أنا والذئب الإسلامي !!


من مذكرات معوّق أيضاً



كان الإرهاق الشديد في ذلك اليوم العصيب ، قد نال غرضه من جسدي المُتعب ،
والمُثقل بأغلال الإعاقة .. ولقد تمكّن اليأس أخيراً وبعد مُجاهدة كبيرة ، من أن يتّخذ سبيله
في نفسي الكليمة سربا ، ويُعشش ويغرز مخالبه وأنيبه في أعماقها عجبا ! ..
ذلك أنه ومنذ أيام طويلة ، وسيّارة الأجرة تأتيني مع بزوغ شمس الصباح لتقلّني حيناً
بالأجرة ، وأحياناً تطوّعاً لوجه الله تعالى من قِبَل صاحبها ، عندما أكون مُفلساً وما
أكثر ما أكون مُفلساً ...

اليوم وكما هي العادة ، راحت المركبة الصفراء تطير بي على الأرض كالبراق ، من شرق
العاصمة عمان الى جنوبها ، ومن غربها الى شمالها " صدّقوني هكذا الترتيب " .. كانت
تطوووووف بروحي وكرامتي على كل ما في أركان الدولة من دوائر حكوميّة وغير حكوميّة ،
لكي أستكمل إنجاز مُعاملة لي من مُعاملات المعوّقين في هذا البلد ، فُرضت عليّ أوراقها
وأختامُها فرضاً ، دون مُراعاة لوضعنا الإنسانيّ أو لعجزنا الحركيّ
! ..
ووالله إني لا أدري كيف يُفكّر هؤلاء المسؤولين عنّا وعن أُمورنا والإضطلاع بقضاء
حقوقنا .. ومن تحتهم هؤلاء المُوظفين ، المُناطة بهم مُتابعة شؤوننا وتدوين همومنا
وتفقّد إحتياجاتنا ..

