منتديات فرسان الثقافة - Powered by vBulletin

banner
النتائج 1 إلى 9 من 9
  1. #1

    رحلة مع القائد نور الدين زنكي

    رحلة مع القائد نور الدين زنكي ( 1 )


    د. علي محمد الصلابي
    باحث ليبي في التاريخ والحضارة الإسلامية


    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



    1- نشأته:
    اسمه ونسبه وأسرته وتوليه الحكم: هو نور الدين محمود زنكي، صاحب الشام، الملك العادل، ناصر أمير المؤمنين، تقي الملوك، ليث الإسلام، أبو القاسم محمود بن الأتابك قسيم الدولة أبو سعيد – عماد الدين – زنكي بن الأمير الكبير آقسنقر التركي السلطاني الملكشاهي، مولده في شوال سنة إحدى عشرة وخمس مئة، وهم ينتسبون إلى قبيلة ساب يو التركية، ولا تذكر المصادر التاريخية شيئاً عن نشأة نور الدين وشبابه، ولكنها جميعاً تؤكد أنه تربى في طفولته تحت رعاية وإشراف والده، وأن والده كان يقدمه على إخوانه، ويرى فيه مخايل النجابة، ولما جاوز الصبا لزم والده حتى مقتله 541ﻫ/1047م وكانت حياة عماد الدين في فترة حكمه الموصل من 521ﻫ -541 ﻫ مدرسة عليا شاملة لجميع أنواع المعارف الإنسانية في مجالات العلوم السياسية والإدارية والعسكرية، بالإضافة إلى العلوم الشرعية الدينية، وقد جمعت مدرسة الحياة الكبرى التي عاش فيها نور الدين بين الأسلوب النظري والتطبيقي وقد تزوج نور الدين عام 541ﻫ الزواج الذي لم تكن من ورائه جارية ولا سُرّية من عصمت الدين خاتون ابنة الأتابك معين الدين حاكم دمشق، بعد أن ترددت المراسلات بين الرجلين، واستقرت الحال بينهما على أجمل صفة، وتأكدت الأمور على ما اقترح كل منهما، وكتب كتاب العقد في دمشق، بمحضر من رسل نور الدين في الثالث والعشرين من شوال، وما أن تم إعداد الجهاز حتى قفل الوفد عائداً بصحبة ابنة معين الدين، وخلف نور الدين من زوجته هذه ابنة واحدة، وولدين هما الصالح إسماعيل الذي تولى الحكم من بعده، وتوفي شاباً لم يبلغ العشرين من العمر، من جراء مرض ألمّ به عام 577ﻫ وأحمد الذي ولد بحمص عام 547ﻫ ثم توفي في دمشق طفلاً، وسرعان ما امتدت تقوى الرجل إلى زوجته وابنه الأكبر، فكانت زوجته تكثر القيام في الليل، ونامت ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومها الذي فوّت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب الطبول في القلعة وقت السحر لتوقظ النائمين حينذاك للقيام، ومنح الضاربين أجراً جزيلاً. وصفها المؤرخون بأنها كانت من أحسن النساء وأعفهن وأكثرهن خدمة متمسكة من الدين بالعروة الوثقى، وكانت لها أوقاف وصدقات كثيرة وبر عظيم، وقد ذكر ابن كثير في أحداث عام 563ﻫ: وفي شوال وصلت امرأة الملك نور الدين محمود زنكي إلى بغداد تريد أن تحجَّ من هناك، وهي السَّتُّ عصمت الدين خاتون بنت معين الدين أنُر، فتلقاها الجيش ومعهم صندل الخادم، وحُملت لها الإقامات وأُكرمت غاية الإكرام، وعرف عن الصالح إسماعيل تقواه العميقة والتزامه الأخلاقي المسؤول حتى رفض الأخذ برأي الأطباء في شرب شيء من الخمر عندما ألحّت عليه علة القولنج التي أودت بحياته. وقال: لا. حتى أسأل الفقهاء، فلما أفتوه بالجواز لم يقبل وسأل كبيرهم: إن الله تعالى قرّب أجلي، أيؤخره شرب الخمر؟ قال: لا فأجابه: فو الله لا لقيت الله وقد فعلت ما حرّم علي.

    2- انقسام الدولة الزنكية بعد مقتل عماد الدين زنكي:
    عندما قُتل عماد الدين زنكي سنة 541 ﻫ كان ابنه الأكبر سيف الدين غازي مقيماً بشهرزور وهي إقطاعه من قبيل أبيه، بينما كان نور الدين محمود وهو الابن الثاني لعماد الدين مع أبيه عند قلعة جعبر، وبعد أن شهد مصرع أبيه أخذ خاتمه من يده وسار ببعض العساكر إلى حلب، فملكها هي وتوابعها في ربيع الآخر سنة 541ﻫ/1146م، وكان عمره ثلاثين سنة كما كان مع زنكي أيضاً على قلعة جعبر الملك ألب أرسلان ابن السلطان محمود السلجوقي، وكان زنكي يظهر أنه يحكم البلاد باسمه منُذ سنة 521ﻫ/1127م إذ اصطحبه معه إلى الموصل بأمر من السلطان محمود، وقد ذكر المؤرخون أن الملك ألب أرسلان حاول أن يحل محل زنكي في ملك البلاد وأن يبعد أولاده عنها، فجمع العساكر وأعّد العدة للتوجه إلى الموصل بقصد الاستيلاء عليها، ولكن الوزير جمال الدين الأصفهاني، قام بدور كبير في الحفاظ على الدولة الزنكية وإبقائها في أيدي أولاد صاحبه وولي نعمته عماد الدين زنكي، فما أن شعر بقصد الملك ألب أرسلان حتى بادر بالاتصال بالأمير صلاح الدين محمد الياغسياني، حاجب عماد الدين، متناسياً ما كان بينهما من خلاف، فاتفقا على حفظ الدولة لأولاد زنكي وإبعاد الملك ألب أرسلان السلجوقي عنها؛ فقد أرسل الوزير جمال الدين إلى صلاح الدين الياغسياني يقول له: إن المصلحة أن نترك ما كان بيننا وراء ظهورنا، ونسلك طريقاً يبقى فيه الملك في أولاد صاحبنا، ونهر بيته جزاء لإحسانه إلينا، فإن الملك (ألب أرسلان) قد طمع في البلاد واجتمعت عليه العساكر، ولئن لم نتلاف هذا الأمر في أوله، ونتداركه في بدايته ليتّسعنّ الخرْق ولا يمكن رقعه، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك، وحلف كل واحد منهما لصاحبه، وكان أول عمل قام به جمال الدين، وصلاح الدين أن أرسلا رسولاً على وجه السرعة إلى زين الدين علي كُجَك نائب زنكي في الموصل يخبراه بما حصل لزنكي، فسارع سيف الدين غازي للحضور من شهرزور إلى الموصل لتسلم الحكم فيها وتسلمها قبل أن يتمكن ألب أرسلان السلجوقي من الوصول إليها، أما الملك ألب أرسلان السلجوقي فقد تكفل الوزير جمال الدين الأصفهاني بإلهائه ومخادعته ريثما تستتب الأمور لسيف الدين غازي في الموصل، وظلّ يتنقل من مكان إلى آخر بالجزيرة حتى تفرق معظم أصحابه عنه، ثم اتجه إلى الموصل فُقبض عليه وأودع السجن ولم يأت له ذكر بعد هذا التاريخ. وهكذا انقسمت الدولة الزنكية بعد مقتل مؤسسها عماد الدين بين ولديه سيف الدين غازي الذي حكم الموصل والجزيرة ونور الدين محمود الذي حكم مدينة حلب وما جاورها من مدن الشام، أما أخوهما نصرة الدين أمير أميران، فقد حكم حرّان تابعاً لأخيه نور الدين محمود، في حين كان الأخ الرابع قطب الدين مودود لا يزال في رعاية أخيه سيف الدين غازي بالموصل. وكان نهر الخابور هو الحد الفاصل بين أملاك الأخوين وأدَّى الوضع الجغرافي الشرقي إلى أن: - يرث غازي الأول المشاكل الداخلية، مع كل من الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية في العراق. أ- يحمي حدود الإمارة من غارات سلاجقة فارس. ب- يحمي ثغور الإمارة الشمالية من تعديات سلاجقة الروم والداشمنديين والبيزنطيين في آسيا الصغرى. أما في القسم الغربي، فقد ورث نور الدين محمود المشكلتين الكبيرتين المتمثلتين بأتابكية دمشق والإمارات الصليبية المنتشرة في مختلف بلاد الشام.

    3- ترتيب أوضاع البيت الزنكي:
    كان من الطبيعي أن تنشأ بين البيتين الزنكيين في كل من الموصل وحلب علاقات وثيقة، بفعل الروابط الأسرية من جهة، واشتراك آل زنكي بعامة بهدف واحد، وهو الجهاد ضد الصليبيين في بلاد الشام، وكانت حلب تشكل بالنسبة للموصل خط الدفاع الأول وصَّمام الأمان ضد أي خطر تتعرض له، فنشأت نتيجة لذلك علاقات جيدة بين سيف الدين غازي الأول، صاحب الموصل، وأخيه نور الدين محمود، صاحب حلب، ثم بين الأمراء الذين توالوا على حكم الموصل بعد غازي الأول، إلاّ أن هذه العلاقات الودية القائمة على التعاون والدفاع المشترك، شهدت في بعض الأوقات فتوراً عاماً، كان لا يلبث أن يتلاشى لتعود المحبة والألفة، فبعد استقراره في الموصل والجزيرة وبعض مناطق بلاد الشام كحمص والرحبة والرقة، كان على سيف الدين غازي الأول أن ينسّق مع أخيه نور الدين محمود في حلب، ويتعاون معه لاستكمال سياسة والدهما القاضية بالتصدي للصليبيين، مُدركاً في الوقت نفسه أهمية هذا التعاون، خشية أن يستغل أعداء الأسرة فرصة انقسام الإمارة الزنكية لمهاجمتها، بالإضافة إلى الظهور، بمظهر القوة أمامهم، لذلك رأى ضرورة الاجتماع بأخيه بين وقت وآخر لتسوية ما قد ينشأ بينهما من أزمات داخلية بسبب توزيع الإرث الزنكي، ويبدو أن العلاقات بين الأخوين تعرضت لأزمة عابرة عقب وفاة والدهما، بدليل أن سيف الدين غازي الأول أرسل إلى أخيه، نور الدين محمود يدعوه للحضور إليه، إلاّ أن صاحب حلب تأخر في تلبية الدعوة معلّلاً تصرفه بانهماكه في محاربة الصليبيين، وقد كانت هناك مجموعة من الأسباب ساهمت في الفتور في العلاقة بين الأخوين وهي: أ- رأى سيف الدين غازي الأول أنه كان يجب على أخيه الوقوف إلى جانبه عندما تعرض الحكم الزنكي في الموصل لخضة سياسية أثارها الملك ألب أرسلان السلجوقي بهدف الاستيلاء على السلطة، وذلك حتى تستقر الأوضاع لهما في البلاد، ثم يستأذنه في العودة إلى بلاد الشام. ب- عدّ سيف الدين غازي الأول تصرف أخيه نور الدين محمود بعد مقتل والدهما أمام قلعة جَعْبَر خروجاً على التقاليد الأسرية عند القبائل التركية التي تقضي بأن تكون السيادة للابن الأكبر. ج - رأى سيف الدين غازي الأول في تصرف أخيه انفصالاً واضحاً عن الدولة الزنكية؛ لأن استئثار نور الدين محمود بأملاك الأسرة في حلب يعني تكوين حكم انفصالي عن دولة الأتابكة في الموصل. دفعت هذه العوامل سيف الدين غازي الأول إلى الإلحاح على أخيه نور الدين محمود للاجتماع به وتسوية الأمور بينهما، وقد تصرف صاحب الموصل بحكمة لإزالة أسباب التوتر، كما أنه لم يعارضه عندما استولى على الرها التي كانت تدخل في منطقة نفوذه بعد محاولة جوسلين الثاني استرداها من أيدي المسلمين في أواخر عام 541ﻫ/ ربيع الثاني 1147م والواقع أنه أرسل قوة عسكرية لمساندة أخيه لإنقاذ الرها المهّددة، لكنها وصلت بعد أن نجح نور الدين محمود في استعادتها، وأخيراً حصل اللقاء بين الأخوين في الخابور. وفي هذا الاجتماع، اعتذر نور الدين محمود لأخيه عن تأخره في الحضور، وأظهر له الطاعة والاحترام من جهته، ولشدة حذر نور الدين اشترط أن يكون الاجتماع ومع كل منهما خمسمائة فارس فقبل سيف الدين، وخرج نور الدين ومعه خمسمائة فارس، فرأى أخاه سيف الدين وليس معه إلاّ خمسة فرسان، فتأكد من حسن نيته واقتربا وتعانقا وبكيا وقال له سيف الدين: من لي غيرك يا نور الدين؟ ولمن أدّخر الخير إن أسأت إلى أخي؟

    أهم صفات القائد نور الدين زنكي:
    إن مفتاح شخصية نور الدين محمود زنكي شعوره بالمسؤولية وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين، وخوفه من محاسبة الله له، وشدة إيمانه بالله وباليوم الآخر، وكان هذا الإيمان سبباً في التوازن المدهش والخلاّب في شخصيته، فقد كان على فهم صحيح لحقيقة الإسلام، وتعبد الله بتعاليمه، وتميزت شخصيته بمجموعة من الصفات الرفيعة والأخلاق الحميدة، والتي ساعدته على تحقيق إنجازاته العظيمة؛ فالشريعة الإسلامية هذبت ونمت وزكت أخلاق وصفات نور الدين والتي من أهمها:

