الدكتور جيلالي بوبكر
موقع الوجـود في إستراتيجية الإصلاح لدى محمد إقبال
أراد "محمد إقبال" أن يبعث في نفس المسلم الشعور بذاته وبقيمته في الوجود، كي يقوى ويندفع في الحياة، وفي دراسة الواقع وبحثه، لكون الذات الإنسانية وحدة خالدة ،حياتها متصلة لا تنقطع ، فهي خط مستقيم متواصل لا يضع الزمان حدّا له، ولا المكان ولا الموت، وما جاء به الإسلام من عقائد البعث والحشر والبرزخ، فهي تصور لنا مرحلة أو حلقة في تاريخ الوجود، تنتهي بها حياة وتبدأ بها أخرى، والحياة حركة دائمة متجددة، وعمل متواصل، ونضال مستمر. فالإنسان بفرديته وتناهيه يسعى إلى التقرب من "اللامتناهي"، وذات "اللامتناهي" دائمة في وجودها، مطلقة في إرادتها وخلقها. والتجديد في فلسفة "محمد إقبال تتضمنه طبيعة الصلة بين "المتناهي" واللامتناهي"، أي بين الذات الإنسانية والذات الإلهية، وهي صلة لا تقوم على العلم بالله وبوجوده بل تقوم أساسا على الاتصال به، وتجديد الرابطة به بصورة دائمة دوام الحياة، بواسطة الدافع الداخلي الذي يجعل قلب المؤمن ينتفض ويسترد الحياة، ويحقق الإنتصار على الكسل والجمود والخمول والتحجر.
يرى "محمد إقبال" أن الوجود برمته هو عبارة عن ثلاث وحدات هي: وحدة الذات الكلية "الله" ووحدة الذات الفردية "الإنسان" ووحدة عالم الواقع "عالم الطبيعة" فالذات الكلية تظهر وتتجلى فيما سواها، وما سواها لا يمثل غيرها وليس منفصلا عنها، بل هو المظهر الذي تتجلى وتظهر فيه، أما الذات الإنسانية فلا تذوب ولا تفنى في الذات الكلية، لا تلغي نفسها فيها، وحركتها غير متناهية في حياتها وفي العالم الطبيعي، أما وحدة العالم الطبيعي فهي دائمة التجديد، وهي تأليف من واقع وأحداث متتالية، مستمرة في تتابعها، وليس مادة جامدة، والإنسان يدخل التاريخ ويبني الحضارة ويصنع الإزدهار والتقدم عندما يتحقق التوازن بين هذه الوحدات الثلاث، وعندما يسيطر الإنسان على كافة العلاقات بين الإنسان والله والكون، والهدف الرئيسي للقرآن «هو أن يوقظ في نفس الإنسان شعورا أسمى فيما بينه وبين الخالق وبين الكون من علاقات متعددة«.[1]
بما أنّ الإنسان ذات فردية تمثل وحدة خالدة، ذات حركة دائمة، وحياة لا تتوقف، وبما أن العالم الطبيعي وحدة حركية من أحداث ووقائع متعاقبة، وهما معا يمثلان التجلّي والظهور للذات الإلهية، فطبيعي أن العلاقة بين الذات الإنسانية وعالم الطبيعة هي علاقة تناسق وتكامل وانسجام، بين عالم يتحول من حال إلى حال، ومن واقعة إلى أخرى، عالم فيه التغير والتطور وبين إنسان يتابع بسيره حركية تطور العالم وتغيره، فتغير العالم وحركة الإنسان هما الظاهرتان اللتان يثبتان تجلّي الذات الإلهية في الوجود الطبيعي، وفي الوجود الإنساني.
توَصّل "محمد إقبال" إلى نظرة في الوجود وهي نظرة استوحاها من الإسلام، تقوم على أن الإسلام ينطوي على مبدأ الحركة، وهو مبدأ يقوم عليه التغيير في العالم، كما تقوم عليه حركة الإنسان، ومتابعته للتغيير في العالم، وبهذا يكون الإسلام مصدرا وأساسا للمعرفة والتوجيه معا، وكل ما في الحياة الإنسانية من دين وعلم وحس وإدراك وما للوجود الإنساني والاجتماعي من تاريخ، يمثل جملة متناسقة من مناهج المعرفة، تصل بالإنسان إلى السعادة وهي مطلبه الأسمى ومبتغاه .
يرى "محمد إقبال" أن سعادة الإنسان تتحقق بفعل التوازن والتكامل بين وحدات الوجود، وبفعل سيطرة الإنسان على العلاقات بين هذه الوحدات، الذات الكلية، والذات الفردية، وعالم الطبيعة، ويوضح "محمد إقبال" أن الذات هي الله، والله هو حقيقة الوجود، أو وحدة الوجود، والدليل على وجوده التجربة الدينية لا التجربة الطبيعية، والذات الكلية لا تنفصل عن العالم الطبيعي، أو عن الوجود الإنساني الفردي والجماعي، ليس بالحلول أو الفناء، بل بمعنى التجلي، والعالم الطبيعي والعالم الواقعي دائم مادام هو تجلي الله، يقول "محمد إقبال": »والذات الأولى توجد في ديمومة بحتة ينقطع فيها التغير عن أن يكون تعاقب لأحوال متخالفة، وتكشف الذات عن صفتها الحقة باعتبارها خلقاً مستمـراً )لا يمسه لغـوب( و)لا تأخـذه سنـة ولا نوم(«.170