فما أيسر على كبيرهم أن ينظر إليك شزراً بطرف عينه ، من فوق كتفه العالي ، وهو
لا يكاد يُحسُّ أو يشعر بوجود إنسان أمامه .. وما أسهل أن يقول لك الصغيرمنهم ببرود
جارح ولا مُبالاة :
ـــ إرجع غداً أو بعد غد ، أو الإسبوع القادم ! .. أو الأفضل أن تجيئ على بداية السنة
الجديدة !! .
أقول له بانكسار :
ـــ أو لسنا في بداية السنة ؟! .
فيُجيب بذات النبرة المُتبلّدة :
ـــ لا لا ، أقصد السنة الجديدة القادمة !! ....
ما أصعب هذه الغصّة الخنجريّة الحادّة ، وهي تنغرز عنوة في صدرك ، فيتمخّض عنها
إحساساً مُهيناً في غلظته ، وشعوراً حارّاً ، شديد الحرارة ، يكتنفك إكتنافاً بقسوته البالغة
، فيسدّ عليك منافذ الهواء ، ويُضيّق عليك رحابة الفضاء ! ..
هكذا كان حالي عندما أشرتُ الى السائق بأن يعود بي الى البيت ، وقد استقرّ في وعيي
أن أُمزّق أوراق هذه المُعاملة الحقوقية وأرمي بها في الهواء ، إذ لا فائدة تُرجى بعد الآن
من مُتابعة تحصيلها وإنجازها ..
نظر السائق إليّ بإشفاق وقال :
ـــ ليس لك إلا سموّ الأمير رعد بن زيد .. إذهب إليه .
فغمغمتُ بصوت حالم :
ـــ أجل ، إنه الأب الروحي لنا ، ومنذ أن وعينا عليه وهو يعمل باستمرار لإحقاق
حقوقنا .. ولكن ...
وفجاءة قفز الى ذاكرتي ذلك المشهد الذي يرويه عدد من زملائي المعوّقين فيما
بينهم ، ومنهم صديق لي أخبرني قائلا :
ـــ ذهبتُ للقاء سموّ الأمير فاستقبلني بكل محبّة وترحاب واهتمام ، وحصلتُ منه
على كتاب توصية من أجل الوظيفة التي أُريد .. حقاً إنه رجل كبير وأبٌ حاني .
وقف صديقي مُعتمداً على عكازتيه الخشبيّتين ، أمام ذلك المسؤول عن إعطاء
الوظائف ، ولاحظ أنه ينظر إليه بعين الإستعلاء والتحقير .. وقد دار في خلده ــ أي
المسؤول ــ بأن ابن أخِ زوجته أولى وأحق بالوظيفة من هذا الذي يقف على خشبتين ..
ثم تمتم مُتأففاً وقد تقصّد أن يُسمع الشابّ :
ـــ أُف .. هذا ما كان ينقصنا .. معوّقين ! .. أفلا قعدتم في بيوتكم وانطويتم على عجزكم
المُضجر حتى لا تُؤذوننا بمناظر أجسامكم الناقصة !! .
تغاضى الشابّ عما سمع ، ودنى بقوّة من المكتب ، وهو يحدج خصمه الجالس بنظرات
ثاقبة ، وألقى إليه الكتاب قائلا :
ـــ هذا كتاب توصية من سموّ الأمير لكي تُمكّنوني من الوظيفة .
فما كان من الرجل المسؤول الغير محترم ، إلا أن أخذ الكتاب ، وتأمّله قليلاً ، ثم رفعه
ووضعه على رأسه باحترام ، ثم " كبّه " بعييييييييييداً ، تحت المكتب ، في سلّة النفايات !!! ...
وخرج صديقي بحال المطرود والمرفوض ، وهو يجرّ نفسه على عكازتيه جرّاً .
استلقيت على فراشي منهوك القوى ، ونفسي الجريحة تكاد تذهب من شدّة التعب ..
ورحتُ في نوم قلق .. فرأيتُ فيما يرى النائم أنني قد أُلقيتُ مع كرسيي المتحرّك في
صحراء قاحلة تُدمدم في أرجائها الوحوش والضواري .. وما هي إلا هنيهة حتى أبصرتُ
قطيعاً من الذئاب يُحيط بي ويدنو مني ، ويقترب ، يقترب ، ثم ينقضُّ عليّ ! ...
فانتبهتُ مفزوعاً أتلفّتُ حولي ، وأنا أتعوّذ من الشيطان الرجيم والعرق يتصبب مني ،
وكأني في فرن مُشتعل ! .
مرّ الوقت كئيباً ثقيلاً ، وطفقت خيوط الظلام تجتاح تسابيح الكون بعتمتها الموحشة ،
فقمتُ أتحرّك في زواية البيت لعلي أجد شيئاً أفعله أو لقمة سائغة أطعمها ...
بينا أنا كذلك إذا بالباب يُطرق ويدخل نفر من أصحابي ، فرحّبتُ بهم ودعوتهم للجلوس ،
