بسم الله الرحمن الرحيم
إلى جميع الأخوة والأخوات فى صرحنا الميمون وإلى كل مسلم فى مشارق الأرض ومغاربها ، بمناسبة بدء عام هجرى جديد ، كل عام أنتم جميعا بخير وفى مزيد من نعم الله وآلائه ،،
ثم إن لى مصنفا بعنوان ( فى رحاب الهجرة النبوية المباركة ) وددت بهذه المناسبة أن أقتطف لكم منه بعض سطوره ، راجيا أن يحظى برضاكم وقبولكم ، مستغفرا المولى مما قد يكون فيه من خطأ أو نسيان ،،
فإذا ظفرت بفائدة فادع بالتجاوز والمغفرة أو بزلة قلم فافتح لها باب التجاوز والمعذرة ، فلا بد من عيب . ولسان حالى يكرر قول شاعر العربية العملاق أحمد فارس الشدياق :
فإن كان فيه بعض شيئ يعيبــه *** فكل كتاب خط لم يخل من عيب
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام علي خاتم الأنبياء والمرسلين ، المبعوث رحمة للعالمين ، سيدنا محمد ، وعلي آله وصحبه والتابعين ، ومن تبعهم باحسان الي يوم الدين .
وبعد
فهي ذكري خالدة متجددة سنويا ، تجمع في ثناياها مزيجا طيبا من القيم النبوية الرفيعة ، من صدق العزيمة والإخلاص والتضحية والصبر والنجاح ، وتنبيء عن رعاية ربانية وعناية إلهية ، انتقلت بها الرسالة المحمدية من طور الدعوة في مكة المكرمة إلي طورالدعوة و الدولة في المدينة المنورة بنور سيدنا رسول الله صلوات ربنا وسلامه عليه .
ثم إن المطالع لأحداث الهجرة النبوية المباركة ونتائجها ، مرورا بإرهاصاتها وأسبابها ، لابد وأن يجد الجم الكثير مما سطره المؤرخون والباحثون ، مما يلزمنا في عجالتنا هذه بتوخي الإيجاز . ما أمكن .
وعليه .... فإننا سنكتفي بتسليط الضوء صوب بعض النقاط المختلفة .
وبداية يجب أن نلتفت معا إلي أن أحداث الهجرة وقعت في ما بين أواخر شهر صفر ومنتصف شهر ربيع الأول من عام الهجرة ، ومع ذلك فقد اعتبر شهر المحرم الذي وقعت في عامه ، هو بداية التقويم الإسلامي (الهجري) ، ومن ثم فإن الإحتفال الإسلامي بهذه الذكري الخالدة يتجدد في شهر المحرم من كل عام . باعتباره أول الشهور العربية الإسلامية .
ومن الطريف في ذلك ما ذكره المقريزي في خططه من أنه لما هاجر النبي صلي الله عليه وسلم من مكة إلي المدينة كانت نوبة النسيء بلغت شعبان ، فسمي محرما ، وشهر رمضان صفرا .
ويجدر بالذكر أن المسلمين من بعد الهجرة النبوية طيلة عشر سنوات كانوا يؤرخون بالإشارة إلي الأحداث العظيمة ، علي النحو التالي :
قال أبو الريحان البيروني في ( الآثار الباقية ) :
كان الناس علي عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم سموا كل سنة ما بين الهجرة والوفاة باسم مخصوص بها ، مشتق مما اتفق فيها له صلي الله عليه وسلم .
ففي الأولي من بعد الهجرة : سنة الإذن ...
والثانية : سنة الأمر بالقتال ...
والثالثة : سنة التمحيص ...
والرابعة : سنة الترفئة ...
والخامسة : سنة الزلزال ...
والسادسة : سنة الإستئناس ...
والسابعة : سنة الإستغلاب...
والثامنة : سنة الإستواء ...
والتاسعة : سنة البراءة ...
والعاشرة : سنة الوداع .
