"شواخ البورسان".. سليل "سوق العصر"
طير شلوة.. سلطان الجزيرة
يوسف دعيسالاثنين 21 أيلول 2009
كانت محافظة "الرقة" تمور بالخلافات العشائرية، بدءاً من الصراعات الأولى التي بدأت في القرن التاسع العشر، بين قبيلتي "عنزة"، و"شمر"، واستعر أوار الحرب بينهما ليأتي على الأخضر واليابس، في سبيل السيطرة على مواطن الكلأ، والمراعي، ومساقط المياه، ثم تبعتها صراعات قبائل "البو شعبان" فيما بينها، وانتهت بحرب "الولدة" و"عنزة"، والتي عرفت بـ"ذبحة الولدة"، وشهدت هذه النزاعات حرباً ضروساً غذّتها القوى الاستعمارية، من العثمانيين أولاً، ثم تالياً الإنكليز والفرنسيين.
وأفرزت هذه الصراعات شخصيات وقوى من العشائر، مازال التاريخ يذكر أفعالها وبطولاتها على مرِّ العصور، ومن الشخصيات الهامة التي ظهرت في بداية القرن العشرين، الشيخ "شواخ الأحمد البورسان"، الذي تولى رئاسة عشيرة "الولدة" (الجزيرة)، منذ عام /1916/ وهو ابن الستة عشر ربيعاً.
ولد الشيخ "شواخ البورسان" في عام /1900/، في قرية "شمس الدين"، المشاطئة لنهر "الفرات"، ويعود نسبه إلى قبيلة "الأبي شعبان"، "الزبيدية" اليمنية، وهو "شواخ ابن أحمد البورسان الحمد الناصر المحمد المحمد الغنام الغنيمة المحمد الهازع الشعبان"، و"شعبان" هذا هو جد "البو شعبان" قاطبة، والتي يتفرع عنها معظم عشائر "الرقة"، ومنهم "العفادلة"، و"الولدة"، و"السبخة"، و"بني سعيد"، و"البو عساف"، و"الشبل"، و"الجماسة" و"البو ظاهر".
وسنأتي أولاً إلى تفسير كلمة "بورسان"، ويروي السيد "نايف شواخ الأحمد البورسان"، قائلاً: «إن "بورسان" لها عدّة معانٍ، أولها أن الكلمة تعني الرجل الذي يصل النسب إلى أصوله، ويسمى "نسابة"، والرجل الذي يطأ الصعاب، ويحلها، وأيضاً، أن كلمة "بورسان" جاءت من مصدرين الأول لاتيني، وهو لكلمة "بور" وتعني الميناء، والثاني من التركية لكلمة "سان"، وتعني أنت، ويُصبح المعنى المجازي لكلمة "بورسان" الميناء الذي يرده الناس، ويكون قبلة لهم، حيث تُقضى حاجاتهم.
ومن معاني كلمة "بورسان"، الجبل العالي الأشم، ويعني الرفعة والسمو، و"بورسان"، من "بور سانت" الإنكليزية، وتعني القديس الفقير، وأخيراً المعنى الراجح لاسم "بورسان"، هو "أبو رسان"، وتعني الرجل صاحب مربط خيل، ويهتم بتربية الخيول العربية الأصيلة».
تولّى الشيخ "أحمد البورسان" تربية ولده "شواخ" في بيت كرم وفروسية، وتعلم على أيدي أساتذة مختصين أصول الدين واللغة العربية، وأخذ عن جده الفروسية، الذي أشتهر بمقارعة الكثير من القبائل في المنطقة، ومنها حروبه مع "الموالي"، و"شمر"، وبعض أولاد عمومته من "الأبي شعبان"، ومن أبيه أخذ صفة الكرم، التي أشتهر بها باسم "سوق العصر"، والذي لازم أولاده وأحفاده من بعده.
ومن قصيدة "المستديرة" للشاعر "غازي الحسين" في مدح الشيخ "شواخ البورسان"، التي يقول فيها:
سير يم شواخ واترك من مسيرة/ ما هديت الا على درب النجاة
يذبح الميتين ولا يتبـع شـويرة/ حاتم الجودات عنتر باللقـاة
شبه بحر ما وطا حادر حديره/ كم مركب غاص غبه هفاه
أخو شمسة ما قضب كود السمينة/ تنطره العربان تا تيدم عشاه
ليه تعزون البياشق عن مصيره/ عيب عالصقار متعشي بقطاه
طير شلوة ساكن "سن" الجزيرة/ تصقر الشيهان من تسمع لفاه
هاقن البحرين سلطان الجزيرة/ والجرنية هي تخت البادي شاه
وعن "سوق العصر"، يتحدث "نايف البورسان"، قائلاً: «كانت الناس في أواخر العهد العثماني صورة نادرة للشيخ شواخ البورسانفي ضائقة شديدة، ومرّت على البلاد سنين قحط وجفاف، خلّفت البؤس والفقر، وكانوا يأتون إلى "أحمد البورسان" فرادى وجماعات، فيقدّم لهم الكسوة، والطعام، وكان رحمه الله لا يولم لهم إلاّ في وقت العصر، إلى حين قدوم آخر طالب حاجة، وخلال تقديم الطعام، يكون قد تجمع أعداد كبيرة من الناس، فيتشكل ما يُشبه السوق، فالتصقت عبارة "سوق العصر" باسمه إلى ما شاء الله، وهي كناية عن الكرم، وقرى الضيف».
وفي ذلك يقول الشاعر "سعيد الصعيجر":
سوق العصر ما أظن يرمي شومته/ وإن قلت الشومات بين رجالها
عنتر ورى عنتـر وحاتـم بحاتـم/ وين النشامى وين باقي رجالها
لو مـال حملـه ما يبدل نوضتـه/ جبـار لو حكت عليه حبالهـا
ومن قصصه كرمه، أن والي أورفة (الرها) العثماني في نهاية القرن التاسع عشر، سأل جلسائه، هل هناك من هو أكرم مني؟ فرد عليه أحد الحضور بأن الشيخ "أحمد البورسان"، هو من أكرم هذا الزمان، فاستدعاه الوالي إلى مجلسه، وأراد أن يثبت للناس بأنه أكرم منه، وحين مثوله بين يديه، أولم له الوالي وليمة كبيرة، وأعطاه كيساً مليئاً بالليرات الذهبية، لكن "البورسان"، حين خروجه من المجلس، أدخل يده فيه، وبدأ يخرج حفنات من الليرات ويلقيها على المارة، وراح يردد بيتاً من الشعر:
جاد علينا الكرام بمالهم/ ونحن بما جاد الكرام نجود
رئاسة الشيخ "شواخ البورسان" لعشيرة "الولدة" (الجزيرة)..
قبل أن يتوفى الشيخ "أحمد البورسان" (سوق العصر) بسنة واحدة، تسلّم ابنه الشيخ "شواخ البورسان" رئاسة عشيرة "الولدة" (الجزيرة)، وكان عمره آنذاك ستة عشر عاماً، وفي هذه السنة، قتل أحد أفراد عشيرته، من فخذ "البو مسرة"، واستعصت المشكلة عن الحل، وتدخلّ الشيخ "شواخ" لحلِّ المشكلة، فقامت والدة القتيل، ووهبت دم ابنها للشيخ، وهي تردد: «يا "البو مسرة".. جاءكم شيخكم "شواخ"، لا تخيبوا ظنه، فهذه أول مشكلة يريد حلها، وإذا لم تحل، فحظه سيخيب، وأنا من عندي وهبته دم ابني». فانصاع الرجال لرأي أم القتيل، وحُلّت المشكلة.
حروبه مع قبيلة "الفدعان"..
كانت "الولدة" تحارب مع "الولد" (الفدعان) من "عنزة"، وفي نهاية الثلاثينيات امتنع فخذ "الناصر"، الذين فيهم رئاسة عشيرة "الولدة"، عن دفع الجزية (الخوَّة) للفدعان، وقُتل "إسماعيل الحاجم" على يد أحد رجالات "الولدة"، فاشتعلت الحرب بين القبيلتين، وغذى أوارها القوى الاستعمارية الفرنسية والإنكليزية، وفي سنة /1941/ جرت المعركة الشهيرة بينهما، وسميت سنة "ذبحة الولدة"، وعلى إثرها اعترف الشيخ "شواخ البورسان"، بمقتل /114/ رجلاً، وامرأة واحدة، فيما اعترف الشيخ "مجحم بن مهيد" بمقتل /15/ رجلاً من "الفدعان".
وفي شواخ البورسان ومحمد الفرج السلامةعام /1944/ جرت الصلحة الشهيرة بين القبيلتين في منطقة "السخنة" ببادية "حمص"، فاعترف الشيخ "مجحم بن مهيد" بمقتل /435/ شخصاً، لكن الجهات الرسمية والعشائرية التي رعت الصلح، أخذت باعترافه الأول، فدفع "الفدعان" ديّة /100/ شخص/ وكانت /110/ ليرات ذهب، وباردوة عن كل شخص.
ويقول الشاعر "خلف الكريدي"، في قبيلة الولدة وشيخها "شواخ البورسان":
ويوم النشامى اطبقم على الركبة عقالين/ وصاحم الحرشة وارعبم كل عايل
شـواخ جر الصياني يوم الوقت شـين/ ادخل على الله ذباح هرفي وحايـل.
