" أوراق من زمن الحرائق"

خالد عبد اللطيف/ المغرب.
من شرب من نهرأم الربيع،سوف تحل عليه اللعنة،وسوف يعيش حياته متذمرا /باكيا/شاكيا.
فالسمكة النتنة تفسد باقي الأسماك،ومن غطى عينيه حتى لايرى الفسادغلبه الوهم وهزمه.
كم تمنيت أن تناديني الشحاريردون الغربان،ولكن تجري الرياح بما لاتشتهي السفن.
وقفنا معا أمام ذلك النهر،رأيت وجوها تخللها البأس واليأس،واحتمالات أخرىفي الرأس.
هنا فوق هذه الهضبة يرقد"سيدي بلقاسم"
صباح الخير أيها الرجل...
ناديتك من أسفل الوادي،فهل تسمعني؟ تقدمت نحوك أيها الساكن في الضفة الأخرى فهل تحاورني؟
أحقا تعرف أنني من هذه الضفة ناجيت زوجتك "رحيــمو"غازلتـها فـي غفـلة منك،أحــقا أنت لا تغار؟ أم أنك لم تعد ترغب في الحب؟.
سألني الكثيرون عن سبب عزوفك عن"رحيمو" ولم أجد جوابا،جرى النهربينكما،وقدرعليكما العذاب إلى يوم الدين.
قالوا لي: لقد غضبت عليها،يوم أوهمتك أنها لاتخرج في غيابك،ولاتعصي لك أمرا.
في لحظة عشقك لها،وضعت رأسك على بطنها،بقيت مسترخيا/متأملا حتى أخذتك سنة من النوم،ولما استيقظت في جوف الليل،تحسست مكانها،فوجدت نفسك وحيدا دون وسادة،ساعتها
قالت لك الجواري في إشفاق:
"مسكين أنت ياسيدي" بلقاسم" لاتعرف شيئا عن تلك الخائنة"
صباح الخير أيها الولي الصالح"بلقاسم"
حدثني بأحاديثك،ولاتخفي عني شيئا،أنا من جنس الرجال،نحن هنا معا،سنتفاهم تعال لنجلس في المقهى.
معذرة..أنت لاتحب المقاهي،لنجلس إذن في مغارتك المقدسة،هناك حيث توجد الشموع والدموع.
سأنصت إليك،ولن تزعجني الحقيقة،فقد تعودت على الصدمات،ولم يعد يعنيني شيء على الإطلاق.
بكيت يا سيدي" بلقاسم" ونحت،وندبت،وسألتك:
ـ ماذا أصابك أيها الولي الصالح؟ وما علتك؟
وقلت لي متأوها: آه من غدر النساء.
ساعتها عرفت أن"رحيمو" قدآذتك كثيرا،وماكانت لتفعل ذلك،لولا أنك طائش العقل،زائغ النظرات.
قلت لي: أنك عشقت نساء كثيرات وبلاحدود،وفي كل مرة تبحث عن أأعذارواهية لتحديد الفراق.
أصعب شيء في حياتك يا "بلقاسم" أنك كنت تريد أن تحتفظ بكل النساء.
سمعت أنك كتبت أشعارا كثيرة في التغزل بنساء كثيرات مثل حبات الحصى،وكانت الخاتمة
"رحيمو" التي أخلصت لك أيما إخلاص.
كنت تبحث عنها في كل مكان،تغار عليها من نسيم الصباح،انمحت بلغتك ياسيدي"بلقاسم" من كثرة الجري والهرولة،وتصاعدت أنفاسك لاهثة.
بكيت بكاء مرا،وهمت على وجهك في الفيافي والكثبان،وفي غيرة واضحة،غضبت "رحيمو" وأرسلت لها كل الشيوخ الثقاة لكي يصلحوا بينكما.
لقد وجدت أوراقك وقصائدك،بكت بسبب قصيدة شعرية تقول في مطلعها متغزلا بإحدى النساء:
فقلت لها إن البكاء لراحة به يشتفى من ظن ألا تلاقيا.
شرحت لها أن الأمر لا يتعلق بامرأة بعينها،لكنها لم تصدقك.
