أى دمٍ قد أعاد كتابة التاريخ العربي(*)!



حازم خيري

(تحية الحياة، [ان بعد النظر نادر في العالم العربي] مقولة للأمريكية مادلين أولبرايت، تُشخص بدقة موطن الداء في فكرنا الاستراتيجي! من هنا، أحاول في المقالة المُرفقة، والتى أراها طالت بعض الشيء، كسر عقم الفكر الاستراتيجي العربي، عبر ارتياد مداخل غير مأهولة في الدوائر الأكاديمية العربية، في ضوء فكرنا "الأنسني"، وسعينا للتمكين لحب الحقيقة في نسيجنا الحضاري! المقالة تأتي على خلفية الثورات العربية الأخيرة، وما يتم الآن من تهجير جماعي لمجتمعاتنا "الحائرة" إلى دولة "ما بعد 11/9"! (عدد صفحات المقالة 112 صفحة، منها 30 صفحة هوامش) برجاء القراءة المتأنية والنشر ـ إن أمكن ـ. يجمعنا غد أفضل بإذن الله)
"إن المجتمع ـ الموجّه ـ يبدو وكأنه
لا يقبل الشك، وهنا تكمن المُشكلة، إنها
الولع في التبرير وتصديق أي شيء"
دوستويفسكي

ما المفكر "الأنسني" إلا ذاكرة مضادة ـ على حد تعبير الرائع ادوارد سعيد ـ، بمعنى ما، تملك خطابها المعاكس المخصوص الذى يمنع الضمير من أن يُشيح بنظره، أو أن يستسلم للنوم! وكما أن التاريخ لا ينتهي ولا يكتمل أبداً، كذلك الأمر بالنسبة إلى بعض المسائل الجدلية التى يستحيل مصالحتها، أو تجاوزها، بل إنها ليست قابلة حقاً لأن تُطوى في نوع من التوليفة الأرقى، هي بلا ريب الأنبل..

أصيل فكرنا الأنسني أصالة الضمير! قاسٍ هو قسوة الحقيقة! غير أن الخطر كل الخطر في مناهضته واضطهاد أصحابه، ناهيك عن تجفيف منابعه، كما هو حاصل في مجتمعاتنا المُتخلفة، منذ جلاء المُستعمر الأوروبي عن أرضنا!

ثمة دروس عظيمة يمكن استخلاصها من عقود استقلالنا الزائف! فكائناً ما كان نُبل الأهداف التحررية، إن صح القول بوجودها،لدى مؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"، فإنها لم تمنع للأسف الشديد من انبثاق بدائل عربية شديدة الانحطاط للأنظمة الاستعمارية المُغادرة، ساعد على التمكين لها تشبع الوجدان العربي بفهم مُخنث للبطولة، الحرية فيه هبة، لكن ليس من الله، وإنما من المُستبد العادل(1)!

فُقدان الحرية في مجتمعاتنا ليس يُفهم على أنه عُبودية، بل يُفهم على أنه وصاية تُمارس لخيرنا وخير الوجود بأسره! استقلالنا الوطني حتمي وبديهي، طالما خلت البلاد من الأجانب المُسلحين! إلى هذه الدرجة من الرداءة، وصل الفكر الشائع بين أبناء مجتمعاتنا! الهروب من "الحقيقة" أعلى مراحل التخلف!

من هنا، يأتي حرصي على التمرد على التعاطي العربي "اللاثوري" مع الثورات! فكل انتفاضة في تاريخنا "تُخفق" في بلوغ أهدافها، تُصبح فتنة شيطانية زائلة(2)، يُشيع أصحابها بالاستهجان والنسيان، إما إلى القبور أو إلى المُعتقلات!

وكل انتفاضة "تنجح" في بلوغ أهدافها، هي ثورة مُباركة خالدة، لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها! القراءة النزيهة والمنظمة لأحداثها خيانة للوطن ولدماء الشهداء! ثوراتنا العربية دائماً ما يقوم بها أبطال معصومون! ومن ثم، لايجوز المساس بهم، من قريب أو بعيد! إنهم رُسل العناية الالهية لبلادهم!

الطريف في الأمر، انه ومع مرور الزمن غالباً ما يثبت خلاف ذلك!!

مقالتى هذه محاولة لاستكشاف جذور وملابسات ثوراتنا الأخيرة(3)، والتى اتمناها "نبع الهام"، لا "ضريح ولي"! وأملي أن أوفق في إنشاء موقع جدير بالهجوم عليه حقاً! رغم ما تؤكده الثورات نفسها ـ وهنا يكمن الخطر ـ، من وجود فقر في التفكير الحُر، والنفوس الحُرة القادرة على قراءة نزيهة ومنظمة للأحداث!

أبدأ رحلتي مع الثورات الأخيرة، بمشهد رأيته على شاشة التليفزيون الوطني في بلادي! رأيت شاباً يتحدث عن طموحاته! علمت لاحقاً من حديثه انه يعمل في صناعة السينما، وأنه عائد لتوه من الولايات المتحدة! ما يهمني هنا هو حديث هذا الشاب عن أمله في صناعة فيلم عن بلاده، يُصور فيه الشوارع والناس والبنايات..الخ! لا لشيء وإنما على حد قوله ليثبت للغربيين أننا أسوياء مثلهم!

حديث المخرج الشاب بدا غريباً بعض الشيء، فاستوقفته المذيعة باندهاش، طالبة التوضيح! فأجابها في ثقة وأريحية يُحسد عليهما انهم في الولايات المتحدة الأمريكية لايرون في الشرق الأوسط سوي العنف وترويع الآمنين أو الارهاب على حد قوله. ولا يعرفون أو يعترفون لأهله بدور يُذكر في الحضارة الحديثة!
تمرد "أخرق" على ناموس الحياة، أخرج شعوبنا وبلادنا من التاريخ!

بيئة عالمية "جديدة" لم نُشارك في صُنعها:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في مؤلفه القيم "القوى العظمى: التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 إلى 2000"، وفي إطار تحليله لتطور النظام العالمي في العصور الحديثة(4)، أكد بول كنيدى أن انسحاب الولايات المتحدة السريع من الالتزامات الخارجية بعد عام 1919، والتوجه الانعزالي الروسي تحت حكم البلاشفة، أفرز نظاماً عالمياً لا يرتبط ـ بصورة غير مسبوقة ـ بالواقع الاقتصادي الجوهري.

فرغم ضعف قوة بريطانيا وفرنسا إلا أنهما كانتا في بؤرة المسرح السياسي العالمي! ولكن تعرض وضعهما في ثلاثينيات القرن العشرين لتحديات دول ناهضة عسكرياً كإيطاليا واليابان وألمانيا، حيث كانت الأخيرة عازمة على السعي الأكيد نحو فرض هيمنتها على أوروبا، بصورة أكبر من سعيها في عام 1914.

وفي الخلف ظلت الولايات المتحدة أكبر الدول الصناعية في العالم، وكانت روسيا الستالينية ـ نسبة إلى الزعيم ستالين ـ تتحول بسرعة إلى قوة صناعية عظمى. وبالتالي تمثل مأزق الدول الناهضة عسكرياً في وجوب توسعها بأسرع وقت ممكن إذا شاءت ألا تخضع لمشيئة العملاقين القاريين(الولايات المتحدة الأمريكية & الاتحاد السوفيتي). في حين تمثلت ورطة القوى القائمة ـ كفرنسا وبريطانيا ـ في مواجهة تلك الدول الناهضة، وهو ما ينهك قواها بالضرورة.

