قصة قصيدة
بيهس الجرمي
محمد عيد الخربوطلي
أبو المقدام بيهس بن صهيب بن عامر الجرمي القضاعي، شاعر فارس من شعراء الدولة الأموية، كان ينزل بادية الشام مع قبائل جرم وكلب وعذرة، وينزل المدينة إذا نزلوا، وقد عرف بمواقفه ومشاركته للمهلب بن أبي صفرة في معاركه للأزارقة، وكانت له مواقف مشهورة وبلاء حسن.وكان يهوى امرأة من قومه، يقال لها صفراء، فيجلس في بيتها ويتحدث إليها ويكتم وجده بها فلا يظهره لأحد ولا يخطبها لأبيها، لأنه كان صعلوكاً لا مال له، فهو ينتظر أن يثري، وكان من أحسن الشباب وجها وزينة وجمالاً وحديثاً وشعراً، فكان نساء الحي يتعرضن له، ويجلسن إليه ويتحدثن معه، فمرت به صفراء فرأته جالساً مع فتاة فنهن، فهجرته زماناً لا تجيبه إذا دعاها، ولا تخرج إليه إذا زارها، وعرض له سفر فخرج إليه ثم عاد وقد زوجها أبوها رجلاً من بني أسد، فأخرجها وانتقل عن دارهم بها، فقال بيهس في ذلك:سقى دمنةً(1) (صفراء)(2) كانت تحلهابنوءِ الثريا طلَها وذهابهاوصاب(3) عليها كلُّ أسحم(4) هاطلٍولا زال مخضرّاً مريعاً جنابها(5)أحبّ ثرى أرض إليَّ وإنْ نأتْمَحَلُّكِ منها نبتها وترابُهاعلى أنها غضبى عليَّ وحبذارضاها إذا ما أُرضيت وعتابهاوقد هاج لي حيناً فراقُكِ غُدوةًوسعيك في فيفاء(6) تعوي ذئابهانظرت وقد زال الحمول ووازنوابركوة والوادي وخَفّتْ(7) ركابهافقلت لأصحابي أبالقربِ منهمُجرى الطير أم نادى ببينٍ غرابهاثم ماتت صفراء قبل أنْ يدخل بها زوجها، فقال بيهس يرثيها:هل بالديار التي بالقاعِ من أحدِباقٍ فيسمع صوتَ المدلج(8) الساريتلك المنازل من صفراءَ ليس بهانار تضيءُ ولا أصواتُ سُمّارِ(9)عفتْ(10) معارفها هوجاً مغبرّةًتسفي(11) عليها تراب الأبطح(12) الهاري(13)حتى تنكرتُ منها كلَّ معرفةٍإلاّ الرمادَ نخيلاً(14) بين أحجارِطال الوقوف بها والعين تسبقنيفوقَ الرداء بوادي دمعها الجاريإنْ أصبح اليومَ لا أهلٌ ذوو لطفٍألهو لديهم ولا صفراءُ في الدارِأرعى بعيني نجومَ الليلِ مرتقباًيا طولَ ذلك من هَمٍّ وإسهارِ(15)فقد يكون ليَ الأهلُ الكرام وقدألهوى بصفراء ذاتِ المنظرِ الواري(16)من المواجد(17) أعراقاً(18) إذا نُسبتْلا تحرم المالَ عن ضيف وعن جارِلمتلق بؤساً ولم يضر بها عَوَرولم ترجِّفْ(19) مع الصالي(20) إلى النارِكذلك الدهر إنَّ الدهر ذو غِيَرٍ(21)على الأنام وذو نقصٍ وإمرارِ(22)قد كاد يعتادني من ذكرها جزعلولا الحياءُ ولولا رهبةُ العارِسقى الإلهُ قبوراً في بني أسدحول الربيعةِ غوثاً صوب(23) مدرارِ(24)مَن الذي بعدكمْ أرضى به بدلاًأوْ مَنْ أحدِّث حاجاتي وأسراريواجتاز بيهس في بلاد بني أسد. فمرَّ بقبر صفراء. وهو في موضع يقال له الأحص(25)، ومعه ركب من قومه. وكانوا قد انتجعوا(26) بلاد بني أسد. فأوسعوا لهم (وكان بينهم صهر) فنزل بيهس على القبر. فقال له أصحابه ألا ترحل. فقال: أما والله حتى أظلَّ نهاري