لن نفهمَ ما يجري في مصر حاليا إذا لم نفهم لماذا: حالف “العثمانيون” بريطانيا ضد “محمد علي”، ولماذا حالفها “الهاشميون” ضد “العثمانيين”، وكيف كانت “العروبة” هي “الضحيَّة” (؟!) أسامة عكنان
ArabNyheter | 2013/10/12لا يوجد تعليقات
مقدمة لابد منها كي نُؤَسِّسَ للفهم..من يقرأ تاريخ مصر الحديث جيدا، يستطيع اكتشاف ما يساعده على بلورة تصور ناضج عن "المشهد المصري" في سياقة التاريخي، الذي لا يصح فصل حاضره عن ماضيه، ولا ما يحصل فيه اليوم عما حصل فيها بالأمس (!!)
وبالتالي فهو سيكتشف الصورة الحقيقية لـ "المشهد العربي" من خلال سياقه المصري (!!)إن ظاهرة "العُرابِيَّة/نسبة إلى أحمد عرابي"، هي التي أسَّسَت في الوعي وفي اللاوعي المصريين لطليعية الجيش المصري ولاعتباره المنقذ والمخلِّص عندما تشتد الأزمات الداخلية (!!)فقد أعلن الضابط المصري "أحمد عرابي" هو وعدد قليل من الضباط والجنود المصريين في الجيش المصري عام 1881 أنهم يريدون مقاومة بريطانيا ومنعها من دخول مصر، لعدم إتاحة الفرصة لاتفاق "الخديوي إسماعيل" مع الإنجليز بأن يتجسَّد على الأرض على شكل "حماية بريطانية لمصر"، ولقد كان ذلك من خلال محاورة تاريخية مشهورة بين "عرابي" و"الخديوي" (!!)وبعيدا عن التفاصيل والتجاذبات التي حصلت في ذلك الوقت، فقد انقسمت النخبة في مصر آنذاك إلى خندقين، خندق يمثل "الخديوي إسماعيل" وحاشيته وبطانته والضباط الأتراك في الجيش، والإقطاعيين وكبار التجار من الأصول غير المصرية، وقطاع الموظفين الحكوميين، وبعض المثقفين الذين كانوا قلَّة آنذاك. وهو الخندق الذي اعترض على دعوة "عرابي" واعتبرها انتحارا وإضرارا بمصالح مصر العليا (!!) وخندق يمثل "أحمد عرابي" ومن سار معه من الضباط والجنود المصريين في الجيش، بالإضافة إلى بعض الفلاحين وصغار ملاك الأراضي وقطاع الصناعيين والتجار المصريين، وقلَّة قليلة من المثقفين على قلِّة المثقفين عموما. وهو الخندق الذي اعتبر نفسه مسؤولا عند عدم السماح بتعريض مصر للاحتلال البريطاني عبر مقاومة الهجمة الإنجليزية حتى النهاية، دون أن يكون من أهدافه المساس ببُنيَة الدولة المصرية وبشرعية "الخديوي" ونظامه من حيث المبدإ.. إلخ (!!)بناء على توصيات بريطانية، لم يَمْنَع "الخديوي إسماعيل" الخندق الآخر من محاربة الإنجليز الذين طمأنوا حليفهم وأتباعه على أنهم سيُفْشِلون "المشروع العرابي" ويقضون عليه، ليكون القضاء عليه وإفشاله من ثمَّ ضربة قاصمة للمشروع الوطني المصري ذي المصير العربي في نهاية المطاف، بدل أن يبقى أملا وحلما يراود المصريين في محافل المعارضة، فيصبح مشروعا غير قابل للقضاء عليه في وقت من الأوقات. وهذا ما حصل بالفعل، حيث خاض "العُرابيون" معركتهم ضد القوات الغازية، فيما وقف الخندق الآخر محايدا متفرجا معلنا بأنه سيقبل بالنتيجة أيا كانت (!!) فلو انتصر العرابيون ودحروا القوات البريطانية، آلت الدولة المصرية ومستقبلُها إليهم وإلى مشروعِهم الوطني العربي (!!) وإن هم هُزِموا يكونون قد أثبتوا صحة رؤية الخديوي إسماعيل وخندقه، ويكونون قد انتحروا وأخضعوا مصر للاحتلال بخسائر فادحة، بعدما كانت سوف تخضع للحماية بدون خسائر، كما كان يطرح ذلك الخندق (!!) وفي المحصلة هُزِمَ "العرابيون" فيما أطلق عليه في أدبيات تاريخ مصر لتلك المرحلة، "هبَّة عرابي" أو "هوجَة عرابي" (!!)ومنذ ذلك الوقت ترسَّخ في الذهن الشعبي المصري، وفي الوعي واللاوعي المصريين، أن الجيش الذي كان بمثابة الطليعة التي بادرت لمواجهة الإنجليز ومشروع الخديوي، ليلتف حوله المصريون بعد ذلك، هو – رغم هزيمته في نهاية المطاف عام 1881 – المنقذ والمخلِّص عندما يتعرض الشعب لأيِّ أزمة حتى لو كانت أزمةً داخلية (!!)