وقد أكدت الحرب العالمية الثانية، بكل ما حملته من تغيرات، على هذه المفاهيم. فرغم الانتصارات المبكرة التي حققتها دول المحور، إلا أنها في النهاية لم تنجح في مواجهة اضطراب الموارد الإنتاجية التي فاقت كثيراً مثيلاتها في الحرب العالمية الأولى، واستطاعت فقط تنحية فرنسا جانباً وإنهاك بريطانيا قبل أن تخبو هي نفسها أمام القوة الأكبر، لينفتح المجال أمام حلول "الثنائية القطبية" في العالم، حيث سار التوازن العسكري بحذى التوزيع العالمي للموارد الاقتصادية.
ميلاد هذا النظام الدولي ـ السابق على "الثنائية القطبية" ـ تواكب مع ظهور الاستعمار الأوروبي الحديث، حيث خرجت القوى الأوروبية تضرب في المجهول، وعادت مُحملة بثروات العوالم الأخرى، القديم منها والجديد. بيد أن السلوك الأوروبي لم يكن ـ وقتها ـ خروجاً على المألوف، فقد انخرطت معظم القوى الدولية في سلوكيات مماثلة، تراوحت ما بين ممارسة الاستعمار أو مساندته أو على الأقل قبوله ـ لخدمته مصالحها أو لعدم تعارضه مع تلك المصالح ـ!

ومع اضطلاع الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، إبان الفترة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى انهيار الأخير، بالقيادة العالمية، من خلال كتلتيهما الغربية والشرقية، ساند القطبان الأعظم وكتلتاهما استقلال الدول المُستعمرة ـ وفي مقدمتها بلادنا ـ استقلالاً "زائفاً"، يسمح بانبثاق بدائل محلية شديدة الانحطاط للأنظمة الاستعمارية المُغادرة، تعمل ـ بوعي أو بلاوعي ـ على تكريس تخلف شعوبها، من خلال تجفيف منهجي لمنابع الحرية، يتجاوز في خسته المُمارسات الاستعمارية! وبحسب التاريخ، لم تقدح معاداة أي من القوتين العظميين لحكام بأعينهم في مساندتها لأنظمتهم ولمبدأ الاستقلال الزائف، فغالباً ما كان مصدر العداء عدم احترام الحاكم لواحدة أو أكثر من مصالح تلك القوة في المنطقة(5).

بانهيار الاتحاد السوفيتي، وتفكك كتلته الشرقية، لم تتخل الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها عن مساندة الاستقلال الزائف للبلاد العربية ـ على خلاف موقفهم المناهض له في دول إفريقيا جنوب الصحراء(6) ـ! حدث هذا، على ما يبدو، لعدم انتفاء دوافع تلك المساندة(7)، باستثناء الدافع الخاص باحتواء المد الشيوعي في العالم العربي، في إطار ما أصطُلح على تسميته "الحرب الباردة".

نهاية الحرب الباردة لم تحقق السلام على الأرض، كما توقعت الولايات المتحدة وحلفاؤها! صحيح أنها احدثت استرخاء للتوترات الاستراتيجية، واتاحت فرصة للتركيز على المشاكل الاجتماعية والاقتصادية ـ من منظور المصالح الغربية بطبيعة الحال ـ، غير أنه بالنسبة لهؤلاء الذين كانوا يفسرون بشكل ملائم جميع الأحداث التى تقع في العالم على أساس الانتصارات أو الهزائم للولايات المتحدة أو للاتحاد السوفيتي، أصبح العالم المعاصر كتلة متشابكة من المتناقضات، ووجب على الأكاديميين وصناع السياسة ايجاد طرق جديدة يعرفون بها العالم!

وهذا بالضبط ما حصل! على سبيل المثال، ظهرت وجهة نظر يزعم أنصارها ان الدور التاريخي لـ"الأمة ـ الدولة nation-state" قد انتهى، مثلما انتهت حقبة "الديناصورات"، ويجب أن ترفضه خرائط القرن الـ21، على أنه دور تقادم عليه العهد(8)! إلى جانب العديد من الخرائط الأخرى للوضع الدولي "ما بعد الحرب الباردة"، لخص باستور ستاً منها، واصفاً اياها بأنها الأكثر تأثيراً(9):

[1] العولمة Globalization: إن أوجه التقدم التى حدثت في التكنولوجيا والاتصالات المقترنة بالقوة المتصاعدة للشركات متعددة الجنسيات قد عولمت السياسة والاقتصاد وقللت من دور الدولة. هذه العملية "غير الارتجاعية" يُتوقع أن تؤدي بشكل حقيقي إلى اقتصاد بلا حدود، وتحسن مستويات المعيشة للجميع.

[2] صدام الحضارات Clash of Civilization: يتحدد النظام العالمي الجديد بالصراع بين الحضارات وليس بالتكامل العالمي. ويُميز صمويل هنتنجتون بين تسع حضارات رئيسية: الغربية، وأمريكا اللاتينية، والأفريقية، والاسلامية، والصينية، والهندوسية، والأرثوذكسية، والبوذية، واليابانية. ويزعم هنتنجتون أن التنافس بين الدول الكبرى قد حل محله صدام الحضارات. فالتكامل الاقتصادي لن يجعل هذه الثقافات تتجانس، لكنها سوف تظل متمايزة ولا يمكن التوفيق بينها.

[3] النظام العالمي الجديدNew World Order : إن انتهاء التنافس على القوة العظمى أتاح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن يلعب الدور الذي أنشيء من أجله: باتخاذ اجراءات جماعية لمنع وازالة العقبات التى تهدد السلام، وتعزيز حقوق الانسان. والتحالف الذى نشأ تحت مظلة الأمم المتحدة وأخرج العراق من الكويت كان علامة على ميلاد هذا النظام. والذي ظهر في الوقت المناسب، حيث قللت العولمة من قدرة الدول على إدارة الأنشطة العابرة للحدود الاقليمية بشكل فعال. ولا يمكن إلا لشكل واحد من أشكال الحكم العالمي أن يتعامل مع مشاكل انتشار أسلحة الدمار الشامل أو التقلبات المالية السريعة أو التدفق الضخم للاجئين أو الخلافات التجارية أو التدابير المنظمة لابادة شعب أو ثقافة.

[4] السلام الديمقراطيThe Democratic Peace : إن قضايا السياسة العالمية هي شأن من شئون قضايا السياسة المحلية، ويعتمد السلام على انتشار قيم ونظم الديمقراطية، فالدول الديمقراطية لا تحارب بعضها بعضاً على الأقل بعد أن تترسخ فيها الديمقراطية. ولذا تحدث التهديدات الرئيسية للسلام العالمي بين الدول التى يحكمها دكتاتوريون أو بين دول ذات أنظمة دكتاتورية ودول ديمقراطية.

[5] وحدة عموم الأقاليم :Pan-Regions ضغطت التكنولوجيا المسافات، ومنذ عام 1947 أزالت الاتفاقيات الدولية معظم الحواجز التجارية والاستثمارية. ومع ذلك، فالنتيجة لم تكن عالماً واحداً بل ثلاثة عوالم: فقد ازدادت التجارة داخل كل إقليم من الأقاليم الثلاثة(أوروبا، وأمريكا الشمالية، وشرق آسيا)، بسرعة أكبر من التجارة بين الأقاليم بعضها وبعض. ويهيمن على كل إقليم من هذه الأقاليم قوة: الاتحاد الأوروبي من خلال ألمانيا الموحدة، وأمريكا الشمالية من خلال الولايات المتحدة، وشرق آسيا من خلال اليابان، لكن الصين تنازعها الهيمنة بشكل متزايد. هذه الأقاليم الثلاثة تمثل نسبة 80% من انتاج العالم وتجارته.