كله عنده، وأقضي وطراً، فلا تنزلوا، فأنشأ يقول:ألمّا على قبر لصفراءَ فاقرآ الــسلامَ وقولا حَيِّنا(27) أيها القبرُوما كان شيئاً غير أنْ لست صابراًدعاءك قبراً دونه حجج(28) عشرُبرابيةٍ فيها كرامٌ أحبّةعلى أنها إلاّ مضاجعهم قفرُعشيةَ قال الركب من غرض(29) بناتروح أبا المقدام قد جنح(30) العصر(31)فقلت لهم يومٌ قليلٌ وليلةلصفراء قد طال التجنب(32) والهجر(33)وبتّ وبات الناس حوليَ هجّراًكأنَّ عليَّ الليلَ من طوله شهرإذا قلت هذا حين أهجع ساعةتطاول بي ليلٌ كواكبُهُ زهر(34)أقول إذا ما الجنب ملَّ مكانهأشواكُ يجافي(35) الجنبَ أمْ تحته حجرفلو أن صخراً من عماية راسياًيقاسي الذي ألقى لقد مَلّه الصخرويؤكد الزركلي أنه كان فارساً حكيماً، وقال عن قتاله مع المهلب ابن أبي صفرة للأزارقة أن المهلب قال: ما يسرني أن في عسكري ألف شجاع بدل بيهس! فقيل: بيهس ليس بشجاع، فقال: أجل ولكنه سديد الرأي محكم العقل.الهوامش:1- دمنة: آثار الدار.2- صفراء: اسم محبوبة الشاعر.3- صاب: انصب ونزل.4- أسحم: أسود وهنا كناية عن السحاب الكثيف المتلبد.5- جناب: الفناء، الحياض.6- فيفاء: المفازة التي لا ماء فيها.7- خف: طاش، ارتحل مسرعاً.8- المدلج: الذي يسير في أول الليل ويطلق أيضاً على من يسير في آخر الليل.9- السمار: جمع سامر وهو الذي يتحدث في الليل، وسامر اسم فاعل من معنى الحديث.10- عفا: درس ومحا.11- تسفي: تذري، تبدد.12- الأبطح: مسيل واسع فيه دقاق الحصى.13- الهاري: المتصدع، تقول رجل هار أي ضعيف من شدة الزمان.14- نخيلا: ما نخل أي صفي وغربل.15- إسهار: امتناع النوم في الليل.16- الواري: المتقد، المشع.17- المواجد: ذوات السعة والقدرة.18- الأعراق: جمع عرق والعرق من الشجر أصله وهنا كناية عن كرم الأرومة.19- ترجف:تخوض في الأخبار السيئة.20- الصالي: اسم فاعل ج صلي، يقال صلى الشيء ألقاه في النار.21- الغير: الحوادث، مصائب الزمن.22- امرار: جمع مرة، والمرة قوة الخلق وشدته، والحالة التي يستمر عليها الشيء.23- صوب: السحاب ذو الصوت.24- مدرار: غزير الدر يقال ديمة مدرار أي غزيرة السيلان في القرآن الكريم: يرسل السماء عليكم مدراراً.25- الأحص: موضع بنجد فيه منازل ربيعة ثم منازل وائل وتغلب، والأحص أيضاً كورة مشهورة بين القبلة وبين الشمال من مدينة حلب.26- انتجع: طلب: يقال انتجع الكلأ طلبه في موضعه، وانتجع فلاناً طلب معروفه.27- حينا: فعل أمر من حيا.28- حجج: جمع حجة والحجة السنة وحجج سنون عديدة.29- غرض: الغرض الضجر، وفي المثل: من فاته الغرض (أي الهدف)، فتته الغرض (أي الضجر).30- جنح: أقبل.31- العصر: الليل.32- التجنب: البعد.33- الهجر: ضد الوصل.34- زهر: جمع زهراء، وهي النيرة، المشرقة الوجه.35- جافى: جنب، باعد.المصادر:1- الأعلام للزركلي – 2/81.2- شعراء الأعراب – خليل مردم بك – 11- 17.3- الأغاني – 22/134 – 141.