فكانوا يستغنون بذكرها عن عددها من لدن الهجرة . آ هـ
ولذلك قال سهل بن سعد في التأريخ بالهجرة : ما عدوا من مبعث النبي صلي الله عليه وسلم ولا من وفاته .. ما عدوا إلا من مقدمه المدينة . آهـ
وقد نسب التأريخ الإسلامي بالهجرة إلي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه
و أفاد السهيلي في ( الروض الأنف ) أن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا التأريخ بالهجرة من قوله تعالى : { لمسجد أسس على التقوى من أول يوم } لأنه من المعلوم أنه ليس أول الأيام مطلقاً ، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر ، و هو أول الزمن الذي عز فيه الإسلام ، و عبد فيه النبي صلى الله عليه وسلم ربه آمناً ، و ابتداء المسجد ، فوافق رأي الصحابة ابتداء التاريخ من ذلك اليوم .
و قد أبدى بعضهم للبدء بالتأريخ بالهجرة مناسبة فقال :
كانت القضايا التي اتفقت له و يمكن أن يؤرخ بها أربعة : مولده ومبعثه و هجرته و وفاته ، فرجح عندهم جعلها من الهجرة ؛ لأن المولد والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة ، وأما وقت الوفاة فأعرضوا عنه لما توقع بذكره من الأسف عليه ، فانحصر في الهجرة ،
وإنما أخروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في شهر المحرم ، إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة ، ( بيعة العقبة الثانية الكبرى كانت في ذي الحجة من العام الثالث عشر للبعثة ) فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال شهر المحرم ، فناسب أن يجعل مبتدأ ،
و هذا من أقوى ما يوقف عليه يصدد مناسبة الابتداء بالمحرم .
أما عن إرهاصات الهجرة النبوية المباركة ، فقد يظن البعض أنها بدأت قبيل وقوع أحداثها مباشرة ،،،،
إلا أن التحقيق التاريخي يقول إن إرهاصاتها بدأت مع بداية الرسالة المحمدية ، أي منذ نزول ( اقرأ ) ، وذلك بقول ورقة بن نوفل الأسدي رضي الله عنه للنبي صلي الله عليه وسلم :
يا ليتني فيها جذع ، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك .
فقال النبي صلي الله عليه وسلم :" أو مخرجيّ هم ؟ "
قال ورقة : نعم ، لم يأت رجل بمثل ما جئت به إلا عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا .
واما عن إبطالها رضوان الله عليهم ، فقد صارت أسماؤهم تاجا فريدا يتلألأ نورا علي غرة التاريخ في دنيا الناس .
أبو بكر الصديق ، علي بن أبي طالب ، عبد الله بن أبي بكر ، عامر بن فهيرة ، أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم وأرضاهم .
وقد ورد أن الصديق رضي الله عنه وأرضاه كان قد أزمع الهجرة إلي الحبشة يوما ، وخرج فعلا حتي وصل إلي برك الغماد ( قيل هو موضع وراء مكة بخمس ليال ) فلقيه مالك ابن الدغنة ( سيد الأحابيش يومئذ ) فأقنعه بالعدول عن ترك مكة وأعاده إليها ، وأدخله في جواره .
ثم يهم الصديق بالهجرة مرة أخري ويتجهز لذلك ، إلا أن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول له : "علي رسلك ، فإني أرجو أن يؤذن لي "
فيقول الصديق : وترجو ذلك بأبي أنت وأمي ؟
فيقول النبي صلي الله عليه وسلم : " نعم ". .....
وحينئذ يحبس الصديق نفسه علي رسول الله صلي الله عليه وسلم لصحبته ، ويبدأ في الإعداد والاستعداد ، حتى إن بعض علماء الإسلام المحققين رحمه الله قال : كان الصديق رحمه الله تعالي مهندس رحلة الهجرة ، إذ اشتري راحلتين ( إحداهما القصواء ) من نعم بني قشير الشهيرة ( تماثل مرسيدس هذا الزمان ) بثمانمائة درهم ، وأمر بعلفهما حتى يأذن الله تعالي .
[ وفى هذا يقول الشيخ محمد أحمد بدوي رحمه الله صاحب [ كفاية المسلم في الجمع بين صحيحي البخاري ومسلم ]: وعلف هاتين الراحلتين ورق السمر ( وهو الخبط ) أربعة أشهر ] .
