قراءة نقدية في نص قصيدة ليست لأحد للشاعر أحمد حاتم الشريف

احمد حاتم الشريف
قصيدة ليست لأحد

همس السماء
شدو العصافيري
اكتبيني حرفا فاقد العقل
فوق الفضاء
عالقا
بين جدران التجافي والصفاء
عطشا فاحكام القضاء مجففة
من عيون الماء
يانزوتي الرعناء
بلليني بالبكاء
فقضبان العالم السوداء
امست انيني
والعالم الحر حبيس
باوجاع الحنين
فعندما اغدو وحيدا بلا كلمة
يغدو الجفاء رهيني
فقبلتي الملساء
ضاعت في الفراغ
وصرختي المجروحة علت
وتفجرت في كل شيء بلا صوت
وتكسر البلور من قلبي
وتجرد اللون من شفتي
واصفر ثلج عيني
واسود الرثاء
على احضاني الحبلى
بالوية النهاية الصماء
اكتبيني حرفا فاقد العقل
فوق الفضاء
ياطفلتي
هل كل شيء في الوجود ارق
بلا غفوة
وهل دماء الكون
تسيل
من زغاريد الحلم من النشوة
او الفوضى العابثة
بالتناهيد الراجفة الدمثة
في العيون المخملية الصامتة
الجانحة للامسيات المجهرية
بين الثواني
كلما تذكرت ليلى
كلما غاب الوجود عن التراخي
وانتفض الخلود محسوب الثواني
في الوجود
ياطفلتي الصفح منك
فالزئير علا على صوت الشدو
في لغة الامير
والصقور سماتها التحليق
بلا حبيب يضمها
كضمة الروح الناجية
من عذاب القبر
قاسية تلك الحياة
كم قاسية
وان لم يتفجر التبريد
فعذاب الموت اولى
من ربيع لايموت
ياطفلتي الصفح منك
اكتبيني حرفا فاقد العقل
فوق الفضاء

المدخل

أبدأ هنا بعيدا عن التحليل المطول لهذا النص المتسم في بعض جوانبه بالصوفية ( الحياة الموت القبر النشوة الصفح الوجود النهاية القلب البكاء الجنون العقل ..... ) في انتقاء بعض المقاطع من هذه الرائعة ـ قصيدة ليست لاحد ـ التي تميزت بقوة مفرداتها الشعرية وسطوع جماليتها :

1 ـ
(( قاسية تلك الحياة
كم قاسية
وان لم يتفجر التبريد
فعذاب الموت أولى
من ربيع لا يموت ))
يشير الشاعر هنا إلى ضرورة التمرد والثورة على الواقع المر البارد المترهل المؤلم ويصفه أو يمثله بالربيع الذي لا يموت أي الواقع الذي أصيب بالشيخوخة والعجز رغم مقاومته للموت ويقارن الشاعر الشريف بفنية وتقنية شعرية عالية بين ألم الموت ويعني به ألم الفراق بعد الموت وليس ألم الخوف من الموت بدليل حالة التمرد والثورة بهذا المقطع ــ وان لم يتفجر التبريد ـــ وبين ألم تحمل الوضع الصعب المعاش المرفوض من قبله .ويشير هنا من باب المرور على فلسفة الموت وعدم الاكتراث له بصفته حق محتوم وانه غير الفناء ونهاية الأمور فالموت يعني الحياة للكثير من العقائد ويعني التجديد ويعني الولادة فهناك موت الشهداء وموت الأبطال وهم واقفون . وحتى في فلسفة الموت عند الهندوس واعتقادهم بفكرة التناسخ والتقمص وهي فكرة فلسفية يشترك بعض فلاسفة اليونان مع الهندوس فيها وتقول بأن الروح تنتقل إلى عوالم أخرى في أماكن أخرى وفي أزمنة أخرى إلى جسد آخر في دورة للحياة غير منتهية .
2 ـ
(( فعندما أغدو وحيدا بلا كلمة
يغدو الجفاء رهيني
فقبلتي الملساء
ضاعت في الفراغ
وتفجرت في كل شيء بلا صوت
وصرختي المجروحة علت
وتكسر البلور من قلبي
وتجرد اللون من شفتي
واصفر ثلج عيني
واسود الرثاء))

هي الرغبة في الصراخ (( وصرختي المجروحة علت))
والصراخ يعني الإحساس بالوجود والقيمة ويعني حب التمرد والانطلاق لكنه يعود إلى حالة الانكسار في نفس المقطع وحالة التقهقر (( وتفجرت في كل شيء بلا صوت )) فهي صرخة خنثى غير ولادة ، بلا صوت ، خرساء ، يحيطها الإحباط يتكسر البلور من قلبه ويتجرد اللون من شفته ويصفر ثلج العين فيها ::: هنا لي وقفة وانحناءة تقدير لقوة التعبير واستخدام اللغة والمفردات الشعرية بشكل راقي مميز باستخدامه لغة التعبير بدل أن يقع في المباشرة وتسمية الأشياء بأسمائها مثلا يقول (( تجرد اللون من شفتي )) ويعني انه أصيب بحالة الشحوب نتيجة مرض معين فتبيض الشفة وتفقد لونها وطراوتها وهو الحال بالنسبة إلى اصفرار ثلج العين (( واصفر ثلج عيني )) وثلج العين هو بياضها وهو حالة عارض آخر وعلامة لهذا الشحوب والمرض وكلها تدخل في حالة تداعيات نفسية وانكسارات متتالية أرهقته وجعلت صرخته بلا صوت .
3 ـ
(( هل كل شيء في الوجود ارق
بلا غفوة ))
هنا يدخل في مرحلة أخرى هي الاحتجاج ورفض قسوة الحياة وعسرها ووصف هذه القسوة ـ بالأرق ـ و ـ بلا غفوة ـ وهي قوة شعرية أخرى يوظفها الشاعر لصالح النص ويشير بها إلى نزف وتفتق مشاعره وصدقها وهو يسطر الكلمات .
(( وهل دماء الكون
تسيل
من زغاريد الحلم من النشوة ))
ويستمر بالاحتجاج والتمرد والتساؤل والإشارة إلى حالة الأمل والحلم ورفض النزف من زغاريد الحلم ومن نشوة الحياة وهي دلالة التطلع إلى المستقبل والمستقبل يعني التخطيط وبرمجة الحياة والعناية بمفرداتها ولا يتحقق ذلك إلا بوجود العامل النفسي المستقر وحساب القوة وحساب كمية الربح والخسارة في برنامج مدروس . ويعود الشاعر إلى حقيقة ذاته ـ ذات الأمراء والأسياد ـ والى سمو الروح وتحليقها مع النسور والصقور التي تهوى قمم الجبال البواذخ .


دعني أقول وقد ولجت عباراتك المتتالية الناطقة بالتألق أعماقي :
يا أحمد أيها الشاعر :: ستكتبك الأقلام حرفا ناطقا فوق الفضاء
تحياتي لك ولرائعتك هذه وقد اسعدتني
الدكتور نجم السراجي
النمسا 2007