وجاءت حركة "23 يولية عام 1952" لتثبت ذلك، فقد تولت مجموعة من الضباط في الجيش القيام بمهمة تطهير الدولة من النظام الملكي الفاسد، فيما عُرِفَ بحركة "الضباط الأحرار". وها هي حركة "3 يولية 2013" العسكرية بناء على ما تعتبره طلبا شعبيا وتفويضا جماهيريا حصلت عليه في "30 يونية" من العام نفسه، تحاول توظيفَ هذا الموروث التاريخي لتحقيق ما يتم الترويج لكونه إنقاذا للشعب المصري من أعداءٍ داخليين مرتبطين بأعداءٍ خارجيين، كما كان عليه الحال دائما في الموروث الشعبي وفي الذاكرة الشعبية المصريين، أولا عندما ثار العرابيون استجابة لمعاناة الفلاحين ومطالبهم الصامتة، إنقاذا لمصر من هيمنة الخديويين المسنودين بالإنجليز، ولاحقا عندما ثار الضباط الأحرار استجابة للحراك الشعبي المصري على مدى عقود، إنقاذا لمصر من نظام الملك فاروق المسنود أيضا بالإنجليز، وحاليا عندما استجاب المجلس العسكري لما قيل أنه مطلب شعبي واسع النطاق، إنقاذا لمصر من أعدائها الداخليين، ممثلين في الإخوان المسلمين المسنودين كما يرَوَّج ويشاع بالولايات المتحدة بوصفها ذروة سنام الأعداء الخارجيين (!!)إن تاريخ مصر الحديث الذي يبدأ بسياسة بريطانيا لإفشال مشروع "محمد علي باشا" النهضوي في المشرق العربي، والذي تُوِّجَ بالتحالف "العثماني/البريطاني" لهزيمته، والذي تمَّ استكمال إفشاله من خلال تحالف بريطانيا مع "الخديوي إسماعيل"، هو تاريخٌ ينحصر بين مشروعي ثورتين تمّ إفشال المشروع الأول، ويجري العمل على إفشال المشروع الثاني. الأول هو مشروع ثورة "أحمد عرابي" الذي كان مشروعَ "ثورة عسكرٍ" أطاح بها المدنيون، والثاني هو مشروع ثورة "25 يناير 2013" الذي كان مشروع "ثورة مدنية" أطاح بها العسكر (!!)من هنا سنبدأ، وفي ضوء مكونات هذه السيرورة سننطلق لتشكيل قواعد فهم المشهد المصري (!!)بريطانيا تحارب "استبدال الإسلام العثماني" قبل سقوط الخلافة بمحاربة "الجامعة الإسلامية"، وتستدعيه بعد سقوطها باستحضار "الإسلام السياسي" (!!)بريطانيا كانت حريصة كي تتمكن من إنجاح سياساتها فيما يتعلق بـ "المسألة الشرقية"، على "استعادة" الإسلام العثماني بعد سقوط الخلافة عام 1924، في حين أنها كانت قد حاربت محاولة "استبداله" قبل سقوطها. مع الانتباه إلى ضرورة التفريق بين مصطلحي "استعادة الإسلام العثماني"، و"استبدال الإسلام العثماني"، وهو ما سيتبدى لنا بوضوح في سياق هذا التحليل.تعتبر هذه المسألة من أخطر المسائل التي شكَّلت الرؤية الإستراتيجية للسياسة البريطانية في مصر وفي الإقليم من خلال مصر. ولكي يتم فهمها بوصفها رؤية إستراتيجية للاستعمار البريطاني وإلى جانبه الاستعمار الفرنسي في تعاملهما مع الإقليم من خلال ما كان يُصطلَح عليه في أدبيات السياسة الأوربية في تلك الحقبة من الزمن بـ "المسألة الشرقية"، وبتركة "الرجل المريض" الذي هو الدولة العثمانية المتهالكة.. نقول.. لكي يتم ذلك الفهم، يجب أن نقوم بتفكيك تلك الرؤية الإستراتيجية إلى مُكَوِّناتِها وعناصرها التي قامت عليها ابتداءً.كانت الدولة العثمانية تتداعى منذ أن بدأت تتفلَّت منها شيئا فشيئا أقاليمها وولاياتها النائية، بعضها انشقاقا وانفصالا، وبعضها احتلالا واستعمارا، وبعد أن لم تعد لها أيُّ سلطة إلا على الأراضي التي خضعت لحيثيات ما تمَّ التعامل معه أوربيا بمصطلح "المسألة الشرقية"، وهي تحديدا أراضي "مصر، والهلال الخصيب/العراق وسوريا الكبرى، وجزيرة العرب"، وإن كانت سلطتها على بعض تلك المناطق تتَّسِم بالشكلانية والبروتوكولية، أكثر من كونها سلطة مركزية حقيقية، وذلك مثل مصر وبعض مناطق الجزيرة العربية.السياسة الأوربية مُرَكَّزَة آنذاك في قطبيها "فرنسا" و"بريطانيا"، كانت تعمل على استكمال تداعي الدولة العثمانية لتنفرد بالهيمنة على "مثلَّث الإستراتيجية العالمية" ممثلا في المنطقة العربية المشرقية المشار إليها، ولكن بشكل مدروس لا يجعل ذلك التداعي مُبرِّرا لقيام نواة لدولة عربية قوية في الإقليم على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المتهالكة، يُفسِد عليها مخططاتها ومشاريعها الاستعمارية، التي كانت تتمحور حول ضرورة تجزئة الإقليم "تجزئة ثقافية" تقوم على فكرة "تجزئة الهوية"، وليس تجزئته تجزئةً سياسية وقانونية فقط مع الإبقاء على "ثقافة الهوية العربية الواحدة" فيه قائمة غير منتهكة بثقافة جديدة من جهة أولى، وحول ضرورة إنشاء كيان استيطاني ترعاه الشرعية الدولية يكون قادرا على دعم مشروع "تجزئة الثقافة" ذاته ورفده بكل مقومات الديمومة والبقاء والاستمرار من جهة ثانية، وذلك بهدف الإبقاء على