وتتوالي الأحداث في مكة ، ويجتمع أشرافها بدار الندوة في يوم كان يسمي ( يوم الرحمة ) كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما فيما ذكره ابن هشام في السيرة النبوية نقلا عن ابن اسحق .... ويتفقون علي أن يترصدوا لقتله صلي الله عليه وسلم أمام منزله .
وفي هذا صرح الإمام الحافظ ابن القيم رحمه الله في ( زاد المعاد ) بعددهم وبأسمائهم علي سبيل الحصر ، مؤكدا علي أنهم كلهم قرشيون ...
المتربصون ليلة الهجرة :
1. أبو جهل .... من بني مخزوم .
2. أبو لهب .... من بني هاشم .
3. عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية .
4. الحكم بن أبي العاص .... من بني أمية .
5. النضر بن الحارث .... من بني عبد الدار بن قصي .
6. زمعة بن الأسود .... من بني أسد .
7. أمية بن خلف .... من بني جمح .
8. أبي بن خلف .... من بني جمح .
9. طعيمة بن عدي .... من بني نوفل بن عبد مناف .
10. نبيه بن الحجاج .... من بني سهم .
11. منبه بن الحجاج .... من بني سهم .
قال : واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب ويرصدونه ويريدون بياته ويأتمرون أيهم يكون أشقاها . آهـ
قال ابن اسحق : فأتي جبريل عليه السلام رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال : لا تبت هذه الليلة علي فراشك الذي كنت تبيت عليه .
ولذلك قال النبي صلي الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه :
" نم علي فراشي ، وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فيه ، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم ".آهـ
ثم أمره أن يؤدي عنه الودائع التي عنده للناس .
وهنا .... لا يمكننا أن نسترسل قبل أن نتوقف ونتأمل ونتدبر....
يعادونه ... ويأتمر أشرافهم علي قتله .... ومع ذلك ... لا يجدون أحدا غيره يأتمنونه علي ودائعهم !!! .
وفي المقابل ... هو صلي الله عليه وسلم يترك لهم الجمل بما حمل ( يخرج من مكة مهاجرا ) ، وفي الاستطاعة أخذ كل الودائع عوضا عن ما يترك في مكة ، ولكنه لم يفعل ،
بل وما ينبغي له أن يفعل .
والسبب في الحالين أنه محمد رسول الله صلي الله عليه وسلم الصادق الأمين ، المبعوث رحمة للعالمين ، المتمم لمكارم الأخلاق ، صلوات ربنا وسلامه عليه .
ويخرج من بيته مخترقا تجمعهم وترصدهم وهويتلو صدر سورة " يس "
ويذهب إلي حيث يريد وهم لا يشعرون .
كان خروجه صلي الله عليه وسلم من بيته لثلاث بقين من شهر صفر .
ثم ... يذهب إلي بيت الصديق ... ومنه يخرجان معا مساء يوم الخميس أي ( ليلة الجمعة ) إلي حيث غار ثور ، حيث يقع جنوبي مكة . ويكون الوصول إليه قبيل فجر الجمعة .
وهناك يمكثان إلي ليلة الإثنين .
وفي هذه المدة تجري أحداث كثيرة ، يطيب لنا أن نشير إلي أبطالها :
** عبد الله بن أبي بكر :
[ شقيق أسماء بنت أبي بكر أمهما قتيلة بنت عبد العزي من بني عامر بن لؤي القرشية ] غلام شاب ثقف لقن ، يدلج من عندهما بسحر ، فيصبح مع قريش بمكة كبائت ، فلا يسمع أمرا يكتادان به إلا وعاه ، حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام .
وقد ذكره صاحب ( در السحابة في بيان مواضع وفيات الصحابة ) بأنه شهد الطائف مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ، فرمي بسهم فجرحه ، فاندمل جرحه ، ثم انتفض به فمات في مكة من أول خلافة أبيه .
** أسماء بنت أبي بكر :
هي أكبر ولد أبي بكر ، أسلمت بعد 17 نفسا ، روت تقول : صنعت سفرة للنبي صلي الله عليه وسلم وأبي بكر حين أرادا المدينة ، فقلت لأبي ما أجد شيئا أربطه إلا نطاقي ، قال : فشقيه ، ففعلت ، فسميت ذات النطاقين .
