-
باحث في علم الاجتماع
الغرب والإسلام جهود هرتزل تتضاعف (38)
الغرب والإسلام
جهود هرتزل تتضاعف (38)
مصطفى إنشاصي
ولم تتوقف جهود هرتزل بل زاد في اتصالاته بجميع الدول الكبرى، وبدأ في تأليبها على بعض وفي الوقت نفسه يدعي لكل منهم أن الصهيونية تخدم مصالحهم، ويدفعهم للتنافس لمساعدتها. وأيضاً حاول الاتصال بالسلطان عبد الحميد على أمل الموافقة على مطالبه، حيث اتصل بالسفير العثماني في النمسا "محمود نديم" في 24/3/1897م، وأعلن هرتزل تبرعه بمساعدة السلطنة إن كان السلطان يريد ذلك ومدحها أيضاً، فقال: "ثم امتدحت من حيوية تركيا، وهي البلد الذي سيرى أمجاداً عظيمة إذا ارتأى قبول الهجرة اليهودية" يوميات ص53. وكان هرتزل يقوم باتصالاته تلك بتركيا وغيرها من أجل تهيئة الأجواء لانعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في جو ملائم يضمن له النجاح.
بعد انعقاد المؤتمر الصهيوني في آب/أغسطس 1897م بدأ هرتزل يجري اتصالات مكثفة بجهات أوروبية عديدة. على رأسها ألمانيا التي كانت تُعتبر صديقة لتركيا، وكان يعلق عليها أملاً كبيراً في الحصول على وساطة له عند السلطان عبد الحميد، لتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، والحصول على وعد بمنحهم وطن قومي فيها. ففي 17 تشرين الأول/أكتوبر أرسل هرتزل رسالة إلى قيصر ألمانيا يطلب مساعدته بإقامة شركة يهودية تحت الحماية الألمانية تهتم بأمور هجرة اليهود إلى فلسطين، ويطلب منه بذل جهوده مع السلطان لإقناعه باستيطان يهودي في فلسطين ليكون ذلك موضوعاً من الموضوعات الهامة التي سيثيرها القيصر مع السلطان عند سفره إلى الآستانة.
وفي الوقت الذي كانت تبذل فيه الحركة الصهيونية جهودها مع الدول الأوروبية الكبرى لإنجاح مشروعها لتحويل فلسطين لوطن قومي يهودي يضمنه القانون العام، قرر هرتزل في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر 1897 الاعتماد على "جمعية الاستعمار اليهودي" في إنشاء مشاريع مالية يهودية في تركيا كسبيل مثالي لإنشاء "الوطن القومي" كما يبدو من الرسالة التي كتبها بتاريخ 29/11/1897م. كما حاول هرتزل الاتصال بالسلطان العثماني مرة أخرى، حيث اجتمع في 4/2/1898م بالسفير العثماني في ألمانيا (أحمد توفيق) من أجل وساطته لتحقيق المشروع الصهيوني في فلسطين، مقابل القروض المالية التي كان يحاول أن يستخدمها هرتزل وسيلة لحمل السلطات العثمانية على الموافقة على مشروعه، إلا أن السفير العثماني نصح هرتزل بأنه من الصعب بيع فلسطين أو حصول اليهود على مقاطعة خاصة بهم. وفي مقابلة ثانية لهرتزل مع (أحمد توفيق) بعد أربعة أيام من الأولى نصح الثاني الأول "بان يطالب بقطعة أرض في آسيا الصغرى هذا سيكون أضمن لنا ـ لليهود ـ ورفضت هذا….".