[6] الدول States: حدث تغير جوهري في النظام الدولي بينما ظلت دوله تلعب الدور الأكثر أهمية. وكما هو الحال دائماً، فالدول الكبرى لها قدرة أكبر في التأثير على طبيعة قواعد النظام الدولي وشكلها. غير أن جميع الدول لها حق التصويت في المنظمات الدولية التى تطبق القواعد على نطاق كبير من الأنشطة.

توحي النظرات الاعتبارية الخمس "الأولى" بأن عصر الدولة القومية قد انتهى بسبب التآكل السريع للسيادة من خلال التفكك الثقافي أو التكامل العالمي أو التنظيم الدولي أو مجموعة تشتمل على دول مختلفة. غير أن تحليلاً أدق ـ فيما يرى باستور ـ يتيح للمرء أن يرى الدور الرئيسي الذى لعبته الدول في كل هذه الرؤى، كما يعترف بذلك العديد من المناصرين لهذه الرؤى. وعلى سبيل المثال، فعلى الرغم من أن هنتنجتون يؤكد على أن المتغيرات الثقافية تعتبر أكثر أهمية في تفسير سلوك الدول، فإنه يعترف أيضاً بأن الدول ستظل اللاعب الرئيسي في شئون العالم، وتتضمن سيناريوهات الصراعات التى طورها في كتابه الشهير "صدام الحضارات"(10)، على صراع بين الدول الكبرى وليس بين الحضارات.

ويقول توماس فريدمان أن الدول الكبرى يجري استبدالها بأسواق كبرى(سوبر ماركت)، لكنه يزعم أنه بسبب العولمة والحدود المفتوحة فسيكون للدول شأن أكبر وليس أقل في وضع القوانين وتنفيذها. "تتطلب العولمة القابلة للاستمرار هيكلاً مستقراً للقوة، ولا توجد دولة أكثر أهمية لذلك من الولايات المتحدة. فالانترنت وغيرها من التكنولوجيات التى يصممها وادي السيليكون Silicon Valley لنقل الأصوات الرقمية والصور التليفزيونية والبيانات حول العالم، وعمليات التكامل التجاري والمالي المستمرة في تعزيزها بابتكاراتها، وأيضاً كل الثروة التى تتولد عن ذلك، كلها تحدث في عالم تعمل على استقراره قوة غير ضارة، عاصمتها واشنطن دي سي. فمن ناحية، يرجع عدم اندلاع حرب بين دولتين توجد بهما مطاعم ماكدونالدز إلى التكامل الاقتصادي، ولكنه يرجع أيضاً إلى وجود القوة الأمريكية واستعداد أمريكا لاستخدام هذه القوة ضد أولئك الذين قد يهددون نظام العولمة، بدءاً من العراق إلى كوريا الشمالية. فلن تنجح اليد الخفية للسوق بدون وجود قبضة خفية. ولا يمكن أن تنجح مطاعم ماكدونالدز بدون ماكدونيل دوجلاس مصمم طائرة السلاح الجوي الأمريكي إف ـ15. وتسمى القبضة الخفية، التى تحفظ للعالم الأمان الذى يسمح لتكنولوجيات وادي السيليكون بالازدهار، جيش الولايات المتحدة، وسلاحها الجوي، ومشاة بحريتها. وهذه القوات المقاتلة والمؤسسات يدفع لها بالدولار دافع الضرائب الأمريكي"(11).

السلام الديمقراطي يقوم على أساس الدول، وخريطة عموم الاقليم تتكون أيضاً من دول، تكون الغلبة فيها لاحدى دول الاقليم. فالولايات المتحدة تصدر 90% من الانتاج الكلي و73%من التجارة إلى أمريكا الشمالية، واليابان تصدر 70% من الانتاج الكلي وثلث التجارة إلى عشر دول في شرق آسيا. وتصدر ألمانيا23% من انتاجها الكلي و28%من تجارتها إلى دول الاتحاد الأوروبي.

في القرن التاسع عشر، بدت القومية فكرة سياسية أكثر ضعفاً من فكرتي الليبرالية والاشتراكية، بيد أن الأفكار الثلاثة وجدت تعبيراً لها بصفة رئيسية داخل الدول. فقد غرست القومية في الدول الطاقة والتوجه الذى كان أحياناً ايجابياً وأحياناً مدمراً، على حد تعبير باستور. وبالمثل، وفيما يرى باستور أيضاً، يجري مع نهاية القرن العشرين إعادة تعريف مصالح وأولويات الدول عن طريق العولمة والهوية والديمقراطية، وبواسطة فاعلين جدد(المنظمات غير الحكومية، والمنظمات الدولية، والمؤسسات متعددة الجنسيات..الخ)، يعززون هذه المصالح والأفكار.

صفوة القول، ان الدول لا تزال هي الفاعل الرئيسي في النظام الدولي، غير أن كلاً من هذه الرؤى الأخرى تزيد من فهمنا للأرضية التى تناور عليها الدول للدفاع عن أنفسها أو اعلاء مصالحها. والسؤال: أي الدول اليوم هي الأكثر أهمية؟ نحتاج إذن لتعريف "القوة"، وبعدها نُحدد الدول الأقدر على التأثير ـ عالمياً ـ.

"القوة" مُصطلح مراوغ! وفي محاولة جوزيف ناي الابن لتعريفها، قارن في البداية القوة بالطقس ـ الذى يسهل التحدث عنه أكثر من فهمه ـ وبعد ذلك قارنها بالحب الذى يسهل معايشته عن تعريفه أو قياسه! وإذا عُرفت القوة بالمصطلحات العسكرية التقليدية كقدرة على سحق العدو، حينئذ فإن الاسلحة النووية تعتبر المؤشرات الرئيسية، ولا تزال الولايات المتحدة وروسيا من أكبر دول العالم قوة، واذا عُرفت القوة بقدرة الدولة على انتاج السلع والخدمات، فسوف يكون اجمالي الناتج المحلي هو المؤشر الأفضل، وأعلى اجمالي تمثله دول كالولايات المتحدة.

مفهوم القوة تغير كثيراً مع الزمن، على نحو واضح، ففي القرن السابع عشر والقرن الثامن عشر كان يُعتقد على نحو واسع أن الحكومات التى تستطيع تعبئة أكبر عدد من الجيوش واطعامهم ويمكنها أن تجبي الضرائب من أكبر عدد من السكان سوف تفوز في الحروب، لذا كانت القوة غالباً ما تكافيء عدد سكان الدولة ومساحات الأراضي التى تستزرعها. وفي القرن التاسع عشر، كانت الصناعة والسكك الحديدية مصادر أكثر أهمية عن الزراعة أو مساحة الأراضي. وكان لدى روسيا عدد سكان أكبر من ألمانيا لكنها كانت أضعف منها، لأنها كانت تفتقر إلى ما كان لدى ألمانيا من السكك الحديدية الحديثة، والبنية الصناعية.

