تتربع مدينة “إنخل” في القسم الشمالي من منطقة حوران، جنوب دمشق، شمال غرب مدينة درعا بنحو 55 كم، وسط المسافة الفاصلة بين بلدة القنية ومدينة جاسم، فهي على مسار الأغنية الحورانية الشهيرة “من مفرق جاسم للصنمين حاجة تهلي الدمع يا عين”.
يخترقها سيلٌ موسمي قادمٌ من مرتفعات جبل الشيخ، يجلبُ الخير والماء في الشتاء. وهذا حالُ معظم المدن والمراكز الحضارية القديمة، إلى جوار المصادر المائية.. أرضُها بركانية خصبة تصلحُ لكافة الزراعات، وتشتهرُ بشكل خاص بمحصول البندورة. ويروى عن ازدهارها اقتصادياً في القرون الأولى للميلاد، وصولا إلى القرنين الخامس والسادس الميلاديين، أي إلى الفترتين الرومانية والبيزنطية، وأنها أضحت من أهمّ وأغنى مدن سهل حوران، حيث اغتنى سكانها؛ الأمر الذي مكنهم من إشادة البيوت كبيرة الحجم، والغنية بالتفاصيل الفنية، وذلك من خلال استقطاب العمال والفنانين حتى من المناطق المجاورة.
اسمها القديم غير معروف، وإن كانت هناك آراءٌ ترجّح أن يكون له علاقة بشجرة النخيل، وقد تكون زراعة تلك الشجرة سائدةً في تلك الفترات في المدينة، ودليلنا على ذلك اكتشافُ تمثال برونزي فيها من العصر الروماني موجودٌ حالياً في المتحف الوطني في دمشق، وهو من البرونز المصبوب مع بعض النحت بعد عملية الصبّ، يحتوي سطحه على طبقة خضراء مائلة إلى السواد وغير لامعة، قاعدته الأصلية مفقودة وفيه كسرٌ عند يده اليمنى.
¶ قصر العلوه
بناءٌ جميل من الحجر البازلتي الأسود المحلي، فيه بعض الخصوصيات سنمرّ عليها بعد التعرف على أقسامه الرئيسية.. أول ما يراه المرء الباحة الأمامية الموجودة إلى جنوب البناء، كحال قصر زين العابدين، وهي حالياً مرصوفة بقطع حجرية منحوتة بعناية، مع وجود مدخل رئيسي في الجنوبية الغربية منها، وبعض الغرف الحديثة التي بنيت في فترات لاحقة، ثم واجهة البناء العالية الواقعة في الشمال.. الأصلية ذات طابق واحد أضيفت إليها بعض الغرف من الغرب والشرق بفترات قريبة للغاية، يلاحظ في منتصفها ميازين بارزة، ما هي إلا ركائز لربدان الرواق المفقود حالياً، والذي يفترض أن يكون “غرب شرق قائم على أعمدة”، فيها ثلاثة أبواب أصلية في المنتصف؛ اثنان كبيران، وثالث أصغر يقع إلى الغرب منهما، مع ملاحظة رابع في الغرب، وآخر في الشمال تعلوه الأبواب، وست نوافذ مستطيلة يعلوها إطار بارز (رف)، يقوم للغرب منها بابٌ كبيرٌ في أقصى اليسار، يصعد من خلاله إلى غرفة علوية. حجارةُ الواجهة من قطع صغيرة ومتوسطة، سطحُها خشن، ويوجد بعض الفراغات بين الحجارة، ما عدا إطارات الأبواب، فهي ناعمة، وذلك ليتمّ طلاء الواجهة بطينة بيضاء قاسية، بقيت نماذج منها في بعض الأقسام.
يلاحظُ في هذا القصر، الذي يعتقد أنه من العصر الروماني، وجودُ عدة معالم وظواهر منه ترقى لعدة عصور لاحقة، منها البيزنطي والإسلامي بمراحله المختلفة. وإن دلَّ ذلك على شيء، فإنما يدلّ على سكن طويل قد شهده هذا القصر وعدة مراحل قد مرّ بها؛ فأشكال الصليب النافر والغائر التي تحملها بعض الحجارة تؤكد أنه سكنٌ بالعصر البيزنطي. أما طراز الغرف الطويلة غير المتقنة البناء ذات “القناطر الحدوية”، فما هي إلا من العصور الإسلامية. والشاهدُ الأهم على ازدهار الفترات الإسلامية بهذا العصر، ما هو موجود في القسم الشرقي من الكتلة الشمالية؛ فهناك عددٌ من القاعات التي يزيد عرض جدارها على 120 سم، بارتفاع يتجاوز ثمانية أمتار، مع وجود بروزات مربعة ومستطيلة من سطح أغلب الحجارة الضخمة، ترجع إلى الفترة الأيوبية، لما يوجد من تشابه وتطابق بينها وبين أبراج بصرى القائمة على محيط القلعة الإسلامية.