وقد خرج المؤتمر الصهيوني الثاني بتوصيات وقرارات كان منها إطلاق يد هرتزل في التفاوض مع الدول الأوروبية لخدمة المسألة اليهودية، ولما كان هرتزل يعلم بمدى الصداقة بين ألمانيا وتركيا فقد وجه جل اهتمامه إلى ألمانيا، حيث كثف محاولاته لإقناع القيصر الألماني، الذي كان على وشك التوجه إلى الآستانة للقاء السلطان عبد الحميد هناك. وقد لحق هرتزل بالقيصر الألماني إلى الآستانة وحاول الاجتماع به، وقد تم له ذلك في 18/10/1898م وقد دار حوار قومي بينهما، عرض فيه على القيصر (غليوم الثاني) مشروعه ومدى الفائدة التي ستعود على ألمانيا إلا أن الإمبراطور الألماني لم يعطه قراراً نهائياً، لا بالرفض ولا بالإيجاب. يوميات ص114ـ 116. وكذلك عندما اجتمع هرتزل بالقيصر في القدس، لم يحصل منه على أكثر من ترحيب وتشجيع بأن يعود اليهود إلى فلسطين كرعايا للدولة العثمانية من أجل المساعدة في مجالات الزراعة وتنميتها.
ومع بدء جلسات المؤتمر الصهيوني الثالث الذي عقد في آب/أغسطس 1899م أرسل هرتزل إلى السلطان العثماني رسالة يعرض فيها رغبة الصهاينة المجتمعين بأن يكونوا مخلصين لعطفه نحو رعاياهم، وأنهم يرغبون في إغاثة اليهود التعساء في دول أوروبا. يوميات ص149. إلا أن السلطان عبد الحميد لم يرسل إليهم برسالة جوابية بهذا الخصوص.
وقد استمر هرتزل في محاولاته لمقابلة السلطان عبد الحميد دون كلل أو ملل، وقد وسط هذه المرة (فامبري) وهو مستشرق هنغاري يهودي الأصل، وفي 8/5/1901، اخبر (فامبري) هرتزل أن السلطان سيستقبله "ولكن ليس كصهيوني، بل كرئيس لليهود وصحفي ناقد". يوميات ص172. وقد حذر (فامبري) هرتزل من السلطان لأنه يكره الصهيونية قائلاً له: "إياك أن تحدثه عن الصهيونية، إنها فانوس سحري، القدس مقدسة لهؤلاء مثل مكة إلا أن الصهيونية جيدة ضد المسيحية".
وقد كان هرتزل متفائلاً جداً، منذ أن أخبره (فامبري) بموافقة السلطان على مقابلته، وكان يتصور أن السلطان سيوافق على بيعه فلسطين، وأنه لا عقبة أمام هرتزل إلا كيفية تدبر المال اللازم لذلك، ولم يكن يعلم أن رد السلطان عبد الحميد سيكون نفس الرد السابق لأن فلسطين أرض مقدسة مباركة عند المسلمين ولا يقبل أي مسلم غيور على دينه التفريط فيها. وعندما جرت المقابلة بتاريخ 18/5/1901م اصطحب هرتزل معه حاخام اليهود في تركيا (موسى ليفي)، وفي الاجتماع بدأ هرتزل ممالأة واستعطاف السلطان ـ بواسطة المترجم إبراهيم بك ـ وقال له: "إني أكرس نفسي لخدمته لأنه يحسن إلى اليهود، واليهود في العالم كله مدينون له بذلك، وإني بشكل خاص مستعد لتأدية أية خدمة له خاصة الخدمات الكبرى". وأشار إلى الخدمات المالية فصلاح الاقتصاد العثماني المتدهور وتصفية الديون المقدرة بمليون ونصف المليون جنيه، وعرض توسطه لإيقاف حملات صحف "تركيا الفتاه" في أوروبا، ثم لمح إلى أن الحركة الصهيونية تهدف إلى إيجاد "ملجأ لليهود" في الأراضي المقدسة، وكان الحاخام (موسى ليفي) يؤيد هذا الرأي.