وبدءاً من صناعات النسيج الأولى والثورات الصناعية ومروراً بالثورة الكيمائية والنووية والمعلوماتية ـ أياً كان ما يُطور من تكنولوجيا جديدة أو معرفة أو ما يُمتلك من ثروات يُعتمد عليها ـ، فإن الدولة تجد نفسها في مقدمة منحنى القوة. فاختراع بريطانيا للآلة البخارية ووفرة الفحم جعلاها في مقدمة الثورة الصناعية. وعلاوة على ذلك، كانت أنواع معينة من الدول قادرة بشكل أفضل على استغلال مراحل معينة من التصنيع، فالاتحاد السوفيتي على سبيل المثال، كان قادراً على استخدام قوة التخطيط المركزى لتطوير صناعات الصلب الضخمة والكيماويات والمعدات الرأسمالية، غير أن اقتصاده الموجه أصبح عبئاً في عصر الكمبيوتر. تعلمت اليابان أن الطريق الصعب باستخدام الجيش من أجل الحفاظ على البترول والفحم كما فعلت في ثلاثينيات القرن ال20، أكثر تكلفة وأقل فاعلية من الاعتماد على السوق والتكنولوجيا، وهي ما اتجهت إليه بعد خمسة عقود.

الحكمة اليوم هي أن الدولة تستمد قوتها من النمو الاقتصادي والابتكار التكنولوجي، وتصبح التكنولوجيات مصدراً للقوة إذا أمكنها اختصار الزمن أو المسافة أو الفضاء، فالانترنت تُعتبر بحق التكنولوجيا الجديدة الأكثر قوة لأنها تنقل المعرفة والمعلومات إلى أشخاص أكثر وبصورة أسرع وأرخص وأسهل من أي وسائل اتصالات أخرى موجودة، ففي العقد من 1988 إلى 1998 الذى استخدمت فيه الانترنت على نطاق واسع، عملت الانترنت على تحفيز الصناعة بأكملها، وبحلول 1998 كان ثلث النمو الاقتصادي للولايات المتحدة يُعزى للانترنت.

الانترنت وقوة المعلومات تزيد من قدرة الأفراد والمنظمات غير الحكومية على التأثير في السياسة الخارجية والشئون السياسية الدولية. ولن نجد ـ والكلام لباستور ـ مثالاً أفضل لهذا من جودي ويليام، وهي سيدة شابة تعمل من خلال منزل متواضع في ولاية فيرمونت. ففي غضون ست سنوات من خلال عملها على الانترنت، استطاعت ويليام أن تنظم ائتلافاً من 1300منظمة غير حكومية في 60دولة وقامت بصياغة اتفاقية دولية لمنع انتاج وتخزين واستخدام الألغام الأرضية على مستوى العالم. وعلى الرغم من معارضة الولايات المتحدة وروسيا والصين، فقد أعدت المنظمات غير الحكومية حملة لوبية ناجحة استطاعت أن تجعل 122 دولة توقع اتفاقية في أوتاوا في ديسمبر 1997. وفازت ويليامز بجائزة نوبل لدورها في تنظيمها، واستخدام سيدة أعمال عادية لتكنولوجيا جديدة من أجل تعزيز معيار دولي، يعتبر هذا نوعاً جديداً من القوة في عصر جديد.

في عالم الحكم المطلق والحماية الجمركية تُعتبر الأرض مصدر القوة، وفي عالم التجارة الحرة تعتبر الأرض أقل أهمية، فدولة صغيرة مثل سنغافورة أو دولة تتكون من مجموعة جزر مثل اليابان يمكن أن تكون دولة ثرية وقوية. وكما ذكر ريتشارد روزكرانس فإن فهمنا لمعنى القوة قد تغير مثلما تغير العالم من "الدولة الاقليميةterritorial state" إلى "الدولة التجاريةtrading state" إلى "الدولة الافتراضيةvirtual state"، حيث تكون المعلومات وجميع عناصر الانتاج اجمالاً لها القدرة على الحركة والتأثير. ميزة متغيرات القوة المادية(العسكرية والسكان والاقتصاد والأراضي والثروة الطبيعية) هو أنه يمكن قياسها ويُعترف بها عالمياً على أنها مؤشرات للقوة. أما القوة غير المادية فهي معنوية ومن المستحيل قياسها، غير أن هناك مؤشرات بديلة لروعة جمال وجاذبية أي دولة، فقوة الولايات المتحدة الأمريكية غير المادية تظهر في المهاجرين والطلاب الذين يفدون إليها.

العلاقة بين القوة المادية والقوة غير المادية لم تُكتشف بعد بشكل كاف، والعلماء كلما حاولوا فهم "القوة" استعصت الاحاطة بها! لكنه، وفيما يرى باستور، توجد بعض التوضيحات المفيدة. أولا، يمكننا أن نفرق ما بين المؤشرات العسكرية والاقتصادية للقوة المادية حتى لولم يكن في استطاعتنا مقارنتها أو إجمالها بسهولة. ثانياً، جعلت فكرة القومية والمعايير الدولية من استخدام القوة المادية أكثر تكلفة، ومن ثم تزايدت أهمية القوة غير المادية. ثالثاً، لا توجد إجابات بسيطة عن أسئلة مثل أي أنواع القوة التى يحتمل أن تكون أكثر فاعلية في إجبار أو إقناع خصم، حتى في الحرب، بل بصفة خاصة في وقت السلم أو أثناء المفاوضات.

على أية حال، من شأن تحليل سريع لمؤشرات القوة المادية والقوة غير المادية أن يُظهر، أن الدول السبع التالية: بريطانيا العظمى وفرنسا وألمانيا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية واليابان والصين، هي الدول الكبرى في العالم..

ولقد كانت للولايات المتحدة الأمريكية القوة الاقتصادية التى مكنتها من أن تحتل المرتبة الأولى على المسرح العالمي منذ بداية القرن العشرين، غير أن امكاناتها العسكرية لم تبلغ درجة التفوق إلا بعد دخولها الحربين العالميتين ـ الأولى والثانية ـ. قوة الولايات المتحدة الأمريكية لم تتراجع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية أو حتى بعد انتهاء الحرب الباردة، ولكن على الرغم من وضعها البارز هذا، فانها أظهرت على نحو مُلفت قدراً من التناقض بشأن زعامة العالم!

هناك دول أخرى، في رأي باستور، قد تنضم أو تحل محل الدول الكبرى في القرن الحادي والعشرين. وتعتبر الدول المرشحة الأكثر وضوحاً حالياً قوى اقليمية، لما لها من تأثير ملحوظ في مناطقها. ومن المحتمل أن يزيد تأثيرها عن تأثير الدول الكبرى. ففي أمريكا اللاتينية، تعتبر البرازيل والأرجنتين والمكسيك قوى اقليمية. وفي أفريقيا، نيجيريا وجنوب افريقيا. وفي الشرق الأوسط، العراق وايران ومصر. وفي آسيا، الهند واندونيسيا والباكستان لها تأثير خارج حدودها.

قارئي الكريم، ذلكم هو الوضع العالمي "الراهن"، كما تبدو ملامحه الرئيسية في الفكر الاستراتيجي الغربي! وكما رأينا، لم نُشارك في صنع هذه البيئة العالمية الجديدة! من هنا، ولسجناء الاعتقاد في عظمة الاستقلال العربي الزائف لبلادنا، وفي الكاريزمية "الاصطناعية" للآباء المؤسسين لدولة "ما بعد الاستعمار"، أقول:


"وحدها الحقيقة تُحرركم"!


الأنظمة الاستبدادية ودولة "ما بعد الاستعمار"(12):
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـ

هذه المقالة ليست سرداً/وصفاً لأحداثٍ، فالسرد "الغائي" عملية تتقنها مراكز البحوث عندنا أو العارفون ببواطن الأمور، فيما يتعلق بالأحداث الجارية!! فإلى هؤلاء جميعاً يرجع الفضل في تزويد الجمهور العربي بمخزونٍ كافٍ من المعلومات ـ أفترض جدلاً صحته ـ، بما يكفي لامتلائه معلوماتياً! بقي لجمهورنا العربي أن يعرف كيف يُحقق ويُحلل هذا الكم من المعلومات المُلقي في روعه!