الكتلة الجغرافية والديموغرافية العربية المشرقية "الهلال الخصيب، مصر، الجزيرة العربية"، بعد انهيار الرجل المريض، كتلة غير فاعلة عالميا، بحيث تعجز عن الإسهام في رسم السياسة الدولية، وتنشغلُ بنفسها وبقضاياها المُرَحِّلَة دوما لكلِّ مشاريع "استعادة الهوية القومية ومتطلباتها"، إما بسبب ما يكون قد استحكَمَ فيها وتغلغل من مضاعفات ثقافية سببتها "تجزئة الهوية"، أو بسبب ما يكون قد ولَّدَه على أرض الواقع من مضاعفات سياسية واقتصادية وقانونية.. إلخ، "المشروع الاستيطاني الاستعماري" الرديف والمُكَمِّل لمشروع "تجزئة الهوية" ثقافيا. و"التجزئة الثقافية" هي تجزئة على صعيد "الهوية"، بينما التجزئة السياسية والقانونية تنحصر في كونها تجزئة على صعيد "الحدود" و"الحكم"، وهي تجزئة إن لم تكن مسنودة بتجزئة على صعيد "الهوية"، فإنها ستغدو مُوَلِّدا لأزماتٍ آنية لا تلبث أن تزول عند أول استحضار للهوية المشتركة الأكبر من الحدود ومن الحكم. وهو ما حرص المشروع الاستعماري البريطاني الفرنسي على عدم الوقوع فيه، وذلك عبر ربطه مشروعَ "التجزئة الثقافية" الذي انصب باتجاه "الهوية"، بمشروع "الاحتلال الاستيطاني" الذي انصب باتجاه عرقلة أيِّ محاولة لاستعادة مشروع "وحدة الثقافة" الذي هو ذاته مشروع "وحدة الهوية" التي ستكون قد تجزَّأت. ظهرت أولى بوادر سعي العرب إلى تجسيد مشروعهم القومي على أنقاض الإمبراطورية العثمانية المتداعية في سياسات وطموحات حاكم مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر "محمد علي باشا"، الذي عرف أهمية الاستفادة من عناصر النهضة الأوربية الثقافية والتقنية والعلمية، فراح يؤسِّس لمشروعه بإرساليته وبعثاته التعليمية إلى فرنسا وبريطانيا، كما راح يعمل على نقل الصناعة الأوربية إلى مشروع دولته الغارقة في ظلامِ نظامٍ أقرب إلى إقطاعيات القرون الوسطى في أوربا، منه إلى الدول الحديثة. بل هو راح يرفد مشروعَه هذا بتحركات سياسية في "سوريا الكبرى" و"جزيرة العرب" للتأسيس لمشروع دولته سياسيا وعسكريا، إلى جانب التأسيس لها ثقافيا واقتصاديا.. إلخ.أوربا التي كانت تراقب هذا الحاكم الطموح الذي أدرك مخططات البريطانيين والفرنسيين في الإقليم، وبعد أن رأته وهو يسابق الزمن محاولا استعجالَ تاريخٍ يجعل مخلفاتِ الرجل المريض تؤول إليه وإلى العرب، وليس للبريطانيين والفرنسيين، شعرت بأن مصر وهي تحتضِن مشروعَ هذا الرجل سوف تكون شوكة في حلق مشاريعها التصفوية لتركة الرجل المريض، خاصة بعد أن ظهر "محمد علي" وهو يتحرك بسرعة دون أن يقف في طريقه أحد في سوريا والحجاز ونجد. فما كان منها إلا أن تآمرت مع عدوتها اللدودة "الإمبراطورية العثمانية" المتهالكة عليه لهزيمته وإفشال مشروعه في مهده، بعد أن التقت مصالح الطرفين الأوربي الطامع في تمزيق الدولة العثمانية، و"الآستانة" المرعوبة من مشروع "محمد علي" الذي ظهر وهو يُعِدُّ العُدَّةَ للإجهاز على ما تبقى لديها من أراض وممتلكات عربية، على ضرورة التخلص منه.وتمَّ إفشال مشروع "محمد علي" في التأسيس لدولة عربية قومية قوية بزعامة مصر في المنطقة المشرقية، تقوم على وراثة التركة العربية لـ "الدولة العثمانية" من موقع الندِّ للنِّد للدول الأوربية الكبرى "بريطانيا" و"فرنسا". وتمَّ إدخال مصر في نفق التبعيَّة و"الوظيفية" منذ وقت مُبَكِّر، سبقت فيه غيرها من المناطق العربية الأخرى التي كانت ما تزال باقية تحت سيطرة العثمانيين في "الهلال الخصيب" و"الجزيرة العربية"، وذلك عندما فضَّلَ العثمانيون بتعاونهم مع الإنجليز ضد "محمد علي"، تأجيل انهيارهم وخسارتهم للأراضي العربية الواقعة تحت سيطرتهم عدة عقود أخرى، على أن يروا أمامهم مشروعا عربيا قوميا قائما ومتكاملا يقزِّم القوى الأوربية الاستعمارية الطامعة في الطرفين.