الذات الكلية كاملة وكمالها »في الأصول الشاملة لقوتها الخالقة، وبصيرتها المبدعة، التي لا حد لمداها. ووجود الله هو تجلي ذاته لا السعي وراء مثل يراد الوصول إليه، "وما لم يقع بعد" بالنسبة للإنسان معناه السعي والطلب وقد يعني الإخفاق، أما ما لم يقع لله فيعني تحققا لا يحقق لإمكانيات وجوده، تلك الإمكانيات الخالقة غير المتناهية التي تحتفظ بوحدتها التامة والكاملة خلال تجلّيه في الوجود«.171
يضيف "محمد إقبال" بأن الذات الكلية هي حقيقة الوجود ووحدته، لا تنفصل عن عالم الطبيعة، ولا عن عالم الإنسان، فهي تتجلى في كل من العالمين. »ولعلنا الآن في موقف يجعلنا ندرك معنى الآية: ﴿وهو الذي جعل الليل والنهار ِخلفةً لمن أراد أن َيّذكّر أو أراد شُكورا[﴾.172فقد أدّى بنا التفسير الدقيق لتعاقب الزمان كما يتجلى في أنفسنا، إلى فكرة عن الحقيقة القصوى، وهي أنها ديمومة بحتة يتداخل فيها الفكر والوجود والغاية، لتؤلف جميعا وحدة متكاملة، ولا نستطيع إدراك هذه الوحدة إلا من حيث هي وحدة نفس متحققة في الوجود، محيطة بكل شيء، هي الينبوع الأول لكل حياة فردية ولكل فكر فردي«.173
الذات الكلية ليست في عزلة عن العالم، والعالم لا يمثل غيرا لها بل هو تجلي لهذه الذات الكلية التي تجمع فيها التناهي واللاتناهي، من دون تناقض فهي غير متناهية في القوة والكيف والقابليات المتعددة اللامتناهية، وهي متناهية في الكم وهو طرح فيه تناقض، إن لم يفهم من خلال جانبين، جانب فلسفي يتعلق بذات الله، وجانب واقعي كمي يتعلق بفهمنا للذات الكلية المطلقة، و"محمد إقبال" يرى أن وحدة الذات الكلية تستدعي أن تكون لها كيفية معينة، وإلا لا تعتبر ذاتية. ويؤكد هذه الذاتية بقوله تعالى: ﴿الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب درّي يُوقد من شجرة مباركة، زيتونه لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء، ولو لم تمسسه نار، نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم﴾.174
الذات الإلهية في تعبير القرآن وحدانية غنية عن العالمين، ووجودها من ذاتها وهو وجود أزلي يستحيل تصوره في العقل، فهو كما يقول القرآن: ﴿ليس كمثله شيء وهو السميع البصير﴾.175 والطبيعة ليست مادية صرفة لكنها حوادث متتالية ومنهج منتظم من السلوك، وهي أساسية بالنسبة للذات الإلهية، والقرآن يعبر عن هذا بقوله تعالى: ﴿سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا﴾.176وهذا يعني أن العلوم الطبيعية ذات معنى روحي، بحيث أن معرفة قوانين الطبيعة والعلم بسنة الله هو وجه من أوجه الصلة بالذات الكلية وهو كذلك ضرب من العبادة .
يؤكد "محمد إقبال" على لا غيرية الطبيعة أو الوجود الإنساني للذات الكلية، فالوجود ليس حقيقة مستقلة تقابل الذات الكلية، ولو كان الأمر كذلك لانفصل الكون عن الذات الإلهية، فالمكان والزمان والمادة ليست حقائق لها وجودها في ذاتها. وإنما هي تفسيرات يضعها العقل لقدرة الذات الإلهية الحرّة الخالقة فهي مجرد أحوال للفكر في تصوره لوجود الذات الكلية. بهذا يربط "محمد إقبال" بين الذات الإلهية من جهة والإنسان والعالم الطبيعي من جهة ثانية، ويسعى إلى الجمع والتوفيق بين "الواقعية" و"الروحية"، وفي سعي "محمد إقبال" يقول الأستاذ "محمد البهي": »يريد أن يُحوّل "الصوفية" الإشراقية في الإسلام إلى "زهد" فجر الإسلام، فيبعد منها "الفرار" ويُنحّي منها "الإتحاد" بالله، ويريد أيضا أن يُحوّل الواقعية الحديثة التي جعلت للإنسان سلطاناً على قوى الطبيعة لم يسبق إليه - ولكنها سجلت إيمانه هو بمصيره – إلى "واقعية" تصل الإنسان بأعماق وجوده، ﴿الله﴾، حتى لا يكون حبه للمال طاغيا يقتل كل ما فيه من نضال سام شيئا فشيئا، ولا يعود عليه منه إلا تعب الحياة«.177