بعد توسل واستعطاف،عادت إليك"رحيمو" في حلة جدية،صدقت وعدها،حين قالت لك أنها لاتحب أحدا غيرك.
كم أنت رهيب يا"قويسم" في أحكامك القاسية،تكثرمن الأسئلة،ولايدور في خلدك غير الشك
والوسواس.
كم قلت لك:"دع عنك هذا الشك القاتل،فأنت مريض،وأناني،ولاتحب إلا نفسك، أنت الذي قتل رحيمو،أنا لا أصدق دموعك ولومرة واحدة.
أنت شهريار قاتل النساء،لا أحد يدري أنك لم تتزوج"رحيمو" قلت لها:
سوف نتزوج،خدعتها بمعسول الكلام،صدقتك ومنحتمك نفسها دفعة واحدة.
قلت لها بالحرف الواحد: أنت ولا أحد غيرك،أنت حبي الأخير"
قلت لاي فيما بعد: أن رحيموا قد خانتك في ليلة ممطرة،وأنك لن تنسى هذه الواقعة،وأنت تراها تهرب من أمامك،أوف إذن.
أعرف أيها الولي الصالح أنك استبدلت فحولتك بزهد غريب،،نأعرف أنك بعت الدنيا،واشتريت الآخرة،لكن رحيمو لاتعرف هذا المنطق،إنها تريد رجلا للفراش والسلام.
كان بإمكان"رحيمو"أن تنتظرردحا من الزمن،حتى تنتهي من صلواتك الروحانية،لتكون لها في النهاية،لكن رحيمولم تكن زوجة صالحة مثل"أروديس" التي انتظرت عودةزوجها أوليس" الذي تاه وسط البحار لسنوات طويلة،وحاكت الصوف تمويها لكل الطامعين في جسدها.
رحلت رحيموذات فجري شتوي،وتركت "قاسم" لاهيا بمداعبة نهرأم الربيع،لم يكن يعلم أن ماحكته الجواري كان حقيقيا،كل شيء بالنسبة إليه يختزل في عبارة طالما رددها على مسامع
أتباعه وحوارييه" حسبي الله ونعم الوكيل"
رحيمو تلك المرأة الفاتنة التي لخبطتت حياة"قاسم" دفنت رجولته في رحمها،ومن حبل سرتها
تناسلت الحكايات عن أشباح الليل الذين زاروا "قاسم" في مغارته وسلموه" الخبيزة" التي لايعرف أحد عنها إلا مارواه راوي الرواة خلسة للمتضعفين في الأرض الذين صدقوا الحكاية،وتداولوها فيما بينهم في السر والعلن،ولاكتها ألسنتهم في نواديهم الخاصة،وقال بعضهم" ستنبت شجرة الكرم عناقيدا من ذهب،وستوزع قلل السمن على الفقراء والمحتاجين"
في ليلة شتوية،استيقظ قاسم على صوت يناديه"
" أنائم أنت يامولانا،وكيف يحلو لك النوم،ورحيموا التي افترشت أهذابها منذ سنوات خلت،قدرحلت،لقد تركت لك الدين والدنيا،والعلم والعمل،والمال والآمال،واتخذت لنفسها مكانا قصيا،ومن أعالي الشجر ينزل عليها رطبا جنيا، ياقاسم " خذ الكتاب بقوة،فرحيموقد ملت جدران هذه الأضرحة والقباب،وضاق صدرها من روائح هذه الألوان المختلفة من البخور
ومعادنها.
رحيموأتعبتها مواسم الفروسية،وحلقات الجذبة والحضرة،وملت شطحات المتصوفة،وتوسلات
الدراويش،وتأوهات العوانس الباحثات عن فارس الأحلام.
رحيموهجرت تلك المغارات التي احتلتها أسراب من الحمائم،كانت كل صباح تشنف مسامعها بهديلها الحزين.
الذين أبصروا رحيل رحيموفي ذلك الفجر البارد،قالوا عنها أنها كانت تلبس شئا أبيضا أشبه ببرانس الرجال،وفي عينيها تنبعث شرارة متقدة،لا أحد فهم معناها أومغزاها،نظرات بعيدة كل البعد عما يختلج في نفوس نساء أخريات.