    أولاً: الجدية والذكاء المتوقد:
    منذ البداية والتكوين الجاد لنور الدين يدفعه إلى الإسراع لسدّ أي فتق أو اعتداء من قِبل الأعداء: فلما قتل زنكي 541ﻫ يقول ابن الأثير – كان جوسلين الفرنجي، في ولايته غربي الفرات: تل باشر وما جاورها فراسل أهل الرها وكان عامتهم من الأرمن، وواعدهم يوماً يصل إليهم فيه فأجابوه إلى ذلك فسار في عساكره إليها وملكها، وامتنعت عليه القلعة بمن فيها من المسلمين، وقاتلهم وجّد في قتالهم، فبلغ الخبر إلى نور الدين فساراً مجداً إليها في العسكر الذي عنده، فلما سمع جوسلين بوصوله خرج عن الرها إلى بلده ودخل نور الدين المدينة ونهبها وسبى أهلها فلم يبق منهم إلاّ القليل وأجلى من كان بها من الفرنج. وكان أبوه زنكي قد استرد هذا الموقع الخطير من الصليبيين عام 539ﻫ وأمر جنده يومها بالكف فوراً عن النهب والسلب والتخريب ومنح النصارى المحليين حريات واسعة وحمى كنائسهم وممتلكاتهم، في محاولة منه لفك ارتباطهم بالغزاة الصليبيين الذين مارسوا معهم الكثير من أساليب التمييز والتفرقة الدينية، أما وقد تآمروا – ثانية – في أخريات عهد زنكي، وثالثة بعد مقتله لإعادة الرها إلى السيطرة الصليبية منها يجيء الرد بمستوى الجّد الذي يقتضيه الموقف إذا ما أُريد لهذا الموقع أن يبقى مجرداً، وألاّ يعود ثانية إلى قبضة الغزاة. وفي عام 567ﻫ هاجم صليبيو اللاذقية مركبين للمسلمين كانا مملوءين بالأمتعة مكتظين بالتجار، وغدروا بالمسلمين، وكان نور الدين قد هادنهم فنكثوا، فلما سمع الخبر استعظمه وأرسل إلى الصليبيين يطلب إعادة ما أخذوه، فغالطوه فلم يقبل مغالطتهم، وكان لا يهمل أمراً من أمور رعيته كما يقول ابن الأثير؛ إذ ما لبث أن جمع عساكره وبث سراياه في بلاد الصليبيين بين أنطاكية وطرابلس، وقام بحصار حصن عرقة وتخريب ربضه، والاستيلاء على حصني صافيتا والعزيمة شمالي، وإجراء أعمال نهب وتخريب واسعة النطاق؛ الأمر الذي اضطر الصليبيين إلى مراسلة نور الدين يعرضون عليه استعدادهم لإعادة ما أخذوه من المركبين وتجديد الهدنة بين الطرفين، فأجابهم نور الدين إلى ذلك لحاجته الماسّة – كما يبدو – إلى هدنة كهذه. ويوماً بلغه ما فعله جوسلين من إرسال السلاح – الذي كان قد استولى عليه في إحدى معاركه مع نور الدين – إلى حميه السلطان مسعود حاكم سلاجقة الروم: فقام نور الدين وقعد، وهجر الراحة للأخذ بثأره، فأذكى العيون على جوسلين، وأحضر جماعة من التركمان، وبذل لهم الرغائب إن هم ظفروا بجوسلين إما قتلاً أو أسراً؛ لأنه علم إن هو جمع العساكر الإسلامية لقصده جمع جوسلين الفرنج وحذر وامتنع فأخلد إلى إعمال الحيلة. وكان نور الدين – كما يقول ابن الأثير: إذا فتح حصناً لا يرحل عنه حتى يملأه رجالاً وذخائر يكفيه عشر سنين خوفاً من نصرة تتجدد للفرنج على المسلمين، فتكون حصونهم مستعدة غير محتاجة لشيء. وهكذا ترتبط جدّية نور الدين بذكائه الحذر ودهائه الذي حقق له الكثير من المكاسب والمنجزات، والذي لم يتح لأحد من الأعداء في الداخل والخارج أن ينفذ لتوجيه ضربة أو إصابة مقتل، كان كما يقول ابن الأثير: يكثر أعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بلادهم به. ويضرب على ذلك مثلاً سياسته مع مليح بن ليون ملك الأرمن في بلاد الأناضول: فإنه ما زال يخدعه ويستميله حتى جعله في خدمته سفراً وحضراً، وكان يقاتل به الفرنج وكان يقول: إنما حملني على استمالته أن بلاده حصينة وعرة المسالك، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق، وهو يخرج منها – إذا أراد – فينال من بلاد الإسلام، فإذا طُلب انحجر فيها فلا يقدر عليه، فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئاً من الإقطاع على سبيل التآلف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج، وحين توفي نور الدين وسلك من بعده غير هذا الطريق ملك زعيم الأرمن بعد مليح كثيراً من بلاد المسلمين وحصونهم، وصار منه ضرر عظيم وخرق واسع لا يمكن رقعه، وفي محاولته فتح دمشق أدرك أن اعتماد العنف سيستفز حكامها ويدفعهم إلى مراسلة الصليبيين والاستعانة بهم، فعمد إلى أعمال الحيلة والسياسة، فأخذ يراسل صاحبها مجير الدين ويستميله، ويبعث إليه بالهدايا الموصولة ويظهر له المودة حتى وثق إليه وأخذ نور الدين يكاتبه مشككاً إياه بنوايا عدد من أمرائه، وأنهم بصدد الاتصال به ضد ملكهم، الأمر الذي دفع مجير الدين إلى إبعاد واعتقال عدد من أبرز أصحابه، فلما خلت دمشق من زهرة أمرائها انتقل نور الدين خطوة أخرى فاتصل بأحداث دمشق (أي حرسها الشعبي) وجماهيرها واستمالهم فأجابوه إلى تسليم البلد، وعند ذاك تقدم لحصار دمشق وتمكن بمعونة أهلها أنفسهم من دخولها بسهولة بالغة ودونما إراقة للدماء، فحقق بذلك الهدف الكبير الذي طالما سعى له أبوه، وقبل ذلك، وحينما بعث إليه الفاطميون – كما سيأتي بيانه بإذن الله – يطلبون منه القيام بهجوم على المواقع الصليبية جنوبي الشام لإشغالهم عن مهاجمة مصر، أجاب نور الدين أسامة بن منقذ سفيرهم في هذه المهمة: إن أهل دمشق، أعداء والإفرنج أعداء ما آمن منهما إذا دخلت بينهما، ويحدثنا أبو شامة عن إحدى خدع نور الدين حيث أغار على طبرية وجمع بعض أعلام الصليبيين وشيئاً من ملابسهم وسلاحهم وسلمها إلى أحد جنده قائلاً: أريد أن تعمل الحيلة في الدخول إلى بلبيس، وتخبر أسد الدين شيركوه المحاصر هناك بما فتح الله على المسلمين في بلاد الشام، وتعطيه هذه الأعلام وتأمره بنشرها في أسواق بلبيس فإن ذلك مما يفت في عضد الكفار، ويدخل الوهن عليهم؛ ففعل أسد الدين ما أمره به، فلما رأى الصليبيون ذلك قلقوا وخافوا على بلادهم وسألوا حليفهم شاور- الوزير المصري – الإذن بالانفصال، كما يحدثنا ابن الأثير عن الأسلوب الذي اعتمده نور الدين في فتح حصني المنبطرة بالشام 561ﻫ، فهو لم يحشد له ولا جمع عساكره، وإنما سار إليه في سريه من الفرسان على حين غرة من الصليبيين؛ إذ أدرك أنه بجمعه العسكر سيعطي الإشارة إلى خصومه لكي يأخذوا أهبتهم، وما لبثت حامية الحصن أن فوجئت بهجوم نور الدين المباغت وبعد قتال عنيف سقط الحصن: ولم يجتمع لدفعه إلاّ وقد ملكه، ولو علموا أنه في قلعة من العساكر لأسرعوا إليه، إنما ظنوه أنه في جمع كثير، فلما ملكه تفرقوا وأيسوا من ردّه، فهذه الأحداث تظهر صفة الجدية والذكاء المتوقد في شخصية نور الدين.

    ثانياً: الشعور بالمسؤولية:
    تولد عن ورع نور الدين وتقواه إحساس شديد بالمسؤولية، ظهر في جميع أعماله وحالاته، فالخشية من الله تعالى تجعله دائماً في موقع المحاسب لنفسه المراقب لها، حتى لا تتجاوز إلى ما يغضب الله؛ فهو يعتبر نفسه مسؤولاً أمام الله عن كل ما يتعلق برعيته، وكل ما يتعلق ببلاد المسلمين ودمائهم وحقوقهم، حتى لو كانوا من غير رعيته، فإذا كان باستطاعته مساعدتهم فهو مسؤول إذا قصر في تقديم هذه المساعدة، يظهر هذا الفهم الشامل للمسؤولية في رسالة نور الدين محمود إلى إيلدكز أمير أذربيجان وأرمينية وهمذان والري، جواباً على رسالته التي يطلب فيها من نور الدين عدم احتلال الموصل ويتهدده بأن لا سبيل له إليها قال نور الدين للرسول: قلْ لصاحبك: أنا أرحم ببني أخي (يعني سيف الدين غازي) منك، فلم تدخل نفسك بيننا؟ وعند الفراغ من إصلاحهم يكون الحديث معك عند باب همذان فإنك قد ملكت نصف بلاد الإسلام وأهملت الثغور حتى غلب الكرج عليها، وقد بليت أنا وحدي بأشجع الناس: الفرنج، فأخذت بلادهم وأسرت ملوكهم، فلا يجوز لي أن أتركك على ما أنت عليه، فإنه يجب علينا القيام بحفظ ما أهملت من بلاد الإسلام، وإزالة الظلم عن المسلمين. كان نور الدين يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه الوقت أن يضيع هباء والدم المسلم من أن يُهدر، والكرامة الإسلامية من أن تُهان والأرض الإسلامية من أن تُغزى وتُقتطع. فحينما علم في عام 544ﻫ/1149م بتحالف الصليبيين قال: لا أنحرف عن جهادهم، إلاّ أنه مع ذلك كان يكفّ أيدي أصحابه عن العبث والإفساد في الضّياع ويحسن الرأي في الفلاحين ويعمل على التخفيف عنهم، الأمر الذي أكسبه عطف وتأييد جماهير دمشق وسائر البلاد التابعة لها، فراحت تدعو له بالنصر. وكتب إلى زعماء دمشق: إنني ما قصدت بنزولي هذا المنزل طالباً لمحاربتكم، وإنما دعاني إلى هذا الأمر كثرة شكاية المسلمين.. بأن الفلاحين أُخذت أموالهم وشُتّت نساؤهم وأطفالهم بيد الفرنج وانعدام الناصر لهم: فلا يسعني مع ما أعطاني الله وله الحمد من الاقتدار على نصرة المسلمين وجهاد المشركين وكثرة المال والرجال، ولا يحلّ لي القعود عنهم والانتصار لهم؛ مع معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم والذبّ عنها والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالفرنج على محاربتي وبذلكم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الرعية ظلماً لهم وتعدياً عليهم، وهذا ما لا يرضي الله تعالى، ولا أحداً من المسلمين، وفي العام التالي خرج إليه أهل دمشق وكثير من أجنادها، بعد أن قرر عدم مهاجمتها عنوة كراهية لسفك دماء المسلمين، والتقى بعدد من الطلاب والفقراء والضعفاء فلم يخيب أحداً من قاصديه. وقد أصر نور الدين طيلة الفترة التالية على عدم القيام بهجوم على البلد تحرّجاً من قتل المسلمين وقال: لا حاجة إلى قتل المسلمين بأيدي بعضهم بعضاً، وأنا أرفههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين. فهو يعلم جيداً أن الأمة إذا قتلت نفسها سهلت على العدو، وإذا قدرت على حماية دمها بذلته رخيصاً في مجاهدة هذا العدوّ.. معادلة واضحة يمكن أن تفسر لنا الكثير من هزائم الأمم وانتصاراتها على السواء... ومن ثم كانت عادة نور الدين كما يقول أبو شامة: إنه لا يقصد ولاية أحد من المسلمين إلاّ ضرورة، إما ليستعين على قتال الفرنج، أو للخوف عليها منها كما فعل بدمشق ومصر وغيرها. لقد كان الدم عنده عظيماً، لما كان قد جبل عليه من الرأفة والرحمة والعدل.

    ثالثاً: قدرته على مواجهة المشاكل والأحداث:
    اعتمد نور الدين محمود الحلول العقلية ذات الطابع العلمي في مواجهة المشاكل والأحداث، واضعاً عينيه على التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب، ففي عام 552ﻫ شهدت الجهات الوسطى والشمالية من بلاد الشام زلازل عنيفة تتابعت ضرباتها القاسية، فخربت الكثير من القرى والمدن، وأهلكت حشداً لا يُحصى من الناس، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع، فما كان من نور الدين إلاّ أن شمّر عن ساعد الجدّ وبذل جهوداً عظيمة في إعادة إعمار ما تهدم وتعزيز دفاعاته: فعادت البلاد كأحسن مما كانت، ولولا أن الله منّ على المسلمين بنور الدين، فجمع العساكر وحفظ البلاد، لكان دخلها الفرنج بغير قتال ولا حصار، وفي عام 565ﻫ ضربت بلدان المنطقة بغارة أخرى من الزلازل لم تقل هولاً عن سابقتها، خربت الكثير من المدن وهدّمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك منهم ما يخرج عن الحّد والإحصاء، فلما بلغ الخبر نور الدين سار إلى بعلبك لإعادة إعمار ما تهدم من أسوارها وقلعتها، ولم يجأر إلى الله بالشكوى، ويعلن أن الظلم قد فشا، وأن هذا عقاب الله فقط، أو أنه إشارات الساعة قد لاحت في الأفق القريب، وعندما وصل بعلبك أتاه خبر دمار باقي البلاد وهلاك كثير من أهليها، فرتب في بعلبك من يحميها ويعمرها وانطلق إلى حمص ففعل مثل ذلك ومنها إلى حماه فبعرين وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج، لاسيما قلعة بعرين فإنها مع قربها منهم لم يبق من سورها شيء البتة، فجعل فيها طائفة صالحة من العسكر مع أمير كبير، ووكل بالعمارة من يحث عليها ليلاً ونهاراً. ثم أتى مدينة حلب، فلما شاهد ما صنعته الزلزلة بها، وبأهلها أقام فيها وباشر عمارتها بنفسه، وكان هو يقف على استعمال الفعلة والبنائين، ولم يزل كذلك حتى أحكم أسوار جميع البلاد وجوامعها، وأخرج من المال ما لا يقدر قدره. إن الكوارث – التي يبتلي الله بها عباده – تجيء بمثابة تحديات دائمة تستفز الجماعات البشرية وقياداتها إلى المزيد من الوعي والإنجاز، وإن الاستجابة لهذه التحديات هي التي تقود الأمم والتجارب السياسية والحضارات، خطوات إلى الأمام، والعجز عنها هو الذي يربك مسيرتها ويصيبها بالعجز والشلل والجمود، أما نور الدين فقد اختار الموقف الأول، وأعاد إعمار ما هدمته الكوارث بسرعة مدهشة وواصل الطريق. ثمة واقعة أخرى ذات دلالة واضحة في هذا المجال: كانت في الموصل خربة واسعة في وسط البلد أُشيع عنها أنه ما شرع في عمارتها إلاّ: من ذهب عمره ولم يتم على مراد أمره. فأشار الشيخ عمر الملاء أحد صالحي المدينة وشيوخها الورعين بابتياعها وبناء جامع كبير فيها تُقام فيه الصلوات، وتخطب الجمع وتدرس العلوم، ففعل نور الدين وأنفق فيه أموالاً كثيرة. وعلق الدكتور عماد الدين صاحب كتاب نور الدين محمود الرجل والتجربة على هذه الحادثة فقال: لم يضرب نور الدين الخرافة والشائعة بالكلمة ولكنه ضربها بالفعل، وبالإنجاز وزالت الخرافة. ولكن المسجد الكبير الذي بناه على أنقاضها ظل حتى اليوم يستقبل مئات المتعبدين والدارسين.

