الجرعة الكافية
تهالك العجوز علىالأرض قرب باب بيته بعد أن أعياه فتح الباب
وبدت عليه علائم الإعياء والتعب وهو يحاول التقاط أنفاسه محركاً كامل
جسده لاستخلاصها من هواء تسبح فيه كل أنواع الملوثات ..
وفجأة أحس بيد حانية تلمس كتفه المرتجفة فنظر إلى صاحبها فإذا هو جاره
(عبدالله) ..حاول العجوز أن ينهض وقد أسعده حضور الجار ولكن عبدالله
دفعه برفق وحب ليبقى جالساً وقال:
- كيف حالك يا جار ؟ تبدو لي متعباً ..وربما في مشكلة ..
قال العجوز : هذا الباب اللعين يأبى أن يفتح ..الله أعلم ما السبب .
قال عبد الله : هل تسمح لي بالمحاولة ؟
-تفضل بارك الله فيك .
ومد عبدالله يده إلى المفتاح العالق في الباب فأداره ..وانفتح الباب حالاً.
قال العجوز :كيف فعلت ذلك؟
- لم أفعل ماهو غير معتاد .أدرت المفتاح فقط .ويبدو أنك كنت قد أقفلته على
سنتين ولم تدر إلا سنّة واحدة..ويئست بعدها ..
قام العجوز ودعا جاره إلى الدخول لشرب شيء ما معاً. فدخل عبد الله باسماً
وقال: اسمع ياجاري العزيز ..نحتاج دائما لبذل الجهد الكافي لإنجاز عمل ما ولقطف ثمرته..
المتعجّل يخيب رجاؤه ولا ينال إلا الحيرة والعذاب ..
قال العجوز : عفواً هل تسمح لي بتناول دوائي ..
قال عبدالله :تفضل ..
ضحك العجوز وقال : من فضلك ناولني تلك العلبة ..هناك فوق طرف الخزانة ..
-حبّاً وكرامة ..تفضل هاهي ..
- أخرج لي حبة من ظرف الدواء إذا سمحت .
- هاهي الحبة تفضل .
-كأس الماء من خلفك بارك الله فيك .
-سأسكبة فوق أصيص الورد ..وسأملأ لك كأساً جديدة .
-شكراً .ولكنني سأتعبك معي بطلب اخر ..إذا سمحت.
-أبشر .
-حبّة دواء أخرى من فضلك .
-وهنا ضحك عبد الله وهويناوله الحبة الأخرى ويقول:
حبة أخرى نعم ..دورة ثانية للمفتاح ..إنه القدر الكافي من العمل
لفتح الباب وهنا الجرعة الكافية ليأخذ الدواء مفعوله ..نعم الجرعة الكافية ..
إننا لاننتبه غالباً إلى أن الكفاية مطلوبة في كل شيء ..
لتحقيق هدف ما لا بد من توفير كل شروط تحققه ..
ومن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ..لا يكفي أبداً أن نفعل الخير
مرة في اليوم والشر مئات المرات ثم نمنّ بما فعلنا من خير على الله ..بل يجب
أن نفعل الخير الكافي للفوز برضاه ..
ضحك العجوز وقال : ما علا قة هذا بهذا يا جار ..تذهب دائماً إلى الله ..
مهما كان موضوع الحديث أجدك تقفز في لحظة ما إلى الله ..أنت تخيفني بتذكيري
به ..أخشى أنني لم أطعه كفاية ..
قال عبد الله : ما زال لديك متسع من الوقت ..إنه يعطي على القليل كثيراً ..
إن بابه مفتوح دائماً ..لا ينسى من يذكره .. يحب من أحبّه ..يستجيب لمن دعاه
كما يشاء هو لا كما يريد الداعي ..
-ما الفائدة إذاً ؟ أنا أريد بالضبط ما أدعو به .
-أنت لا ترى ما يراه .إنه يرى ماكنت فيه وما أنت فيه الان وما سيكون عليه حالك .
فإذا لم يستجب لك ما فلأنه يعلم ما لا تعلم ويعلم ما يضرك وما ينفعك ويعلم أنّك
لن تكون سعيداً بالمحصلة لو استجاب لك ..
- إذاً ما فائدة دعائي يا صديقي ؟
-أيها الجار الطيب. إنّ الله يستجيب لك بأن يعوضك خيراً ويبدلك عما حرمت منه
من الذي كان سيضرك ما هو خير منه وما هو نافع لك ..والدنيا عند الله ليست بدار
حساب بل هي دار عمل وحتى لو لم تر فيها ما يسرك أبداً فلا أهمية لهذا مطلقاً ما دمت
في طاعة الله وما دمت تنشد رضاه وتطلب أجره وهو لن يحاسبك على ما لم يعطك إياه
فحساب المحروم أسهل وأخف بكثير من حساب من ظفر بالنعمة والقوة فأساء استخدامها
وصرفها في إيذاء الناس ..والله غني عن طاعتنا غير محتاج إلى عذابنا ..وقد جعل لنا من
البرّبالناس معراجاً إليه ..فالصبر الصبر على الخطائين فهم قد يتوبون ويصبحون خيراً منّا ..