أي أن "العثمانيين المسلمين" فضلوا التحالف مع الأوربيين ضد "العرب المسلمين"، ليضعفَ الطرفان، فتستقوي عليهم أوربا الاستعمارية، على أن يدعموا مشروعَ "محمد علي" الذي وإن كان سيضعِفُهم فإنه سيضعف الأوربيين أيضا، إلى الحدِّ الذي سيجعل من تحالف "العثمانيبن" و"العرب" المسلمين لاحقا في أيِّ مواجهة ضد أوربا الاستعمارية يصبّ لصالح العرب والعثمانيين ضد الأوربيين، وليس العكس عندما تمّ تغييب الطرف العربي القوي الذي كان يمثِّل مشروعا ندا، وعندما تمَّ إضعاف الطرف العثماني بهذا التغييب إلى حد اقتراب لحظاتِ احتضاره، ليكون من السهل الإجهاز عليه في الوقت المناسب، بالتعاون هذه المرة مع متآمرين عرب من الجزيرة العربية تم اعتبارهم قادة ثورة عربية كبرى، مع أنهم ليسوا أكثر من قادة لأسوإ انقلاب حليف للاستعمار، هم "هاشميو مكة".آلت السلطة في مصر بعد هزيمة "محمد علي" وكسر شوكته، إلى حكامٍ ضعاف ومهزوزين ومحدودي الطموح ومحصوري الرؤية داخل حدود مصر الإقطاعية التي تتلقى تعليمات إدارتها ومصيرها من بريطانيا، بعد أن كانت تُعِدُّ لاحتضان مشروعٍ قومي يكسرُ شوكة بريطانيا وفرنسا معا. كانت تبعيَّة على نحو بائس قبلَ لمصر بالدور الذي قررته لها بريطانيا، ومن خلفها أوربا، في نمط التعامل مع الإقليم في المرحلة التي ستسبق انهيار "الدولة العثمانية" وتلك التي ستليه.إن تحييد مصر كان في الماضي كما هو في المستقبل ودائما، العنصر الأهم الذي يسبق أيَّ مشروعٍ يستهدف الانفراد بالهلال الخصيب، أو على الأقل بسوريا الكبرى. فكلٌّ من الإقليمين هو الخاصرة الرخوة للإقليم الآخر، والتي بطعنها ستتأذى الخاصرة الأخرى حتما.نستطيع في هذا السياق أن نستذكر أن تحييد مصر باتفاقيات كامب ديفيد كان هو المقدمة الضرورية لتصفية المقاومة الفلسطينية اللبنانية في بيروت. وتحييد مصر في ما يتعلق بالموقف من العراق منذ غزوه للكويت كان هو الرافعة التي ساعدت الولايات المتحدة على تدمير العراق بل واحتلاله في حربين وحصار مروع. ونرجو ألا نكون مضطرين إلى التذكير بأن تحييد مصر بـ "الفاطمية الإسماعيلية" المتداعية، كان هو بداية الطريق لحملات الاستيطان الصليبي في سواحل سوريا الكبرى.. إلخ.تمّ تحييد مصر إذن، وما بقي إلى الإعداد للتجزئة الثقافية المستهدفة كي يتمَّ استكمال الخطة الاستعمارية، وهو ما يقتضي أن تكون مصر تحت الإشراف المباشر والإدارة المحكمة السيطرة لبريطانيا، بعد أن تمّ تقاسم الأدوار والغنائم بين الفرنسيين والبريطانيين. ومن هنا وبعد أن تحولت مصر من نواة لمشروع قومي كان سيغير وجه السياسة العالمية لو أنه تجسَّد من خلال مشروع "محمد علي"، إلى عزبة يمتلكها "أفندية" و"خديوية" قصر "عابدين" ومن التف حولهم من الإقطاعيين والتجار المتغولين الباذرين لبذورِ ثقافة ليبرالية مهينة وبائسة بين نخب مصر، أصبح من الضروري تهيئة أوضاعها الداخلية – أي مصر – على نحوٍ يتيح احتلالها تحت مسميات الحماية. وكانت البداية بمشروع "قناة السويس" الذي كان نكبة على الشعب المصري بدفنه مائتي ألف فلاح مصري فقير تحت أنقاض أعمال الحفر في أكبر ملحمة اغتيال جماعي عرفها التاريخ لأجل مشروع اقتصادي لم ينتفع به شعب مصر إلا بعد مرور عشرات السنين، لينتهي الأمر بدعوة "الخديوي إسماعيل" بريطانيا إلى مصر، فتحولت مصر إلى مستعمرة بريطانية لا تختلف كثيرا عن مستعمراتها الأخرى في مختلف بقاع الأرض.في هذه الظروف نشأ المشروع "العرابي" وفشل، لتدخل مصر في نفق مظلم من المعاناة والغياب عن قضايا العرب، وهو النفق الذي لم تتمكن من البدء في مغادرته إلى بعد أن استكملت أوربا الاستعمارية تفاصيل خطتها الاستعمارية في الخاصرة الرخوة لمصر "الهلال الخصيب/سوريا الكبرى والعراق"، مرسخة "التجزئة الثقافية" بكل مُكَوِّناتها وعناصرها ومتطلباتها، جاعلة للتجزئة السياسية والقانونية معانٍ وقيما ذات دلالة، وهو ما تجلى عبر المُكَوِّنات التالية: - الثورة العربية الكبرى بقيادة الهاشميين مع تحفظنا على تسميتها بذلك، فنحن نعتبرها مجرد انقلاب هاشمي صغير (!!) - اتفاقية سايكس بيكو التي جسَّدت أول معالم التجزئة السياسية والقانونية (!!)- وعد بلفور وصك الانتداب على فلسطين لإقامة دولة الكيان الصهيوني هناك (!!)- التمكن من التَّحَكُّم في مسار قطعة الأرض السورية التي اقتطعت لغاية محددة والتي سميت بعد ذلك إمارة شرق الأردن لتكون الحاضنة الدافئة لكل استرجاعات المشروع الصهيوني (!!)- وضع الأسس الأولى لمعالم التجزئة الثقافية بالقضاء على كلِّ محاولات "استبدال الإسلام العثماني"، وتمهيد الطريق لكل محاولات "استعادة هذا الإسلام" (!!)