فأخبروني : بأن لا وقت لديهم ، فهم جاءوا ليأخذوني معهم في رحلة تخييم كانوا قد
عقدوا العزم عليها ...
وأرخى الليل ستائره الكونية على كل شيئ ينبض بالحياة .. وأخذ الهواء المُندفع نحونا
يضرب وجوهنا برفق ، ويعبث بأصابعه النسائمية في شعر رؤوسنا ، ونحن نضحك ونُغنّي
ونُطلق النكات الصارخة داخل الحافلة الصغيرة التي تسير بنا وتنهب الأرض نهباً باتّجاه
منطقة الأحراج الجبلية في عجلون ...
واختار أصدقائي مكاناأً مُلائماً بين الأشجار ، وأنزلوا فيه أغراضنا وحاجياتنا ، ثم انهمكوا
في نصب الخيمة وتمكينها .. أما أنا فقد هبطتُ من مقعدي المُدولب الى الأرض ، ورحتُ
أحبو عليها مسروراً ، وكأني أُلامس أديمها الأخضر الطريّ لأوّل مرّة ! .
ما أحلى هذا الشعور وما أجمل أن تتحرّر من أغلالك وأصفادك وتنطلق في ملكوت الله
الواسع ، وتندمج مع هذه الأرض الزكيّة التي منها خرجت وإليها تعود ومنها تخرج تارة
أُخرى ...
انقضت سهرة السمر ، وراغ الجميع الى مراقدهم داخل الخيمة وخارجها ، وكنتُ ممن
رقدوا في العراء تحت وجه السماء الرائق ، وما أسرع أن غرقتُ في تأمّل النجوم وتلألؤها
الساحر الغريب ، ثم في نوم لذيذ ، لم أعتم أن صحوتُ منه وقد صرتُ وحيداً في ليل المكان ،
ويقف فوق رأسي ذئب ضخم كبير ، فتقلّصت قسماتُ وجهي وارتعدت فرائصي هلعاً ، وانكمشت
نفسي بداخلي ، وأنا أرى هذا الوحش الضاري يغمرني بوجوده الوحشي ، ويُحدّق فيّ بوجهه
المُرعب وعينيه الصفراوين اللتين كانتا تتقدان كشعلتيّ نار ! ..
قال بصوت عوائي : أنت خائف ؟ .
لم أُحر جواباً ، فقد سقط الكلام مني ..
ـــ هوّن عليك ولا تخشى مني غيلة ولا غدرا ! .
فبذلتُ جهداً جباراً لأنطق سائلاً : لن تأكلني ؟؟!
فابتسم عن أنياب بتّارة وقال :
ـــ لا لن آكلك ، فأنا لا آكل المُعوّقين أمثالك ! .
بغتتني إجابته الغير مُتوقّعة ، فسكتَ الخوف عني وذاب رعبي في لهيبها المضطرم ، فهتفتُ
بلا وعي :
ـــ حتى أنت أيها الذئب المفترس الذي لا تتوانى عن أكل أيّ شيئ ولو كان جيفة ، تترفّع عليّ
وتعفّ عن أكلي لأنني مُعوّق ؟! .. على الأقلّ أنا إنسان حيّ صاحب علم وأدب ، ولحمي خير
لك وأفضل ألف مرّة من تلك الجيف الفارغة التي تمشي على قدميها .
فعوعوَ الذئب مُقهقاً ، ثم قال بصوت رزين جادّ :
ـــ يا أخي في الخلق ، إني ما امتنعتُ عن إفتراسك بسبب أنك مُعوّق ، بل لأنك من
أهل محبّة الله .. !
قلتُ : هل تتخذُني هُزواً ؟ .
قال : ألم يقل سيّد الخلق ، سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم :
( إذا أحبّ الله عبداً إبتلاه ) ..
ولقد إبتلاك الله في بدنك وعافيتك .. وإذاً فأنت بفضل من الله سبحانه من أهل محبته ورحمته ،
لذلك فأنا لا أعدو عليك ، فمحبّة الله تحفظك وترفع قدرك ! .
أخذتني الدهشة وأنا أردّ قائلاً :
ـــ وأنت تقول هذا أيها الذئب !؟ ... والله إن كثيراً من المسلمين ليُنكرون هذا الحديث الشريف
بتصرّفاتهم وسلوكيّاتهم الفجّة ، بل إنهم يتعاملون معنا وكأننا عناصر غريبة جئنا من كوكب
المرّيخ ! .. إنهم يكرهون ما يحبه الله !! .
فهمر قائلاً : إنهم فقط يجهلون .
أجبتُ : وأقبح الأعذار أن يكونوا جاهلين وبين أيديهم كل هذا العلم الشرعي والهدي النبويّ .
قال بتؤدة :
-- ربما معك حق في بعض ما تقول .. ولكن إلتمس لهم العذر ، فهذا زمن الإسلام