والرفق الرفق بالضعفاء والجهلة فهم قد يتعلّمون ويحسنون ما لا نحسن ..والحذر الحذر من
أهواء النفس وشهواتها وأوهامها فهي قد تزيّن لنا كلّ سوء تحت ألف زعم وخلف مليون
شعار ..وإيّاك والاستخفاف بالكلمة الطيبة أو بالسخرية من أهلها واتهامهم بنواياهم أو
بعقولهم لأنك بذلك تمنع الناس من أقلّ ما يجب أن يفعلوه لسلوك دروب الخير ..فأسهل البرّ
ابتسامة أو كلمة طيبة ..فإذا استخففت بذلك قطعت الطريق على ما سيلي الكلام من
أفعال ..صحيح أنّ مكراً خبيثاً وكيداً عظيماً قد يختفي خلف قناع الطيبة وعذب الكلام
ولكن ذلك لا يعني مطلقاً الحطّ من شأن الكلمة الطيبة ..فهي كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها
في السماء ..فقل خيراً أو اصمت ..وتوكّل على الله بعد فعل ما يجب فمن توكّل على الله فهو حسبه
وكافيه ومنجّيه ممّن يضمر السوء ..ويخطيء كثيراً من يظنّ أنّ الّذين يتكلّمون بلسان الصدق والطيبة
هم من أهل الغفلة والسذاجة وممن يسهل خداعهم ..أبداً والله بل هم يمشون بنور الله وبحفظه وهم
إن منعهم أدبهم ورفقهم من فضح ساع بسوء فلأنّهم يدعون له بالهدى والرشاد والتوبة مع اتخّاذهم لكلّ
الاحتياطات التي تمنعه من إنفاذ مكره وكيده ..وأدعو الله لنفسي ولك يا جاري الطيب بكل خير
وأستأذنك بالانصراف إلى شؤوني ولا تنس وفقك الله الجرعة الكافية ..
-قال العجوز : ليتك استرسلت في مقالك وأكملت معروفك فكأنني لم أحصل منك بعد على جرعة كافية
من النصح ..ولم أفهم كثيراً مما قلت ..واعذرني إذا قلت لك إنني لم أصدق بعضه ..
-لا بأس عليك يا جاري الطيب ..تحتاج إلى جرعة كافية من التفكير فيما قلت لك فلا تتسرع في
الحكم عليه وتحتاج إلى جرعة كافية من الزمن أيضاً ومن اختبار العظة على جزئيات من حياتك
ثم تحتاج أيضاً وهذا أهم شيء إلى صدق التوجه نحو الله فهو ولست أنا من يستطيع إفهامك
ما تستطيع فهمه ..
-أشكرك يا جار على فتح الباب وعلى الحديث ..
-أنا في خدمتك يا جار ..وداعاً وإلى لقاء..
-قبل أن تنصرف يا جار أود أن أقول لك :
لم تكن الجرعة كافية من الوعظ ولن تكون كافية مهما فكّرت ومهما مرّ من زمن ..الوعظ شيء
لا يمكن الشبع منه ..ودائماً أراه ممّلاً لأنّه يبدو لي ناقصاً غير مشبع ...
-يا جاري العزيز : هناك شيء يجب أن نفهمه جميعاً ..الصلاح درجات ..وكلّ وعظ بليغ ينزل
على قلب طاهر يرفع صاحبه درجة فيظلّ ظامئاً رغم ارتقائه ..وعندما تعلم ذلك ستتخلص من
برمك بالوعظ وستدرك نفعه وأهميته ..
-ما زالت هناك مشكلة يا جار ..فما بال هؤلاء الواعظين لا يتّعظون ويخالفون عظاتهم ..
-مالك وما لمخالفاتهم ..ربهم سيحاسبهم على المخالفة ..خذ منهم ما ينفعك ودع حسابهم لله ..
ثمّ لا تحكم عليهم من خلال تصرّف أو عمل رأته عيناك ولم تعلم ما سيكون منهم بعد ذلك ..أليس لهم
مثلك حق التوبة والإصلاح ..هل تحتاج إلى ملائكة يمشون على الأرض لا يخطؤون أبداً لكي تسلك
سبل الخير ..هل تضمن نفسك ألا تخالف عندها .. دعك من الناس ومن تقليدهم وحسبك أن
ترسم لنفسك الدرب إلى الله وفق ما أمر وحسبما شرع ..
-يا أخي ..يا جاري هذا عذابي الأكبر ..أن أعرف حقاً ما يجب علي عمله .. بماذا أمر الله ..
وماذا شرع .. يرعبني اختلاف الناس وكل منهم يزعم امتلاك كل الحقيقة ..
يا جاري العزيز : هناك حد أدنى من الصلاح يتفقون جميعاً عليه ..إنها مكارم الأخلاق ابدأ منها
وسيأخذ الله بيدك ..كن مؤمنا بوجوده وبحسابه ..واقرأ باهتمام وبتمعن ما أنزله .. وأحسن إلى
أهلك وجيرانك ..واجتنب ما يشكل عليك واختر العدالة في القول مع من تحب ومن تكره ..ولا
يخرجك غضبك من حق إلى باطل ..ولا تعن ظالماً على ظلم ولو بنظرة ..
-مهلاً مهلاً ..ماذا قلت ولو بنظرة ..هذا كثير هذا ثقيل ..تكليف بما لا يطاق ..
