يقبل رمضان كسماء شتائية على جزيرة خضراء هي نفوسنا ، فيدركها بغيومه المتلبدة الرمادية اللون التي تملأ الأفق هيبة و جلالاً ، و تملأ القلوب انتعاشاً بوابلها الهاطل خيراً و إحساناً ، فيخلصها مما لحق بها من أدران السنة و أوصابها ، لتعود النفس بعده زاهية نقية صافية كبركة ماء صنعها الندى فوق نبتة في أوائل الربيع .
و حين يقبل رمضان تعج المساجد بالمصلين ،و الأسواق بالمشترين ، و يعم الدنيا كلها جو مميز يسمى ( جو رمضان ) ، و يحل رمضان على البشر كقادم يحمل شعلة مضيئة ، و يدعو جماعة من التائهين في مغارة منسية إلى طريق الخلاص ، فيتبعه كل ذي حلم منهم ، و لا يستجيب له المتعجرفون الحمقى الذين يوقفهم تعجرفهم على شفا جرف هار يكاد ينهار بهم في واد من أودية الجحيم ، و ليس أحد ناجياً من ديجور المغارة البهيم إلا من استضاء بتلك الشعلة التي تمر بجانبه ، فإن تجاهلها و نسيها فقد جنى على نفسه و اذاقها وبال الأمر ، فرمضان نعمة تفتح ذراعيها للقادمين علهم يفقهون محبتها لهم و عطفها عليهم .
و في تجرد النفس للصيام الذي يمثله رمضان إعجاز نفسي و قلبي عظيم ، ، و سعي نحو الكمال الروحي الذي يقرب الفرد من خالقه أذرعاً لا أشباراً ، فبانتصاب سد الصيام في وجه شهوات النفس الهوجاء المستعرة و منعه إياها من التكالب الذي تعتاده طوال السنة تهذيب و تشذيب لها لتبقى على هذه الحال على مدار السنين و الأوقات ، علها تغير النهج المتفلت الذي لا يعود إلا بالشر على أصحابه و نفوسهم المأزومة ، و التخصيص بالشهر لا يعني حصر الحكم فيه وحده بل اتخاذه عهد صلح و تدريب على الطريق المستقيم الواجب سلوكه وحده ، و لهذا صدق من سماه مدرسة الثلاثين يوماً .
و في اقتران رمضان بالهلال جانب معنوي آخر ، هو ربط المسلم بالقمر المشع في الليل البهيم ، قمر رمضان المنير في ظلام الشهوات الحالك ، و تربص الناس للهلال رنو نحو السماء و روحانيتها الأزلية خلوصاً من الأرض و ماديتها المسعورة ، و تعليم للمؤمنين أن يترقبوه و إن كان فيه صوم و حبس للنفس عن ملهياتها ، فيظهر الشوق الكبير إليه ‘ و التطلع لرؤية الهلال المبشر بقدومه ، لينشر على الأرض سلامه و محبته و رحمته .
واهاً لك يا رمضان .... ما أجملك ، و ما أنقاك ، و ما أعذب صومك ، فيك نرى أرواحنا تأتلق و تتأجج لتغدو أسرجة وهاجة ، تضيء لقلوبنا طريق الحق الذي لاحق سواه ، و فيك تستروح أجسادنا من عناء الحياة فتذكر أنها ما خلقت لتكون أصلاً ، و إنما لتكون ساتراً لأرواح سكنت هذه الحياة مؤقتاً ، و أن مردها من بعد إلى خالقها لتحوم في سكون اللانهاية ‘ حيث لا تعب و لا جوع و لا مخمصة بإذن الله ... و الله مع الصادقين و الصابرين