السلام عليكم
موضوع هام راته واحببت ان تشاركوني قراءته:
--------------------------------------------------------------------------------

الإهمال الطبي في الحروب العسكرية
--------------------------------------------------------------------------------
Dr.sam

العقيد الدكتور صالح بن إبراهيم الطاسان
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى اتضحت أهمية جمع المعلومات الطبية عن أرض المعركة، وهو ما يعرف اليوم بالاستخبارات الطبية حيث كانت أكبر الإخفاقات في التاريخ العسكري نتيجة انهيار الوقاية الشخصية، وعدم السيطرة على الأمراض، وهو ما يعرف بـ(المرض والإصابة من غير قتال) حتى من خلال الفترة التي كان بها (الإسكندر) و(هانيبال) و(فريدريك) و(نابليون)، وهم من أعظم القادة العسكريين، فإنهم قد فشلوا في تحديد أهمية الخطر الطبي على الأفراد.
إن الحصول على المعلومات المتعلقة بمكان ما، أو منطقة معينة، مثل: معرفة التهديدات الطبية، والأمراض المنتشرة والمستوطنة، والبيئة، وطبيعة الأرض، والطقس، وعوامل أخرى، أصبح من الأوليات التي يحرص أي قائد عسكري أن يحصل عليها، وذلك من الممكن أن يجنّب جيشه الكثير من الخسائر في الأرواح والعتاد والمال والوقت، لما لها من تأثير مباشر على الأفراد والمعدات.
وعند مراجعة الأحداث التاريخية العسكرية السابقة يتبادر إلى ذهننا الأسئلة الآتية:
هل كان القادة السابقون على دراية بالخطر الطبي على جنودهم؟
هل كانوا يعتبرون الخطر الطبي أثناء خططهم؟
هل العمليات العسكرية كانت ناجحة بسبب جهود القادة في مواجهة الخطر الطبي؟
هل العمليات العسكرية كانت غير ناجحة بسبب قلة جهود القادة في مواجهة الخطر الطبي؟
وقبل الإجابة على هذه الأسئلة يجب أن نستعرض بعض الأمثلة من التاريخ والمعارك العسكرية، التي تدل على عدم اهتمام بعض القادة العسكريين آنذاك بأهمية جمع المعلومات عن مناخ وتضاريس المنطقة، والأمراض المنتشرة فيها، بالإضافة إلى النباتات، والحيوانات، والحشرات الضارة بالإنسان، وبالتالي انتشار الأمراض بين الجنود في المعركة، مما عرّضهم للهزيمة قبل مواجهتهم للعدو،وهي على سبيل المثال:
• في عام 1803م، عندما أرسل (نابليون) قوة من 22 ألف مقاتل لقمع الثورة في مستعمرة (هاييتي) الفرنسية، توفي 20 ألفاً من رجاله بسبب الحمى الصفراء في هذه الحرب، حتى قيل إن الفرنسيين أبرقوا لباريس أن الجيش كان يتقاعد في المستشفى! وكنتيجة لذلك حققت (هاييتي) استقلالها عن طريق مقاومة بسيطة للقوات الفرنسية، وقد كان هذا بسبب قلة الحكمة في إرسال هذه القوة إلى منطقة تنتشر فيها الحمى الصفراء، كمرض وبائي بدون تحصينهم ضد الحمى الصفراء.
• شن الأوروبيون حربًا بيولوجية في السهول العظمى ضد الهنود الحمر لطردهم من موطنهم الأصلي (أمريكا)، وتتلخص في أنهم قاموا بتوزيع أغطية وبطانيات ملوثة بفيروس الجدري، تم الحصول عليها من محجر صحي يحتجزون فيه المصابين بهذا المرض المعدي، بدعوى المساعدة الإنسانية، بينما كان الغرض الحقيقي منها هو نشر وباء الجدري بينهم، وبالتالي قتل أعداد كبيرة منهم دون الخوض في معركة.
• عام 1812م، عندما غزا (نابليون) روسيا، كان معه جيش قوامه 600 ألف جندي، وكانت قواته المركزية ما بين 232 إلى(300 ألف، انخفضت جميعها إلى 90 ألفًا عندما احتل روسيا. لم يعرف السبب الحقيقي وراء فناء كل هؤلاء الجنود، ولكن كان معظم ذلك بسبب الدفتيريا، والدوسنتاريا، والإجهاد، إذ بلغ معدل الوفيات المرضية 80% من عدد الجنود، ولم يبق معه إلا 20% فقط! ومما هدد فرنسا أن الجيش قد تعرّض لشتاء قاس، ثم كان تأجيل المعركة بسبب زيادة نسبة الأمراض في جيش (نابليون)، وعندما عبر آخر جندي نهر (نيمين) إلى ألمانيا، لم يبق معه إلاّ 40 ألفاً فقط، وكان ألف واحد منهم فقط هو القادر على العمل العسكري.
• في حرب تحرير الكويت 1991م، يقول الفريق الأول الركن الأمير خالد بن سلطان قائد القوات المشتركة ومسرح العمليات بحرب الخليج الثانية في كتابه: (مقاتل من الصحراء) "اشتكى كثير من الجنود الأمريكيين الذين شهدوا الحرب من صداع، وطفح جلدي، وكحة، وإسهال... وغير ذلك من الأمراض التي يُعتقد أن مردّها إلى حرب الخليج. حتى إن هذه الأعراض المَرَضية يُطلق عليها أحيانًا: أعراض حرب الخليج".
