للبطلة تسير عليها في حياتها: «لا تنم يا بني عند الفجر ولا تدع الفجر يسبقك» ص19.
نحس امتزاج الحزن مع التفاؤل وبترقب انبلاج الفجر وتفتح وردة الشمس مع رشف القهوة وذكريات رحيله منذ عامين، ثم الزمن الحاضر والذهاب الى المكتبة، تدخل القاصة في التفاصيل وتحدد الأزمنة والأمكنة حين كانت البطلة تتسكع مع ربيع في شوارع دمشق وتحتفل بعيد ميلاده الثلاثين، فالزمان كان في أواخر شهر شباط قبل ثلاثة أعوام والمكان شوارع قريبة من جامعة دمشق، شخصيات قصصها دائماً من الطبقة المثقفة والمتعلمة ومتخرجة من الجامعة.
البطل ربيع كان مولعاً كثيراً بالقراءة وشراء الكتب حتى أنه أهدى مجموعة من الكتب لفتاة كانت تريد شراءها، لكنها أحجمت لغلاء سعرها، فقال لها: «أرجو أن تقبليها مني ومن خطيبتي هدية لك» ص22، ومرة أخرى تركز القاصة على المكان فسكن البطلة في شقة صغيرة في حمص بعد تخرجها من الجامعة وعملها أيضاً هناك.
ندخل مع سوزان في القصة ومع البطلة بشكل هادىء وسلس ونحلق بخيالنا الى عوامل تكاد تكون واقعية «هي بضع ساعات في العام أخلع فيها لباسي الأسود، أتزين كأي فتاة في ليلة عرسها- أرتدي فستان الزفاف الأبيض الذي اخترناه معاً بعد قرارنا بأن يكون عيد ميلاد ربيع عيداً لزواجناً أيضاً» ص23، ثم تعود بها الذاكرة من جديد وتدخل في تيار اللاوعي أي ما نسميه بالمنولوج الداخلي فقد زارها ربيع لأول مرة في منزلها بحمص وطلب منها بعصبية تحضير فنجان قهوة، بدا حزيناً وساخراً وساهماً كطيف يتغلغل في رداء الأثير ثم انتفض واقفاً مندهشاً ولأول مرة صرخ في وجهي «ألا تسمعين ألا ترين» ص24، ثم سقط على الأريكة غارقاً بدموعه، وسحب من جيبه لفافة تبغ وهي لم تره يدخن في يوم من الأيام، وكالعادة تترك القاصة شخصية ربيع لتعبر عن نفسها وعن مدى الحزن الذي يعتريها «سأمنح الجائزة لذلك الصاروخ الذي اخترق جدران ملجأ العامرية ببغداد» ص25.
وهكذا انتقلت القاصة ببراعة من الخاص الى العام، حيث تبدو المشاكل والهموم الذاتية لا قيمة لها أمام الهم الأكبر، فقد تم التقاء الهم الشخصي مع الهم العام في تلاحم مصيري محكم يقول ربيع: «أتخيل اللوحة أمامي أدمغة الأطفال المنفجرة الدماء المتناثرة، الحرائق وطبعاً لن أنسى كل اللوحات المشغولة بالدم والأشلاء في قانا وجنين» ص25.
ويتابع البطل «مرة أخرى تسقط بغداد وخيام العرب مازالت تناقش جرائم الشرف، وتفتي بأدق التفاصيل اليومية، وخيام العرب مافتئت تفصل الديمقراطية على مقاس زعمائها» ص26.
القاصة هنا تصور الواقع العربي الذي نعيشه بمرارته وقساوته وانعكاساته على رغباتنا وتطلعاتنا المختلفة ثقافياً واجتماعياً، فنرى مجزرة ملجأ العامرية ببغداد وقانا في لبنان وجنين في فلسطين.
قدمت القاصة مشاهد بصرية ولوحات مرئية أي أنها قد انضمت في قصصها الى لغة الفن السابع «السينما»، وذلك بإحاطة القارىء بالموقف أو الحال مع تكثيفه والتعبير عنه، واذا أضفنا الى ذلك عمليات التقطيع التي جرت على سرد الحاضر لصالح العودة بالذاكرة الى الماضي بلقطات قصيرة وامضة، خيم على المكان صمت مريع كصمت القبور ابتسم ربيع ثم تابع قوله: «سأفاجىء الفجر في الجنوب قبل أن يصحو» ص26، لقد كان قراره بالنسبة لها مذهلاً ومؤلماً، وهذا يعني إما أن يُقتل أو يعتقل وهذا ما كانت تحدث به نفسها بصوت ملؤه الخوف والارتعاش.
لكن ربيعاً كان فرحاً يريد أن يمارس كل فضاءات الحرية، ثم تبادل مع عروسه نقل الخاتم من الإصبع الأيمن الى الإصبع الأيسر، وقال لها: «نحن زوجان الى الأبد» ص27، وقبل جبينها وضمها اليه بقوة ثم بكى وقال: «اذا كنا نرتدي النار كيف نستطيع أن نخلعها» ص28.
في القصة رؤية فكرية واضحة تطمح الى الاستفادة من الواقع الأليم، الذي نعيشه، وتستغل القاصة ذلك في عملية ترميز عميقة تكتسب من خلالها الأحداث بعداً فكرياً واضحاً.
وفي زحمة هذا التنوع البنّاء تقف مجموع الأزمنة الحديثة لتجابه بشجاعة تامة هذا المصير المفجع والمدمر للإنسان العربي معتمدة في ذلك على مختلف التأثيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي تعمل على رسم معالم مجتمعنا العربي.
ولا تنسى القاصة أن تدخل في قصتها حاسة الشم، فاللغة عندها مزركشة ومزينة بألفاظ شاعرية مستوحاة من الطبيعة، وتفصح تلك اللغة بوضوح عن شخصية ربيع الريفية المنغمسة بعبق رائحة الأرض والتراب والقهوة وخبز التنور «يا إلهي كم هو لذيذ شمي هذه الرائحة، ألا تذكرك برائحة الأرض بتنور أمك مثلاً بسهول قريتنا، بغناء الحصادين، ألا تذكرك برائحة الأرض» ص28، ثم تعود مع بطلة القصة ومع المأساة، التي تعيشها بشكل لا حدود له، ولا ننسى ولع القاصة دائماً بضمير المتكلم «هي بضع ساعات أقضيها أواخر شباط من كل عام أرتدي فستان العرس، أحضر القهوة، ورغيف الخبز، أصنع باقة من النرجس، قرب صورته، أرتب الكتب الجديدة فوق الرفوف بعد أن أكتب على الصفحة الأولى لكل منها إهداء بمناسبة عيد ميلاده عيد زواجنا» ص28.
وتصل القاصة على لسان البطلة الماضي بالحاضر بتعبير مذهل ومثير «أهبط درج البناء مسرعة وقد تعالى زمور السيارة الواقفة عند المدخل أنضم الى مجموعة من زملاء العمل عبر زجاج النافذة، كنت قادرة على رؤية شجرة اللوز، التي تطاولت أغصانها المزهرة فوق سور حديقة الجيران» ص29.
د. عاطفة فيصل