تزمّت ..إرهاب ..
- ماذا أيضاً ؟
- هل بقي شيء ؟
- نعم بقي أن تقول هذه هي الحدود ..هذا حدّ العدالة ..فمن تجاوزه أثم ومن لزمه سلم ..
وتجاوزه لا يعني الهلاك كما بدا لك أيها المتزمّت العجوز ..قد يعني أن تجزى بسوء مثله ..
وقد يعني نقص في الدرجة ..وقد يعني الهلاك إذا استمرأته وأحللته لنفسك وأصررت عليه ..
ولم تتب منه ولم تخف من عواقبه ..وعلى كلّ حال هناك فارق كبير بين الصغائر والكبائر..
اجتنب الكبائر فربما كان الضعف البشري واختلاف قوانا وصبرنا يجعلنا لا ننجو من صغائر
الأخطاء ولكن الكبائر نستطيع جميعاً اجتنابها ..
-من قال لك ذلك ؟ ما دليلك ؟
-أنت عجوز مجادل ..ياأخي تب منها وانصرف عني ..
- ومن قال لك إنّني من أهلها ؟
-ادع لأهلها بالتوبة ..وخلّصني من هذا الحديث المطاط ..
- ماذا ؟ أين طمعك في الأجر ؟ هيا هيا انكشف على حقيقتك .. واخلع قناع الحرص على
الثواب الذي تقابل به جارك الحسن النوايا ..
-لك الله يا سليط اللسان ..من قال لك أن هناك أجر في حديث راح يدخل فيما لا يعنينا ..
بدأت تسأل عن حال الناس وتركت حالنا ..والواجب يا جار أن تلزم حدود ما يهمك ..ما يصلح
من شأنك ..ما يزيدك صلاحاً ..
- إنما أردت أن أفهم ..
-ومن قال لك إنّ عندي علم الأولين والاخرين ..ما أنا إلا باحث عن الأطر العامة التي لا تخفى على أحد..
أسلّط عليها اهتمامي لكي لا أحيد عن الجادة ..ولا أدخل في المتاهات ..ولا أضيع في التفاصيل ..
ولا أخذ دور غيري من أهل العلم والتخصص ممن أفنوا عمرهم في البحث والتحصيل ..فأطلق سراحي
أرجوك ..وأعتقني من شغبك وقل لي مع السلامة ..أكن الأسعد ..
-بارك الله فيك ياجاري ..والله لقد سررت بالحديث معك وأرجو أن أكون قد انتفعت ..وفقك الله
وفي أمانه ..لا تؤاخذني على المزاح الثقيل ..
- إلى لقاء أيها العجوز ..يمكنك الحضور مساء ..فللحديث بقية ..
خرج عبد الله من بيت جاره العجوز وهو يشعر بصداع خفيف ..وراح يستعرض الحديث الذي
كاد أن يتشعّب أكثر مما يمكن السيطرة عليه ..وأحسّ بالذنب لأنّه بدا غليظاً قليلاً في طريقة
إيصال ما يريد إيصاله ..فقد كان الكلام مباشراً ..كثيفاً خالياً من المداعبات الفكرية والسخرية
البنّاءة ..وحاول انتقاد نفسه في نقطة محددة ليتجنّب الوقوع فيها ثانية فلم يجد أسوأ من أنه كان
جديّاً زيادة ..وتساءل ..يا رب هل من الممكن ألّا أكون جدياً في الحديث عنك ..يا الله أريد
أن أكون لطيفاً ..ولكنني أريد أن أكون مؤدباً معك أيضاً ..وحاول في تلك اللحظة البحث عن القاعدة ..
عن القانون ..عن الخبرات السابقة ..فقال لنفسه :متى يارب كنت لطيفاً وأحدثت تأثيراً مميزاً ؟ وتذكّر ..نعم نعم..
ذات يوم في المدرسة ..في درس التربية الاسلامية ..كنت أحدث طلاب الثالث الثانوي عن أدب
الرسول الكريم وخلقه العالي في التنبيه إلى الخطأ ..حيث كان يقول : ما بال أمّة يفعلون كذا وكذا ..دون
أن يسمّيهم ودون أن يوجّه الخطاب إليهم .. ..كنت أقول للطلاب ذلك عندما
لاحظت أن أكثر الطالبات أدباً وأخلاقاً وذكاء (تعلك) تمضع علكة ..فقلت للطلّاب دون أن أوجّه الخطاب لها
ودون أن أنظر إليها : مثلاً تقضي أخلاق رسولنا الكريم أن نقول : ما بال أمّة يعلكون في الصف إذا شاهدنا
طالباً يفعل ذلك ..فماذا حدث عندها ؟ سبحان الله ..سالت دموع التأثر والخجل الشديدين على خدّ
الطالبة ..ومدّت يدها إلى فمها وأخرجت العلكة وأخفتها .. هذا ما لا حظته بالإجمال أنا المدرس
المشهور بالجمع بين دقّة الملاحظة واللطف البالغ وشدّة البأس ..نعم كان يجب أن أقود دفة الحديث ليبقى
فى هذا المستوى ..ولكن ..ألم يحدث أن كنت شديد الفظاظة في مواضع أخرى؟..هكذا تساءل عبدالله ..
ولكنه لم يشأ الإجابة ..لماذا ؟ لأنّه بطل قصّة لها كاتب سيطّلع على الزلّة وسيكتبها ..ثمّ سيأتي القاريء
ويقرأ تلك الإجابة ..وسيكون بذلك قد فضح نفسه بعد أن ستر الله عليه ..
فما الحكمة من ذكر زلّاتنا واستعراضها أمام الاخرين إذا لم يكن فيها درسأو عبرة ..
يكفي أن نعترف أننا من الخطائين لكي نبعد عن أنفسنا شبهة الغرور والإعجاب بالنفس..
ويكفي أن نحمد الله على كل توفيق نصيبه وننسبه إلى فضل الله وكرمه فلولاه ما نجحنا في شيء ولولا
أنّه أعطانا القوّة لنتنفس لما استطعنا مجرد التنفس ولكان استنشاق الهواء عناء وعذاب ما بعده عذاب..
سلوا مرضى الربو كم يعانون في نوبات الربو .. ...وعدت إلى التساؤل ..ترى ..هل جاملت العجوز .
.هل داهنته .. ..وتذكرت حديثاً حول ذلك أعجبني نطق به أحد ضيوف برنامج تلفزيوني فقال:
المجاملة هي أن تذكر وجهاً جميلاً موجوداً فيمن تخاطب ..أي أنّ المجاملة مديح صادق ..أما المداهنة فهي
مدح بشيء غير موجود أي أنها كذب ....المهم ..لسنا ملزمين أبداً بذكر المساويء من غير نفع يرتجى ..
بل يجب أن نخجل من مجردالتفكير بها ..إذا كان ذلك يوقعنا في الاستهانة بها والجرأة عليها ..
فمن الصدق مع النفس أن نحصنها من الأفكار الرخيصة والمعاني المنحطة ونعودها على التسامي والنبل ..
..نعم ..يجب على المرء أن يحترم نفسه التي زكّاها وأن يحذر من نفسه الأمّارة بالسوء ..
وتذكّر عبد الله للحظة أحد الصالحين الأطهار وكان يسير مع رفيق طريق فمرّا
بسائل رثّ بائس فأعطاه الصالح مبلغاً كبيراًنسبياً من المال ..فتضايق الرفيق وقال : لو أعطيته القليل
القليل لرضي به ..فقال الصالح : أنا أعطي على مقدار ما أعطاه الله لي من شرف ونعمة ..فقال الرفيق:
ولكن هذا السائل لا يعرفك .فنظر إليه الصالح عاتباً وقال : ألا أعرف نفسي ...
وابتسم عبدالله وهتف لنفسه : نعم من لا يكون صادقاً مع نفسه ..أيكون صادقاً مع غيره ..؟
وتساءل عبدالله : يا إلهي ..في المساء سيحضر جاري العجوز ..وسيطلب إتمام حديث الجرعة الكافية ..
ولأن الجلوس قد يطول والعجوز قد بدأ يرفع الكلفة فهو قد يتظاهر بالمزاح
ويقول : لقد بدأت ياجار تمارس عليّ دور الواعظ ..هلّا تفضلت بذكر الدليل الذي تستند إليه في إيمانك بالله ..
وسأذكر له أنّ لكلّ مصنوع صانع ..وسأذكر له النظام البديع في الكون ..من نظّمه ؟..وسأذكر له دعاء الله عند
وقوع شدّة وعند الضياع في البحر وسط العواصف ..ولكنّني سأروي له بالتأكيد ما جرى بين فيلسوف ماديّ
لا يؤمن بالله وبين أحد أئمّة المسلمين عندما قال له : أيها الفيلسوف إذا كان كلامك صحيحاً وهو ليس كذلك فنحن
وأنتم سواء نعود إلى التراب ونخسر ما جمعناه وما بنيناه ..وإذا كان كلامنا نحن صحيحاً وهو كذلك ..فأنتم إلى
خسران ونحن في جنّة عالية وفوز كبير ..فأنتم على قولك في الحالين إلى خسران ونحن أمامنا احتمال الفوز ..
وهتف عبد الله : نعم هذه أبلغ حجة ..بقانون الاحتمالات أهزم هذا العجوز المجادل ..إن لم أقنعه.. وليتني
أفعل بإذن الله وتوفيقه ..فأظفر بثواب ذلك وهو خير مما طلعت عليه الشمس ..فتكون هدايته من الله
وبمشيئته ولكن على يدي ..رحمة من الله بي وتفضّلاً منه عليّ ..وسأقول له : أيها العجوز تاجر مع الله خير
تجارة ..منك الإيمان ..ومنه الرضوان ..
والتجارة مع الله لا تحتاج إلى رأس مال .. فمّما أعطانا نعطي ..وعمّا قدّرنا
على الامتناع عنه نمتنع ..ونصرف ذلك لوجهه الكريم ..لا لنيل مدح من مدّاح
ولا لحصاد جزاء من الناس ..
.خطرت لعبدالله هذه الخواطر ولكنه سرعان ما استعاذ بالله وهتف
لنفسه :وكأنني أنا الكامل الخالي من العيوب ..إنّ أبلغ دعوة إلى الله هي الدعوة الصامتة ..الدعوة بالعمل الصالح ..
بالتسامح ..بالرفق ..بالحكمة والموعظة الحسنة ..بتغيير النفس نحو الأفضل ..وبالتسابق للخيرات ..
والتنافس فيها..ما نفع إيمان لا يثمر إحساناً إلى الناس .. ما نفع إيمان يجعلك تيأس من الناس وتضع أهل الخطايا
ومن يخالفونك الرأي في معسكر الأعداء ..وخير لك أن ترى رأيك صواباً يحتمل الخطأ من أن تراه سقف الرشاد
وتصدم به رؤوس العباد ..ممن قد يكونون أطول منك قامة .. ولكن ..أليست هذه ميوعة ..أليس
هذا تهاون في بيان الحق وفضح الباطل ..لا لا .. لا يمكن التفكير بهذه الطريقة ..هذا تعميم مبالغ فيه ..
الأفضل أن تتعامل مع كلّ مسألة حسب مبلغ أهميتها وحسب درجة وضوحها في ضوء النصوص الثابته والمنطق
السليم ..نعم هذا هو الأفضل ..لا يمكن التسامح عندما يكون هناك ضرر كبير يحصل من هذا التسامح ..
ولكن لا يمكن الحساب إلا على قدر الإساءة ..فيرد على الكلام بالكلام وعلى العصا بالعصا ..وتقاس الأمور
بمقدار نفعها وضررها للناس لا بمقدار النفع الفردي والشخصي الاني والعارض الذي قد يتغير بين عشية وضحاها ..
ثمّ من الذي يحكم في مثل هذه الأمور ..الأفراد أم المؤسّسات ..العلماء والمتخصصون أم لكل فرد الحقّ في النظر ..
والحكم .. ماذا لو اغتصبت تلك المؤسسات ..؟ماذا لو بيعت الألقاب ومنحت الشهادات لمن يركع أكثر للمستعمر
الطامع ..؟ ماذا لو ساد المرتزقة فيها ؟ يا إلهي ما أصعب الاستسلام للهواجس وللمخاوف ..وما أجمل أن نفعل
ما نستطيع من خير ثمّ نتوكل على الله ..يجب أن نفترض أنّ هناك في كلّ مكان ومن كلّ انتماء أناس شرفاء يبحثون
عن خير الجميع .. ويجب أن نبحث عن هذا الخير فيهم بصدق وبإخلاص ..ويجب أن ندعو الله ليهدي قلوب
الجميع لكل صلاح وفلاح ..ويجب أن يترافق ذلك مع أقصى درجات الحذر من تجّار المباديء وبائعي الشعارات
المندسين في صفوف الأبرار لقطف مختلف الثمار ..الماديّة والمعنويّة ..اه ياجاري ..لو تعلم إلى أين شردت بي خواطري..
لكأن استقبالي لك وحديثي معك سيبني العالم أو سيهدمه ..ألا يكفيني منك حسن المعاملة وحسن الاستماع ..
ما أدراني أية كتب قرأت ..وبأي ثقافة تشبّعت ..ليتنا نحن أبناء الوطن الواحد نتّفق على قراءة مجموعة من الكتب
التي تكون نواة لوحدة ثقافية ..فيعرف كل واحد منّا رأي الاخر كما هو تماماً ويعرف مواطن الاتفاق والاختلاف ..
ولكن ما فائدة التمنّي ؟ وما ثمرة لو ؟ لابدّ من العمل ..عمل ما ينفع الجميع ...
في تلك اللحظة كان عبد الله قد وصل إلى باب بيته
فسمع بكاء ابنته الصغيرة ..فأسرع إلى الداخل يستطلع الأمر ..وهناك رأى زوجته
تحاول انتزاع شيء ما- برفق- من يد الطفلة ..فصاح مازحاً : اتركيها اتركيها ..
فأفلتت الطفلة من يد الأم المتراخية ولجأت إلى حضن الأب الذي انحنى والتقطها ورفعها
عالياً وهو يسأل : ماذا تريدين من صغيرتي ؟ قالت الأم ضاحكة : أخذت الولاعة
وتأبى إعطائي إياها ..أخشى أن تحرق شيئاً ما كما أنني أريد إشعال الغاز ولم أجد
غيرها ..غمز الأب للأم أن انتظري قليلاً وقال بصوت عال : لا لن تأخذي من ابنتي الحلوة شيئاً ..
تعالي يا حلوتي سأعطيك كلّ الألعاب ..كلّها ..كلّها لك ..لا تعطي أحداً منها أيّ شيء..
وفتح درج الألعاب وراح يضع الألعاب في يديّ الصغيرة حتى تكدّست ولم تعد تستطيع
التقاط أي شيء ..وبحركة خاطفة التقط الولاعة من بين الألعاب ووضع بدلا منها لعبة
تصدر صوتاً وصاح : اسمعي اسمعي ..ماذا تقول هذه اللعبة ..؟ ضحكت الصغيرة
ولم تكن بعد قد تعلّمت كلّ الكلمات فراحت تحاول التلفّظ بشيء ما ..بينما ناول الأب
الأم الولّاعة من وراء ظهره ..وأشار لها أن اذهبي إلى شأنك ..ثم وضع بعض الألعاب
على ظهر الطفلة وراح يضحك قائلاً : لقد أفلت منك شيء ما يا طفلتي ..التقطيه عن
الأرض .. وسرعان ما انصرفت الطفلة إلى ألعابها ولم تلاحظ اختفاء الولّاعة في ذلك
الزحام من الأشياء .. جاءت الأم حاملة صينية معدنية وعليها كأسين زجاجيين تفوح
منهما رائحة نبتة الزوفا المغلية وهمست للأب : تفضل ..قال الرجل : انظري انظري
إلى ابنتك ..يعجبني فيها هذا الحرص على ألعابها ..لديها ميل كبير للتملّك ..وأظن ذلك
سيتحوّل بطريقة ما إلى حسّ عال بالمسؤولية في المستقبل ..وإلى تقدير لقيمة الأشياء ..
قالت الأم : لا أعرف كيف خطر لك أن تنتزع منها الولاعة بتلك الطريقة المضحكة والذكية ..
قال الرجل : لقد كان تصرفاً مرتجلاً ..أنا نفسي لم أدرك إلى أين سأصل ..وجدتها تريد الاستحواذ على
شيء ما فأغرقتها بما تحبّ ..قلت لها بلسان الحال ...تريدين التملك ..خذي تملّكي ..
وفي زحام الأشياء التي نملكها تضيع منّا الأشياء ..وننسى أنّ كل شيء نملكه هو أيضاً يملكنا
في اللحظة التي نحصل فيها عليه ..نحلم بالمنزل ..وعندما ننجز بناءه يصبح علينا تنظيفه وصيانته
وحراسته والتزامه ..ونحلم بالسيارة ..وحالما تصبح بين أيدينا تشاهديننا في الصباح نرفع غطاء
المحرك نتفقد الماء والزيت والإطارات وننفق من عمرنا مادتّه الأساس وهي الزمن لرعاية ما نملك ..
فنكون مملوكين من حيث ندري أو لا ندري ..وعندما تزداد أملاكنا لتتجاوز طاقتنا على الانتباه
والإحصاء نفقد منها ما يخرج عن حدود رقابتنا عليه ..هل سمعت بفنّ الكاراتيه ؟
إنّه فنّ قتالي يقوم عل استخدام قوً ة الخصم ضدّه .. أرادت ابنتي التملك ..فأغرقتها بما أرادت ..
وفزت بما أردت ..أعطيتها مالا أريده لاخذ ما أريده ..هل وصلت الفكرة ؟
ضحكت الزوجة وقالت : أيها المتفاخر .. وكأنّك استرجعت قطعة الأرض التي فقدتها عندما
خطرلأحدهم خلف طاولته أن يضمها إلى حديقة مستقبلية في بقعة تمتد فيها الأشجار عشرات الكيلومترات ..
لمعت عينا الرجل وابتسم ..ثم قال : عندما تفقد الأوطان تضيع اهمية قطعة صغيرة فيها ..
في تلك اللحظة ارتفع صوت المؤذن ..فنهض الرجل وسأل: هل هناك ماء فاتر للوضوء والله لقد أرهقني
الزكام الذي يسببه لي الماء البارد .. قالت الزوجة : نعم هناك ماء ساخن على المدفأة يمكنك تبريده ..
وقرب سجادة الصلاة أغفى الرجل ..وفي الخارج عصفت الريح بشدّة وقرع البرد اسفلت الشارع ..
انقطعت الكهرباء مساء ..الرياح تعصف في الخارج ..العجوز يرتعد
من البرد والمازوت قد نفد من عنده ..لا خيار أمامه غير أن يندس في
فراشه حتى الصباح أو أن يذهب إلى جاره عبد الله لاستكمال حديث
الجرعة الكافية واستعارة بعض المازوت .. ولم يتردد كثيراً فقد تذكر رائحة
خلطة الشاي الأخضر مع الهيل والقرفة التي يعدها جاره عبدالله على مدفأة الحطب
ولم يستطع مقاومة فضوله لمعرفة تتمة حديث الجرعة الكافية..فتحامل على نفسه
وذهب ..وهناك استقبله عبد الله باسماً ضاحكاً ممازحاً كعادته ومبتكراً
كل وسيلة لمداعبة جاره العجوز .. ومنها قوله له :
اليوم يا جاري العزيز ستكون شاهداً على عملية احتيال ..وستكون شريكاً فيها ..
ما رأيك ؟
-يا سلام يا جاري ..إي هكذا ..أفرح قلبي الشقي قليلاً ..وخفف من عيار مواعظك فقد
خشيت أن تفقد روح الدعابة إلى الأبد بعد حديث الجرعة اليوم .. ..
- طيّب يا جار ..كما تحبّ .. ولكن اسمع ..سيحضر بعد قليل جارنا ( وقور) وسيشتكي
من أنني غرست غرسة قريبة جداً من حدود أرضه .. المطلوب منك أن تستمع
وتؤجّل الحكم حتّى يعلن هو عن مطلبه .. ثم وافقه على ما يطلب ..
- لا لا مستحيل ..أنا أعرف وقور إنه لا يطلب إلا السيطرة على الاخرين ..والتجاوز على حقوقهم ..
ويستحيل أن أسانده .. ما مصلحتي في ذلك .. أنا لست على وفاق معه أصلاً ..وهولا يثق بي ..
_ اسمع يا جاري العزيز ..أنا أعلم ما تعلم عن وقور .. وأعلم أنّه رجل فاضل ولطالما تفضل علي
بمضايقات من كلّ نوع وأعلم أنه يحبّ الوجاهة والتكريم ..
-بل قل السيطرة..
- يا سيدي السيطرة ..إذا أحببت ..لذلك فقد نصبت له فخاً لكي يقع فيه فيفوز بالتكريم وأفوز أنا بالسلامة ..
-ماذا يعني ذلك ياجار ؟ هل هذه أحجية ؟
- لا يا جاري ليست أحجية ..أنت تعلم أنني أملك قطعة أرض ملا صقة لأرضه وقد أردت زراعتها
فاخترت غراس زيتون لذلك ..ولكنني تذكرت وجاهة وقور وفضائله وعلمت أنّه سيتفضّل عليّ بواحدة
منها ..وكان أمامي خياران فقط ..إما أن أستسلم لما أعرف منه أو أن أبادر إلى مالا يعرف منّي ..
فحفرت أربعة حفر واحدة منهن تبعد عن أرضه مترين فقط والأخريات يبعدن ثلاثة أمتار ..
وافترضت أن جاري وقور سيسارع لانتهاز فرصة الاحتجاج علي وسيقول لي :
اسمع يا جار ..زيتونة كهذه ستنمو وستغطي متراً على الأقل من أرضي ..فهل يرضيك ذلك ؟
وسأوافق أنا على إلغاء الحفرة القريبة ..وسيشكرني جاري وقور على التجاوب ونبقى أحباباً ..
-ولكن لماذا تتعب نفسك في حفر حفرة لا تحتاجها أصلاً ..لست ملزماً مطلقاً بهذا الخيار .
-لو لم أفعل ذلك لجاء واعترض على الحفر الثلاث وقال :
اسمع ياجاري العزيز ..قد لا تنمو في السنوات الخمس القادمة زيتوناتك النمو الكافي لتغطي على أرضي ولكنها
ستفعل ذلك ذات يوم .. فهل يرضيك أن يتخاصم أولادنا بسبب عمل قام به أحدنا وسكت الاخر عليه ؟
وسأضطر عندها إلى أحد خيارين :
إما أن أرفض اعتراضه واتحمل ما سينتج عن ذلك من جفاء وربما دخول أطراف أخرى للتحكيم وللفتوى ..
وإما الرضوخ لمطالبه وحفر ثلاث حفر جديدة بدلا من واحدة ..فما رأيك ؟
-أنت تبالغ كعادتك يا جار ..في الوعظ تبالغ ..وفي الاتعاظ تبالغ ..على كل حال وفقك الله ..
قرع الباب ودخل وقور وعلى وجهه علائم الهمّ والارتباك وقال مخاطباً عبدالله :
حدّثتك بالهاتف ياجار حول موضوع الغرسة ..ولأنه موضوع مهمّ ولا يحتمل التأجيل فأرجو ألا يمنعنا
وجود جارنا العجوز من الكلام فيه ..
قال عبد الله وهو يصب الشاي في فنجان خزفي لجاره الوقور : لامانع عندي يا جار تفضّل ..
- سلمت يداك ..باختصار يا جار ..أنت اقتربت كثيراً بغرستك من أرضي ..هذه غرسة وليست
عصا ..ستنمو وستغطي جزءاً من أرضي ..وأنت لم تترك لي خياراً اخر غير الاعتراض والاحتجاج
عليها ..رغم أنني وبكل صراحة كنت على وشك الاعتراض على الغراس الباقية أيضاً ..لما يمكن أن
تسببه مستقبلاً ولكن إكراماً لك سأحتج على الغرسة القريبة فقط ..ألغ هذه الغرسة يا جار ..
وليوفقك الله ..
-قال عبد الله : ولكن يا جار نحن في منطقة رطبة وباردة والزيتون ينمو بشكل طولاني وببطء ولا أعتقد أن زيتونتي
ستوذيك حقاً ..ثمّ هات ورقة لأكتب لك أذناً خطياً بقطع كل غصن يغطي أرضك ..
- لا لا يا جار هذا الكلام غير عملي ..الورقة قد تضيع ..وأنت قد تبيع ..الأفضل ما قلته لك ..قل له يا جارنا العجوز .
-قال العجوز : ماذا أقول له يا وقور ..ألا يعرف لوحده ماهو الصواب وما هو الخطأ ..من أنا لأعلمه ؟
-أنت الخير والبركة ..وهو يحترمك ويقدرك .
قال العجوز : أمري لله ..أنت يا وقور جارنا ولا يمكن التفريط بمودتك ..وأنا لا أرى مانعاً من أن يلغي عبدالله حفرته.
نجّانا الله وإيّاكم من حفرة النار ..ألغها يا عبدالله ..وطيّب خاطر وقور ..
-قال عبدالله : أبشرا بكلّ خير ..جاران كريمان غاليان يطلبان رخيصاً ..اعتبرا الحفرة كأن لم تكن ..
هل لي من خيار غير الموافقة على طلبكما معا ..مالي من خيار مقبول ..
-بارك الله فيك يا عبدالله اسمح لي لان بالانصراف فقد تذكرت أمراً مهماً ..وشكراًلك ..نرجو عدم المؤاخذة .
-لا أبداً أهلاً وسهلاً ..شرفتمونا ..أنتم أغلى عندنا من زيتون العالم كله ..
-شكراً شكراً..
وانصرف وقور مسرعاً ..وشرد العجوز يتأمل ..ثم قال :
- ما أطول بالك ياعبدالله ..
- هل من خيار اخر ؟
-هل من خيار اخر؟نعم نعم هناك خيار ألا تهتم للاخرين إذا كنت على حق ..
-ليس الأمر كما تراه ياجاري ..الحق هو أن تختار أقلّ ضرر ممكن وأكبر منفعة للجميع ..
-ولكنك أرهقت عقلك ..هدرت وقتك ..أستسلمت لطغيان جارك..
- كنت سأرهقه أكثر لو لم أفعل ما فعلت ..وكنت سأهدر وقتاً أطول ..وفي جاري عيوب
لا مجال لإصلاحها أبداً .. أبداً ..
- لا مجال لإصلاحها من قال لك ذلك ؟
-اسمع يا جاري العزيز ..دائما هناك مشاكل لا حل لها مطلقاً يجب أن نتعايش معها ..وهناك عيوب
في الناس لا سبيل لإصلاحها علينا احتمالها قدر الإمكان ..
- ولماذا يا عزيزي ووفق أية مقاييس ؟
-أما لماذا فلأن الكرم والحلم والتسامح يتجلى هنا في احتمال الأذى وفي العفو عن سوء غير قابل للإصلاح ..
أما وفق أية مقاييس فوفق مقياس بسيط واضح هو: احتمال السوء الذي ينتج سوء أكبر منه عن عدم احتماله ..
دفع الضرر الأكبر باحتمال الأدنى ..هل من خيار اخر ؟
- عند التأكّد لا ..ما من خيار ..ولذلك يا جاري العزيز لا خيار أمامي الان وأنا أوشك على العودة
إلى منزلي إلا أن أطلب منك إعارتي بعض المازوت ..لأنّك لم تسألني إن كان بقي عندي شيء منه أم لا
ولم تعرض عليّ المبيت عندك .. والدنيا برد ..وذلّ السؤال أقلّ ضرراً من البرد القتّال ..فقم وهات بعض
المازوت وأجرك على الله ..ولكن قبل أن تفعل برّد قلبي أرجوك وقل لي بربك لماذا سارع وقور إلى الانصراف بسرعة
هكذا ؟ أليس لأنّه خشي أن تغيّر رأيك؟ ألا يظنّ أنّ كلّ الناس مثله لا عهد لها ولا ميثاق ؟ مارأيك؟
- رأيي أنه قال إنّه مشغول ولا خيار أمامي إلا تصديقه وهذا أقلّ ضرراً من تفسيرك للأمر ..
-ماذا؟ أقلّ ضرراً.. هذا بعد عن الحقيقة .. تجاهل لها..
-الحقبقة شيء والظنون شيء اخر ..الحقيقة دائما تحتاج إلى براهين عليها ..
-ولكن البرهان موجود .
-ما هو ؟
- هو ما أعرفه عن وقور إنه لم يفكّر قط إلا بنفسه وبنفعها العاجل ..
- لا ثمرة يا جار من حديث فيه اختزال للأخرين هكذا ..الخير في الدفع بالخير ..في دفع السيّئة بالحسنة ..
في عدم اليأس من الناس .. في الأمل بأن هدى الله لهم سينزل بعد قليل ..في تناسي ما سلف من أخطائهم
ما دامت لا تمتد إلى الحاضر .. ما دام جاري لا يدوس على رجلي فلماذا أدوس على رجله خوفاً من أن
يفعل .. هو في بيته وأنا في بيتي ..والله أوصى به ..
- طيّب ياجار هل أوصاك الله بتجاهل إتمام حديثك حول الجرعة الكافية الذي وعدت بإتمامه ..
- الله لم يوصني بإلقاء الدرر بين أرجل الجياد الهرمة المرتعدة من البرد تدوسها بسنابكها ..ولم يأمرني باستجداء الاخرين
لأذكرهم بما ينفعهم من ذكره فإذا كنت حقاً ترغب في الاستماع فاجلس وعدني بالبقاء والاستماع حتى النهاية ..
-سنستمع أيها الفاضل وسنحكم إن كان ما ستجود به درراً أم لا ..نافعاً أم لا ..إلا إذا كانت الحقيقة
المطلقة في جيبك وستخرجها من لفافتها الذهبية وتنفثها في وجهي ..
-سامحنا الله وإياكم ..ما هذه الصورة الغريبة ..من أين نبشتها يا جاري المشاغب ..؟
-نبشتها من نفس المكان الكثير الغبار الذي قعدت فيه على كرسي الوعظ المحكوم سلفاً بأنّه سديد رشيد
لمجرد أنك تقمصت فيه ثوب الإيمان ..يا أخي استيقظوا ..وتعلّموا طرح رأيكم وقراءتكم للنصوص المقدسّة ..
-أوف أوف ..ما هذا ياجار ؟ لقد قمت باحتلال مقعد الوعظ حضرتك ؟ إنّك لم تترك لي خياراً غير الاستسلام ..
- حسناً طالما أنّك استسلمت ..عد إليه وأكمل من فضلك حديث الجرعة الكافية ..
يتبع