    رابعاً: نزعته للبناء والأعمار:
    إن الحاكم الناجح في نظره هو ذلك الذي يعرف كيف يحقق أكبر قدر من العمران والتحضر بأقل قدر من الزمن، فقد بنى نور الدين المساجد والربط والزوايا للتعبد وتربية الروح، كما أنشأ المدارس ودور الحديث للتعلم وتربية العقل، وشجّع أعمال الفروسية وسائر النشاطات الرياضية لكسب المزيد من المهارات القتالية، وتنمية الجسد، وبنى أيضاً دوراً للأيتام لإيواء أطفال المسلمين، والمارستان لمعالجة المرضى، وأقام الجسور والقناطر والحدائق والقنوات والأسواق والحمامات والمخافر وشقَّ الطرقات العامة، فحفلت دولته بالكثير من المؤسسات الاجتماعية والعمرانية، ولم يغفل نور الدين – وهو بصدد البناء والإعمار – عن الجانب الجمالي الذي يرتبط ارتباطاً أساسياً بالإبداع.. ورجل كنور الدين خرّجته مدرسة الإسلام الرحيبة الشاملة لا يمكن إلاّ أن يرى في العمل والتزيين في المضمون والشكل في الوقائع والجماليات وجهين لعملة واحدة، فقد أوقف بستان الميدان والغيضة التي تليه في دمشق لتطييب جوامع دمشق ومدارسها لكي يظل هواؤها معبقاً بالروائح الطيبة والشذى العبق، وكان على اهتمام كبير بهذه المسألة بحيث أنه حدّد مصارف وقفه المذكور: نصفه على تطبيق جامع دمشق، والنصف الآخر يقسم عشرة أجزاء، جزآن على تطييب المدرسة التي أنشأها للحنفية والثمانية أجزاء الأخرى على تطييب المساجد التسعة في دمشق وأطرافها. وجلب للمدرسة الحلاوية التي بناها في حلب، من مدينة أفاحية، مذبحاً من الرخام الملكي الشفاف الذي إذا وضع تحته ضوء شفّ من وراء الرخام، ولما دخل قلعة دمشق عام 549ﻫ أنشأ بها داراً عامة: في غاية الحسن سماها دار المسرّة، وفي قلعة حلب أنشأ نور الدين أبنية كثيرة وأقام ميداناً 'خضّره بالحشيش ' وسمّى الميدان الميدان الأخضر، ويرتبط بهذه المسألة الجمالية ما كان نور الدين يأمر به في المناسبات عام 552ﻫ إذ أمر نور الدين بزينة قلعته ودار مملكته بحيث حلّى أسوارها بالآلات الحربية من الجواشن والدروع والتراس والسيوف والرماح والطوارق والإفرنجية والأعلام والطبول والبوقات وأنواع الملاهي المختلفات، وهرعت الأجناد والرعايا وغرباء البلاد لمشاهدة الحال فشاهدوا ما استحسن منه مدة سبعة أيام. لقد كان أكسوار الحفل وديكوراته – إذا صح التعبير – مناسبة تماماً لمدينة كدمشق تتزعم حركة الجهاد، وتقف في قلب التحدي. وتبدو نزعة نور الدين للإعمار والتحضر، أكثر ما تبدو، في سياسته الرامية لتوطين العناصر البدوية وجعلها تمارس حياة الاستقرار، فقد أقطع الأمراء العرب في جنوب الشام والحجاز القطائع لئلا يتعرضوا لقوافل الحجاج، ونقل أعراب بني عباد من البلقاء والأردن إلى صرخد الملاصقة لبلاد حوران من أعمال دمشق، و على الرغم من أن هذه الخطوة أنصبت على تجميد نشاط هؤلاء في مساعدة صليبيي المنطقة وإرشادهم على الطرق، وتحويل هؤلاء الأعراب إلى قوة تعمل لصالح المسلمين أنفسهم كما أشارت الرواية المذكورة، إلاّ أنها حققت من ناحية أخرى هدفاً عمرانياً واضحاً، وليس ثمة رواية تحمل دلالتها على نزعة نور الدين للبناء والإعمار تعدل رواية ابن جبير، الرحالة الذي زار دمشق ووصف معالمها بعد سنوات فحسب من وفاة نور الدين، ولا شك أن وصفه هذا ينسحب على العصر الذي نتحدث عنه؛ لأن تغييرات جغرافيا المدن لا تُقاس بالسنين المحدودة بل بعقودها على أقل تقدير. يقول الرجل- مشيراً إلى الاتساع العمودي لدمشق-: وبناء البلد ثلاث طبقات، فيحتوى من الخلق على ما تحتوي ثلاث مدن؛ لأنه أكثر بلاد الدنيا خلقاً وحسنه كله خارج المدينة لا داخلها، وبدمشق (ما يقرب من) مائة حمام فيها وفي أرباضها، وفيها نحو أربعين داراً للوضوء يجري الماء فيها كلها، وليس في هذه البلاد كلها بلدة أحسن منها للغريب؛ لأن المرافق بها كثيرة.. وأسواق هذه البلدة من أحفل أسواق البلاد وأحسنها انتظاماً وأبدعها صنعاً، وقد سرت عدوى الرغبة في البناء والإعمار إلى رجال نور الدين وكبار موظفيه – كما سنرى في المقالات القادمة – فراحوا يتسابقون في بناء المدارس والمساجد ومؤسسات الخدمات الاجتماعية، وما أكثر الروايات التي قيلت في هذا الصدد، ويكفي أن نطلع على تراجم رجال نور الدين محمود، بل النساء اللواتي اشتهرن في عصره كذلك.



    - يتبع -
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  2. #2

    رد: رحلة مع القائد نور الدين زنكي

    السلام عليكم
    فكانت زوجته تكثر القيام في الليل، ونامت ليلة عن وردها فأصبحت وهي غضبى، فسألها نور الدين عن أمرها، فذكرت نومها الذي فوّت عليها وردها، فأمر نور الدين عند ذلك بضرب الطبول في القلعة وقت السحر لتوقظ النائمين حينذاك للقيام، ومنح الضاربين أجراً جزيلاً. وصفها المؤرخون بأنها كانت من أحسن النساء وأعفهن وأكثرهن خدمة متمسكة من الدين بالعروة الوثقى، وكانت لها أوقاف وصدقات كثيرة وبر عظيم، وقد ذكر ابن كثير في أحداث عام 563ﻫ: وفي شوال وصلت امرأة الملك نور الدين محمود زنكي إلى بغداد تريد أن تحجَّ من هناك، وهي السَّتُّ عصمت الدين خاتون بنت معين الدين أنُر، فتلقاها الجيش ومعهم صندل الخادم، وحُملت لها الإقامات وأُكرمت غاية الإكرام، وعرف عن الصالح إسماعيل تقواه العميقة والتزامه الأخلاقي المسؤول حتى رفض الأخذ برأي الأطباء في شرب شيء من الخمر عندما ألحّت عليه علة القولنج التي أودت بحياته. وقال: لا. حتى أسأل الفقهاء، فلما أفتوه بالجواز لم يقبل وسأل كبيرهم: إن الله تعالى قرّب أجلي، أيؤخره شرب الخمر؟ قال: لا فأجابه: فو الله لا لقيت الله وقد فعلت ما حرّم علي.
    عناصر النجاح التي نستنتجها من قراءة ماسلف خطيرة وهي:
    الورع والخوف الحقيقي من الله وهو اول امر يجعل من التوكل على الله امرا تنفيذيا لامراء فيه
    ثانيا الهدف السامي النبيل والذي يسخر له القائد كل الأسباب الشريفة كذلك
    ثالثا معاملة الاعداء بكا يملي عليه الاسلام رغم عدم تلقي مايقابل هذا من طرفهم.
    الاصرار والعمل الجدي والسعي لاكتساب الوقت والطاقات
    جميعا وتوحيد الصفوف امر لايستهان به ابدا
    وكلها دروس وعبر
    لك كل تقديري
    [align=center]

    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
    ( ليس عليك أن يقنع الناس برأيك ،، لكن عليك أن تقول للناس ما تعتقد أنه حق )
    [/align]

    يارب: إذا اعطيتني قوة فلاتأخذ عقلي
    وإذا أعطيتني مالا فلا تأخذ سعادتي
    وإذا أعطيتني جاها فلا تأخذ تواضعي
    *******
    لم يكن لقطعة الفأس أن تنال شيئا ً من جذع الشجرة ِ لولا أن غصنا ً منها تبرع أن يكون مقبضا ً للفأس .

  3. #3

    رد: رحلة مع القائد نور الدين زنكي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ريمه الخاني مشاهدة المشاركة
    السلام عليكم

    عناصر النجاح التي نستنتجها من قراءة ماسلف خطيرة وهي:
    الورع والخوف الحقيقي من الله وهو اول امر يجعل من التوكل على الله امرا تنفيذيا لامراء فيه
    ثانيا الهدف السامي النبيل والذي يسخر له القائد كل الأسباب الشريفة كذلك
    ثالثا معاملة الاعداء بكا يملي عليه الاسلام رغم عدم تلقي مايقابل هذا من طرفهم.
    الاصرار والعمل الجدي والسعي لاكتساب الوقت والطاقات
    جميعا وتوحيد الصفوف امر لايستهان به ابدا
    وكلها دروس وعبر
    لك كل تقديري

    هم كانوا أناساً استثنائيين في زمن استثنائي لن يتكرر ولن يعود مثيله
    كانوا صادقين مع ربهم ومع ذواتهم ومخلصين لمعتقداتهم وقضاياهم وهذا هو السبب الأكيد لنجاحهم .

    نسأل الله أن يهدينا إلى السير على طريقهم .
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  4. #4

    رد: رحلة مع القائد نور الدين زنكي

    الاستاذ سامي المحترم

    كل المودة والتقدير

    دائما تتوحد مصر وبلاد الشام فتكون قوة

    في العصر الايوبي كان نور الدين ومن بعده صلاح الدين موحدان لمصر وبلاد الشام

    وكان اعظم انتصار في حطين 1187م

    فترة تاريخية تؤكد على ان الارادة والاتحاد تصنعان الانتصار

    دمت بكل الخير

  5. #5

    رد: رحلة مع القائد نور الدين زنكي

    صحيح كلامك أخي الكريم ولو أن له استثناء في عصرنا الحاضر فالوحدة بين سوريا ومصر في عام 1958 م كانت قد أصابت سورية بأضرار جسيمة لحقت بها جراء ممارسة سياسة السيطرة والهيمنة الاستعلائية المصرية على سوريا ومقدراتها , لا تغرّك الشعارات والعناوين الطنانة الرنانة أبداً , بالفعل لم تكن تجربة ناجحة أبداً .

    لك كل الاحترام والتقدير أخي يسري
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  6. #6

    رد: رحلة مع القائد نور الدين زنكي

    رحلة مع القائد نور الدين زنكي ( 2 )



    د. علي محمد الصلابي
    باحث ليبي في التاريخ والحضارة الإسلامية



    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



    خامساً: قوة الشخصية:
    كان نور الدين محمود قوي الشخصية، قديراً على الوقوف في نقطة التوازن بين الصرامة والمرونة، والشدة واللين، والعنف والرحمة، وقد وصفه ابن الأثير بأنه كان: مهيباً مخوفاً مع لينه ورحمته، وأنه كانت إليه النهاية في الوقار والهيبة، شديداً في غير عنف، رقيقاً في غير ضعف، ويصف مجلسه فيقول: وكان مجلسه كما روي في صفة مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجلس حلم وحياء، لا تُؤبّن فيه الحُرَم، ولا يُذكر فيه إلاّ العلم والدين وأحوال الصالحين والمشورة في أمر الجهاد، وقصْد بلاد العدو، ولا يتعّدى هذا.. وقال الحافظ ابن عساكر الدمشقي: كنا نحضر مجلس نور الدين فكنا كما قيل: كأن على رؤوسنا الطير تعلونا الهيبة والوقار، وإذا تكلم أنصتنا، وإذا تكلمنا استمع لنا وقال ابن كثير: لم يسمع منه كلمة فحش قط في غضب ولا رضا، صَموتاً وقوراً. وكان نور الدين محمود يملك هيبة عجيبة على موظفيه، ويلزمهم بوظائف الخدمة: ولم يجلس عنده أمير من غير أن يأمره بالجلوس باستثناء نجم الدين أيوب.. وكان مع هذه العظمة وهذا الناموس القائم، إذا دخل عليه الفقيه أو الصوفي أو الفقير يقوم له ويمشي بين يديه ويجلسه إلى جانبه، ويُقبل عليه بحديثه كأنه أقرب الناس إليه، وإذا أعطى أحداً منهم شيئاً كثيراً يقول: هؤلاء جند الله وبدعائهم ننتصر على الأعداء، ولهم في بيت الله حق أضعاف ما أعطيهم، فإذا رضوا منا ببعض حقهم فلهم المنة علينا.