- وضع الأسس الأولى لإسلام ثالث لا هو "عثماني مستعاد" ولا هو "بديل فعال له"، بل هو عبارة عن إسلام ظلامي هدفه مناكفة الإسلام العثماني المستعاد إذا تغوَّل وأصبح قوة قادرة على التأثير على المشروع الاستعماري الأوربي في الإقليم (!!)في هذا المقال لن نتحدث عن العناصر الأربعة الأولى، فموضوعه غير معني بها، ويمكننا أن نناقشها في مقالات أخرى، بل إننا قد ناقشنا الكثير منها في مقالات سابقة نشرت في أكثر من موقع وفي أكثر من مناسبة (!!) لكننا سنتحدث عن العنصرين الأخيرين باعتبارهما من أخطر مُكَوِّنات الهجمة الاستعمارية علينا منذ وقت مبكرٍ ترافقَ مع انهيار مشروع "محمد علي"، أو لحقه بوقت قصير، مع أنهما العنصران الأقل حضورا في التحليل والمناقشة من قبل دارسي تاريخ نكباتنا الذين ركزوا على العناصر الأربعة الأولى مع أنها مجرد واجهة سياسية وحركية لسيرورة ما جسَّده في واقعنا وفي تاريخنا العنصران الآخران (!!) فهما العنصران المتعلقان بـ "التجزئة الثقافية" التي ستخلق بلبلةَ "هوية" مدمِّرَة كما سيتبين. وهو الأمر الذي عشنا مائة عام من المعاناة من تبعاته، دون أن تعلمَ نخبُنا في الغالب من حقيقته أو تعرفَ، أكثر مما أراد لها الاستعمار أن تعلمَه وتعرفَه، كي تتورطَ في المعركة المرسومة لها من خلاله قطعا شطرنجية، وأدوات بائسة، تضرب بسيف الأعداء، ظنا منها أنها تحقِّق للأمة مصلحة أو منفعة، لنصحوَ صحوةً شبيهة بصحوةِ أهل الكهف – هذا إن كنا صحونا فعلا ولم نزل بعد نغطُّ في سبات وموات أهل الكهف – على فجيعةِ أن أكثر من مائة عام من تاريخنا قد هُدِرَت بلا أيِّ مردود غير تكريس "القُطْرِيَّة"، و"جدل الهويات"، و"صراع الأفكار والمعتقدات والطوائف والمذاهب"، حدَّ الفناء والإفناء.فكيف خططت بريطانيا لتجزئتنا ثقافيا كي تمهدَ لإنجاح مشروعها في تجزئتنا سياسيا وقانونيا، عقب نجاحها في تغييب الدور المصري تغييبا كاملا عن أيِّ فعل في سيرورة الإقليم الذي راح يتشظى ويتبعثر في كلِّ الاتجاهات، بعد أن فقد روحَه ورأسَه وحاضنتَه الأم (؟!)كما أن "محمد علي" استشعر مخاطر المشروع الاستعماري الأوربي سياسيا واقتصاديا، فراح يُعِدُّ لمواجهته سياسيا واقتصاديا، وهو غير مدرك لأبعاده الثقافية الخطيرة التي كانت خارج نطاق اهتماماته ومستويات وعيه على ما يبدو، ما جعله يهملها في خططه وهو يؤسِّسُ لمشروعه القومي النهضوي، فإن مجموعة من المفكرين والعلماء المصريين ومن تبعهم بعد ذلك في سوريا والعراق من الذين ظهروا بعد فشل مشروع "محمد علي"، وبعد اتضاح المُكَوِّنات الحقيقية للمشروع الاستعماري الأوربي، من أمثال "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده" و"محمد رشيد رضا"، وغيرهم، استشعروا البُعد الثقافي الخطير للمشروع البريطاني الفرنسي، والمتمثل في خلق الهوة العميقة في "الهوية" بين "الأتراك" و"العرب" من جهة، وبين "المصريين" و"باقي العرب" من جهة أخرى، في سياق التمهيد الاستعماري لتجزئة الإقليم والسيطرة عليه بعد تفتيته وجعله ضعيفا متهالكا.انتبه هؤلاء إلى أن الإنجليز يؤسِّسون لثقافة "الهوية المصرية" لتسهيل عملية انتزاع "مصر" من "هويتها العربية" الجامعة لها مع باقي العرب، ويؤسِّسون لثقافة "الهوية العربية" لتسهيل عملية انتزاع "باقي العرب" من "هويتهم الإسلامية" الجامعة لهم مع باقي المسلمين بمن فيهم العثمانيين الأتراك أنفسهم. أي أنهم لاحظوا وانتبهوا إلى جوهر الفكرة الاستعمارية التي تريد أولا أن تفصل مصر عن عمقها العربي، ليتمَّ الانفراد بذلك العمق لاحقا، وذلك بترسيخ "الهوية المصرية" كحاضنة لكل أولويات الشعب المصري على حساب أيِّ هوية أخرى أيا كانت، بعد أن تم النجاح في عزلها نسبيا عن "الهوية الإسلامية الجامعة" بإفشال مشروع "محمد علي"، والتي تريد ثانيا أن تفصلَ العرب عموما عن عمقهم الإسلامي ليتم الانفراد بذلك العمق لاحقا وذلك بترسيخ "الهوية العربية".