قراءتي هذه لن يكون لها أي معنى إذا لم تتجاوز السرد "الغائي" للأحداث الجارية، إلى قراءة نزيهة ومنظمة لها! وعليه، لا أنوي مُحاكاة ما تشهده مجتمعاتنا من تنبوءات يومية "مُبتذلة"، كون أصحابها يتعاطون مع الأحداث على خطورتها من واقع خبراتهم الطويلة مع مسابقات "كرة القدم"! وهو أمر لا يخلو من طرافة، وإن كان متوقعاً، في ظل شغل "كرة القدم" لأبناء أمتنا، لأكثر من نصف قرن!

التنبوء اليومي عملية محفوفة بالمخاطر، ويغلب عليها طابع المغامرة، خصوصاً إذا احتكمنا إلى الأخطاء التى تُرتكب ـ بوعي أو بلا وعي ـ من جانب أكثر مفكرينا شهرة أو أكثر الناس علماً ببواطن الأمور. أما التنبوء متوسط الأجل فهو ينطوي على قدر أقل من المخاطرة ويتمتع بمزايا أفضل خصوصاً عندما يُوظف بطريقة المصباح الكاشف الذى تضيء الأشعة الصادرة عنه جوانب الحاضر بأكثر مما تحاول أن تستكشف خطوط المستقبل في الواقع الذي نعيشه.

وربما كان من الأفضل والأهم ـ والاقتراح لمارسيل ميرل ـ أن نطرح أسئلة جيدة بدلاً من أن نحاول البحث عن اجابات لأسئلة رديئة، ولسوف احاول!

"نظام الحكم" ـ أو "النظام السياسي" ـ هو أحد العناصر التى لابد منها لكيان/شخصية الدولة، إلى جانب الشعب والاقليم. أو بعبارة أخرى، "النظام السياسي" هو مجرد تسمية لأنواع الحكومات أو أشكال الحكم! وثمة تصنيف مُتداول يقول بإمكانية التمييز بين ثلاثة أنواع رئيسية من الحكومات(13): 1ـ الحكومة البرلمانية. 2ـ الحكومة الرئاسية. 3ـ حكومة الجمعية الوطنية أو نظام الحكم المجلسي فيما يسميه البعض. والمباديء الأساسية التى تميز كل نوع من أنواع الحكومات هي تداخل السلطتين التشريعية والتنفيذية في الحكومة البرلمانية، وانفصالهما في الحكومة الرئاسية، وأولوية السلطة التشريعية في النوع الأخير.

ولقد اشتُق مفهوم "النظام system" في ميدان العلوم الطبيعية أولاً، لكي يأخذ في الاعتبار وجود علاقة بين العناصر الخاصة بمجموعة معقدة(النظام الشمسي مثلاً). وتم نقل هذا المفهوم، على أسس غير دقيقة، إلى ميدان دراسة المجتمع اعتباراً من القرن التاسع عشر فقط. وقد أسهمت أعمال علماء الرياضة في وضع القواعد النظرية لمفهوم النظام، كما أسهمت أعمال علماء الأنثروبولوجيا والاقتصاد في ادخال التحليل النسقي إلى الحقل الاجتماعي، ومع ذلك فقد تعين الانتظار حتى منتصف القرن العشرين قبل أن يظهر مفهوم واضح ومتماسك للنظام الاجتماعي، وذلك من خلال الدراسات التى قام بها تالكون بارسون(14).

النظام الاجتماعي في أعمال بارسون صُمم على أساس أنه مجموعة مركبة من الوظائف المتنوعة. يقوم بكل وظيفة من هذه الوظائف، وبطريقة مميزة، قسم محدد من أعضاء المجموعة: فتقوم الأبنية العائلية بالمحافظة على النموذج، وتقوم الأجهزة الاقتصادية بالتكيف مع الضغوط الخارجية، وتقوم السلطات السياسية باتخاذ القرارت وتقوم المؤسسات الاجتماعية والثقافية بالعمل على استمرار الوفاق العام. وتتوافر للجماعات الأكثر كمالاً واتقاناً فقط، وظيفتان أخريان هما القدرة على تغيير الأهداف المرغوب الوصول إليها، والقدرة على التحول الذاتي بدون المساس بالشخصية. ولمنتقدي المدخل الوظيفي لبارسون، تؤكد التجربة، والرأي لأنصار بارسون، انه إذا كان صحيحاً أن الأنظمة الاجتماعية تحوز من الموارد ما هو ضروري لبقائها، إلا أن هذه الأنظمة مُعرضة للأعطاب الوظيفية، مثلها مثل الأعضاء البيولوجية، فهذه وتلك مُعرضة فيما يرى مارسيل ميرل، في ظروف معينة، للفناء التام إذا انفجرت من داخلها، أو تعرضت للضغط من خارجها.

مُستفيداً من أعمال بارسون، عمد دافيد إيستون إلى بناء النظام السياسي، على ما يلي: أولاً، أهمية العلاقة بين النظام وبيئته. ثانياً، أهمية ضبط إيقاع النظام عن طريق سلطة قادرة على الرد الملائم على التحديات ـ القادمة ـ من البيئة.

تحليل النظام ـ أو التحليل النسقي ـ ينطوى على دراسة مجمل التفاعلات التى تحدث بين النظام وبين بيئته. و"النظام" المكون من مجموعة محددة من العلاقات، هو في حالة اتصال مع بيئته من خلال آلية "المدخلات" و"المخرجات". وتتكون المدخلات من مجموعة المطالب والمعضدات المتجهة إلى النظام باعتبارها كل واحد . وفي داخل النظام تتحول المطالب والمعضدات تحت تأثير رد الفعل المركب للعناصر التأسيسية للنظام نفسه لتثير في النهاية رد فعل شامل من جانب سلطة نظم الايقاع، يعبر عن الطريقة التى يسعى بها النظام نحو التكيف مع التحريضات والضغوط النابعة من البيئة. وبينما يشكل رد الفعل الشامل هذا "المخرجات" استجابة response النظام أو رده على "المدخلات"، فإنها تمهد في الوقت نفسه لدائرة جديدة من رد الفعل "التغذية المرتجعة Feed-back" والتى تسهم بدورها في تعديل البيئة والتى منها ستنطلق مطالب ومعضدات أخرى.

من هنا، اشتق ميرل تعريفه لـ"النظام" بأنه: مجمل العلاقات بين عدد محدد من اللاعبين الذين يضمهم نمط بيئي معين ويخضعون لصيغة تنظيمية ملائمة.

"نظام الحكم" عبارة ترهبها الأذن العربية ولا ترتاح لها كثيراً على نحو مُلفت، ربما لارتباطها في الوجدان الشعبي لدولة "ما بعد الاستعمار" بالحكومات الاستبدادية/الدكتاتورية، ولنقرأ قول "الخطير" محمد حسنين هيكل، على خلفية اندلاع الاحتجاجات الطلابية المناهضة لنظام الحكم في مصر عام 1968(15):

"النظام المصري الذى حكم ابتداء من سنة 1952 لم ينشأ في بيئة سياسية، أعني(والكلام لهيكل) أن الثورة كان يجب بالمنطق العادي أن تنبع من جو آخر غير القوات المسلحة التى خرجت منها الطلائع التى قادت الثورة فيما بعد فعلاً".

وربما أيضاً يرجع عدم الارتياح الشعبي لعبارة "نظام الحكم" لارتباطها بأحكام قضائية "دموية" "جائرة"، لطالما صدرت في حق شرفاء، طيلة عقود "ما بعد الاستعمار"، بزعم مناهضتهم للشرعية القائمة وتآمرهم لقلب "نظام الحكم"!