    سادساً: محبة المسلمين له:
    عندما تحدث ابن كثير في أحداث سنة 552ﻫ قال: وفيها مرض نور الدين، فمرض الشام بمرضه، ثم عوفي ففرح المسلمون بذلك فرحاً شديداً، وقال في أحداث سنة ثمان وخمسين وخمسمائة: وفيها كبست الفرنج نور الدين وجيشه فانهزم المسلمون لا يلوي أحد على أحد، ونهض الملك نور الدين فركب فرسه والشَّبحة في رجله فنزل رجل كردي فقطعها حتى سار السلطان نور الدين فنجا، وأدركت الفرنج الكردي فقتلوه، وفيما ذكره ابن كثير يظهر الحب العميق الذي تكنه الأمة لنور الدين وهذا الحب الرباني كان نابعاً من القلب، وبإخلاص، لم يكن حب نفاق، وما أبلغ تعبير ابن كثير: مرض نور الدين فمرض الشام بمرضه، فهل هناك تلاحم بين القيادة والقاعدة مثل هذا في ذلك الزمن، ومن أسباب ذلك الحب صفات نور الدين القيادية، فهو يسهر ليناموا، ويتعب ليستريحوا، وكان يفرح لفرح المسلمين، ويحزن لحزنهم، وكان عمله لوجه الله – نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً – وصدق الشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوي عندما قال:

    فإذا أحبّ اللهَ باطنُ عبدِهِ=ظهرتْ عليه مواهبُ الفتاحِ
    وإذا صفتْ لله نيةُ مصلحٍ=مال العبادُ عليه بالأرواحِ

    إن القيادة الصحيحة هي التي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كلّ شيء، وتستطيع أن تتعامل مع النفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحب من الجنود والأمة لها. لقد وضع الله القبول لنور الدين بين أبناء أمته وأحبته الجماهير لجهاده وإخلاصه وتفانيه في خدمة الإسلام، وامتد هذا الحب لكي يتجاوز مدن دولته وحصونها وقراها إلى ما وراء الحدود وكسب جماهير خصومه من الداخل، وهز عروشهم، وقطع جذور مواقعهم من الأعماق وأزاحهم من طريق الوحدة التي اعتزم بناءها دونما قطرة من دم، فالدم المسلم كان عنده عظيماً، وليست تجربته مع أهالي دمشق بالمثل الوحيد، فمُنذ عام 543ﻫ حينما تقدم على رأس قواته للمساعدة على فك حصار الحملة الصليبية الثانية عن دمشق: شاهد الدماشقة حرمته حتى تمنوه، وراحوا يدعون له دعاءً متواصلاً، وأخذ يخرج إليه خلال المراحل التالية من الحصار – عدد كبير من الطلاب والفقراء والضعفاء ولهذا دلالته، فهم الذين كانوا في الواقع أصدقاءه الحقيقيين كما سيتبين لنا، فما خاب قصده كما يقول ابن القلانسي، أما فلاحو المنطقة فكانت قلوبهم معه؛ لأنه منع أصحابه من العبث بمزارعهم، وأعلن أنه جاء لكي يحمي كدحهم من تخريب الصليبيين، وفي عام 547ﻫ عندما تقدم إلى دمشق لضمها إلى جبهة القتال الجادّ المخلص ضد الصليبيين، واستنجد حاكمها مجير الدين بالعسكر والأحداث، للخروج إلى قتاله. لم يخرج إلاّ القليل، لما وقر في نفوسهم من استنجاد مجير الدين بالفرنج. وأقام نور الدين على دمشق من غير قتال ولا زحف خوفاً على المسلمين. وقد عزّز بذلك محبة الدمشقيين له فكانوا: يدعون ليلاً نهاراً أن يبدلهم الله سبحانه بالملك نور الدين، وأخذ نور الدين يكاتب أهل دمشق ويستميلهم: وكان الناس يميلون إليه لما هو عليه من العدل والديانة والإحسان فوعدوه بالتسليم. وقد دخل نور الدين دمشق عام 549ﻫ في فتح أبيض لم تُرق فيه دماء وما ذلك إلاّ – بتوفيق الله – ثم بمساعدة الجماهير التي كانت تنتظر دخوله منذُ سنوات وسنوات. ويقال إن امرأة كانت على السور فدلّت حبلاً فصعدوا إليه، وصار على السور جماعة ونصبوا السلالم، وصعدت جماعة أخرى، ونصبوا علماً، وصاحوا بشعار نور الدين وبعد أقل من ثلاث سنوات، حينما أعلن في دمشق عن التطوع في حملة لقتال العدو خرج كل قادر على حمل السلاح من أهل دمشق وتبع نور الدين في حملته تلك: فتيان البلد من الأحداث والغرباء والمتطوعة والفقهاء والصوفية والمتدينين العدد الكثير. وهناك رواية لابن الأثير، تناقلها كثير من المؤرخين، تحمل دلالتها العميقة في هذا الموضوع طلب نور الدين عام 559ﻫ نجدات من أمراء الأطراف لفتح حارم المعروفة بحصانتها الشديدة، فأما فخر الدين قرا أرسلان الأرتقي، حاكم حصن كيفا في ديار بكر، فبلغني عنه أنه قال له ندماؤه وخواصه: على أي شيء عزمت؟ فقال: على القعود، فإن نور الدين قد تحشّف من كثرة الصوم والصلاة، فهو يلقي بنفسه والناس معه في المهالك فكلهم وافقه على ذلك، فلما كان الغد أمر بالنداء في العسكر، بالتجهز للغزاة فقال له أولئك: فارقناك بالأمس على حال نرى الآن ضدها؟ فقال: إن نور الدين قد سلك معي طريقاً إن لم أنجده خرج أهل بلادي على طاعتي، وأخرجوا البلاد من يدي،، فإنه كاتب زهّادها وعبّادها والمنقطعين عن الدنيا، يذكر لهم ما لقي المسلمون من الفرنج وما نالهم من القتل والأسر والنهب، ويستمد منهم الدعاء ويطلب منهم أن يحثوا المسلمين على الغزاة، فقد قعد كل واحد من أولئك ومعه أتباعه وأصحابه وهم يقرؤون كتب نور الدين ويبكون، ويلعنوني ويدعون عليّ، فلا بد من إجابة دعوته، ثم تجهز هو 'أيضاً' وسار إلى نور الدين بنفسه. إن نور الدين يتعامل مع الجماهير وأعيانها ورموزها، وقد حقق نجاحات باهرة في كسب قلوبها وتأييدها ومحبتها، فكان يطلعها على تفاصيل ما يجري على الساحة، فإن تردد الحكام والأمراء، أو جبنوا، أو بخلوا فإن بمقدور القواعد، الأكثر ثقلاً وتأثيراً يوم ذاك أن ترغمهم على الطاعة، وإلاّ عصفت بهم وأخرجت البلاد من أيديهم، وذلك هو الضمان الكبير في تجنيد القدرات الإسلامية كافة ودفعها إلى ساحات الجهاد، وما من شك في أن انسجاماً عميقاً يتحقق بين القيادة والقواعد ومحبة واعية تسود العلاقة بين الرجل والجمهور، وتعاطفاً مخلصاً من أجل الأهداف الكبيرة.. وما من شك أن هذا وذاك من أسباب النجاح والتوفيق في إدارة دولته.


    سابعاً: اللياقة البدنية العالية:
    تطلبت حياة نور الدين محمود الحافلة بالعمل المتواصل والجهاد المضني جسداً قوياً قادراً على تحمل الأعباء والمشقات، ولا يتم بناء الجسم القوي إلاّ بممارسة الرياضة، ولذلك كان نور الدين مواظباً على ممارسة الألعاب الرياضية المعروفة في زمانه بما يتعلق بالفروسية وأعمال القتال، وكان بشكل خاص مولعاً بلعبة الكرة أو الصولجة التي تُدعى في هذه الأيام بلعبة البولو، ويصفه ابن الأثير بقوله: من أحسنهم لعباً بالكرة وأقدرهم عليها، ولم يُر جوكانه يعلو رأسه، وكان ربما ضرب الكرة فتعلو، فيجري الفرس ويتناولها بيده من الهواء ويرميها إلى آخر الميدان، وكانت يده لا ترى والجوكان فيها، بل تكون في كم قبائه استهانة باللعب، وعندما احتجّ عليه أحد الزاهدين من أصحابه؛ لأنه يلهو ويعذب الخيل لغير فائدة دينية: قال والله ما حملني على اللعب بالكرة اللهو والبطر، وإنما نحن في ثغر، والعدو قريب منا، وبينما نحن جلوس إذ يقع صوت فنركب في الطلب، ولا يمكننا أيضاً ملازمة الجهاد ليلاً ونهاراً شتاء وصيفاً؛ إذ لابد من الراحة للجند، ومتى تركنا الخيل على مرابطها صارت جماماً لا قدرة لها على إدمان السير في الطلب، ولا معرفة لها أيضاً بسرعة الانعطاف في الكر والفر في المعركة، فنحن نركبها ونروضها بهذا اللعب فيذهب جمامها، وتتعود سرعة الانعطاف والطاعة لراكبها في الحرب، فهذا والله الذي يبعثني على اللعب بالكرة. وقد فسر نور الدين بكلامه هذا الممارسة الرياضية تفسير إسلامياً رائعاً في جوابه على اعتراض أحد إخوانه الزهاد عندما كتب له، ففي هذا التفسير المنطقي والتحليل التفصيلي للعبة البولو كشف وتوضيح لنفسية نور الدين؛ فهو لا يلعب الكرة للعبث وإهدار الوقت، وإنما لتحقيق العديد من الفوائد التي هي في الحقيقة استعداد وتحضير للجهاد، تحضير لأجسام اللاعبين ولأجسام خيولهم، وإشغال أوقات الفراغ بما هو مفيد، إضافة إلى ما تقتضيه الرياضة من راحة نفسية واستجمام وصفاء التفكير، وذهاب الهم للجنود والقادة، وفي هذا الجواب لصاحبه الزاهد تظهر روح نور الدين الرياضية في أعلى درجاتها؛ فهو يخاطب الزاهد حسب مستواه من العلم والمعرفة، ويأتيه من الباب الذي يقنعه، دون أن يجرح شعوره باتهامه بقلة المعرفة أو التزمت أو التعصب، وبهذا الموقف يبين لنا نور الدين فهمه للإسلام بالمنظور الشمولي الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن. وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. وفي كلام معاذ -رضي الله عنه- دليل على أن المباحات يُؤجر عليها بالقصد والنية. وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شؤون الحياة كلها وكله حرص على إتقانها لكونها عبادة لله.
    إن من أخطر الانحرافات التي وقعت فيها الأجيال المتأخرة من المسلمين انحرافهم عن تصور مفهوم العبادة، وحين يعقد الإنسان مقابلة بين المفهوم الشامل للعبادة الواسع العميق الذي كان يمارسه نور الدين وانعكاسه على جنوده وشعبه ودولته، والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة، لا يستغرب كيف هوت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي نعيشه اليوم، وكيف هبطت من مقام الريادة والقيادة للبشرية كلها لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريسة الذئاب.
    ن من شروط النهوض التي نتعلمها من دراستنا لسيرة نور الدين الشهيد أن يكون مفهوم العبادة في حس جيلنا أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله، كما نفهم من قول الله تعالى:"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". [الذاريات:56]، وبهذا الفهم لمفهوم العبادة عند نور الدين وجيله حقق إنجازات رائعة في كل اتجاه خاضته الدولة النورية. قال ابن الأثير: في حديثه عن نور الدين محمود: وكان – رحمه الله – لا يفعل فعلاً إلاّ بنية حسنة، ثم ذكر قصة اعتراض الزاهد على لعبه بالخيل والكرة التي ذكرناها آنفاً ثم علق ابن الأثير: بعد نهاية القصة فقال: فانظر إلى هذا الملك المعدوم النظير، الذي يقلّ في أصحاب الزوايا المنقطعين إلى العبادة مثله، فإن من يجيء إلى اللعب يفعله بنية صالحة، حتى يصير من أعظم العبادات وأكثر القربات يقلّ في العالم مثله، وفيه دليل على أنه كان لا يفعل شيئاً إلاّ بنية صالحة. وهذه أفعال العلماء الصالحين العالمين. والملاحظ في حياة نور الدين صياغة حياته ودولته كلها صياغة إيمانية ربانية ملتزمة بمنهج رب العالمين وامتثالاً وتحقيقاً لقول الله تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". [الأنعام: 162].
    إن من أسباب ضياع الأمة وضعفها، وانهزامها أمام أعدائها فقدها لشرط مهم من شروط النهوض والتمكين، ألا وهو تحقيق العبودية بمفهومها الشامل الصحيح.
    وهكذا كان نور الدين محمود لا يغيب عنه مفهوم العبادة الشامل في لهوه ولعبه وجده، وكان يمارس ألعاباً أخرى تشبه في مغزاها وفائدتها لعبة البولو، كلعبة طعن الحلق ورمي القبق، وكانت رحلات الصيد الممتعة من رياضاته الأخرى، تحمل من الجّد جنب متعتها البريئة، ما يجعلها من بين المهارات الفروسية التي يتقنها ويتعشقها يومذاك الفارس والمجاهد، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى: "وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ". ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي. قال: من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا. وليست مهارات الصيد – في نظر نور الدين محمود زنكي – سوى محاولة، من بين العديد من المحاولات لتركيز القدرة على الرمي وحمايتها من التبدد والنسيان، وحكى أسامة بن منقذ في كتابه الاعتبار عن ممارسة نور الدين لرياضة الصيد: وظل نور الدين يمارس رياضة الصيد، ويتعشق لعب الكرة والرماية حتى مرضه الأخير الذي أودى به بعد أيام قلائل من ذلك اليوم الحافل الذي قّرر فيه ختان ولده الملك الصالح إسماعيل، وقد أُقيمت الاحتفالات ورُدّدت الأناشيد، وخرج الرجل مع بعض أصحابه إلى الميدان الأخضر شمالي دمشق لممارسة العديد من ألعاب الفروسية، كطعن الحلق ورمي القبق، كما يقول العماد الأصفهاني.. فما غادر الساحة إلاّ وهو يعاني ألماً حاداً، وسرعان ما أودى بحياته بعد قليل.