إذا كان الدين في نظر "محمد إقبال هو السبيل إلى معرفة الإنسان لذاته، فهو السبيل لمعرفة الذات الكلية والاتصال بها، وليس المطلوب هو العلم بالله وبوجوده، إنما المبتغي هو الإتصال بالذات الإلهية لتتجلى في من اتصل بها، فالدين بصفة عامة والعبادة منه بوجه خاص ورياضة الصوفي والتجربة الدينية مكملة للتجربة الحسية كل هذا يمثل مصدر المعرفة وسبيلا لوقوف الإنسان على الوجود، وعلى ما فيه من جزئيات وعلى ما لديه من أصل عام، وهو "الحقيقة الكلية". بالإضافة إلى مصدر ثالث وهو التاريخ.
مادام الوجود وحدات ثلاثة، الله والإنسان وعالم الطبيعة، وحقيقة الوجود هي الله التي تتجلى في مخلوقاته، ومادامت الذات الإنسانية فردية حرة مستقلة خالدة ذات حركة مستمرة، ومادام عالم الطبيعة هو تركيب من أحداث متعاقبة، عالم يتحول من حادث إلى آخر فإن ذلك كله يقوم في فلسفة "محمد إقبال" على مبدأ الحركة والتغيّر، ووحدة الوجود لا تلغي الحركة ولا تلغي التغير في الوجود، والتغير هو تغير الوجود الطبيعي والوجود الإنساني أما الحركة فهي حركة الذات الإنسانية لمتابعة التغير في العالم ويشرح "محمد البهي" رأي "محمد إقبال" في ذلك بقوله: «وإذا كان الإنسان كذات فردية، مع العالم الطبيعي، كتركيب من أحداث متعاقبة هما مظهر التجلي للذات الكلية، فالصلة بين الذات الفردية والعالم الطبيعي هي صلة بين شيئين متناسقين، عالم ينتقل من حادث إلى حادث، ومن حال إلى حال... عالم متغير ومتطور، وفيه إنسان يتابع بحركته وبسيره تغير العالم وتطوره«.178
يرى "محمد إقبال" أن مبدأ الحركة والتغير قائم في الوجود، فالحركة خاصية الإنسان وذاته، فحياته ذات حركة مستمرة لا تعرف التوقف، دائمة متجددة وذات عمل مستمر ونضال متواصل، ليس في هذه الحركة تكرار ولا دوران وفردية الإنسان لا تزول فهي وجود باق لا يفنى، واتصاله بالله هي غايته العليا، والتغير صفة أساسية في الوجود الإنساني والطبيعي فالعالم متغير غير ثابت فكيف يتغير الوجود وما طبيعة هذا التغير عند "محمد إقبال ؟.
إنّ ما يقرره القرآن هو أن العالم لم يخلقه الله عبثاً، ولمجرد الخلق فقط فيضع "محمد إقبال" هذه الحقيقة في الإعتبار، ويرى أن العالم »مرتب على نحو يجعله للزيادة والإمتداد.﴿يزيد في الخلق ما يشاء﴾.179 فليس هذا العالم كتلة وليس إنتاجا مكتملا، وليس جامدا غير قابل للتغير والتبدل، بل ربما استقر في أعماق كيانه حلم نهضة جديدة«.180 فالتغير هو أداة زيادة العالم ونموه، فالعالم حقيقة لم تنتج كاملة فهي في سبيل الوقوع والإنتاج. ويقول "محمد إقبال": »والرأي عندي أنه ليس أكثر بعداً عن نظرة القرآن من القول بأن العالم تنفيذ في سياق الزمان لخطّة سبق وضعها. فالعالم في نظر القرآن كما بيّنت من قبل، قابل للزيادة، وهو عالم ينمو، وليس صنعا مكتملا خرج من يد صانعه منذ حقب بعيدة، وهو الآن ممتد في الفضاء، أشبه ما يكون بكتلة ميتة من المادة لا يفعل فيها الزمان شيئاً، فهي من أجل ذلك ليست شيئا«.181