حديثي في هذه المقالة عن الأنظمة العربية الحاكمة، لا أعني به سوى الأنظمة التى وُجدت في دولة "ما بعد الاستعمار"، واستوطنت الفضاء السياسي فيها لأكثر من نصف قرن، فقد تزامن ميلاد هذه الأنظمة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية واقرار القوتين العظميين ـ كما ذكرنا ـ لمبدأ الاستقلال "الزائف" للبلدان المُستعمرة، وفي مقدمتها بلدان عالمنا العربي وبلدان إفريقيا جنوب الصحراء!

هذه الأنظمة العربية الاستبدادية في دولة "ما بعد رحيل الاستعمار" ـ أو دولة "ما بعد الحرب العالمية الثانية" ـ، منذ مجيئها إلى الوجود وحتى انهيارها الذى بدأ فيما أري مع الاطاحة بنظام صدام حسين في العراق ولا يزال مُستمراً حتى الآن، وعلى اختلاف مشاربها، ما بين قومي واسلامي وبعثي وشيوعي وناصري واشتراكي..الخ، كانت ولا تزال حريصة على توارث وتكريس مبدأ الاستقلال "الزائف"! وهي، وإن بدت متنافرة، تلتقي على تجفيف منابع الحرية!

ولمن يسأل: لماذا سبقتنا مناطق كإفريقيا جنوب الصحراء في التخلص من انظمة "ما بعد الاستعمار"، عقب انهيار الاتحاد السوفيتي؟ ولماذا تأخرت الاطاحة بهذه الأنظمة في عالمنا العربي، إلى ما بعد هجمات سبتمبر 2001! رغم ما نعلمه جميعاًً من تزامن حصول البلدان العربية والافريقية، على الاستقلال الوطني!

بل إن دولة كمصر كان لها فضل السبق!! وهو ما أغرى على ما يبدو نظامها الحاكم في خمسينيات وستينيات القرن العشرين بالمُزايدة، بل والمُتاجرة بجهوده في دفع الأفارقة إلى الاستقلال، رغم حتميته، لدعم القوتين الأعظم له!

بالطبع، لا أقصد من قولي هذا التهوين من جهود الأنظمة المصرية "ما بعد الاستعمار"، فهي مشكورة، ما أقصده هو التنبيه لأهمية تخليص الماضي من زيفه وأكاذيبه الكبرى، كون هذا أصون للتاريخ! فأن تعرض نصف الحقيقة وتخفي نصفها الآخر أخطر ألف مرة من أن تُخفي الحقيقة برمتها. لم يعد مقبولاً أن نُعمى عن بديهيات، صيرنا الجهل بها "لعبة" الأمم! دعم حكوماتنا ظل وثيقاً لحكومات إفريقية بعينها(16)، اشتهرت باستبدادها وتكريسها المُر لمبدأ الاستقلال الزائف!

في مؤلفه القيم "الموجة الثالثة"(17)، حدد هنتنجتون معنى الديمقراطية بإيجاز بأنها نهج للحكم يقوم على الانتخابات الحرة والمؤسسات الثابتة وعلى تداول السلطة بين الأحزاب في نظام تعددي يكفل الحرية وتكافؤ الفرص لجميع الأحزاب السياسية القائمة وحرية الاختيار لكل الناخبين. ويقابلها على النقيض النظام الشمولى الذي يتولى الحكام في ظله السلطة إما بحكم المولد أو الصدفة أو الثراء أو العنف أو التعيين. والديمقراطية كما يحددها هنتنجتون ليست نظاماً للحكم وإنما هي "نهج" يُتبع في إطار نظام الحكم. فهناك ملكيات شمولية وأخرى ديمقراطية، كما أن هناك أنظمة حكم جمهورية شمولية وأخرى ديمقراطية. لكن الديمقراطية لا تتناسب بالطبع مع أنظمة الحكم العسكرية أو الدكتاتورية الفردية!

في المؤلف نفسه تحدث هنتنجتون عن تقارير صدرت عام 1990، تؤكد أن التحول الجماعي إلى الديمقراطية الذي كانت تشهده أوروبا الشرقية، على خلفية تفكك الاتحاد السوفيتي، دعم المطالبة بالتغيير عندنا، ودفع الحكام في مصر والأردن والجزائر إلى الاسراع بإتاحة مزيد من المجال السياسي للتعبير عن السخط. ولتعضيد زعمه، أورد هنتنجتون تعليقاً، لصحفي مصري، على الانهيار الجماعي للأنظمة الشيوعية، هذا نصه: "لا مفر من الديمقراطية الآن. فكل هذه الأنظمة العربية لا خيار أمامها إلا أن تنال ثفة شعوبها وترضخ للخيار الشعبي"!

وفي تفسيره لعدم تحقق رؤية الصحفي المصري ـ والتى تستند إلى فرضية "العدوي"، أو "كرات الثلج"، أو "ظاهرة الدومينو" كسبب(18) ـ، أكد أستاذ هارفارد الراحل هنتنجتون أن الثورة الديمقراطية العالمية كانت يمكن أن تفرز في أية دولة مناخاً خارجياً يدفع ويساعد على التحول الديمقراطي، لكنها لم تكن تستطيع أن تُفرز الظروف ـ الداخلية ـ اللازمة للتحول الديمقراطي في الدولة.

"كرات الثلج" أو "ظاهرة الدومينو" والتى كان تأثيرها واضحاً عام 1990، على التحول الديمقراطي في كل من بلغاريا ورومانيا ويوغوسلافيا ومنغوليا ونيبال وألبانيا، كانت وحدها ـ والكلام لا يزال لهنتنجتون ـ تُعد ضعيفة كسبب للتحول الديمقراطي في غياب الظروف الملائمة في تلك الدول التى تأثرت بها.

تحليل هنتنجتون "صحيح" و"بارع" كالعادة! غير أنه "ناقص" و"لا يخلو من غرض"! كونه يتعامى بدمٍ بارد، كدأب أغلب التحليلات الغربية، بل والعربية أيضاَ(!!)، عن تحميل الولايات المتحدة وحلفائها أية مسئولية عن اعاقة توافر "الظروف الداخلية اللازمة للتحول الديمقراطي" في بلادنا، متجاهلاً دور بلاده اللاانساني في التمكين لمبدأ الاستقلال الزائف في دولة "ما بعد الاستعمار"(19)!

على أية حال، هنتنجتون قسم "القوى الداخلية" التى حالت برأيه دون المزيد من التحولات الديمقراطية في دول العالم، في تسعينيات القرن ال20، كما يلي:

[1] العقبات السياسية: من العقبات السياسية غياب التجربة الحقيقية مع الديمقراطية عن الدول التي ظلت على الشمولية في تسعينيات القرن الماضي. وإن كان هذا برأي هنتنجتون لا يمثل مانعاً حاسماً أمام التحول الديمقراطي. هنتنجتون كان قد توقع اختفاء عقبة واحدة خلال تسعينيات القرن الماضي وهي الزعماء الذين أقاموا هذه الأنظمة الشمولية أو الذين ظلوا في السلطة طويلاً في هذه الأنظمة، لأنهم عادة ما يتحولون إلى متشددين، يعارضون أي تحول ديمقراطي! موت هؤلاء الزعماء أو رحيلهم عن السلطة يؤدي إلى إزالة عقبة من طريق التحول الديمقراطي في بلادهم، ولكن لا يؤدي بالضرورة إلى حدوث التحول.