    ثامناً: تجرده وزهده الكبير:
    فهم نور الدين محمود زنكي – رضي الله عنه – من خلال معايشته للقرآن الكريم وهدي النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنَّها مزرعة للآخرة، ولذلك تحَّررَ من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها، وخضع وانقاد، وأسلم نفسه ظاهراً وباطناً، ومن هذه الحقائق:
    اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل. وأن هذه الدنيا لا وزن لها، ولا قيمة عند رب العّزة إلاّ ما كان منها طاعة لله – تبارك وتعالى – إذ يقول النبي صلى الله عليه وسلم:"لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، ألا إن الدّنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلاّ ذكر الله، وما والاه أو عالماً أو متعلَّماً". وأن عمرها قد قارب على الانتهاء؛ إذ يقول صلى الله عليه وسلم:"بُعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه السَّبابة والوسطى".
    وأن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون:"يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ". [غافر:39 –40]. كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب الملك العادل نور الدين محمود الشهيد، فترفع -رحمه الله- عن الدّنيا وحطامها، وزهد فيهما، وإليك شيئاً من مواقفه:

    1- قال ابن الأثير: وحكى لنا الأمير بهاء الدين علي بن الشكري، وكان خصيصاً بخدمة نور الدين قد صحبه من الصبا، وأنس به، وله معه انبساط، قال: كنت معه في الميدان بالرّها والشمس في ظهورنا، فكلّما سرنا تقدمنا الظل، فلما عدنا صار ظلنا وراء ظهورنا، فأجرى فرسه وهو يلتفت وراءه وقال لي: أتدري لأي شيء أجري فرسي وألتفت ورائي قلت: لا، قال: قد شبهت ما نحن فيه بالدنيا، تهرب ممن يطلبها، وتطلب من يهرب منها. قلت: رضي الله عن مَلك يفكر في مثل هذا، وقد أنشدت بيتين في هذا المعنى وهما:

    مَثلُ الرزقِ الذي تطلبُهُ=مثلُ الظلِّ الذي يمشي معكْ
    أنـــت لا تـــدركُـــــهُ متــــبـــــعــــاً=وإذا ولـــّيـــتَ عـــــنـــه تـبــــعـــَكْ

    2- تشبه نور الدين محمود بعمر بن عبد العزيز في زهده، وقد كان الأخير حاكماً لأقوى دولة على الأرض في زمنه، فكان نور الدين لا ينفق على نفسه وعلى أهله إلاّ من ملك اشتراه من سهمه من الغنائم، وكان يحضر الفقهاء ويستفتيهم فيما يحل له من تناول الأموال المرصدة لمصالح المسلمين، فيأخذ ما يفتونه بحله، ولم يتعدّه إلى غيره البتة. قال العماد الأصفهاني: كان رسم نفقته الخاص في كل سنة من جزية أهل الذمة مبلغ ألفي قرطاس، يصرفه في كسوته ونفقته ومأكوله ومشروبه وحوائجه المهمة، حتى أجرة خيّاطه وطبّاخه، ومن ذلك المقرر المعين النزر، ثم يستفضل ما يتصدق به في آخر الشهر، ويفضه على المساكين وأهل الفقر.

    3- وأما ما يُهدى إليه من الثياب والألطاف وهدايا الملوك من المناديل والسكاكين والمهاميز والدبابيس، وكل دقيق وجليل لا يتصرف في شيء منه، بل يعرض نظره عنه، وإذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ليحصّل أثمانها الموفورة ويصرفها في عمارة المساجد المهجورة.

    4- ولم يلبس قط ما حّرمه الشرع من حرير أو ذهب أو فضة، وحكي لي عنه أنه حُمل إليه من مصر عمامة من القصب الرفيع مذهّبة فلم يحضرها عنده، فوُصفت له فلم يلتفت إليها، وبينما هم معه في حديثها؛ إذ قد جاءه رجل صوفي فأمر له بها فقيل له: إنها لا تصلح لهذا الرجل، ولو أعطي غيرها لكان أنفع له، فقال: أعطوها له فإني أرجو أن أُعوّض عنها في الآخرة. فسلمت إليه فسار بها إلى بغداد فباعها بستمائة دينار أو سبعمائة، وأنا أرجح أنها كانت تساوي أكثر.

    5- قال رضيع الخاتون 'زوجة نور الدين': إنها قلّت عليها النفقة ولم يكفها ما كان قد قرّره لها، فأرسلتني إليه أطلب منه زيادة في وظيفتها (أي مخصصاتها المالية)، فلما قلت له ذلك تنكّر واحمرّ وجهه، ثم قال: من أين أعطيها؟ أما يكفيها مالها؟ والله لا أخوض نار جهنم في هواها، إن كانت تظن أن الذي بيدي من الأموال هي لي فبئس الظن؛ إنما هي أموال المسلمين ومرصدة لمصالحهم ومعدّة لفتق – إن كان – من عّدو الإسلام وأنا خازنهم عليها فلا أخونهم فيها، ثم قال: لي بمدينة حمص ثلاث دكاكين ملكاً قد وهبتها إياها فلتأخذها: وكان يُحصّل منها قدر قليل نحو عشرين ديناراً.

    6- قال ابن كثير: كان نور الدين عفيف البطن والفرج، مقتصداً في الإنفاق على أهله وعياله في المطعم والملبس حتى قيل: إنه كان أدنى الفقراء في زمانه أعلى نفقة منه، من غير اكتناز ولا استئثار بالدنيا. وكان عمر الملاّء رجلاً من الصالحين الزاهدين، وكان نور الدين يستقرض منه في كل رمضان ما يفطر عليه، وكان يرسل له بفتيت ورقاق فيفطر عليه. وكان إذا أقام الولائم العظيمة لا يمد يده إليها، إنما يأكل من طبق خاص فيه طعام بسيط.
    وأما مقرّ سكن حاكم الجزيرة والشام ومصر واليمن فكانت داراً متواضعة تطل على النهر الداخل إلى القلعة من الشمال، ألحق بها صُفّة يخلو فيها للعبادة، فلما ضربت الزلازل دمشق، بنى بإزاء تلك الصفة بيتاً من الأخشاب: فهو يبيت فيه ويصبح ويخلو بعبادته ولا يبرح. ولما توفي دفن في البيت البسيط المقام من الأخشاب.

    7- زهده في الألقاب: عندما تفقد قيادة ما القدرة على الإسهام الجادّ في حركة التاريخ، يتحول همها إلى منح النياشين والألقاب لمن يقدرون من أجل أن تغطي عجزها وانكماشها، لكن رجلاً فاعلاً كنور الدين يرفض هذه (المنح)؛ خوفاً أن يكون في طياتها الكذب والمبالغة والزيف، وخوفاً أن تقوده إلى نوع من الاعتداد والغرور، وكثيراً ما انتهى إليهما القادة العاملون، وأما نور الدين الذي علمه التجرّد كيف يكون الرفض فإنه يتمنع حتى النهاية عن الذهاب مع الإغراء إلى ما يريد الشيطان لا ما يريد الله، تلقّى يوماً من بغداد هدية تشريف عباسيه ومعها 'قائمة' بألقابه التي كان يُذكر بها على منابر بغداد:... اللهم أصلح المولى السلطان الملك العادل العالم العامل الزاهد العابد الورع المجاهد المرابط المثاغر نور الدين وعدته ركن الإسلام وسيفه، قسيم الدولة وعمادها، اختيار الخلافة ومعزها، رضيّ الإمامة وأثيرها، فخر الملّة ومجدها، وشمس المعاني وملكها، سيد ملوك المشرق والمغرب وسلطانها، محيي العدل في العالمين، منصف المظلومين من الظالمين، ناصر دولة أمير المؤمنين. لكن نور الدين أسقط جميع الألقاب وطرح دعاءً واحد يقول: اللهم وأصلح عبدك الفقير محمود بن زنكي، وثمة رواية أخرى تمنحنا مزيداً من الأضواء عن الموضع وتتضمن كلمات وجملاً من إنشاء نور الدين نفسه.. روي أنه كتب رقعة بخطه إلى وزيره خالد بن القيسراني – بعد أن استفزته كثرة الألقاب – يأمره أن يكتب له صورة ما يُدعى له به على المنابر، وكان مقصوده صيانة الخطيب عن الكذب، ولئلا يقول ما ليس فيه، فكتب ابن القيسراني كلاماً ودعا له فيه ثم قال: وأرى أن يُقال على المنبر: اللهم وأصلح عبدك الفقير إلى رحمتك، الخاضع لهيبتك، المعتصم بقوتك، المجاهد في سبيلك، المرابط لأعداء دينك، أبا القاسم محمود زنكي، فكان جواب نور الدين: هذا لا يدخله كذب ولا تزيّد. وكتب بخطه في أعلى الصفحة: مقصودي ألاّ يُكذب على المنبر، أنا بخلاف كل ما يقال. أفرح بما لا أعمل؟ والتفت إلى وزيره قائلاً: الذي كتبت به جيد: اكتب به نسخاً إلى البلاد. ثم أضاف ثم يبدؤون بالدعاء: اللهم أره الحق حقاً، اللهم أسعده، اللهم انصره، اللهم وفَّقه.. من هذا الجنس.
    إن القيادة التي تريد أن تنهض بالأمة وتمارس فقه النهوض في حياتها عليها أن تمنع كل ما من شأنه أن ينمّي روح النفاق والتزلف للمسؤولين؛ لأن ذلك يوفر النقد البنّاء وحرية الرأي للشعوب، حتى يعرف القادة أخطاءهم فيصلحوها في حركتهم النهضوية، وعلى القيادة أن تتصف بالتجرد لله في أعمالها وتزهد في حطام الدنيا الزائل. لقد كان زهد نور الدين، زهد المؤمن الذي لا يرغب في الدنيا، وما فيها من ملذات وشهوات، ويسعى ويعمل للآخرة دار النعيم والخيرات، ولقد مدح ابن القيسراني نور الدين في زهده فقال:

    ثـــنى يـــدَه عن الــــدنـــيا عــفــــافاً=ومـــال بــهــا عــن الأمـــوالِ زهـداً

    ويصوره ابن منير من الصالحين الأبرار الذين يزهدون فيما يتنازع عليه الناس من عرض الدنيا، يقول:

    لا زلـــت تقـفــو الصــالحين مـسابقا=لُــهــُم وتَطــْلعُ خـــلــفَــك الأبـــرارُ
    نفس الســيادة زهد مـثلــك فـي الذي=فــيه تفــانـــت يَـــعـــْرُبٌ ونـــــزارُ

    تاسعاً: شجاعته:
    ورث نور الدين محمود الشجاعة عن والده عماد الدين زنكي الذي يضرب بشجاعته المثل؛ فقد شارك نور الدين في جميع المعارك التي خاضها والده خلال فترة حكمه (521-541ﻫ) ومن بعد توليه الحكم أمضى معظم أيام حياته على صهوة جواده يشارك جنوده، ويتقدم الصفوف ويعرض نفسه للشهادة، وقد ورد أفضل وصف لشجاعته على لسان ابن الأثير بقوله: وأما شجاعته وحسن رأيه فقد كانت النهاية إليه فيهما، فإنه كان أصبر الناس في الحرب، وأحسنهم مكيدة ورأياً، وأجودهم معرفة بأمور الأجناد وأحوالهم، وبه كان يُضرب المثل في ذلك. سمعت جمعاً كثيراً من الناس لا أحصيهم يقولون إنهم لم يروا على ظهر الفرس أحسن منه، كأنه خُلق منه لا يتحرك ولا يتزلزل، وبلغني أنه في الحرب رابط الجأش، ثابت القدم، صليب الضرب يقدم أصحابه عند الكرة ويحمي منهزمهم عند الفرّة، وعندما فاجأ الفرنجة معسكره بالقرب من حصن الأكراد عام 558ﻫ /1163م، ولم يتمكن هو ومن كان معه من الثبات، انسحب باتجاه حمص مسافة اثنتي عشر كيلو متراً، وتوقف حتى تجمع عنده من نجا من المعركة، وأرسل في طلب الخيام والسلاح والمؤن من حمص وحلب وأقام معسكره في نفس المكان، فنصحه بعض قادته باختيار موقع أبعد خوفاً من متابعة الفرنجة لهم، فأجابه: إذا كان معي ألف فارس لا أبالي بأعدائي قلوا أم كثروا، والله لا أستظل بجدار حتى آخذ بثأر الإسلام وثأري. ولم يغادر مكانه إلاّ عندما تجمعت له القوات الكافية، فتوجه بها نحو حارم حيث وقعت معركة حارم المشهورة، وبر نور الدين بقسمه. وقد تحدث الشعراء عن صفة الشجاعة، وشبهوا نور الدين بالأسد، بل هو يأسر الأسود ويتغلب عليها، يقول ابن القيسراني:

    أنـــت حيـــنــاً تُــــقـــاسُ بالأســـــدِ=الوَرْدِ وحـــيناً تُعـــدُّ في الأولــــــياءِ

    وهو عند الأصفهاني يغلب الملوك، ويصيد الأسود، وهو فارس الفرسان ويسلب التيجان من الملوك الآخرين، ويحوز الفخار لشجاعته وبطولته، يقول العماد في مدحه:

    يا غالــبَ الغـــلبِ المـــلـوكِ وصائدَ=الصــــيّد اللــيوثِ وفارسَ الفرســانِ
    يا ســالبَ التـــيجانِ مـــن أربابِـــــها=حُزتَ الفــخــارَ على ذوي التيــجانِ