نضاله ضد الفرنسيين والاستعمار الإنكليزي..
بدأ نضال الشيخ "شواخ البورسان" بمشاركته بالحملة العربية التي قادها المناضل "رمضان باشا الشلاش" لتحرير "دير الزور" من الإنكليز في عام /1919/، وكان قد أُتبع قضاء "دير الزور" إلى الانتداب الإنكليزي، وكان على رأس الحملة شيوخ ورجال "العفادلة"، والشيخ "محمد الفرج السلامة"، والشيخ "شواخ البورسان"، الذي حمل لواء الثورة العربية في وادي "الفرات"، وبعد تحريرها، قام الجيش العربي بأسر ضباط وجنود من الجيش الإنكليزي، ولم يفك أسرهم، إلاّ بعد أن تم ترسيم الحدود من جديد بين العراق وسورية، وعادت "دير الزور" إلى سورية من جديد.
ثم توالت نضالاته ضد الفرنسيين مع رجال قبيلته من "الولدة"، فبدأها بتخريب سكة الحديد على الحدود التركية السورية في منطقة "عين العرب"، وفي سنة /1922/ ضربت القوات الفرنسية بيوت "الناصر" في قرية "شمس الدين"، بواسطة المدفعية التي نُصبت فوق جبل "عرودة"، كما قُصفت من الطائرات ليوم كامل، ولولا إفشاء الجندي الفرنسي، ذو الأصل المغربي، واسمه "صلاح" بموعد الهجوم، لقضي عليهم جميعاً، وقد أُسقطت طائرة، وقتل طيارها ومساعده، فوق جبل "السن"، الواقع على مشارف "شمس الدين"، وقيل أن الشيخ "شواخ البورسان"، قد أرسل رسالة إلى القائد الفرنسي "جرمانوس"، يقول فيها: «كانت كل خسائرنا تتلخص بمقتل حمار، يعود ملكيته لـ"عوش الخبازة"».
كما احتل مدينة "جرابلس" في عام /1937/، وأسر المستشار الفرنسي، وقُتل العديد من جنود الحامية الفرنسية، ثم تلتها معركة مخفر "العريمة" التابع لمنطقة "الباب" في محافظة "حلب"، وكان يقطع الطريق على حملات إمدادات المؤونة والسلاح المتوجهة لمناطق الجزيرة السورية، و"دير الزور"، إضافة لاشتراكه بمعارك الثورة السورية الكبرى، ومعارك المجاهد "إبراهيم هنانو" في جبل الزاوية.
ومن الهوسات الشهيرة التي كانت يرددها رجالات "الولدة""
حرشة وعطشانة تدوّر الشر/ ما تقهرها طواب العسكر
شـواخ محـارب له دوله/ والخاين ما يقبل قوله
دنوا له الحمرا المكـحولة/ ما تقهرها طواب العسكر
شواخ اليشبه زيـدان/ حامي بلاده من الفدعان
نايف واقف بالميـدان/ يهلي بك والزلف معطر
الحياة النيابية للشيخ "شواخ نايف شواخ البورسانالبورسان"..
في عام /1947/ رُشح إلى انتخابات المجلس النيابي، ونجح فيها معه عن قضاء "الرقة" في هذه الدورة كل من السادة "رشيد العويد"، و"خلف الحسان"، والدكتور "عبد السلام العجيلي"، واستمرت إلى عام /1949/، وفي عهد الوحدة بين مصر وسورية في عام /1958/ نجح معه عن قضاء "الرقة" بانتخابات مجلس الأمة كل من "عبيد بن غبين" و"عبد الرحمن المهاوش". وانتسب في هذه الفترة إلى الحزب الوطني.
وعن أحكام السجن التي حوكم، يقول ابنه "نايف": «حكم عليه أربع مرّات بالإعدام، وحكم بالسجن لمدد /110/ سنوات متفرقات، وسُجن في سجن "أرواد" مع عدد من الوطنيين، وعلى رأسهم الرئيس "شكري القوتلي"، وبعض رجالات الكتلة الوطنية، ومنهم "سعد الله الجابري"، وفرّ من السجن برفقتهم باتجاه الساحل السوري، وحصل على عفو شامل عن كافة العقوبات في عام /1945/».
وفاته..
توفي الشيخ "شواخ الأحمد البورسان" بتاريخ (10/6/1982)، بعد مرض عضال ألَّم به لسنوات، ودفن في منطقة "البهيرة" التابعة لمدينة "القامشلي"، وكان يمني النفس في أن يدفن في منطقة "شمس الدين"، حيث مرابع الطفولة والشباب، وأيام سوق العصر التي لا تنسى.
المصدر
http://www.esyria.sy/eraqqa/index.ph...00909211700116