إنّ التغير في العالم لا يحصل بعيدا عن الإنسان، فهو الذي يحركه للتلاؤم بين ذاته وبين مقتضيات ومستلزمات هذا التغير، ويحرك في الإنسان دائما قوة الدفع للتغلب على ما يواجهه من ظروف ومعطيات جديدة، ويستند "محمد إقبال" إلى القرآن في إثبات ذلك فيقول: »يرى القرآن أن العالم له غايات جدّية فتطوراته المتغيرة تحمل حياتنا على التشكل بصورة جديدة والجهد العقلي الذي نبذله للتغلب على ما يقيمه العالم من عقبات في سبيلنا، يشحذ بصيرتنا فيهيئنا للتعمق فيما دقّ من نواحي التجربة الإنسانية الأخرى، فضلا عن أن يمدّ في آفاق الحياة ويزيدها خصبا وغنى«.182
إنّ وحدة العالم الطبيعي في نظر "محمد إقبال" باعتبارها حوادث وأحوال متعاقبة تُعد في الحقيقة إحدى آيات الله العظمى، »والحق أن حركات الكون واهتزازاته الخفية، وهذا الزمان السابح في صمت يبدو لأنظارنا البشرية في صورة تقلب الليل والنهار، يعده القرآن إحدى آيات الله الكبرى«.[2]183 كما تعتبر قوى العالم وسائل يسخرها الإنسان لبلوغ مراميه وتحقيق وجوده وضمان غلبته، وفي ذلك يقول "محمد إقبال": »وهذا الامتداد العظيم في الزمان والمكان يحمل في طياته الأمل في أن الإنسان الذي يجب عليه أن يتفكر في آيات الله سيتمم غلبته على الطبيعة بالكشف عن الوسائل التي تجعل هذه الغلبة حقيقة واقعة«.184 قال تعالى: ﴿ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة﴾.185 وقال تعالى: ﴿وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون﴾.186
لقد مُنح الإنسان من القوة ما يجعله في أحسن حال، وفي أفضل ما يكون، كما قد يلقي بنفسه في أدنى ميزان الوجود، وهو محاط من كل جهة بقوى تضع أمامه العقبات، لكن على ما فيه من ضعف ونقائص فهو أسمى من الطبيعة، لأنه يحمل أمانة كبرى ورسالة عظمى، فالإنسان »إذا استهوته القوى التي تحيط به فإنه يقدر على تكييفها وتوجيهها حيث شاء، أما إذا غلبته على أمره فإنه قادر على أن ينشئ في أعماق نفسه عالما أكبر يجد فيه منابع من السعادة والإلهام لا حد لهما ولا نهاية، ومع أن نصيب الإنسان في الوجود شاق وحياته وهن كورقة الورد فليس للروح الإنسانية تطير بين جميع الحقائق في قوتها، وفي إلهامها وفي جمالها، ولهذا فإن الإنسان في صميم كيانه قوة مبدعة وروح متصاعدة تسمو في سيرها قدما من حالة وجودية إلى حالة أخرى«.187
يرى "محمد إقبال" أن الإنسان مُطالب في هذا الوجود بأن يتعامل مع العالم، ويتكيف معه، لا يقدر على ذلك إلا إذا غير ما بنفسه أولا. يقول "محمد إقبال": »لقد قُدّر على الإنسان أن يشارك في أعمق رغبات العالم الذي يحيط به، وأن يكيّف مصير نفسه ومصير العالم كذلك، تارة بتهيئة نفسه لقوى الكون، وتارة أخرى ببذل ما في وسعه لتسخير هذه القوى لأغراضه ومراميه. وفي هذا المنهج من التغير التقدمي لا يكون الله في عون المرء على شريطة أن يبدأ هو بتغيير ما في نفسه«.188
عملية التكيف أو التسخير لا تتم في غياب النهوض بالعمل، »فإذا لم ينهض الإنسان إلى العمل، ولم يبعث ما في أعماق كيانه من غنى وكف عن الشعور بباعث من نفسه إلى حياة أرقى، أصبحت روحه جامدة جمود الحجر، وهَوَى إلى حضيض المادة الميتة«.189
إذا كانت الحركة والتغير والإستمرارية في ذلك هو ما يتميز به العالم الذي فيه الإنسان، وإذا كان الإنسان فردية ذاتية وجماعة أنتجها الفرد وهو أصلها، فالتغير والحركة من أهم ما يتميز به المجتمع البشري، وحركة المجتمع البشري منتظمة ومحكمة، وتغيره ليس مطلقا بل يرتكز على مبادئ عامة، تحدث فيه التوازن، فتعاليم عقيدة التوحيد في الإسلام تهدف أساسا إلى إشراك المجتمعات المختلفة في الهدف، أي تهدف إلى تكوين عالم واحد، هدفه التحلي بالقيم الأخلاقية المثلى، مثل عبادة الحق والولاء للذات الإلهية.