¶ قصر زين العابدين
ويسمى “الحريري” أيضاً، نسبة إلى العائلات التي سكنته. والحقيقة أنه أحدُ أجمل وأهم المباني والأوابد الأثرية في منطقة الجنوب السوري؛ لما يتميَّز به من اتساع، ولضخامته، وكثرة تفاصيله، ووصوله إلينا بحالة ممتازة.
يعود بتاريخه -كما هو ظاهر- إلى العصر الروماني، وذلك من خلال مواصفاته المعمارية، والنماذج الفخارية المكتشفة، ومطابقته مع بعض البيوت الفخمة في عدد من قرى ومدن حوران.. ويبدو أنه لأحد أمراء أو أثرياء المنطقة، وربما لقائدها وحاكمها، كما يرجح ذلك البروفيسور الألماني شتانسل الذي التقيته مرة في هذا القصر، وكان مشرفاً على أعمال الترميم فيه.
وأفاد شتانسل بأنَّ مالك القصر استعانَ لإشادته بفناني مدينة بصرى المهمة (مركز السلطة ومجمع الفن والفنانين)، وأنَّ القصر استمرّ مزدهراً في العصر البيزنطي؛ نظراً لكثرة وتنوع أشكال الصليب فيه بين النافر والغائر، وطرأت عليه بعض أعمال الترميم، كان الهدف منها تقويته وزيادة متانته وجعله مواكباً لروح العصر.
• مخطط القصر:
يتألف البناء من ثلاثة أقسام رئيسة متصلة ببعضها، وباحة أمامية، وسور خارجي. القسم الشرقي عبارة عن قاعة كبيرة تتوسطها قنطرة، جعل منتصفها على شكل أقنية متوازية، تقوم على قاعدتين ضخمتين، تنفتح عليها أربع غرف، اثنتان في الجهة الشرقية متطابقتا الشكل والمضمون لا تحويان أية قناطر، وأخرى طويلة في الجهة الشمالية تدعمها قنطرة شرق غرب بسقف مرصوف بقطع حجرية. يظهر أنَّ تاريخ بناء القنطرة أحدثُ من تاريخ بناء الجدران، وذلك من خلال الاختلاف الواضح في طريقة العمارة. أما الغرفة الرابعة، والتي تقع في الشمال، فهي من أهم قاعات وأقسام القصر، لأنها تحوي ثلاثة تماثيل نصفية (شابان في مقتبل العمر وفتاة ترتدي زياً عربياً أشبه ما يكون بأزياء تدمر) يعتقد أنها لمالكي القصر. مكان هذه التماثيل في سقف القاعة، وتحديداً على ثلاثة “ميازين”، واحد من كل جهة.
وتراوحت النوافذ بين المربعة والمستطيلة والدائرية ونصف دائرية، أما الباحة الأمامية فكانت واسعة تصل إلى حدود الجامع القديم، إلا أنَّ طريقاً إسفلتياً حديثاً قد مرَّ من وسطها، فاختصرت وأصبحت أبعاده التقريبية بحدود 35/10 م. هذا وما زالت أغلب أجزائها مبلطةً بالحجر البازلتي المنحوت بدقة، إلا أنه ومنذ فترة قصيرة تمَّ فرش كافة أرضيات القصر بكسر من حجر البازلت الأسود.
شهدَ القصر عملية ترميم انتهت مؤخراً، كان الهدفُ منها تقوية القصر، وزيادة منعته من خلال رفع الأقسام والعناصر الواقعة، ووضع أجزاء حديثة محل القديمة المفقودة. ولهذه الغاية، تمَّ صبّ مداميك طويلة من خلطة روعي أن تكون مطابقة للأصل، وتمَّ رصف معظم قاعات القصر، ولاسيما سقف الطابق العلوي، وتمَّ تصغير مساحة الباحة الأمامية للبناء، نظراً لمرور شارع حديث، وإنشاء سور حجري عريض يماثل القديم.