من العقبات الأخرى الكؤود التي حالت في نظر هنتنجتون دون التحول الديمقراطي، غياب الالتزام الحقيقي بالقيم الديمقراطية بين الزعماء السياسيين في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط. وان هؤلاء الزعماء حين يخرجون من مناصبهم، نجد لديهم ما يكفي من الأسباب للدفاع عن الديمقراطية. اختبار مدى التزام هؤلاء الزعماء بالديمقراطية يأتي حين يكونون في السلطة لا يزالون. وبرأي هنتنجتون ان الأنظمة الديمقراطية بأمريكا اللاتينية كانت تتم الاطاحة بها بانقلابات عسكرية في العادة. وقد حدث ذلك بالطبع في الشرق الأوسط وآسيا، إلا أن القادة المنتخبين أنفسهم في هذه المناطق كانوا برأيه مسئولين عن سقوط الديمقراطية، ومن هؤلاء أنديرا غاندي في الهند وفرديناند ماركوس في الفلبين وسوكارنو في أندونيسيا.

[2] الموروث الحضاري: هناك رأي يرى أن المواريث الحضارية التاريخية الكبرى في العالم تتفاوت بشدة في مدى ملاءمة توجهاتها وقيمها ومعتقداتها وأنماط السلوك فيها لنمو الديمقراطية. فالموروث الحضاري المعادي للديمقراطية يعوق انتشار المعايير الديمقراطية في المجتمع وينكر شرعية المؤسسات الديمقراطية، وبالتالي فهو يحول دون قيام هذه المؤسسات بمهامها. وطبقاً لهذا الرأي، لا تتناسب الديمقراطية إلا مع الدول الشمالية الغربية وربما وسط أوروبا وما خرج عنها من مستوطنين. ومن الشواهد الداعمة لهذا الرأي:

· ان الديمقراطية الحديثة نشأت في العالم الغربي.

· ان معظم الدول الديمقراطية منذ بدايات القرن الـ19 هي دول غربية.

· ان الديمقراطية انتشرت خارج نطاق شمال المحيط الأطلنطي، في المستعمرات البريطانية السابقة، وفي الدول التى تعرضت لنفوذ أمريكي طاغٍ، وأخيراً في المستعمرات الايبيرية السابقة بأمريكا اللاتينية.

· ان الدول الديمقراطية ال58 عام 1990 شملت 37 دولة أوروبية غربية ومستوطنة أوروبية ودولة أمريكية لاتينية ومستعمرة استرالية وست دول أخرى(اليابان، وتركيا، وكوريا الجنوبية، ومنغوليا، وناميبيا، والسنغال). وكانت عشرون دولة من الدول الثلاثين التى تحولت إلى الديمقراطية في الموجة الثالثة(20)، إما دولاً غربية أو دولاً سيطر عليها النفوذ الغربي.
ثمة نسخة أقل حدة من عقبة الموروث ترى أن المسألة ليست أن حضارة ما أو أخرى تلائم الديمقراطية وتتقبلها وإنما أن هناك حضارة ما أو بعض الحضارات تُعادي الديمقراطية! الكونفوشية والاسلامية هما الأكثر شهرة! وبرأيي هنتنجتون يزيد ما يلي من حدة العوائق التى تواجه الديمقراطية في حضارتنا:

· عدم طرح فكرة الديمقراطية للبحث النزيه المنظم. في حين أن الآراء التى ترى في بعض المواريث الحضارية عوائق تحول دون تحقيق التطور باتجاه ما أو آخر يجب أن يُعاد النظر فيها وأن تُحاط بقدر من الشك.

· إن المواريث الحضارية التاريخية الجليلة كالحضارة الاسلامية هي كيانات مُعقدة من الأفكار والعقائد والتعاليم والكتابات والافتراضات وأنماط السلوك. وأية ثقافة عظيمة بها بعض العناصر التى تناسب الديمقراطية. وعن العناصر المناسبة للديمقراطية في الحضارة الاسلامية وكيف وتحت أية ظروف يمكن إلغاء العناصر غير الديمقراطية، يتساءل هنتنجتون!

· حتى وإن كان الموروث الحضاري بمثابة عائق في طريق الديمقراطية، فإن التراث يتسم بالدينامية والحركة لا بالسلبية والجمود. فالمعتقدات السائدة والتوجهات الجارية في المجتمع تتغير، وبينما تحافظ الثقافة السائدة على عناصر الاستمرارية في المجتمع فإنها تختلف اختلافاً واضحاً عما كانت عليه قبل جيل أو جيلين. التراث يتطور، ولعل التنمية الاقتصادية نفسها ـ والكلام لهنتنجتون ـ هي من أهم أسباب التطور الحضاري.

[3] العقبات الاقتصادية: الفقر يمثل عائقاً رئيسياً، بل ربما كان أكبر عائق في سبيل التنمية الاقتصادية. ويتمثل مستقبل الديمقراطية على مستقبل التنمية الاقتصادية. والعوائق في طريق التنمية الاقتصادية برأي هنتنجتون هي عوائق في طريق اتساع نطاق الديمقراطية. غالبية الدول التى كانت تؤهلها ظروفها للتحول الديمقراطي في تسعينيات القرن الماضي هي دول في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فالرخاء الاقتصادي لهذه الدول كان مصدره الصادرات النفطية، وهو موقف عزز السيطرة البيروقراطية للدولة وبالتالي هيأ مناخاً لا يتناسب والتحول للديمقراطية. إلا أن ذلك لم يكن معناه استحالة التحول الديمقراطي بالضرورة.

فقد مارست البيروقراطيات الحكومية في دول أوروبا الشرقية سيطرة أكبر من سيطرة دولنا المُصدرة للنفط. تلك السيطرة قد تنهار عند نقطة معينة في هذه الدول النفطية بنفس الصورة الفجائية التى انهارت بها في دول أوروبا الشرقية!

موجة التحول الديمقراطي التى اجتاحت العالم في تسعينيات القرن العشرين كان من الممكن أن تصبح سمة سائدة في سياسات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقتها ـ والكلام لهنتنجتون ـ تتحد قضية الاقتصاد والموروث الحضاري معاً. فما هي أشكال السياسة وأنماطها التى يمكن أن تظهر، حين يتفاعل الرخاء الاقتصادي مع الموروث الحضاري؟! في مناقشته لهذا التساؤل المهم يقرر هنتنجتون ان التحول الديمقراطي في دول العالم الاسلامي يدعم نفوذ حركات سياسية واجتماعية لها وزنها ويحوم الشك حول التزامها بديمقراطية نظام الحكم.

[هل تستمر الحكومات ـ القائمة في بداية تسعينيات القرن ال20 ـ فيما بدأته من انفتاح سياسي وتُجري انتخابات تتنافس فيها الجماعات الاسلامية دون قيود؟ وهل تحصل الجماعات الاسلامية على الأغلبية؟ وإذا فازوا بالانتخابات، فهل يسمح الجيش(الذى يُعد شديد العلمانية في دول كالجزائر وتركيا وباكستان واندونيسيا) لهم بتشكيل الحكومات؟ وإذا شكلوا حكومات، فهل ستتبع سياسات اسلامية متشددة تقوض دعائم الديمقراطية وتقضي على العناصر ذات التوجهات الحديثة في المجتمع، وهل ستُشكل تهديداً للمصالح الغربية في بلدانها ومُحيطها!]