إنّ روح القرآن تجمع بين الأخلاق والسياسة، كما تجمع بين الدين والدولة، وتعتبر الكون متغيرا، وليس كالمسيحية التي اعتنت بالفرد فقط، فعجزت عن الإلمام بالعلاقات الإنسانية الاجتماعية المتشابكة، ولم تدرك ما فيها من قيمة روحية، فالقرآن وما له من نظرة إلى الوجود، ولا يمكن أن يلغي التطور، لكن هذا التطور ليس صرفا بل ينطوي على عناصر قديمة، »فالإنسان في الوقت الذي يستمتع فيه بنشاطه الخلاّق، ويركز جهوده باستمراره في كشف مسالك للحياة جديدة، يحس بالقلق عندما ينكشف له ما في ذات نفسه، ولا مفر له في نظرة إلى الأمام من أن يرجع البصر إلى ماضيه، وهو يواجه نماءه الروحي في شيء من الخوف... وروح الإنسان تعوقها في سيرها قدما قوى يظهر أنها تعمل في الإتجاه المضاد، وما هذا إلا ضرب من القول بأن الحياة تتحرك وهي تحمل على عاتقها أثقال ماضيها، وأنه في أي تغير اجتماعي لا يمكن أن يغيب عن النظر ما لقوى التمسك بالقديم من قيمة وعمل«.190
فالإصلاح هنا يقتضي الجدّية في النظر والانتباه إلى خطورة الوضعية، ونظرة "محمد إقبال" الجوهرية في تعاليم القرآن الأساسية ينبغي - في نظره- على »المذهب العقلي الحديث أن يتناول بالبحث نظمنا القائمة، فليس في استطاعة أمة أن تتنكر لماضيها تنكرا تماماً لأن الماضي هو الذي كيّف شخصيتها الحاضرة، وفيما يتعلق بالمجتمع كالمجتمع الإسلامي، تُصبح إعادة النظر في النظم القديمة أكثر دقة وحرجا، كما تصبح التبعات التي يضطلع بها المصلح موجبة عليه أن ينظر إلى الأمور نظرة جدية وأن يزن ما لها من خطر«.191
تغير المجتمع في أصله ليس ماديا، كما ترى الماركسية، وتجعله تغيرا غير مقيد يسيطر فيه التطور الانقلابي المادي على ما فيه من قيم ومبادئ. فأساس التغير في نظر "محمد إقبال" الروح وليس الإنتاج ووسائل الإنتاج وما ينتج عنهما من علاقات إنتاج، والروح تعرف النماء دون أن تقطع صلتها بماضيها، وهذا مؤكد في روح الإسلام، »والإسلام بوصفه حركة ثقافية يرفض ما اصطلح عليه القدماء من اعتبار الكون قارّاً ثابتاً، ويصل إلى رأي يقول بأنه متحرك متغير، والإسلام بوصفه نظاما عاطفيا يقول بوحدة الكلمة، يدرك قيمة الفرد من حيث هو فرد، ويرفض اعتبار قرابة الدم أصلها مادي مرتبط بالأرض، ولا يتيسر التماس أساس نفساني بحت لوحدة الإنسانية إلا إذا أدركنا أن الحياة الإنسانية جميعا روحية في أصلها ومنشئها. ومثل هذا ينشئ صنوفا جديدة من الولاء من غير شعائر تحفظ عليها الحياة، كما أنه ييسر للإنسان أن يحرر نفسه من أسر الروابط المادية«.192 فالدولة في نظر "محمد إقبال" «ليست إلا محاولة لتحقيق الروحانية في بناء المجتمع الإنساني، وبهذا المعنى تكون كل دولة ليست مؤسسة على مجرد السيادة والسلطان، بل تهدف إلى تحقيق المبادئ المثالية في دولة ثيوقراطية«.193 تقوم الدولة في نظر الإسلام بتنفيذ روح التوحيد باعتباره فكرة قابلة لذلك، من خلال المساواة والاتحاد والحرية، وتحويل هذه المبادئ إلى قوة زمانية مكانية، »فهي إلهام لتحقيق هذه المبادئ في نظام إنساني معين، والدولة في الإسلام ليست ثيوقراطية أي دينية إلا بهذا المعنى وحده«.194
الإسلام باعتباره منهجا سياسيا يعتبر أداة عملية تجعل مبدأ التوحيد عاملا حيّا في حياة الناس العقلية والوجدانية. فالتوحيد يتطلب الولاء والإخلاص لله لا لعرش أو عرق أو إقليم، فهو مبدأ أبدي يكشف عن الآيات التي تدل عليه في التغير والتنوع في الوجود. ولكي يقوم المجتمع على هذا التصور ينبغي عليه أن ينجح في التوفيق في الوجود بين درجات الدوام والتغير، أما إذا فهم المجتمع أن المبادئ الأبدية تبعد كل إمكان للتغير والتغير آية كبرى على الذات الإلهية فإنه يتجه نحو تثبيت ما هو متغير في طبيعته، وفشل أروبا في علم السياسة والاجتماع ناتج عن عدم اتخاذها مبادئ ثابتة أبدية لتنظيم الجماعة أما ركود وانحطاط المسلمين في القرون الأخيرة يعود إلى النزوع بالمبادئ الثابتة إلى تثبيت ما هو بطبيعته متغير .