الخطير في الأمر كما اتضح لدى تلك النخبة من العلماء والمفكرين التاريخيين أن الاستعمار كان يتلاعب بهويات هي في ذاتها حقيقية ومشروعة ليضربها بعضها بالبعض الآخر. أي أنه لم يلعب أو يتلاعب بأدوات مكشوفة اللاشرعية كي لا يكون من السهل كشف مشروعه ومناجزته. فاستشعار المصري بمصريته أمرٌ مشروع وهو حقيقي، واستشعار العربي بعروبته أمرٌ مشروع وهو حقيقي، واستشعار العربي سواء كان مصريا أو لم يكن بعمقه الإسلامي هو أمرٌ مشروع أيضا. وبالتالي ولكي لا يظهرَ المشروع الاستعماري وكأنه يخترق منطقة مُحَرَّمة أو غير مشروعة ويتلاعب بها، فإنه لم يفعل أكثر من أنه خلق "لعبة لوغو هويات" وراح يُشَكِّلُها في الثقافة التي يريدها على النحو الذي يريده عبر أدواتٍ وأبواقٍ ونُخَبٍ لن يعدمَ العثور عليها في أيِّ مكان.لقد كانت التجزئة السياسية والقانونية للدولة العثمانية وللأراضي العربية التابعة لها هدفا استعماريا، وهذا ما أدركه هؤلاء الكبار مثلما أدركه قبلهم "محمد علي" الذي اشتغل على منع تحقُّقِه سياسيا واقتصاديا ففشل (!!)وإنجاز تجزئة سياسية وقانونية قابلة للدوام والاستمرار والبقاء، يتطلب "تجزئةً ثقافية" تتمحور حول خلق "جدل هويات" يختلط فيه "المصري" مع "العربي" مع "الإسلامي" في المنطقة المستهدفة تجزئتها سياسيا وقانونيا، وهو ما أدركه هؤلاء العلماء ولم يكن قد أدركه قبلهم "محمد علي" ولذلك فشل (!!)فماذا فعل هؤلاء كي يؤسِّسوا لفكرتهم التي كان عليها أن تسير في حقل ألغام محتقن بالديناميت، كي يقفزوا بشكل منطقي ومقبول على الألغام المبثوثة في كلِّ مكونات المشروع الاستعماري الذي راح ينتشر انتشار النار في الهشيم. أي ماذا فعلوا كي يُفْقِدوا المشروع الاستعماري فعاليتَه التي حققها باللعب المتقن في حقل "الهويات"، عبر لعبة "لوغو الهويات" (!!)كان مشروع "الجامعة الإسلامية" التي نادى بها "جمال الدين الأفغاني"، ومعه تلك الثلة من العلماء والمفكرين، يقوم على مبدأ الدوائر الثلاث التي أصبح بعضها فيما بعد، وعقب تفريغها من مضمونها الحقيقي واتخاذها فقط طابعا شكلانيا استعراضيا دعائيا، هي جوهر ما أُطْلِقَ عليه "الفكر القومي الناصري" كما ورد في كتاب "فلسفة الثورة" لجمال عبد الناصر، وهذه الدوائر هي: - إن الأمة الإسلامية أمة واحدة لا يجوز أن نجزِّئها ونقسِّمها لصالح الاستعمار ومشاريعه ومصالحه باعتباره الطرف الوحيد المستفيد والمنتفع من هذه التجزئة، وبالتالي فوحدة الأمة الإسلامية في إطار "الجامعة الإسلامية" أمر محتَّم لضمان استقلال هذه الأمة وكلِّ مُكَوِّناتِها القومية. - إن هذه الأمة تضم العديد من الأمم القومية التي منها "الأمة التركية"، و"الأمة العربية"، و"الأمة الفارسية"، و"الأمة البنغالية"، و"الأمة الهندية"، و"الأمة الكردية".. إلخ، ولكلٍّ واحدة من تلك الأمم خصوصياتها التي لا تتعارض مع فكرة الوحدة في إطار الأمة الإسلامية الجامعة، إذا هم استشعروها وعاشوها وحققوا ذاتهم من خلالها، وتحصلوا على كامل الحقوق التي ترتبها لهم المدنية المعاصرة على أساسها، بشكل لا يتعارض مع متطلبات "الجامعة الإسلامية" القادرة على مواجهة قوى الاستعمار العالمي. - إن استشعار الوحداتِ المختلفة المكونة كلِّ قومية بخصوصياتٍ هوية قُطْرِيَّة تميِّزُها بشكل أو بآخر عن باقي مُكونات الهوية القومية الواحدة، هو أمر قائم وموجود في واقع البشر، ومعترفٌ به ولا يتعارض لا مع فكرة "القوميات" في قلب "الجامعة الإسلامية"، ولا مع فكرة "العروبة" في قلب "القومية العربية"، ومن ذلك استشعار "السوريين" بأنهم يختلفون في بعض مُكونات هويتهم عن "المصريين"، وشعور "العراقيين" بذلك، بل وشعور أي مكون آخر من مُكونات الهوية العربية أيضا. أي أن دعاة "الجامعة الإسلامية" وضعوا الأساس لحلٍّ ثقافي قائم على فكرة "المصلحة" المرتكزة إلى مبدأ "القوة والمنعة والهيبة الدولية"، يذيب كلَّ التناقضات التي أثارتها الثقافة التي راح الاستعمار يرسِّخُها ويكرِّسُها لتحقيق مآربه مستخدما منظومة الهويات المشروعة في ذاتها ليضربَها بعضها بالبعض الآخر.ففي مشروع الجامعة الإسلامية، سيجد المصري مصريته ويستشعرها ويحياها ويتحصل على كافة حقوقه المشروعة التي تترتب له بناء عليها بدون أن يَمَسَّ عروبيته وإسلاميته، وسيجد العربي عروبيته بالمستوى ذاته بدون أن يتناقص مع إسلاميته التي يلتقي بموجبها مع التركي والبنغالي والفارسي والكردي والهندي.. إلخ.لقد كان حلا ثقافيا متقدما جدا على مستوى الفكر الإنساني كلِّه، ومتضمنا كلَّ الزخم الثقافي "الأممي والقومي والوطني" الذي يسَخِّر كل مستوى من مستويات الهوية ليتفاعل مع المستويين الآخرين وينسجم معهما بلا أيِّ تناقضات.ولهذه الأسباب فقد تمت محاربة هذا الفكر العظيم الذي تجاوز واضعوه حتى الثقافة التي سادت أوربا ذاتها، والتي كانت الضحالة الأوربية بسببها ما تزال لم تتوصل إلى آليات ثقافية لها مردودات سياسية وقانونية تحسمُ بموجبها تناقضَ الوطني مع القومي، والقومي مع القاري الأوربي، بل والقاري الأوربي مع الآخر العالمي خارج القارة. وهو ما لن تتوصل إليه تلك القارة إلا بعد حربين مدمرتين تجاوز عدد ضحاياهما السبعين مليون قتيل، ودمرتا القارة مرتين عن بكرة أبيها، عندما انتبه أحفاد المجانين الذي دمروا قارتهم ودمروا العالم معها، إلى أن الأوربيين الذين يختلفون في كلِّ شيئ، ثقافيا ودينيا وفكريا ولغويا، والذين اقتتلوا على مدى نصف ألفية من السنوات وهم يتنافسون على قتل العالم وإبادته ونهبه وسرقته، يمكنهم أخيرا أن يتوحدوا بعد أن يخلقوا لأنفسهم منظومة مصالح يتوافقون عليها ويعتبرونها مصالحَهم. نعم لهذه الأسباب تم التشنيع على فكرة "الجامعة الإسلامية"، وتم نفي قادتها والتنكيل بهم، وتم تشويه سمعتهم، وبث الإشاعات المغرضة في حقهم، كي يتمَّ خلق كلِّ الحواجز بينهم وبين الشعوب والنُّخب المتطلعة إلى حلولٍ حقيقية تنقذُهم من مأزق التقسيم القادم.. إلخ (!!)وفشل مشروع "الجامعة الإسلامية"، بل أُفشِلَ لتخلوَ الساحة إلى "ثقافة التجزئة" وأبواقها ومروجيها كما أرادتها القوى الاستعمارية آنذاك (!!) فمع كل خطوة كانت تتقدم بها فكرة "الجامعة الإسلامية" إلى الأمام على صعيد حلِّ التناقض المزعوم بين "المصري" و"العربي الجامع" في الهوية المصرية، كانت فكرة "الهوية القطرية المصرية" تنتصر على "العروبية الجامعة" في هويتها، وتنكفئ إلى داخل ذاتها وشوفينيتها وعنصريتها، بالتقدم على هذا المعلم لإحداثياتها خطوتين، بدعم استعماري خالص، بريطاني هنا وفرنسي هناك (!!) ومع كل خطوة كانت تتقدمها فكرة "الجامعة الإسلامية" إلى الأمام على صعيد حلِّ التناقض المزعوم بين "العربي" و"الإسلامي الجامع" في هويتها، كانت فكرة "الهوية القومية العربية" تنتصر على "الإسلامية الجامعة" في هويتها، وتنكفئ إلى داخل شوفينيتها وعنصريتها وذاتيتها، بالتقدم على هذا المعلم لإحداثياتها خطوتين، وأيضا بدعم استعماري خالص، بريطاني هنا وفرنسي هناك (!!)إلى أن أصبحت الدعوة القومية العربية لا ترى نفسها إلا في التجسُّد على أنقاض الدولة العثمانية وإن يكن بالتحالف مع الاستعمار ذاته، وهو ما رأت فيه بريطانيا إنجازا تاريخيا كان أقدر من أيِّ شيء آخر على إسقاط ما تبقى من آثار لفكرة الجامعة في نفوس هنا وعقول هناك، وأن عليه فقط أن يتجسَّد على شكل أداة سياسية تابعة لها.فكان "الانقلاب الهاشمي" البائس بقائده المخدوع إن صحَّ أنه خُدِعَ ولم يكن متواطئا منذ البداية، "الشريف حسين بن علي"، الذي تمَّ تسويق فعله بأنه ثورة، وأتباعه بأنهم ثوار، وإنجازاته بأنها إنجازات قومية.لقد كانت فكرة "الجامعة الإسلامية" إذن بمثابة دعوة ثقافية عميقة الأبعاد أرادت أن تستبدل "الإسلام العثماني" القائم على الهيمنة والسيطرة والاستعلاء العرقي حتى في قلب سماحة الإسلام وعدالته ومساواته ونبذه للاستقواء العرقي، والقائم على التشدُّد والتحريم، بـ "إسلام آخر" هو "الإسلام العربي"، الأكثر انفتاحا على فضاءات التعدُّد والتآلف المصلحي، والاستقواء بالتحالف لا بالاستضعاف، وبالتعايش المتنادد، لا بالنبذ والإقصاء، والتيسير ولا التعسير، من خلال التأسيس لثقافةٍ تستطيع تشكيل عناصر هذا التعايش والتصالح وهذا التحالف وهذا التيسير الضامنة كلها للقوة والريادة والمهابة الدولية في عالم الأقوياء.فجاء "الانقلاب الهاشمي" على النقيض تماما، مُكَرِّسا فكرة "الاستعلاء القومي" القائم على الخصوصية المطلقة التي لا تلتقي مع الآخر "المسلم" إلى في الاسم والمعتقد هذا إن التقت أصلا، لا بل والمؤسِّس لثقافاتٍ بشعة في تاريخنا المعاصر، من استقواء بالأجنبي، وتأصيل لمبدأ دوام مطالبة المسلمين بالانفصال في كلِّ مكان يعيشون فيه، استعلاءً وشعورا بالتَّمَيُّز في عناصر هي مدعاة للدونية أكثر منها مدعاة للتميز في واقع الحال.. إلخ.وبعد أن استَتَبَّ الوضع للمشروع الاستعماري، وحققت كلُّ أداة من الأدوات المستخدمة حتى ذلك الوقت دورها المنوط بها ومهمتها الموكلة إليها، تمَّ تغييب من يجب تغييبها من تلك الأدوات وشخوصها، وتمت إعادة إنتاج وتشكيل ما يمكن أن يعاد إنتاجه وتشكيله، ليستكمل المهمة على النحو الذي تتطلبه المرحلة. وفي هذا السياق، أي سياق "التجزئة الثقافية"، واصلت قوى الاستعمار بريادة بريطانيا بالدرجة الأولى رسالتَها مُنْجِزَةً ثلاثة أمور غاية في الأهمية تطلبتها تداعيات نتائج المرحلة السابقة، فضلا عن بعض المُتغيرات العالمية التي دخلت فجأة على خط تحديد مسارات مستقبل البشرية، وعلى رأس كل ذلك "ثورة البلاشفة" في روسيا القيصرية، وما نتج عنها من ظهور قوة جديدة إمبراطورية الشكل، عقائدية المضمون، ثورية الأداة، هي الاتحاد السوفياتي. أما الأمور الثلاثة التي أنجزتها بريطانيا على صعيد "التجزئة الثقافية" في الأقاليم العربية التي كانت تحت تصرفها فهي استدعاء نوعين من الإسلام متناقضين تماما هما "الإسلام الوهابي" بنكهة "السلفية الحنبلية التيمية" بوصفه غطاء دينيا لآل سعود الذين أعدوا ليكونوا رموز الوظيفية العربية القادمة، و"الإسلام العثماني" ولكن بنكهة ومذاق "هنديين" هذه المرة جسَّده سياسيا ذلك الانفصال التاريخي الفاجع لباكستان بزعامة "محمد علي جناح" عن الهند، بالإضافة إلى الاستدعاء السريع والمبكر لمخرجات "الثورة البلشفية" التي لم تكن قد لملمت جراحَها بعد، على شكل "أحزاب شيوعية" عربية متناثرة بشكل فسيفسائي يثير الريبة والشفقة شكلا ومضمونا وأهدافا، خاصة عندما سنكتشف لاحقا أن جميع تلك الأحزاب كانت أحزابا وقفت ضد دعوات التحرر الوطني العربي كما كان يطرحها العرب أنفسهم في سياقات مواجهة الاستعمار، وبالأخص إذا تحدثنا عن "شيوعيي فلسطين"، وعن "شيوعيي الجزائر". فشيوعيو فلسطين كانوا يرون في مقاومة الصهاينة وتجمعاتهم الاستيطانية المدعومة أصلا من الانتداب البريطاني، إلى جانب مقاومة الإنجليز كقوة احتلال، انحرافا خطيرا في مفهوم النضال الطبقي الذي يرون أنه يجب أن يضم "يهود فلسطين الصهاينة" مع "الفلاحين الفلسطينيين" في خندق واحد ضد سلطات الانتداب التي تُعتبر هي العدو المشترك للطرفين اللذين لا تناقض بينهما، وإنما التناقض بينهما كطبقة واحدة وبين الرأسمالية التي تمثلها سلطة الانتداب وتحالفاتها الرأسمالية، في انحراف بائس عن كل معاني الوطنية والقومية حتى في أبسط معانيها، وهو ما لم يحاولوا التحرُّرَ منه بعد عزلتهم التي فصلتهم عن كل أدوات النضال الفلسطيني إلا بتأسيسهم لعصبة التحرر عام 1943 كشكل خجول من أشكال إعلان عدم ممانعة الاشتراك في الأعمال النضالية لمواجة المشروع الصهيوني، دون أن يكون هذا الذي ننقله عن تاريخهم المبكر مانعا من الاعتراف بأنهم تغيروا وتطوروا كثيرا إلى أن أصبحوا رموزا للنضال الوطني في الأردن وفلسطين لاحقا. أما "شيوعيو الجزائر" فقد كانوا دون غيرهم من كلِّ أبناء الشعب الجزائري دعاة "اندماج الجزائر" مع فرنسا، باعتبار أن الصراع ليس صراعا على الأرض والهوية، ولا هو بالتالي صراع ضد استعمار، بقدر ما هو صراع طبقي بين عمال وفلاحين فرنسيين يقيمون في الجزائر اسمهم "الشعب الجزائري" وبين قوى وطبقات رأسمالية متغوِّلَة تدعهما سلطة الاحتلال وتمثلها بحسب ما تشخِّصُه مفاهيم الصراع الطبقي ليس إلا، الأمر الذي جعل هذا الحزب يُصنَّف على أنه ليس حزبا وطنيا بالمعنى الصحيح، إلا بعد أن بدأ أعضاؤه ينفصلون عنهم لحوقا بالمنظمات الثورية المقاتلة ضد الاستعمار الفرنسي.أما الإسلامان اللذان استدعتهما بريطانيا وهما "الإسلام الوهابي" و"الإسلام العثماني" بالمذاق الهندي، فلنا معهما ومع السياسة البريطانية بشأنهما وقفة عميقة لاستجلاء الأمر، تعتبر وقفة مع نشأة الإسلام السياسي المعاصر باعتبارهما مكونين أساسيين من ذلك الإسلام في مقالات لاحقة.