    وقال ابن قسيم الحموي:

    تبدو الشــجـــاعةُ من طــلاقة وجههِ=كالّرمــح دلّ علــى القســـاوةِ لينــــُهُ
    ووراء يقـــظــته أنــــاةُ مُـــجــــرَّبِ=لله ســطــوةُ بأسِــــهِ وسُــــكُــــــونُه


    وقال ابن منير:

    مــــلأ الــبلادَ مواهـــــبـــاً ومهـــابةً=حتــى اســترقــت آيــــه أحـــرارها



    - يتبع -
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  7. #7

    رد: رحلة مع القائد نور الدين زنكي

    ففي هذا التفسير المنطقي والتحليل التفصيلي للعبة البولو كشف وتوضيح لنفسية نور الدين؛ فهو لا يلعب الكرة للعبث وإهدار الوقت، وإنما لتحقيق العديد من الفوائد التي هي في الحقيقة استعداد وتحضير للجهاد، تحضير لأجسام اللاعبين ولأجسام خيولهم، وإشغال أوقات الفراغ بما هو مفيد، إضافة إلى ما تقتضيه الرياضة من راحة نفسية واستجمام وصفاء التفكير، وذهاب الهم للجنود والقادة، وفي هذا الجواب لصاحبه الزاهد تظهر روح نور الدين الرياضية في أعلى درجاتها؛ فهو يخاطب الزاهد حسب مستواه من العلم والمعرفة، ويأتيه من الباب الذي يقنعه، دون أن يجرح شعوره باتهامه بقلة المعرفة أو التزمت أو التعصب، وبهذا الموقف يبين لنا نور الدين فهمه للإسلام بالمنظور الشمولي الذي كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه، فقد روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة في قصة بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن. وفي آخره قال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي. وفي كلام معاذ -رضي الله عنه- دليل على أن المباحات يُؤجر عليها بالقصد والنية. وهذا الفهم يجعل المسلم يقبل على شؤون الحياة كلها وكله حرص على إتقانها لكونها عبادة لله.
    إن من أخطر الانحرافات التي وقعت فيها الأجيال المتأخرة من المسلمين انحرافهم عن تصور مفهوم العبادة، وحين يعقد الإنسان مقابلة بين المفهوم الشامل للعبادة الواسع العميق الذي كان يمارسه نور الدين وانعكاسه على جنوده وشعبه ودولته، والمفهوم الهزيل الضئيل الذي تفهمه الأجيال المعاصرة، لا يستغرب كيف هوت هذه الأمة من عليائها لتصبح في هذا الحضيض الذي نعيشه اليوم، وكيف هبطت من مقام الريادة والقيادة للبشرية كلها لتصبح ذلك الغثاء الذي تتداعى عليه الأمم تنهشه من كل جانب كما تنهش الفريسة الذئاب.
    ن من شروط النهوض التي نتعلمها من دراستنا لسيرة نور الدين الشهيد أن يكون مفهوم العبادة في حس جيلنا أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله، كما نفهم من قول الله تعالى:"وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ". [الذاريات:56]، وبهذا الفهم لمفهوم العبادة عند نور الدين وجيله حقق إنجازات رائعة في كل اتجاه خاضته الدولة النورية. قال ابن الأثير: في حديثه عن نور الدين محمود: وكان – رحمه الله – لا يفعل فعلاً إلاّ بنية حسنة، ثم ذكر قصة اعتراض الزاهد على لعبه بالخيل والكرة التي ذكرناها آنفاً ثم علق ابن الأثير: بعد نهاية القصة فقال: فانظر إلى هذا الملك المعدوم النظير، الذي يقلّ في أصحاب الزوايا المنقطعين إلى العبادة مثله، فإن من يجيء إلى اللعب يفعله بنية صالحة، حتى يصير من أعظم العبادات وأكثر القربات يقلّ في العالم مثله، وفيه دليل على أنه كان لا يفعل شيئاً إلاّ بنية صالحة. وهذه أفعال العلماء الصالحين العالمين. والملاحظ في حياة نور الدين صياغة حياته ودولته كلها صياغة إيمانية ربانية ملتزمة بمنهج رب العالمين وامتثالاً وتحقيقاً لقول الله تعالى: "قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". [الأنعام: 162].

    ما اعجبني جداجد\ا فيما اوردت استاذ سامي سوق الحكمة والفائدة من سيرته العطرة
    قرات شطرا وساعود
    رغد
    إذا كنتَ لا تقرأ إلا ما تُوافق عليـه فقط، فإنكَ إذاً لن تتعلم أبداً!
    ************
    إحسـاس مخيف جـدا

    أن تكتشف موت لسانك
    عند حاجتك للكلام ..
    وتكتشف موت قلبك
    عند حاجتك للحب والحياة..
    وتكتشف جفاف عينيك عند حاجتك للبكاء ..
    وتكتشف أنك وحدك كأغصان الخريف
    عند حاجتك للآخرين ؟؟

  8. #8

    رد: رحلة مع القائد نور الدين زنكي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رغد قصاب مشاهدة المشاركة
    ما اعجبني جداجد\ا فيما اوردت استاذ سامي سوق الحكمة والفائدة من سيرته العطرة
    قرات شطرا وساعود
    رغد

    الأخت رغد

    هؤلاء الكبار تركوا لنا سيراً عطرة مليئة بالحِكَم والفوائد

    ليتنا نقتدي بهم وليتنا نستلخص سرّ نجاحهم ونتشبّه بهم وبأفعالهم ولو أن زماننا غير زمانهم وبيئتنا أصبحت متباعدة عن بيئتهم التي كانوا يعيشونها

    ولكن لنحاول لعل وعسى
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

  9. #9

    رد: رحلة مع القائد نور الدين زنكي

    رحلة مع القائد نور الدين زنكي ( 3 )





    د. علي محمد الصلابي
    باحث ليبي في التاريخ والحضارة الإسلامية



    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي


    عاشراً: مفهومه للتوحيد وتضرّعه ودعاؤه:
    كان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد من عمق فهمه للتوحيد ومعرفته بالله تعالى لا يفعل فعلاً إلاّ بنية حسنة، وحقق في حياته مفهوم التوحيد الصحيح، وحقق الإيمان بكل معانيه، والتزم بشروطه، وابتعد عن نواقضه، وهذا الموقف العظيم يدل على ما قلنا: قال له قطب الدين النيسابوري – الفقيه الشافعي – مرة: بالله لا تخاطر بنفسك، وبالإسلام والمسلمين فإنك عمادهم - فقد نصحه بعدم الاشتراك بالقتال والمخاطرة بنفسه حتى لا يُقتل، فلا يبقى من المسلمين أحد إلاّ أخذه السيف وتُؤخذ البلاد، فقال نور الدين: يا قطب الدين، اسكت فإن قولك هذا إساءة أدب على الله، ومن محمود حتى يُقال له هذا، قبلي من حفظ البلاد، ذلك الله الذي لا إله إلاّ هو، فبكى من كان حاضراً. وهذا الذي قاله نور الدين -رحمه الله- يدخل في صميم مفهوم التوحيد، فالله هو الأول والآخر، والظاهر والباطن وما الناس، ابتداء من أصغر جندي فيهم حتى أكبر قائد إلاّ أدوات 'فاعلة' في يده يحّركها وفق مشيئته وإرادته لتحقيق كلمته في الكون الله عز وجل وكفى. هذا التطبيق العملي لمفهوم الإيمان بالله وتحقيق توحيده الذي لو أدركته قياداتنا عبر التاريخ لعرفت كيف تضع هذا التاريخ لصالحنا نحن لا لصالح الخصوم والأعداء.
    وفي ساحة الحرب، حيث الموت على بعد خطوات وحيث لقاء الله آت وراء كل لحظة.. كان نور الدين يذوب تواضعاً وإشفاقاً، وتصفه تقواه العميقة في حضور مؤثر أمام الله حيث تتمزق في أعماق وعيه بقايا الستائر والحجب التي ظل يكافح من أجل تمزيقها لكي يقف نقياً.. فعندما التقت قواته في حارم بالصليبيين الذين كانوا يفوقونهم عدة وعدداً انفرد نور الدين تحت تل حارم، وسجد لربه -عز وجل- ومّرغ وجهه وتضرع وقال: يا رب، هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك. وإيشى فضول محمود في الوسط؟ يقول أبو شامة: يشير نور الدين هنا إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر. وبلغني أنه قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً، من الكلب محمود.. حتى يُنصر؟ وفي إحدى المعارك سنة ست وخمسين وخمس مائة، قضى الله بانهزام عسكر المسلمين، وبقي الملك العادل مع شرذمة قليلة، وطائفة يسيرة، واقفاً على تلَّ يُقال له تل حبيش، وقد قرب عسكر الكُفَّار بحيث اختلط رجّالة المسلمين مع رجالة الكُفَّار، فوقف الملك العادل بحذائهم مولَّيا وجهه إلى قبلة الدُّعاء، حاضراً بجميع قلبه مناجياً ربه بسرّه يقول: يا رَبَّ العباد، أنا العبد الضعيف ملَّكتني هذه الولاية وأعطيتني هذه النّيابة، عمرت بلادك، ونصحت عبادك، وأمرتهم بما أمرتني به ونهيتهم عما نهيتني عنه، فرفعت المنكرات من بينهم، وأظهرت شعار دينك في بلادهم، وقد انهزم المسلمون، وأنا لا أقدر على دفع هؤلاء الكفار أعداء دينك ونبيَّك محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أملك إلاّ نفسي هذه، وقد سلمتها إليهم ذاباً عن دينك وناصراً لنبيك، فاستجاب الله تعالى دعاءه، وأوقع في قلوبهم الرُّعب، وأرسل عليهم الخذلان، فوقفوا في مواضعهم، وما جسروا على الإقدام عليه، وظنوا أن الملك العادل عمل عليهم الحيلة، وأن عسكر المسلمين في الكمين، فإن أقدموا عليه تخرج عساكر المسلمين في الكمين، فلا ينفلت منهم أحد، فوقفوا وما أقدموا عليه. ومن خلال المواقف السابقة يبدو نور الدين لا فدائياً فحسب، ولكن فقيهاً بقدر الله، متبصراً بدور الإنسان في حركة التاريخ، عالماً أن إرادة الله إذا شاءت تهيأت لها الأسباب ولن يعجزها شيء ولو مات أو قتل عشرات القادة والمجاهدين، فإن آخر رجل منهم سيحمل المهمة، ويواصل الطريق، ومن ثم يستوي – عبر هذه الرؤية – هذا القائد أو ذاك. وكان نور الدين محمود في أكثر الليالي يصلي ويناجي ربه مقبلاً بوجهه عليه، ويؤدّي الصلوات الخمس في أوقاتها بتمام شرائطها وأركانها وركوعها وسجودها. وبلغنا عن جماعة من الصوفية الذين يُعتمد على أقوالهم ممَّن دخلوا ديار القدس للزيارة حكاية عن الكفار، أنهم يقولون: ابن القسيم، له مع الله سر، فإنه ما يظهر علينا بكثرة جنده وعسكره، وإنما يظفر علينا بالدعاء وصلاة الليل، فإنه يصلي بالليل ويرفع يده إلى الله ويدعو، فالله سبحانه يستجيب دعاءه، ويعطيه سؤله وما يَرُدّ يده خائبة، فيظفر علينا، فهذا كلام الكفار في حقه.
    إن نور الدين محمود اعتبر الدعاء من أمضى الأسلحة التي تساهم في تحقيق النصر، ومهما أعد المسلمون من أسلحة وعدة وعتاد، فإنهم يظلون عرضة للفشل والهزيمة والإحباط، إذا امتنعوا عن استخدام هذا السلاح، أو أساؤوا استخدامه، ولذلك استخدمه بنفسه، وطلب من الزهاد والعباد والعلماء والفقراء والفقهاء كذلك، وكان مستوعباً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل تُنصرون إلاّ بضعفائكم؟
    فالدعاء لله والتعلق به عند قادة النهوض الربانيين والصادقين من المسلمين: مخ العبادة، لا بل هو سيد العبادات وأقربها وأحبها إلى الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم: الدعاء هو العبادة، ومفتاح الرحمة ستمطر العباد به مفاتيح رحمة الله تعالى بعد أن تتقطع بهم الأسباب.
    أيها الإخوة الكرام المهتمون بنهضة أمتهم والتمكين لدين الله تعالى في الأرض، عليكم بالدعاء فإنه كنز حقيقي من جملة الكنوز التي تنطوي عليها الشريعة الإسلامية، فالله تعالى يحض عباده على اقتناص هذا الكنز في مثل قوله تعالى:"ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ". [الأعراف: 55]. وفي مثل قوله تعالى:"وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ". [غافر: 60] وغالباً ما تحدث الإجابة عاجلاً أم آجلاً:"وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ". [البقرة: 186].
    إن من أسباب نجاح نور الدين محمود في مشروعه النهضوي، استيعابه العميق لفقه الدعاء ومقدرته على استخدامه كسلاح فتاك ضد الأعداء، وحسن تضرعه وانكساره بين يدي المولى عز وجل.