بكى بلقاسم في صمت،زوى مابين حاجبيه،وزم شفتيه في سكون غريب،أحس أن كل القباب التي تركه له أبوه،وكذا المغارات وقطيع ضخم من الخرفان والعجول ورياضات خضراء،
وحدائق غناء لامعنى لها،ولاقيمة لوجودها في غياب رحيموالتي كانت تبلل شفتيها برحيق مختوم،وماء زلال صبته العناية الربانية في براري خصبة،رفع نظره الى تلك الثلوج المتساقطة على رؤوس الجبال،هلل وكبر،بسمل وحوقل،لعل صدى الجبال يردد صوته ويوصله إلى حبية القلب رحيموالتي تركت عناوين متعددة لفضاء مجهول،طمع في لقائها ووصالها،لكن رحلتها كان أطول من سفريات سندباد البحري،ورحلات ابن بطوطة،ومغامرات كوسطو.
رحلت رحيموكما لم تفعل من قبل،كان قاسم ينتظر عودتها،يأمل في مجيئ البشيرحاملا إليه بشارة الخير،لكن جاء من يهمس في أ ذ ن بلقاسم أن رحيموا شوهدت وهي تجوب بلاد الله الواسعة،وأنها مستقرة الان في هولندا رفقة شاب أشقرالشعر، يشبه نرجس في جماله،ودون
جوان في جاذبيته،وأرلوند في بنيته القوية،لقد استبدلت البذلة بالعمامة،والنبوة بالتقنية،
والوحي بالتاريخ.
غضب قاسم،كما لم يغضب أي مرة،رفع أكفه للسماء،ابتهل لخالقه أن يعيد رحيموكما كانت
طفلة غرة ساذجة تسمع القول وتتبع أحسنه،وتنصاع لأوامره،وتنتهي بنواهيه،وتصغي لحديث نفسه،رمى عمامته على الأرض،وهويرغد ويزبد،لم يصدق ولوفي الخيال، أن تكون رحيمورفقة رجل آخر،كان يغار عليها من نسيم الشمال وريح الصبا وعاصفة الخماسيم وحرارة الشركي،وهجير الصحراء،لكنها الآن في أحضان شاب بلاشك قد علمها أشياء كثيرة،
وغرس في نفسها حب الحياة جملة واحدة لا بالتقسيط، وأن تعلم نفسها بنفسها،وإن لم تقرأ الكتب الصفراء،فالحياة خيرمدرسة،وصندوق العجائب كفيل بأن يلخص لها الحياة في لقطة واحدة، أومشهد مثير.
لن ينفعك بكاؤك ياقويسم،ولن تنفعك تمائمك ولارقياتك،ولن يجديك نفعا كتاب السحر الأحمر،أوكتاب" تسخير الشياطين في وصال العاشقين" فقد انقلب السحر على الساحر،وتحولت الشاة إلى ذئب كاسر،فماذا تنتظر بعد رحيلها.
أنت صامت والسماء تنتظر جوابك،وإن لم تجب فلن يكون بعدها سوى الخوف والألم والضياع.
ستبقى وحدك،أنت الذي تركتها في السابق،ورحت وراء نساء مختلفات من البيضاء الى الحمراء،ومن السمينة الى الهزيلة،ومن الممشوقة الفارعة الطول، إلى القصيرة الحدباء الأنف.
ألم تكن تردد ذلك البيت الشعري وثوقا منك بأن رحيمو لن تخونك أبدا،وكنت تقول"
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء.
جرى النهربينك وبين رحيمو ياقويسم،ولكنها فضلت شق البحركما فعل موسى بعصاه،أنت الذي لم تعرف منطقة في العالم غيرمغاراتك الباردة الظلماء.
رمى قويسم بكتبه الصفراء في نهرأم الربيع،الذين شاهدوه ثحدثوا عن نهاية رجل أحب امرأة ،
وفي صباح ضبابي كان جتثه تطفو على سطح النهربعدما أوصى مريديه أن يدونواعلى قبره هذه العبارة.
واكتبوا على قبري ورقة هذا قبرمحب قد احترق.


خا لــــــــــــد عبد اللطيف.