وتحدثنا كتب السيرة أنه لما طاش صواب المشركين بحثا عن النبي صلي الله عليه وسلم وصاحبه ، ذهب نفر منهم إلي بيت أبي بكر وكان فيهم أبو جهل ، وسألوا عن أبي بكر فأجابتهم أسماء قائلة :لا أدري ، فلطمها أبو جهل لطمة منكرة طرح منها قرطها .
وحين خرج رسول الله صلي الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر احتمل أبو بكر ماله كله معه ــ ( 5آلاف أو 6 آلاف درهما ) ــ فدخل أبو قحافة رضي الله عنه ــ وقد كف وذهب بصره ــ علي أحفاده يتقصي حالهم ، وإذا بأسماء تطمئنه بأن أباها ترك لهم ما يكفيهم. .
ثم إنها كانت حبلي في عبد الله ، ومع أنها كانت في أيامها الأخيرة من الحمل ، إلا أنها كانت تحمل الطعام وتذهب إليهما به ، فتصعد الجبل الشاهق ، ضاربة بذلك أروع الأمثلة في الإيمان والإخلاص والصبر وتحمل المشاق .
ثم إنها هاجرت إلي المدينة وهي حامل متم ، فوضعت عبد الله بن الزبير بقباء ، فكان أول مولود للمهاجرين بالمدينة . (النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه هو أول مولود للأنصار بعد الهجرة )
وقد عاشت ذات النطاقين إلي أن ولي ابنها الخلافة ثم قتل ، فماتت بعده بقليل ، مكفوفة البصر عجوزا طوالة عمرها 100 عام ، لتكون آخر المهاجرين والمهاجرات وفاة . ( توفيت فى مكة سنة 73 هـ ) .
** عامر بن فهيرة ( أبو عمر ) :
مولي أبي بكر الصديق ، كان من السابقين للإسلام ، وكان قارئا كاتبا ، ذكره ابن القيم في ( زاد المعاد ) ضمن كتّاب النبي صلي الله عليه وسلم ، كما ذكره ابن الجوزي في ( صفة الصفوة ) ضمن من شهد غزوتي بدر وأحد ، وقتل شهيدا يوم بئر معونة سنة 4 هـ ، وهوابن 40 سنة .
كان دوره في ليالي الغار أن يرعي منحة من غنم ، فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء ، فيبيتان في رسل ، وهو لبن منحتهما حتى ينعق عامر بغلس ، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث ،
وفي الطريق يردفه الصديق خلفه مصاحبا لهما . ... وفي أثناء ذلك يأمره النبي صلي الله عليه وسلم أن يكتب كتاب أمن لسراقة بن مالك حين لحق بالركب المبارك ، فكتب .
** سراقة بن مالك الجعشمي الكناني المدلجي أبو سفيان :
لحق برسول الله صلي الله عليه وسلم ، يرجو أن يرده علي قريش فيقبض الجائزة (مائة ناقة ) ويدعو النبي صلي الله عليه وسلم قائلا : " اللهم أكفيناه بما شئت " .....
ويتحقق الدعاء فورا ..... فيعتدل ميزان سراقة ، فبعد أن كان أول النهار جاهدا عليهما ، يصبح حارسا ومسلحة لهما في آخره ، إذ يرجع ، فلا يلقي أحدا من الطلب إلا رده
وقد وعده النبي صلي الله عليه وسلم في نبوءة نبوية محققة أن يلبس سواري كسري أنو شروان ، حيث تحقق ذلك بعد فتح المدائن ( عاصمة الفرس ) في عهد الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، إوكان سراقة وقتئذ قد كف بصره ، يقوده غلامه إلي حيث عمر ، فيلبسه سواري كسري . كما وعده الصادق المعصوم صلوات ربنا وسلامه عليه .
** عبد الله بن أريقط الدئلي الليثي :
وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها بأنه كان هاديا خريتا ( أي ماهرا بالهداية ) استأجراه دليلا لهما في رحلتهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ، فأتاهما في الموعد ، لتبدأ الرحلة الخالدة الميمونة المباركة ،
ثم إنه سلك بهما طريق الساحل غير المطروق .....( حوالي 200 ميل )
وقد وصف محطات هذا الطريق الوصف الدقيق الأستاذ الدكتور حسين مؤنس في كتابه ( أطلس تاريخ الإسلام ) ، وذكر فيه أن وصول ركب الهجرة المبارك إلي قباء كان فى يوم الاثنين 12 من شهر ربيع الأول عام 1 هـ الموافق 24 سبتمبر عام 622 م ،
ويجدر بالذكر أن عبد الله بن أريقط هذا كان مشركا آنذاك ....
ومع أن أغلب كتب السيرة سكتت عن ذكر إسلامه من عدمه ، إلا أن صاحب ( تحفة الألباب في شرح الأنساب ) ذكر أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال فيه : " هو أمين " .
ولعمري .... إن الأمانة لإحدى صفات المؤمن ،
ثم ... كيف لرجل أمين يخالط النبي صلي الله عليه وسلم أياما معدودات ، تكتنفها ظروف هذا السفر المشترك ، بما تحيط به من مصاعب ومخاوف ومخاطر ، ومع ذلك لا يسلم ؟ !!
إنه لأمر مستبعد ، خاصة وأن النبي صلي الله عليه وسلم وأبا بكر بعد وصولهما قباء سالمين أرسلا عبد الله هذا إلى مكة ، ومعه أبو رافع وزيد بن حارثة ، ليأتوا بأهليهما منها [ فاطمة وأم كلثوم وسودة بنت زمعة وأسماء وعائشة وأم رومان وأم أيمن وأسامة بن زيد ] . علي ما ذكره ابن سعد في طبقاته الكبرى .
وفي قباء لحق بهما علي بن أبي طالب كرم الله وجهه ، بعد أن أدي عن النبي صلي الله عليه وسلم ما كان للناس عنده من ودائع وأمانات .
{ لطيفة تنبيهية :
لنعد قراءة هذه الجملة الآنفة :
وفي قباء لحق بهما علي بن أبي طالب ، بعد أن أدي عن النبي صلي الله عليه وسلم ما كان للناس عنده من ودائع وأمانات .
نعم ،، كما قلنا آنفا : كان القرشيون يعادونه صلوات الله وسلامه عليه ، إلي أبعد حدود العداء ،،، ومع ذلك لايجدون أأمن من رسول الله صلي الله عليه وسلم علي أماناتهم وودائعهم ،، فيضعونها عنده .، وقد كان الظن بمقاييس بعض البشر في دنيا الناس ، أن يخرج رسول الله صلي الله عليه وسلم مهاجرا ومعه هذه الودائع ، انتقاما من قريش ، أو عوضا عما تركه لهم في مكة المكرمة ، أو ،، أو ،، الخ ،،
فإن لم يستطع ، فليقم بذلك علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في الفترة التالية لهجرته صلي الله عليه وسلم ،
ولكن ،، ما كان رسول الله صلي الله عليه وسلم ليفعل هذا مطلقا ، فهو الصادق الأمين ، وهو المتمم لمكارم الأخلاق ، والأمانة إحدي مكارم الإخلاق ،
وإنه لرسول رب العالمين صلوات الله وسلامه عليه } .
ونزل النبي صلي الله عليه وسلم في قباء ، في بني عمرو بن عوف على كلثوم بن الهدم ومكث مدة أربع عشرة ليلة ،، حتى صبيحة يوم الجمعة ، ثم غادرها إلي المدينة ،
وفي الطريق أدركته صلاة الجمعة فصلاها ،
يقول ابن الأثير في كتابه ( النهاية في غريب الحديث ) عن هذه الجمعة : إن أول جمعة جمعت في الإسلام بالمدينة في هزم بني بياضة ( مكان متطامن من الإرض ) . آهـ
ثم واصل سيره صلي الله عليه وسلم راكبا علي القصواء ، ليصل إلي المدينة المنورة بنوره في مساء هذا اليوم ( الجمعة ) ،
ولا يخفاك أن كل بيت من بيوت الأوس والخزرج كان يستشرف لنزوله صلي الله عليه وسلم عندهم ، فيمسكون بزمام القصواء ،، يعرضون عليه ذلك ، فيجيبهم بالأدب النبوي السامي قائلا : " دعوها فإنها مأمورة "
حتى وصلت إلي حيث بركت ، وصار هو المنزل ( ذلك الذي نراه اليوم المسجد النبوي بما فيه من مقصورته الشريفة صلوات الله وسلامه عليه ) حيث شرع في تأسيسه وبنائه مشاركا في ذلك بنفسه . استغرق بناء المسجد اثني عشر يوماً ،،،
علي أنه صلي الله عليه وسلم عقب هجرته مباشرة طلب إحصاءً بعدة المسلمين في المدينة ، فأحصوا فكانوا ألفا وخمسمائة علي ما رواه الشيخان البخاري ومسلم .