• في خريف 1918م، كانت الحرب العالمية على مشارف الانتهاء، ولاح السلام في الأفق، وقد شاركت أمريكا في هذه الحرب، وجمعت دول التحالف ضد ألمانيا داخل الخنادق، وعاش المجندون في أجواء قاسية لدرجة أنهم اعتقدوا أنه لا يوجد حال أسوأ من هذه، وفجأة أُصيب العديد من المجندين بمرض كان شبيهًا جدًا بنزلات البرد، ولكن المرض أثبت أنه أقسى من ذلك، حيث توفي نصف القتلى الأمريكيين في أوروبا أمام الوباء، وليس في مواجهة العدو، وتم تقدير القتلى بـ34 ألفاً من المشاركين في الحرب.
• معركة (الباسفيك)، حيث تسببت الملاريا في القضاء على عدد من الجنود بلغ 8 أضعاف الذين قتلوا في المعركة.
• وكان هناك حدث أقل شدة أثناء الحرب الأمريكية الإسبانية، هو القصة الفظيعة لـ "فورت ستتبرج"، والذي كان موقعه في سفح التلال على بعد 66 ميلاً شمال غرب "مانيلا"، وكان هذا المكان معروفًا بأنه مكان الحشرات والآفات التي تسببت في الملاريا في الجيش الأمريكي؛ فقد أُنشئ عام 1902م بعد الحرب، ثم بني فيه مستشفى سنة 1904م، فمن بين كل 1000 من القوات الأمريكية، كان هناك 730 مصابًا. وفي عام 1905م كان هناك 800 جندي، مَرِضَ منهم 377 في مستشفى الملاريا، وكان السبب الرئيس وراء هذه الكارثة أن النهر كان يغذي بعوض (الأنوفيليس) في المجموعة المصغرة.
• في عام 1983م، حدثت عملية (بدون رقيب)، عندما أنزلت الولايات المتحدة قواتها في (جرانادا) ولم تعطهم الوقت الكافي للبحث والاستعداد، فلم يتم الحصول إلاّ على القليل من المعلومات الاستخباراتية، فقد تهدد الجيش بالحشرات والنباتات السامة والمياه غير الآمنة؛ وكان للحرارة الاستوائية أثر كبير على الجيش، مما أدى إلى سرعة خروجه من المنطقة لأنه تعرّض لمخاطر العمليات في الأدغال.
وكان من الممكن تغيير نتائج العملية لو روعيت هذه النقاط:
1. الافتراضات غير الصحيحة بإمكانية وجود ماء عذب من أهم أسباب فشل هذه العملية.
2. قلة التركيز من القيادة على أن تستهلك القوات المعدلات الكافية من شرب الماء لتعويض ما افتقدوه خلال العملية، وبالتالي فقد العديد من الجنود قدراتهم بسبب الجفاف.
3. كان يجب استخدام ملابس الأدغال في العمليات، فقد كان زي المعركة شديد الحرارة على الأفراد، كما أنه كان ثقيلاً في تلك البيئة الاستوائية.
4. قلة الإمدادات الدقيقة بالمبيدات الحشرية اللازمة، مما كان له أثرٌ بالغٌ في زيادة عدد النمل المفترس العدواني.
5. كان على القوات الأمريكية اتخاذ الحيطة والحذر من النمل المفترس حتى يمكنهم حماية أنفسهم.
6. لم تبتعد القوات الأمريكية عن شجرة (المانش نيل) السامة، فقد تسممت أجسام العديد من أفراد القوات عند توغّلهم بين أفرع الأشجار، ثم فكرت قيادة العملية سريعًا في الأمر، وبدأت تعطي واقيًا للجلد وأدوية لعلاج الحالات المصابة، ونبّهت على أهمية الابتعاد عن هذه الأشجار السامة، لأن سكان هذه المنطقة كانوا يتجنّبون هذه الأشجار وثمارها، لأنها يمكن أن تسبب الحساسية والحكّة في الجلد والعين.
وكمثال حي للاستفادة من خبرات الجيوش السابقة، تم أخذ فكرة الوقاية من الأمراض في الاعتبار في الحرب العالمية الأولى في فرنسا، حيث كانت التربة تحمل العديد من البكتريا المسببة لـ (التيتانوس)، التي كانت تمثّل خطرًا كبيرًا على المصابين، وكان معدل إصابة الجنود البريطانيين 52 حالة من بين كل ألف من الجنود، كان يموت من بينها90% من الحالات، وأدرك جيش الولايات المتحدة أهمية التحصين بـ (الانتيتوكسين) قبل دخولهم إلى العمليات، وبالتالي تقلصت معدلات إصابة الجيش الأمريكي بـ (التيتانوس).
ختاما لا يمكن أن يكون تقويم الطاقة البشرية العاملة صحيحًا على أساس عدد الأيدي العاملة وحده، بل يجب تقويم قدرة هذه الأيدي من حيث: سلامتها البدنية، وقدرتها على العمل، وبذل الجهد، وتحمّل المشقة، وكمال لياقتها؛ حيث إنَّ كثيراً من ساعات العمل تضيع بسبب المرض، والتغيّب، وبسبب الإنهاك الجسماني، الذي تسببه بعض الأمراض المزمنة والعارضة، التي قد تصيب الفرد فتنهك قواه وتقلل من قدرته البدنية والإنتاجية على حدٍ سواء. فمن الثابت أن انتشار أي مرض من الأمراض المنهكة كفيل بأن يعرقل تقدمه وأداءه في عمله حيث لا يزال المرض، هو العدو الوحيد الذي لا يستطيع القائد قهره، فتُرفع له الرايات البيضاء.
دكتوراة ادارة المستشفيات في التأمبن الصحي