فبادره السلطان غاضباً: "إننا نظن بأن بني قومكم يعيثون في الممالك المحروسة الشاهانية بعدالة ورفاه وأمن … وأضمن أنكم تعاملون نفس المعاملة الحسنة التي يعامل بها كافة تبعتنا دون تفريط، أو تمييز ويعيشون في أمن واعتماد. هل لكم شكاية ما أو هناك معاملة غير عادلة ولا نعرفها نحن؟". ويضيف المؤرخ التركي (جواد رفعت اتلخان) ـ المعاصر للسلطان عبد الحميدـ بأن الحاخام (موسى ليفي) أجاب السلطان بخوف وقال: "أستغفر الله سيدنا… بفضل ظل شاهانتكم نعيش بكمال الرفاه. حاشا لا توجد لنا شكاية ما، إننا نسترحم فقط جعل قومنا العائشين مشتتين"مشتت" فوق الأرض صاحب وطن في ظل شاهانتكم ليقوموا هناك بفرائض الشكر والدعاء لحياة سيدنا العظيم طول بقاء الدنيا". فرد السلطان منزعجاً: "لا يمكن أن نعمل أكثر مما عملناه حتى الآن لجماعتكم حيث أنكم تستفيدون من كافة خيرات بلادنا كمواطينينا الآخرين، بل أنتم متنعمون ومرفهون أكثر من سواكم في أحضان شعبي الشفيق، فأظنكم نسيتم الاضطرابات والعذاب ـ الذي كنتم ترونه في أنحاء الدنيا". ثم وقف السلطان لحظة ودار نظره إلى هرتزل ثم إلى الحاخام وقال له: "أليس كذلك يا حاخام أفندي؟ أن بلادنا التي حصلنا على كل شبر منها ببذل دماء أجدادنا… لا يمكن أن نفرط بشبر منها دون أن نبذل أكثر مما بذلناه من دماء في سبيلها".
وذكر السلطان أنه لو علم بأن هذا الاجتماع سيدور حول فلسطين دون القضايا المالية لاضطر منذ البداية لإلغائه.
بعد تلك المقابلة لم ييأس هرتزل من المحاولة ثانياً، فأعاد الكرة مرة ومرات عارضاً مشاريعه المغرية تارة، ومحاولاً استغلال نفوذ الدول الأجنبية الأوروبية للضغط على الباب العالي، ومحاولة إقناع السلطان عبد الحميد بالفكرة تارة أخرى. واستمرت جهود هرتزل في جميع الاتجاهات من أجل الحصول على فلسطين دون أن تثنيه كل المحاولات الفاشلة حتى وفاته عام 1904م، وكان أصعب مواقف الفشل التي تعرض لها مع السلطان عبد الحميد الذي أفهم وسطاء هرتزل رفضه تحقيق مشروع اليهود في فلسطين قائلاً: "انصحوا الدكتور هرتزل بألا يتخذ خطوات جديدة في هذا الموضوع. إني لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من الأرض. فهي ليست ملك يميني بل ملك شعبي، لقد قاتل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه، فليحتفظ اليهود بملايينهم، إذا مزقت إمبراطوريتي فعلهم يستطيعون آنذاك بأن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، ولكن يجب أن يبدأ ذلك التمزيق أولاً في جثثنا وإني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا، ونحن على قيد الحياة".
وقد أثر رد السلطان ذلك على الجهود الصهيونية والدول الأوروبية التي رأت أن السلطان لم يغير موقفه، إلا أن هرتزل رغم كل ذلك ظل يسعى لدى الدولة العثمانية على أمل الحصول على فلسطين، ولم يكف عن محاولات الوساطة التي كان آخرها قبل موته بأيام قليلة. حيث وعده وزير خارجية النمسا والمجر بالوساطة لدى السلطان.
ضوابط المشاركة
- لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
- لا تستطيع الرد على المواضيع
- لا تستطيع إرفاق ملفات
- لا تستطيع تعديل مشاركاتك
-
قوانين المنتدى