2- المرجع السابق: ص72.

3- المرجع السابق: ص72.

4- قرآن كريم : سورة الفرقان، الآية62.

5– محمد إقبال : تجديد التفكير الديني في الإسلام ، ص66-67 .

6– قرآن كريم: سورة النور، الآية 35.

7- قرآن كريم: سورة الشورى، الآيـة 11.

7-قرآن كريم: سورة الأحزاب، الآيـة62.

8– محمد البهي: الفكر الإسلامي الحديث وصلة بالإستعمار الغربي، ص462.

9– المرجع السابق: ص466.

10- قرآن كريم: سورة فاطر، الآية 1.

11– محمد إقبال : تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص17.

12 -المرجع السابق: ص66.

13 - المرجع السابق: ص21 22.

14- المرجع السابق: ص18.

15- المرجع السابق: ص18.

16– قرآن كريم: سورة لقمان، الآية20.

17– قرآن كريم: سورة النمل، الآية12.

18– محمد إقبال: تجديد التفكير الديني في الإسلام، ص19.

19- المرجع السابق: ص19.

20 - المرجع السابق: ص20.

21– المرجع السابق: ص191.

22– المرجع السابق: ص191192.

23– المرجع السابق: ص168.

24– المرجع السابق: ص179.

25- المرجع السابق: ص178.