    الحادي عشر: محبته للجهاد والشهادة:
    كان نور الدين محمود الشهيد من محبي عبادة الجهاد في سبيل الله، ويجد متعته في جهاد الأعداء والمرابطة في الثغور، قال العماد الأصفهاني: حضرت عند نور الدين بدمشق – في شهر صفر – والحديث يجري في طيب دمشق ورقة هوائها وأزهار رياضها، وكل منا يمدحها ويطربها، فقال نور الدين: إنما حب الجهاد يسليني عنها، فما أرغب فيها، ومرة أخرى نلتقي به وهو يغادر الموصل بعد عشرين يوماً من دخوله إياها عام 566ﻫ فيسأله أصحابه: إنك تحب الموصل والمقام بها، ونراك أسرعت العود؟ فيجيب: قد تغير قلبي فيها، فإن لم أفارقها ظلمت؛ ويمنعني أيضاً أنني ها هنا لا أكون مرابطاً للعدو وملازماً للجهاد، وأما حبه للشهادة، فقد قال عنه أبو شامة: كان في الحرب ثابت القدم، حسن الرمي، صليب الضرب، يقدم أصحابه، ويتعرض للشهادة، وكان يسأل الله تعالى أن يحشره في بطون السَّباع وحواصل الطير. كانت عقيدة الشهادة تحركه وهذا الإيمان العميق بعقيدة الشهادة في سبيل الله هو الذي دفع أجيالاً من المسلمين إلى ساحات الجهاد طلباً للموت، فأسقطوا الدول، وغيروا الخرائط، وسحقوا العروش، ومرغوا الأنوف، ولم يموتوا، فكان نور الدين إذا حضر الحرب أخذ قوسين وجعبتين، وباشر القتال بنفسه، وكان يقول: طالما تعرضت للشهادة فلم أُرزقها.
    إن الملك العادل نور الدين محمود الشهيد تربى على كتاب الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خص الله الشهيد بالذكر في القرآن الكريم في مواضع منها قال تعالى: "وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء". [آل عمران: 140]. وفي هذه الآية إشارة واضحة إلى أن الشهادة إنما هي اصطفاء وتكريم من الله -عز وجل- لبعض عباده الأخيار، وأن الشهادة لا تكون لكل أحد من الناس، فالله سبحانه وتعالى يكرم بها من يشاء من خلقه، والثانية قوله تعالى:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا". [النساء: 69]. هذه الآية يبين الله سبحانه وتعالى درجة المصطفين الأخيار من شهدائه أنهم مع النبيين والصديقين، ومن تكون له هذه المنزلة إلاّ من أكرمه الله بالشهادة، ثم تأتي الصورة الناصعة للشهداء يوم القيامة يوم يُؤتى بهم مع النبيين ليشهدوا يوم القيامة لمن ذبّ عن دين الله، وذلك شرف عظيم وموقف عظيم نالوه بالشهادة. يقول الله -عز وجل- في هذه الآية:"وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء". [الزمر: 69].
    لقد أعد الله للشهداء من الكرامة والنعيم الأبدي ما يجعل كل نفس زكية تتوق إلى الشهادة وترغب لتفوز بالأجر العظيم. قال تعالى:"وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ". [آل عمران:169 – 170]. وقال تعالى:"وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ". [البقرة: 154].
    وورد في السنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"إن أرواح الشهداء في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطَّلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟! فعل بهم ذلك ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب، نريد أن تُردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تُرِكوا".
    فالشهيد فضله عظيم ومكانته رفيعة، فإذا كان الله – سبحانه وتعالى – فضل المجاهدين على القاعدين؛ فالشهداء أكثر فضلاً وأعظم تشريفاً. ولقد قاتل نور الدين الأعداء وجاهد في الله حق جهاده حتى استحق لقب الشهيد، تشريفاً وتكريماً من الأمة لهذا البطل المجاهد الفذ.

    الثاني عشر عبادته:
    كان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد يصلي أكثر الليالي، ويناجي ربه مقبلاً بوجهه عليه، ويؤدي الصلاة في أوقاتها بتمام شرائطها وأركانها وركوعها وسجودها، ويحافظ على الجماعة، وكان كثير الابتهال إلى الله -عز وجل- في أموره كلها. وكان من عادة نور الدين أنه ينزل إلى المسجد بغلس، ولا يزال يركع فيه حتى يصلي الصبح. وقال ابن الأثير: حدثني صديق لنا بدمشق فقال: كان نور الدين يصليّ فيطيل الصلاة، وله أوراد في النهار، فإذا جاء الليل وصلى العشاء نام، ثم يستيقظ نصف الليل، ويقوم إلى الوضوء والصلاة والدعاة إلى بكرة، ثم يظهر للركوب، ويشتغل بمهام الدولة. وقال ابن كثير: كان نور الدين كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية، محافظاً على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، صموتاً وقوراً، وكان نور الدين كثير الصيام، وله أوراد في الليل والنهار، وكان يقدم أشغال المسلمين عليها، ثم يتمم أوراده. وعبارة 'فكان يقدم أشغال المسلمين عليها ثم يتمم أوراده' هذا هو المنطق الذي علمنا إياه الإسلام والذي يجعل التعبد، الذي هو غاية الخلائق، ممارسة إيجابية تضرب في أعماق الناس، فتغيّر نفوسهم، وتمتد إلى حركة التاريخ فتصوغ مسيرته، كان تعبد نور الدين يدفعه إلى المسؤولية، ويجعله في قلبها، وهو أعمق وعياً وأشد خشية وأمضى عزيمة وأقدح ذَكاء، لقد مارس نور الدين مفهوم العبادة بمفهومها الشامل، وأعطت تلك الممارسة ثمارها على المستوى الشخصي والشعبي، وعلى الدولة، وتحقيق العبادة من شروط التمكين قال تعالى:"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". [النور:55 – 56]. فقد أشارت الآيات الكريمة إلى شروط التمكين وهي: الإيمان بكل معانيه وبكافة أركانه، وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه، والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر، وتحقيق العبودية الشاملة ومحاربة الشرك بكافة أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأما لوازم استمرار التمكين فهي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

    الثالث عشر إنفاقه وكرمه:
    اشتهر نور الدين بالإنفاق الواسع والكرم العظيم، وكانت له أوقاف عظيمة. قال العماد: وكلف نور الدين .. بإفادة الألطاف والزيادة في الأوقاف، وتكثير الصدقات، وتوفير النفقات، وكسوة النسوة الأيامى ..وإغناء فقراء الرعية وإنجادها بعد إعدامها، وصون الأيتام والأرامل ببذله، وعون الضعفاء وتقوية المقوين بعدله، وعمارة المساجد المهجورة، وتعفية آثار الآثام، وإسقاط كل ما يدخل في شبهة الحرام، وأبقى الجزية والخراج وما تحصل من قسم الغلاّت على قويم المنهاج قال: وأمر أن يكتب مناشير لجميع أهل البلاد، فكتب أكثر من ألف منشور، وحسبنا ما تصدق به على الفقراء في تلك الأشهر، فزاد على ثلاثين ألف دينار، وكانت عادته في الصدقة أنّه يحضر جماعة من أماثل البلد في كل محله، ويسألهم عمن يعرفون في جوارهم من أهل الحاجة، ثم يصرف إليهم صدقاتهم، وكان يرسم نفقته الخاصة في كل شهر من جزية أهل الذمة مبلغ ألفي قرطيس يصرفه في كسوته ونفقته وحوائجه المهمّة حتى أجرة خياطه وجامكية طباخه، ويتفضل منه ما كان يتصدق به في آخر الشهر، وأما ما كان يُهدى إليه من هدايا الملوك وغيرهم، فإنه كان لا يتصرف في شيء منه لا قليل ولا كثير، بل إذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ويحصّل ثمنه، ويصرفه في عمارة المساجد المهجورة، وتقدم بإحصاء ما في محال دمشق من ذلك، فأناف على مائة مسجد، فأمر بعمارة ذلك كّله، وعين له وقوفاً. قال: ولو اشتغلت بذكر وقوفه وصدقاته في كّل بلد لطال الكتاب، ولم أبلغ إلى أمره، ومشاهدة أبنيته الدّالة على خلوص نيَّته تغني عن خبرها بالعيان، ويكفي أسوار البلدان فضلاً عن الربط والمدارس على اختلاف المذاهب، واختلاف المواهب، وفي شرح طوله طول، وعمله لله مبرور مقبول. وأدرّ على الضعفاء والأيتام والصدقات حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة من العلماء ومعلمّي الخط والقرآن وعلى ساكني الحرمين، ومجاوري المسجدين، وجهز عسكراً يحفظ المدينة، وأقطع أمير مكة، ورفع عن الحجاج ما كان يُؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب لئلاّ يتعرضوا للحجاج، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم واستخراج العين التي بأُحُد، وكانت قد دفنتها كثرة السيول، وعمّر الربط والخانقاهات، والبيمارستانات، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم، بقدر كفايتهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار، وحّران والرقة، ومنبج وشيزر وحماة وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلاّ وله فيه حسن أثر، وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلاّبها.
    وقد مدح الشعراء نور الدين على كرمه وجوده فقد قال ابن منير:

    يأيها الملكُ المنادي جودُهُ=في سائرِ الآفاقِ: هل من معسرِ؟
    ولأنت أكرمُ من أناسٍ نوَّهوا=باسمِ ابن أوسٍ واستخصوا البحتري
    ذلَّت لدولتك الرقابُ ولا تزلْ=إن تغزُ تغنمْ أو تقاتلْ تظفرِ
    كان نور الدين كما يصفه كثير من المؤرخين -: قليل الابتهاج بالشعر لا عن نفور من الشعر ذاته وعدم توافق مع معطياته الوجدانية التي تهز العقول والقلوب، وإنما على نفور من الشعراء أنفسهم، ومن مزايداتهم المعروفة على حساب الحق، وتملّقهم الزائف للسلطة على حساب العدل.
    إن نور الدين هنا يذكرنا بعمر بن عبد العزيز لا في كراهيته للتجربة الشعرية، ولكن بتوجسّه من ملق الشعراء وضعفهم ومزايداتهم، ومن ثم فإن نور الدين كسلفه – لم يكن يشرع الأبواب في وجوههم بل لم يكن يعطيهم، وقد سُئل يحي بن محمد الوهراني في بغداد عن نور الدين فأجاب في إحدى مقاماته: وهو سهم للدولة سديد وركن للخلافة شديد، وأمير زاهد مجاهد، غير أنه عُرف بالمرعى الوبيل لابن السبيل، وبالمحل الجديب للشاعر الأديب، فليس لشاعر عنده من نعمة تُجزى. وعبارة "غير أنه" ترد بعد عبارات المديح تلك توحي بأن موقفه هذا لم يكن مرضياً عنه من الجميع، فهناك دائماً من يريد أن (يأخذ) على حساب أي شيء، في عصر كانت آذان هؤلاء قد اعتادت عبارة 'أعطوه ألف دينار' أو عبارة سلْ ما شئت. ومن بين هؤلاء الشعراء أسامة بن منقذ الذي يمدحه ببيتين من الشعر يتضمنان غمزاً مستوراً لموقف نور الدين من عطاء الشعراء:

    سلطاننا زاهد والناس قد زهدت=له فكلٌّ على الخيرات منكمشُ
    أيامُه مثلُ شهرِ الصومِ طاهرةٌ=من المعاصي وفيها الجوعُ والعطشُ
    لكن أبا شامة، المؤرخ الدمشقي، يتصدى بنفسه للردّ على الرجلين: صاحب المقامة وصاحب القصيدة، ولفضح الازدواجية التي يعانيها كثير من الشعراء، ولبيان حقيقة الموقف العظيم فيقول: ما كان – نور الدين – يبذل أموال المسلمين إلاّ في الجهاد وما يعود نفعه على العباد. وكان كما قيل في حق عبد الله بن محيريز – وهو من سادات التابعين في الشام – إنه كان جواداً حيث يحب الله، وبخيلاً حيث تحبّون، وأما شعر ابن منقذ فلا اعتبار به، فهو القائل في مدح نور الدين:

    في كلِّ عام للبريةِ ليلةٌ=فيها تَشُبُّ النارُ بالإيقادِ
    لكنْ لنورِ الدينِ من دونِ الورى=ناران: نارُ قِرًى ونارُ جهادِ
    أبداً يصَّرفُها نداهُ وبأسُه=فالعام أجمع ليلة الميلادِ
    مَلِكٌ له في كلّ جيدٍ منّةٌ=أبهى من الأطواقِ في الأجيادِ
    أعلى الملوكِ يداً وأمنعُهم حمًى=وأمدُّهم كفّاً ببذلِ تلادِ
    يعطي الجزيل من النوال تبرُّعاً=من غيرِ مسألةٍ ولا ميعادِ
    لا زال في سعدٍ وملكٍ دائمٍ=ما دامت الدنيا بغير نفادِ
    وعندما أسر الفرنج أخا أسامة بن منقذ نجم الدولة محمد طلب من ابن عمه ناصر الدين محمد بن سلطان صاحب شيزر الإعانة في فكاكه فلم يفعل، قال أسامة: وادّخر الله سبحانه أجر خلاصه وحسن ذكره للملك العادل نور الدين -رحمه الله تعالى- فوهبه فارساً من مقدَّمي الدَّاوية يُقال له المشطوب، قد بذل الإفرنج فيه عشرة آلاف دينار، فاستخلص به أخاه من الأسر. والملاحظ أن نور الدين قد مُدح من قبل شعراء عصره الكبار كابن القيسراني، وابن منير، والعماد الأصفهاني وغيرهم، ويبدو أن مدح الشعراء لنور الدين لم يكن بدافع التكسب أو توخي التزلّف. يقول الدكتور محمود إبراهيم في حديثه عن علاقة ابن القيسراني بنور الدين ومدحه له: ومما يلفت النظر في تمجيد ابن القيسراني لنور الدين، أن الشعر الذي نُظم في هذا التمجيد قد خلا من الاستماحة التي لم تخل منها قصائد أخرى لابن القيسراني قيلت في أشخاص آخرين في مناسبات قديمة. ولعل هذا مما يعضّد الاعتقاد بأن شعر ابن القيسراني في نور الدين يمثّل إعجاباً صادقاً بالبطل الإسلامي، وأن هذا الشعر لا يترجم عن مشاعر ابن القيسراني وحده، بل عن مشاعر الجماعة الإسلامية كذلك.
    وكان نور الدين يحب الشعر ويُعجب به؛ لأنه كان يدرك أثر الشعر في إثارة الشعور وتحريكه، ولاسيما شعر الجهاد ووصف المعارك. أما كونه لا يبتهج بالمدح فهذا تواضع منه؛ لأنه لا يحب مبالغات الشعراء، ومزايداتهم بالمدح، ولأنه كان مقتدياً بالسلف الصالح كالخلفاء الراشدين، فلا يأخذه بهرج القول. فنور الدين لم يكن في حالة خصام مع الشعر، بل كان يحب الشعر الملتزم؛ فقد طلب من العماد الأصفهاني أن يعمل مثنويات شعرية في معنى الجهاد على لسانه فقال:

    للغزو نشاطي، وإليه طربي=ما لي في العيش غيرَه من أربِ
    بالجد وبالجهاد نُجْح الطلبِ=والراحةُ مُستودعةٌ في التعبِ
    لا راحةَ في العيش سوى أن أغزو=سيفي طرباً إلى العلا يهتزُّ
    في ذلِّ ذوي الكفرِ يكونُ العزُّ=والقدرةُ في غير جهادٍ عجزُ
    ويقول الأصفهاني في موضع آخر: كنت راكباً مع نور الدين في أعقاب إحدى جولاته الظافرة ضد الصليبيين عند طبرية فسألني: كيف تصف ما جرى؟ فمدحته بقصيدة مطلعها:

    عُقِدت بنصرِكَ رايةُ الإيمانِ=وبدت لعصرِكَ آيةُ الإحسانِ

    ولكن ما هو أكثر دلالة من هذا كله أن يشهد عصر نور الدين تألّق عدد من كبار الشعراء، كان يقف في قمتهم ابن القيسراني والعماد الأصفهاني وابن منير، وابن الدهان الموصلي، أولئك الذين وجدوا في دولة نور الدين الأرضية الصالحة لازدهار الشعر الذي طرق أبواباً واسعة، وخطا إلى آفاق بعيدة المدى ما كان لهم أن يرحلوا إليها بقصائدهم المبدعة لولا أن لقوا من نور الدين إعجاباً وتوافقاً وانسجاماً، وأما ما تضمنه قول الوهراني، وقول ابن منقذ من الإشارة إلى بخل نور الدين أو حرصه على المال، فهذا أمر مستبعد وفيه كثير من المبالغة، ولو كان نور الدين، كما يقولان لما ازدحم الشعراء على بابه يمدحونه ويسجلون انتصاراته، ولما أجمع أغلب شعراء عصره على مدحه بالكرم والجود، حتى أسامة بن منقذ نفسه، ولما اختصَّ بمدحه بعض الشعراء ولازموه فترات طويلة.
    ومما له علاقة بالكرم والإنفاق في سيرة نور الدين: حضر صبي وبكى عند نور الدين، وذكر أن أباه محبوس على أجرة حُجرة من حجر الوقف – يعني وقف الجامع – فسأل عن حاله؟ فقالوا: هذا الصبي ابن الشيخ أبي سعد الصوفي، وهو رجل زاهد قاعد في حجرة للوقف، وليس له قدرة على الأجرة، وقد حبسه وكيل الوقف؛ لأنه اجتمع عليه أجرة سنة، فسأل: كم أجرة السنة؟ قالوا: مائة وخمسون قرطاساً، وذكروا سيرته وطريقته وفقره فرقّ له وأنعم عليه، وقال: نحن نعطيه كل سنة هذا القدر ليصرفه إلى الأجرة، ويقعد فيها، وقام بذلك بإخراجه من الحبس، فوصل إلى قلب كل واحد من الحاضرين الفرح حتى كأنّ الإنعام كان في حقه.
    هذه هي أهم صفات نور الدين محمود الشهيد رحمه الله. قال فيه ابن عساكر: .. ومع ما ذكرت من هذه المناقب كلها، وشرحت من دقها وجلّها فهو حسن الخط بالبنان، متأتٍّ لمعرفة العلوم بالفهم والبنيان، حريص على تحصيل كتب الصحاح والسنن، مقتنٍ لها بأوفر الأعواض والثمن، كثير المطالعة للعلوم الدينية، متتبع للآثار النبوية، مواظب على الصلوات في الجماعات، مراع لآدابها في الأوقات، مؤدياً فروضها ومسنوناتها، معظّم لقدرها في جميع حالاتها، عاكف على تلاوة القرآن على مّر الأيام، حريص على فعل الخير من الصدقة والصيام، كثير الدعاء والتسبيح، راغب في صلاة التراويح، عفيف البطن والفرج، مقتصد في الإنفاق والخرج، متحّر في المطاعم والمشارب والملابس، متبرّئ من التمادي، والتباهي والتنافس، عريٌ عن التجبر والتكبّر، بريء من التنجيم والتطيَّر، مع ما جمع الله له من العقل المتين، والرأي الثاقب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبّه بالعلماء والصالحين، والاقتفاء بسيرة من سلف منهم في حسن سمْتهم، والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم، حتى روى حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأسمعه، وكان قد استجيز له ممن سمعه وجمعه؛ حرصاً منه على الخير في نشر السنة بالأداء والتحدث، ورجاء أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاء في الحديث، فمن رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من ألطافه وتواضعه ما حيّره، ولقد حكى لي عنه من صحبه في حضره وسفره أنه لم تُسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا ضجره، وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها، يحب الصالحين ويؤاخيهم، ويزور مساكنهم لحسن ظنه بهم، فإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوّج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم، ومتى تكررت الشكاية إليه من أحد ولاته أمر بالكف عن أذى من تكلم بشكاته، فمن لم يرجع منهم إلى العدل قابله بإسقاط المرتبة والعزل، فلما جمع الله له من شريف الخصال، تيسر له ما يقصده من جميع الأعمال، وسهّل على يديه فتح الحصون والقلاع، ومكّن له في البلدان والبقاع حتى ملك حصن شيزر، وقلعة دوسر، وهما من أحصن المعاقل والحصون، واحتوى على ما فيهما من الذخر المصون من غير سفك محجمة من دم في طلبهما، ولا قتل أحداً من المسلمين بسببهما، وأكثر ما أخذه من البلدان، بتسليمه من أهله بالأمان، ووفى لهم بالعهود والإيمان، فأوصلهم إلى مأمنهم من المكان. وإذا استشهد أحد من أجناده حفظه في أهله وأولاده، وأجرى عليهم الجرايات، وولى من كان أهلاً منهم للولايات، وكلما فتح الله عليه فتحاً وزاده ولاية أسقط عن رعيته قسطاً وزادهم رعاية، حتى ارتفعت عنهم الظلامات والمكوس، واتضعت في جميع ولايته الغرامات والنحوس، ودرّت على رعاياه الأرزاق، ونفقت عندهم الأسواق، وحصل بينهم بيمنه الاتفاق، وزال ببركته العناد والشقاق.. إلى أن قال: فالله يحقن به الدماء، ويسكّن به الدهماء، ويديم له النعماء، ويبلّغ مجده السماء، ويُرجّى الصالحات على يديه، ويجعل منه واقية عليه، فقد ألقى أزمتنا إليه، وأحصى علم حاجتنا إليه، ومناقبه خطيرة، وممادحه كثيرة، ذكرت منها غيضاً من فيض، وقليلاً من كثير، وقد مدحه جماعة من الشعراء فأكثروا، ولم يبلغوا وصف آلائه بل قصروا، وهو قليل الابتهاج بالشعر، زيادة في تواضعه لعلوّ القدرة، فالله يديم على الرعية ظله، وينشر فيهم رأفته وعدله، ويبلّغه في دينه ودنياه مأموله، ويختم بالسعادة والتوفيق أعماله، فهو بالإجابة جدير على ما يشاء قدير.
    إن ما ذكرته من صفات للملك العادل نور الدين ثمرات زكية لإيمانه العميق على تحقيق ما عجز عنه غيره، ممن كانت بلادهم وثرواتهم تزيد أضعافاً على ما كان عليه، فقد امتلأت نفسه بمبادئ الإسلام على نحو لا نكاد نجد له شبيهاً إلاّ عند الأوائل من أعلام صدر الإسلام، وهذا الإيمان هو الذي حّوله من أمير إلى مجاهد، ومن حاكم سياسي إلى زاهد، وهو الذي أعانه على مواجهة مشكلات عصره السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتغلب عليها، على الرغم من قلة الموارد، ولم يُعرف عنه تعصب، وكانت نفسه سمحة اكتسبها من طبيعة الإسلام السمحة. إنه حارب الصليبيين على أنهم أجانب مغتصبين، لا على أنهم نصارى، ومن هنا فإنه لم يمس النصارى الوطنيين بسوء، وكان لهم عنده حق الرعاية الكاملة، فلم يهدم في حياته كنيسة، ولا آذى قساً أو راهباً، على عكس الصليبيين الذين إذا دخلوا قرية قتلوا أهلها المسلمين جميعاً. وقد أكسبه إيمانه هذا احترام خصومه من الصليبيين؛ فكانوا على عداوتهم له يحترمونه ويعترفون له بالامتياز عليهم، حتى إن المؤرخ وليم الصوري، الذي أفاض في كتاباته بالحقد على الإسلام والمسلمين، لم يستطع إلاّ أن يعترف بفضله وعدله وصدق إيمانه.

    الرابع عشر ابتعاد نور الدين عن التعصب:
    لم يكن نور الدين محمود زنكي متحيزاً أو متعصباً إلى مذهب من المذاهب السنية لكي يسعى – من خلال نشاطه المدرسي هذا – إلى تحقيق نصر جزئي لمذهب دون مذهب، وإلى تعزيز مواقع (فقه) ما بمواجهة سائر المعطيات الفقهية، كما يحدث في عصور التقليد والتّيبّس الفكري، إنه يطمح إلى ما هو أبعد من هذا بكثير: العمل على مستوى العقيدة الإسلامية في آفاقها الرحيبة الواسعة وشموليتها التي تتسع لكل فكر إسلامي مبُدع واجتهاد خلاّق. إن الرجل يطلّ على المسألة الفكرية من فوق، ويسعى إلى أن يكون الصراع الفكري، لا قتالاً وانشقاقاً في صميم الذات العقائدية للأمة المسلمة، ولكنه صراع بمواجهة خصم صليبي كان يتغلغل في حنايا الأرض، ويقف بالمرصاد متحفزاً لتدمير الشخصية الإسلامية. تماماً كما يسعى استعمار اليوم الجديد وصهيونيته لتحقيقه، وصراع من جهة أخرى بمواجهة انحرافات القرون الطويلة في مجرى التاريخ الإسلامي نفسه، وهذا هو الأخطر والأهم، ومن ثم فإن قيادة الفكر الإسلامي صوب مواقع التأصيل والديمومة يجب أن تتحلى بقدر كبير من تجاوز الصراعات الجانبية والعقد التاريخية، صوب ما هو أعّم وأشمل وأبعد مدى، وثمة حادثة – من بين عديد من الحوادث تناقلها المؤرخون – تحمل دلالتها الواضحة في هذا المجال: في أعقاب وفاة أحد كبار الفقهاء المشرفين على التدريس في حلب. انقسم هؤلاء إلى قسمين كلٌّ يريد مذهباً من المذاهب، ويسعى إلى استدعاء الرجل الذي يخلفه في التدريس.. وتطور الجدل إلى فتنة كادت تقع بين الفريقين 'فلما سمع نور الدين بذلك استدعى جماعة الفقهاء إلى القلعة بحلب، وخرج إليهم نائبه – مجد الدين بن الداية – وقال لهم على لسانه: نحن ما أردنا ببناء المدارس إلاّ لنشر العلم ودحض البدع من هذه البلدة وإظهار الدين، وهذا الذي جرى بينكم لا يحسن ولا يليق، ثم علّمهم أن نور الدين قرر استرضاء الفريقين باستدعاء الرجلين وتولية كل منهما إحدى المدارس الشهيرة في حلب. لقد وسع نور الدين محمود جبهة المواجهة تحت راية أهل السنة والجماعة، واستطاع أن يرص الصفوف، ويوحد الجهود أمام الأخطار الداخلية، والخارجية وحقق الأجواء الصالحة لكي ينجح مشروع أهل السنة والجماعة النهضوي الذي تبناه. إن التقليد والتعصب من أعظم أسباب التفرق والانحراف عن منهج الله الرباني، ومن أهم العوامل التي أدّت إلى انتشار البدع والأهواء بين الناس، ففشت في أوساطهم، وحالت بينهم وبين سماع الحق والهدى، وتركوا بسببها طريق الكتاب والكريم والسنُّةَ المطهرة. التعصب والتقليد اللذان يؤديان إلى مهاوي الردى، ويقودان صاحبهما إلى مسالك الغواية والضلال، ويصّدان عن اتباع النور والهدى، فتكون النتيجة تخبطاً وانتكاساً في الدنيا، وهلاكاً وخسراناً في الآخرة. لقد انتشر مرض التعصب والتقليد في شعوب الأمة الإسلامية، لا سيما في العصور المتأخرة، وأصبح هو الأساس والأصل ونتج عن تفشّيه نتائج وخيمة وأمور جسيمة وخطيرة، ومن أشدها عدم قبول الحق، وردّه إذا جاء من المخالف، وقد قام نور الدين محمود بمعالجة ومحاربة التعصب، وفي حقيقة الأمر كان ذلك محاربة لأسباب الفرقة، وبالتالي خطوة نحو الأخذ بأسباب النهوض. فعلى المهتمين بأمر نهوض الأمة معالجة هذه الأمراض المعضلة من التعصب وغيرها التي كانت سبباً في تفريق الأمة شيعاً وأحزاباً.




    - انتهى -
    http://dc09.arabsh.com/i/02062/qm4x4aormryt.jpg

    ماذا يستفيد المرء لو ربح العالم كله ..
    وخسر نفسه ... ؟

المواضيع المتشابهه

  1. قصة الحروب الصليبية من البداية حتى عهد عماد الدين زنكي
    بواسطة محمد عيد خربوطلي في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 05-29-2014, 12:21 AM
  2. القائد الذكي ...
    بواسطة ميسم الحكيم في المنتدى فرسان المكتبة
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 08-03-2013, 06:44 PM
  3. عماد الدين زنكي
    بواسطة رغد قصاب في المنتدى فرسان الأبحاث التاريخية
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 10-03-2012, 03:10 AM
  4. أرضي شوكي بالبشاميل
    بواسطة ريمه الخاني في المنتدى فرسان المطبخ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 03-13-2010, 04:00 PM
  5. معلمات من رحلة المدرسة إلى رحلة الآخرة
    بواسطة بنان دركل في المنتدى فرسان التعليمي.
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 11-25-2007, 04:53 AM

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •