في عيد الأم :
لهف نفسي على منزل أصبحت بلاطاته مهجورة من وقع خطوات أمي التي أمضت أياماً وليالي تجيء فيه وتروح .
لهف نفسي على جرس باب لم تعد تقرعه أمي لأهرع نحو الباب أفتحه لأجد خلفه وجه أمي يحمل ابتسامة السعادة والرجاء والأمل .
لهف نفسي على تلك المخبوءات الصغيرة التي تقبع في خزانة أمي ، حيث لم تعد يد حانية تمتد إليها لتخرجها ثم تعيدها حيث الهدوء السكينة .
لهف نفسي على مقعد وثير كانت أمي ترتاح عليه منذ أمد بعيد .
كم يشكو هذا المقعد الآن الوحشة والبرودة وتعاقب الأيام .
لقد رحلتِ يا أمي فرحلتْ معكِ أحلى أيام عمري .
رحل معكِ أُنسٌ كنت أعيشه ، وغادرتني سعادةٌ كنت أحياها .
رحلتِ يا أمي إلى السماء . . . أنتِ الآن بعيدة عني ولكنك في قلبي ، فهل من قربٍ أكثر من هذا .
إن السماوات المفتوحة التي تبعدني عنك ليس اتساعها باتساع الحزن الفسيح الذي أشعر به ، وأعيشه وحدي ، ودون أن يشعر بي أحد .
أفتحُ باب غرفتك وأناديك وأنا أعلم لأن ليس من مجيب ، وأرن لك على هاتفك وأنا أعلم أنه لن يرد أحد ، وأحضر مائدة وأدعوك إليها ، وانا أعلم أنك لن تأتي . . . وأحضِّر وروداً وأزاهير لمناسبة عيد الأم وأنا
أعلم أن لا أحد سأهديه واحدة منها .
يا أمي :
سأظل دائما أفتش عن وجهك بين كل الوجوه . . . ومهما امتدت بي الأيام فإني سأبقى أشعر أنني سوف ألقاكِ بين الناس تنظرين إلي . . . إلى أن يحين وقت الاستجابة .
مشيتُ كثيراً وبحثتُ كثيراً وجلست على قارعة الطريق مرات ومرات ، وفي مداخل الأبنية في بعض الأحيان ، وعلى مقاعد حدائق مهجورة في أوقات لا يتواجد فيها أحد . . . كنت أبحث عنك يا أمي .
لكني اليوم اكتشفت الحقيقة التي كانت غائبة عني .
اكتشفت أنني قد رحلت معك منذ العام الماضي ( 16 / 1 / 2015 ) .
اكتشفت أنني أنا ميت في حقيقة الأمر ، فالذي يتحرك أعضائي ، والذي يتكلم لساني ، وتلوح عليها مظاهر الحياة جوارحي . . .
أما أنا فلم أعد موجوداً . . . لقد رحلت مع أمي منذ العام الماضي . . .
إنني أرثي بصدق لكل من يعيشون معي ويسمعون صوتي ويقرؤون كتاباتي ، ويشاهدونني أتحرك وأمشي . . .
أرثي لهم لأنهم لا يعلمون أنهم يعيشون مع ميت ، ويتعاملون مع جثة . . . ولو ادركوا ذلك لمُلئوا رعباً ، ولتراكم الخوف في نفوسهم ، ولفرّوا بعيداً عني . . . ومعهم كل الحق في ذلك ؛ فالميت يُرعب ، والجثة تُخيف . . . وبخاصة إذا كانا يدبَّان على الأرض .
أصدقائي :
هذا مقطع من محاضرتي القادمة إن شاء الله بعنوان ( حنانك يا أمي ج 2 ) ، آمل ألا يكون قد أزعجكم .