ذلكم عمي :
إن كنت لست معي فالذكر منك معي
يراك قلبي و إن غيبت عن بصري
العين تبصر من تهوى و تفقده
و ناظر القلب لا يخلو من النظر
نال شهادة التعليم الثانوي ، ثم اتجه إلى ما وراء البحار ليكمل دراسته في أمريكة ، و ما كاد يحصل على شهادة الماجستير في مجال هندسة الكهرباء الذي كان اختصاصاً نادراً في بلاده ، حتى طلبت إليه العودة ليخدم وطنه .
فتخلى عن طموحه ، و أعرض عن متابعة تحضير دراسته العليا ، و التهييء لنيل شهادة الدكتوراه ، و آب مسرعاً إلى بلده ليساهم في افتتاح مركز الهاتف الآلي الأول في سورية .
هكذا كان الوطن في قلبه ، كلَّ شيء تراه عيناه سواء كان فيه أم لم يكن ، كان هواه الذي لا يفنى ، و هواءه الذي يتنفس ، فلكم كان مريراً أن تحتضنه أرض الغربة آخر المطاف . كانت الدنيا تتغير من حوله ، يغشاها السواد و يجللها الشر ،أما هو فقد لبث راسخاً على جبل كرامته ، طريقه واحد و وجهته واحدة ، الحق ... و لا شيء غير الحق .
اغتنى الناس من حوله ، و بات من هم أدنى منه علماً و مكانة و خبرة أصحاب ثروات طائلة ، أما هو فكان يخسر الكثير ، و يتراجع وضعه المادي ، في حين يملأ جعبته خيراً و كرامة و خلقاً . لم يغادره صبره يوماً ، و لم تخنه بسمته البريئة ، الخلق ديدنه ، و الصدق منهجه ، و صفاء السريرة صفته العليا ، و بها كان يصنع إرثه العظيم .
و إن طولب يوماً بما يخالف مبادئه و لو قليلاً ، انقلب الرجل الهادئ الوادع فيه ليثاً هصوراً ، زمجرته تشق ظلمات البغي و تبعثر بيادق الخنوع ، فلا يستسلم أبداً و إن أضاع بذلك كل ما يملك ، لأن ميزان المعاني عنده أرجح كثيراً من ميزان المصالح .
عاش كذلك ، القيم مغروسة في أعماقه حتى لتكاد تكبله ، و تأخذه الشدة في شأنها ليلقى نفسه وحيداً أحياناً ، فلا يفل هذا من عزيمته ، بل يزيدها صقلاً و إصلاتاً .
و إلى جانبه كانت زوج من أكمل النساء ، لو أن للدماثة أن تمثَّل بأحد من البشر لما مثِّلت إلا بها ، العطف و الخلق الرفيع و اللباقة التي لا حدود لها ، كلها عناوين لشخصيتها التي كانت و ما تزال مضرب المثل ، و من زوجه تلك كان الرجل الكبير يلقى العون و العزاء من كل هم ، و النصرة على استكمال الدرب الذي ارتضاه .
هكذا عاش أبو جلال ، و بهذا أفنى عمره ، خادماً لمبادئه عاملاً بها ، جندياً وفياً لوطنه و أمته ، لا يعرف غير الصدق و الإخلاص ، ثم الصدق و الإخلاص ، ثم الصدق و الإخلاص . و لهذا فإنه إن ذكر في مجلس ، ضج الحضور بالدعاء له و ذكر محاسنه و أفضاله ، مترنمين باسمه المقترن لديهم بالخير و الشرف ، حتى ليشعر المرء أنه قد مرت نسمة من نسمات رياض الجنان ، حاملة نشراً من العطور الملائكية البهية .
كلَّ ذلك كان أحمد مرسي النفاخ ، عمي القدير الكبير الذي فقدته منذ أيام قليلة ، أفلا يستحق عظيم بأخلاقه كهذا أن يبكى ملء المآقي ؟؟ اللهم إني أسألك له الخير حيث هو ، و أن ينال جزاء إحسانه للناس هناك ، حيث لا ينفع مال و لا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم .
اليوم هادنت الحوادث فاطَّرح
عبء السنين و ألق عبء الداء
و لسوف يذكرك الزمان و لم يزل
للدهر إنصاف و حسن وفاء