فيه غريب ، والمسلمون قد تغرّبوا فيه عن دينهم وقيمهم بفعل الأنظمة العلمانية المستبدة ،
والحركات والأحزاب الألحادية المنتشرة ، والحكام الذين لا يحكمون بالكتاب والسنة ! .
فصحتُ بصوت ممدووووود :
ـــ ما شاء الله ، ما شاء الله ، ذئب إسلاميّ وحكيم ! .. قلبتها لي سياسة ... !
فهمر مجدداً بلطف :
ـــ أما سمعت يا أخي عن قصص الذئاب الحكيمة ؟ .
ـــ بلى والله سمعت .. ولكني وأيمُ الله لم أسمع أبداً قبل الآن عن ذئب إسلاميّ !! .
فقهقه عالياً وعوى مطروباً ثم قال :
ـــ هذا من قبيل الجهل الذي اتّهمت به إخوانك المسلمين آنفا .. ألسنا من خلق الله يا أخي ؟ ..
ثم إني من عباد الله المؤمنين الطائعين المجاهدين في سبيله ...
فصفّقتُ طرباً وهتفتُ ساخراً :
ـــ أظنّك ستقول لي : بأنك من القاعدة ؟ .. أو حتى من حماس ، أو الجهاد الإسلامي ، أو من
جيش الاسلام، أو من المحاكم الشرعية في الصومال ، أو المُجاهدين الشيشان ، أو طالبان ، أو
الإخوان المسلمين في كل البلدان ؟؟!! .
فقال الذئب بجدّية بالغة :
ـــ وما أدراك أنت أيها العاجز المسكين ؟ .. هؤلاء أُناس نذروا أنفسهم لله والقتال في سبيله
والدفاع عن حرماته ، وقد جعل الله عزوجل الشجر والحجر يُقاتل معهم ، أفتستكثر عليّ
أن أكون من المُقاتلين معهم ؟ .. هل أُذكّرك ( بأن لله جنوداً لا ترونهم ) ،
ولكن قل لي هل تكره الإسلاميين ، أعني هذه الجماعات الإسلامية المُقاوِمة ...؟
فاجأني السؤال ، حتي أنه إخترق أعماقي بلا هوادة ...
فتمتمتُ بصوت عميق :
ـــ أكرههم ؟.. لا ... كلا بالتأكيد ... بل نحن نحبهم .. جميعنا نُحبّهم ... من المُحيط الى الخليج
.. نُحبّهم برغم كل شيئ ، برغم كل هذا الإعلام الطاغي ضدهم الذي يُشوّه صورتهم وأعمالهم
صباح مساء .. فإننا لا نجد غضاضة نحوهم ! .
ظهر السرور على مُحيّا الذئب الذي لم يعد مُرعباً .. ثم قال :
ـــ هذا يقين ، إنهم يعلمون ذلك ويستندون إليه جميعاً .. على كل حال أنا ما جئتك في هذه
الساعة لكي أعرف منك إن كنت تحب المُجاهدين أم لا ، وإنما جئتك لكي أُعطيك كتاب
توصية لإنجاز معاملتك التي أقضّت مضجعك .
فصرختُ قائلاً :
ـــ أنت أيها الذئب تُعطيني كتاب توصية ؟ .. إن سموّ الأمير لم يُجدِ كتابه نفعاً ! .
ضحك الذئب وقال : دعك من سموّ الأمير فهو إنسان ولا علاقة له بنا ، وإنما نحن الذئاب
نمووووون على بعضنا بعضاً ... هاك هاهو الكتاب ... أتمنّى لك التوفيق .
وأدار ظهره وودّعني قائلا :
ـــ إسمع يا أخي في الخلق ، بل في الله ، إيّاك ثم إياك أن تُخبرهم بأني ذئب إسلامي
وإلا أنكروني وذهبت توصيتي بخصوصك هدراً ، وربما إتهموك بالإرهاب ! .
تنفس الصبح مُشرقاً ، وإستيقظنا جميعنا ، وانشغل رفاقي بتجهيز طعام الإفطار ... بينما
إنشغلتُ أنا بكتاب غريب كان موضوعاً بجانبي ، وعليه صورة ذئب وخاتمه ... فتساءلتُ
بلا وعي : أمعقول أنه لم يكن حلماً ؟؟ ... كان حقيقة !!؟؟

بعد أيام قليلة ، ذهبتُ الى تلك الدائرة الحكومية وقدّمت للمسؤول فيها
كتاب التوصية الذئبي الغريب .. فنظر فيه بعينين جحيميّتيْت ، ثم حدجني
بنظرة منكرة وصاح بنبرة ذئبية ضالة :
ـــ أنى لك هذا الكتاب أيها الإنسان المسكين ؟!؟! ...
تشاغلتُ عنه حتى لا أُجيب ..

فأردف الذئب قائلا :
ـــ على كل حال لا أستطيع أن أردك خائباً ، فواسطتك قوية ومقامها سامياً عندنا
قضيت حاجتك فاذهب راشدا غانماً .
وأُنجزت المعاملة وحصلتُ على ما أريد .. ولكن ماانقطع هذا السؤال يلح عليّ ويدور
في بواطن عقلي :
( لو أنهم علموا بحقيقة ذلك الذئب الزعيم عندهم ، وأنه قد انقلب
عليهم وأصبح إسلامياً يناصر المجاهدين ، أو الإرهابيين كما يزعمون .. هل كان مقامه
سيبقى سامياً كريماً عندهم ؟؟؟ )

بقلم : ايهاب هديب
من مجموعتي القصصية
( إعدام معوّق )