3- اختلاف آراء العلماء فيه:
قال المرزباني (محمد بن عمران:384هـ): « وكان أبو العباس الناشئ مُتَهَوِّسا شديدَ الهَوَس، وشعره كثير وهو من كثرته قليل الفائدة »(13).
وذكر الخطيب البغدادي (473هـ) أنه قرأَ بعض كتبه فدلتْهُ على هَوَسِه واختلاطه، « لأنه أخذ نفسه بالخلاف على أهل المنطق والشعراء والعروضيين وغيرهم، ورام أن يُحْدِثَ لنفسه أقوالا ينقض بها ما هم عليه، فسقط ببغداد. فلجأ إلى مصر... وأقام بها بقية عمره" (14).
أما القفطي فيرى أنه من غير الإنصاف أن ينسب الناشئ إلى التهوس، وأرجع ذلك إلى قوة فطنته، وقال:« وإذا وقف الواقف على تصانيفه وأنصف ظهر له أثر الاجتهاد والامتاع » (15).
أما الإمام الذهبي (748هـ) فقد اعتبره من كبار المتكلمين، وأعيان الشعراء، ورؤوس المنطق، ومن أذكياء العالم(16).
ومما يُقرينا من ثقافة الناشئ هذا النص الذي أورده ابن رشيق القيرواني (456هـ) في (باب فضل الشعر) – من كتاب العمدة في محاسن الشعر وآدابه - :« وقال بعضهم - وأظنه أبا العباس الناشئ – العلم عند الفلاسفة ثلاث طبقات:
أعلى، وهو علم ما غاب عن الحواس، فأُدرك بالعقل والحواس.
وأوسط، وهو علم الآداب النفسية التي أظهرها العقل من الأشياء الطبيعية؛ كالأعداد والمساحات وصناعة التنجيم وصناعة اللحون.
وأسفل، وهو العلم بالأِشياء الجزئية، والأشخاص الجسمية.
فواجب - إذا كانت العلوم أفضلها ما لم تشارك فيه الجسوم – أن يكون أفضل الصناعات ما لم تشارك فيه الآلات. وإذا كانت اللحون عند الفلاسفة أعظم أركان العمل الذي هو أحد قسمي الفلسفة وجدنا الشعر أقدم لحنه لا محالة؛ فكان أعظم من الذي هو أعظم أركان الفلسفة، والفلسفة عندهم علم وعمل».
يقول ابن رشيق:« هذا معنى كلام منقول عنه مختصرا، وليس نصا »(17).
ثانيا: الناشئ شاعراً:
ترجم له ابن المعتز (296هـ) في كتابه (طبقات الشعراء). وقال عنه أبو حيان التوحيدي (414هـ):« وله مذهب حلو، وشعر بديع، واحتفال عجيب»(18).
وقال عنه النديم:« كان متكلما شاعرا مترسلا، حسن الأدب، وله قصيدة أربعة آلاف بيت على رويّ واحد وقافية واحدة في الكلام، سلك فيها طريقة الفلسفة، فسقط عند أهل طبقته من المتكلمين» (19).
وعدّه ياقوت (626هـ) ضمن طبقة البحتري وابن الرومي، كما اعتبره ابن خلكان (681هـ) من الشعراء المجيدين، وجعله – أيضا - في طبقة ابن الرومي والبحتري وأنظارهما. وقال إن له قصيدة في فنون العلم على روي واحد تبلغ أربعة آلاف بيت، وله أشعار كثيرة في جوارح الصيد وآلاته، والصُّيُود وما يتعلق بها؛ كأنه كان صاحب صيد (...) ومنها قصائد ومنها طَرَديات على أسلوب أبي نواس، ومنها مقاطيع، وقد أجاد في الكل (20).
وورد في ( تاريخ بغداد ) أنه كان يقول في خلاف كل معنى قالت فيه الشعراء، وشعره كثير، وهو مع كثرته قليل الفائدة (21).
وقال ابن القفطي في (إنباه الرواة): وله شعر كثير يتضمن فوائد (22).
وقد جمع شعره وحققه وعلق عليه هلال ناجي، ونشره تباعا في خمسة أعداد من مجلة المورد العراقية بين سنتي 1982 – 1983.
ولاحظ الباحث أنه لم يجد في المعاصرين من أفرد للناشئ كتابا درس فيه شعره دراسة نقد وتقويم، وأن المحاولة العلمية الأولى التي قام بها د. شوقي ضيف في كتابه ( العصر العباسي الثاني)؛ حيث اعتبره صاحب شاعرية خصبة، « وقد رفدها مبكرا بثقافته الكلامية التي أعدته ليحاور ويُداور أرسطو والخليل بن أحمد وعلماء النحو واللغة، ولا ريب في أنها وصَلَتْه بكل ينابيع الثقافة في عصره؛ يونانية وغير يونانية...
وفي الحق، إنه كان يعرف كيف يولد الصور، وكيف يستخرجها من مكامنها، وكيف ينظمها شعرا عذبا بكل ما يملأ النفس إعجابا به (23).
وقد تناول طردياته بالدراسة والتحليل د.عبد الرحمن رأفت باشا في كتابه ( شعر الطرد إلى نهاية القرن الثالث الهجري)، فكشف عن خصائصها اللفظية والمعنوية والإيقاعية. ولاحظ هلال ناجي أن اهتمام الناشئ بشعر الطرد ينم عن استجابته لدواعي الحضارة والتغييرات الجديدة في المجتمع العباسي (24).
وقدم هلال ناجي دراسة لشعره أبرز من خلالها أثر الاعتزال في شعره، وانتهى إلى أن الفكر الاعتزالي ومصطلحاته يبدو واضحا في شعر الناشئ، من خلال التعابير والأغراض والمعاني الكلامية، حتى إن القارئ ليحس أن روح الاعتزال تتبدى في طيات شعره. كما أظهر الباحث أثر صنعة الكتابة في شعره؛ إذ كان من طبقة جمعت بين فني الشعر والكتابة في القرن الهجري الثالث، وكانت له صلات وثيقة بعدد من رجالها (25).
ووجدتُ في كتاب ( نضرة الإغريض في نُصرة القريض) أن المتنبي أخذ قوله:
كأن بناتِ نَعْشٍ في دجاها خرائدُ سافراتٌ في حِدادِ
من قول أبي العباس الناشئ حيث يقول:
كأن مُحَجَّلاَتِ الدُّهْم فيه خرائدُ سافراتٌ في حِدادِ (26)
ومن شعره:
تأمل بعينـك هذا الأنـامَ فكُنْ بعضَ مَنْ صانَه عقلُهُ
فَحِلْـيةُ كلِّ فتـــىً فضلُه وقيمـــــــة ُكل امرئ نُبْلُهُ
فلا تَتَّكِلْ في طِلاب العلا على نســـب ثابت أصـلُهُ
فما من فتىً زانَــه قولُه بشيء يُخالفــــــــُه فعـلُه
المصادر
13 - تاريخ بغداد:10/93
14 – نفسه، وورد هذا القول في: معجم الأدباء:4/1548
15 – إنباه الرواة:2/128
16 – سير أعلام النبلاء: الذهبي (748هـ)، تحقيق أكرم البوشي، أشرف على التحقيق شعيب الأرنؤوط :14/41 – ط2 [ بيروت، مؤسسة الرسالة، 1984].
17 – العمدة في محاسن الشعر وآدابه: ابن رشيق (456هـ): 1/83، تحقيق: د. محمد قرقزان:1/83 – ط2 [ بيروت، دار المعرفة، 1994]. وعلق د. إحسان عباس على هذا النص بقوله: ولسنا نقول شيئا في هذه العبارة سوى أنها سفسطة قائمة على المغالطة: تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص66
18 – البصائر والذخائر: أبو حيان التوحيدي (414هـ)، تحقيق: د. وداد القاضي 5/109 – ط1 [ بيروت، دار صادر، 1988].
19 – الفهرست، ص302
20 – وفيات الأعيان:3/91
21 – تاريخ بغداد:10/92
22 – إنباه الرواة:2/126
23 – العصر العباسي الثاني، ص499
24 - ديوان الناشئ، تحقيق: هلال ناجي ضمن مجلة المورد، عدد (2) المجلد 11 سنة 1982، ص76 [ الديوان ضمن خمسة أعداد من مجلة المورد سنة 1982 – 1983].
25 – نفسه، ص63
26 – نضرة الإغريض في نصرة القريض (656هـ)، تحقيق: د. نُهى عارف الحسن، ص447 – ط1 [ دمشق، مطبعة طربين، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، 1976].