وفي المدينة كما يقول ابن اسحق فيما نقله عنه ابن هشام أنه صلي الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود ، وعاهدهم ، وأقرهم علي دينهم وأموالهم ، وشرط لهم واشترط عليهم .
كما قرر مبدأ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار في المدينة في أسلوب من الأساليب الاجتماعية النبوية المحكمة التي لم يكن لها مثيل من لدن آدم إلي الآن ، وإلي أن تقوم الساعة .
ومن جدير ما يذكر بصدد الهجرة :
** أنها كانت من أوسمة المسلمين الأول ، إذ كان يقال للواحد منهم هاجر الهجرتين ، وصلي إلي القبلتين .
وقد ورد الحديث " ثلاث من الكبائر .. منها التعرب بعد الهجرة ( وهو أن يعود إلي البادية ويقيم مع الأعراب بعد أن كان مهاجرا ) .
** أول المهاجرين :
هو أبو سلمة بن عبد الأسد ... كان قد هاجر إلي المدينة قبل بيعة العقبة الكبري بسنة ، ذلك أنه كان قد قدم من الحبشة إلي مكة ، فآذته قريش ، وبلغه أن جماعة من الأنصار قد أسلموا فهاجر إلي المدينة ، فكان أول المهاجرين إليها . علي ما ذكره الحافظ الذهبي في كتابه ( تاريخ الإسلام ) .
** آخر المهاجرين :
العباس بن عبد المطلب ، تأخر في إعلان إسلامه ، حتي إذا رحل إلي المدينة مهاجرا ، لقي النبي صلي الله عليه وسلم قادما منها في طريقه إلي فتح مكة ، فلما اخبره أنه جاء إليه مهاجرا ، أمره أن يرسل رحله إلي المدينة ، ويرجع معه لفتح مكة قائلا له : " أنت آخر المهاجرين ، وأنا آخر الأنبياء " علي ما ذكره صاحب ( الكامل في التاريخ ).
ومنذئذ ، حيث لاهجرة بعد الفتح ، أصبح العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه آخر المهاجرين .
** من توافق الأقدار أن قريشا في مكة لم تؤد إتاوة قط إلي أحد من الملوك ،، ومنها هاجر النبي صلي الله عليه وسلم إلي يثرب ( المدينة المنورة ) حيث الأوس والخزرج ( الأنصار) ، وهم أيضا لم يؤدوا إتاوة قط إلي أحد من الملوك . فسبحان مقدر الأقدار .
ومن خلاصة القول في الهجرة النبوية المباركة ما سطره الشيخ أبو الوفا المراغي الجرجاوي رحمه الله تعالي في كتابه ( من رياض السيرة العطرة ) إذ كتب :
ومن الغريب أن أعداء الدعوة الإسلامية حاولوا أن يلتمسوا من أعمال النبي صلي الله عليه وسلم مغامز يشوهون بها جمالها وجلالها ، ويلبسون الحق فيها بالباطل إلا حادث الهجرة .. فما قرأنا لمعاند أو زائغ حديثا فيه ، ولا ناله بالسوء منهم قلم أو لسان .. ولعل ذلك لأن هذا الحادث كان كله مشقات وتضحيات ، لاسبيل فيه لإحتمال الشهوة والغرض مكان .. آهـ نعم ،، كانت الهجرة النبوية المباركة للحق ، وفي سبيل الحق ، ولهذا فهي جديرة بجميل الذكر وشرف الخلود .
هذا والله أعلى وأعلم ،،،
ويحسن فى كل آخر الحمد لله رب العالمين .
صلاح جاد سلام