بهذه التساؤلات "الحائرة"، فسر لنا هنتنجتون بعبقريته المعهودة موقف بلاده وحلفائها "الضبابي" من مسألة التحول الديمقراطي في بلادنا، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والانهيار الجماعي للأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية. دون أدنى إشارة تُذكر من جانبه لمسئولية بلاده عن هدم الانسان العربي وحرمانه من حقه في نقد وتطوير ثقافته، من خلال صيانتها لأنظمتنا القمعية ولمبدأ الاستقلال "الزائف"، بزعم تفويت الفرصة على الاتحاد السوفيتي في استقطاب الأنظمة العربية إلى جانبه! وهو ما سمح لحُكامنا بافتعال معارك وهمية، ساعدتهم من جهة على التجفيف "الكارثي" لمنابع الحرية، ومن جهة أخرى أكسبتهم شعبية واسعة!

مالا يعلمه الكثيرون من أبناء مجتمعاتنا "كارهة الحقيقة" هو ان كل ما يدور عندنا من أحداث، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بما يدور في العالم ـ خاصة الغربي ـ، ولا يمكن فهمه إلا بإدراك مختلف عناصر هذا الترابط(21). إن أي شيء وكل شيء في حياتنا أصبح على نحو مُتزايد له صلة بما يدور في العالم. فكيف يمكن أن نتجاهل هذه الصلات ولا نسعى إلى فهمها والتعامل معها بكل أبعادها؟ وكيف نظل ننظر إلى الأشياء وعلاقاتها، كأنها تبدأ وتنتهي عند حدودنا "الجغرافية"؟!

الطريق إلى هجمات 11 سبتمبر2001":
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للرئيس العراقي الراحل صدام حسين ونظامه خصوصية شديدة في التاريخ العربي المعاصر، ليس فقط لطريقة اعدامه "الثأرية"، على يد ضحايا ظُلمه، وإنما أيضاً لكونه أول حاكم عربي، يُطاح به وبنظامه على خلفية هجمات 11سبتمبر!

والسؤال: لماذا كان صدام حسين ونظامه أول ضحايا الغضبة الأمريكية؟

ثمة أحداث قديمة، على ما يبدو، تقف وراء اختيار الولايات المتحدة لصدام حسين ونظامه، كمتنفس لغضبتها، بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001!

كانت السياسة الأمريكية تجاه النظام العراقي في ثمانينيات القرن الماضي "انتهازية" كالعادة! فقد "مالت" الولايات المتحدة بالفعل ناحية العراق أثناء الحرب الايرانية/العراقية، مُعتبرة ايران "الاسلامية" بمثابة التهديد الأخطر على المصالح الغربية في الخليج! دون أدنى مبالاة بوقوع مئات الآلاف من الضحايا في تلك الحرب التى استمرت ثماني سنوات(1980ـ1988)، قدمت خلالها الولايات المتحدة وبريطانيا للنظام العراقي معلومات استخباراتية وطائرات هليكوبتر لاستخدامها في هجماته بالأسلحة الكيماوية ضد ايران ـ، وأيضاً في حملاته ضد الأكراد(22) ـ، كما حالت الدولتان دون إدانة مجلس الأمن وقتها لهذه الجرائم!

حرب طويلة وطاحنة على هذا النحو، كان لها تأثير "قاتل" على الاقتصاد العراقي. فقد تدهور الناتج القومي الاجمالي في عام 1988، رغم أنه بدأ يستعيد عافيته عام 1989. ووصل معدل التضخم إلى 45% في عام 1990. وظلت ثمار انتصارات صدام بعيدة عن متناول أبناء شعبه، على حد تعبير مايكل بالمر(23)!

ومع ذلك، فقد كان العراق غنياً بالنفط، ولديه قطاع زراعي مُنتج، غير أن قبضة صدام حسين "الحديدية"، ورفضه لتخفيض الانفاق الحكومي، وأمره باستمرار مشروعات التنمية والتطوير النوعي في القوات العسكرية، واحتفاظه بالجيش العامل على نفس المستوى تقريباً الذى بلغه في السنة الأخيرة لحربه مع ايران. كل هذه الأمور وغيرها زادت من الضرورات الاقتصادية بالنسبة لصدام. وبات لزاماً عليه ـ ما لم يعمل على ابطاء الزخم لاستعادة النشاط الاقتصادي أو خفضه بدرجة كبيرة قواته المسلحة ـ، أن يُقنع أنظمة الخليج باسقاط المليارات المدين بها لهم! وبأن يخفضوا صادراتهم النفطية ويمنحوا العراق حصة أكبر من الانتاج في إطار منظمة "الأوبك"! وبأن ينقلوا استثماراتهم من الولايات المتحدة!

وإذا أضفنا إلى ذلك كله "النسخة العراقية" لمحضر الاجتماع "الشهير" بين صدام حسين وجلاسبي السفيرة الأمريكية في بغداد، والتى نشرها العراقيون فيما بعد، والتى تفضح ابلاغ السفيرة لصدام بأنه "ليس للولايات المتحدة رأي فيما يتعلق بالمنازعات العربية ـ العربية، مثل خلافكم مع الكويت حول الحدود"، فيما كان يبدو، إن صح الزعم العراقي، أنه اعطاء "ضوء أخضر" للعراقيين للغزو!

أقول إنه إذا أخذنا كل هذه الأمور في الاعتبار، فقد تتبدد بعض أوهامنا! كارثة أن تُعالج مثل هذه الحوادث الخطيرة في تاريحنا المُعاصر على طريقة فيلم "العاصفة" لخالد يوسف، حين اختزل مأساة الغزو في أخوين مصريين، حارب أحدهما إلى جانب النظام العراقي، وحارب الثاني إلى جانب نظام بلاده وحلفائه!
على أية حال، كانت الكويت بالفعل مصيدة موت حقيقية للجيش العراقي، ولم يكن قرار صدام حسين بارسال المزيد والمزيد من الرجال والمعدات إلى "محافظته التاسعة عشرة" التى فتحها حديثاً ينبع من استراتيجية عسكرية مدروسة تستهدف الحاق الهزيمة بهجوم القوات المتحالفة(24)، بل كان ينبع فيما يرى مايكل بالمر من استراتيجية سياسية، قُصد بها ردع هجوم من هذا النوع عن طريق إثارة شبح حمامات الدم في أذهان زعماء التحالف من الغربيين، فالدم الغربي عزيز!

الصراع على الكويت والذى حُسم لصالح قوات التحالف بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، كان رغم كل شيء، أول أزمة في سنوات ما بعد الحرب الباردة! بدا فيه جلياً ما أسفر عنه انتهاء الحرب الباردة من تعديل في بعض عناصر المعادلة الجغرافية ـ الاقتصادية! فاحتواء الشيوعية لم يعد يجبر الولايات المتحدة على ضمان التدفق المستمر للنفط من الخليج إلى أوروبا الغربية. ومع ذلك فإن الأهمية الكلية للعناصر الجغرافية ـ الاقتصادية في السياسة الخارجية الأمريكية قد زادت. والأسباب فيما يرى بالمر، هي: أولاً، ادراك أصحاب القرار السياسي الأمريكي، وأغلبية الشعب الأمريكي، انه ليس في مصلحة الولايات المتحدة حدوث انهيار في اقتصادات شركائها التجاريين الرئيسيين في أوروبا وآسيا. وثانياً، ان نمو اقتصادات الدول الديمقراطية الجديدة في أوروبا الشرقية يعتمد، جزئياً، على توافر النفط الشرق أوسطي رخيص السعر. وثالثاً، من المرجح أن يزداد اعتماد أمريكا على بترول الخليج العربي المستورد. وبوجه عام ـ والكلام لمايكل بالمر ـ فإن الشعب الأمريكي ينفر من الموافقة على تشييد المزيد من محطات الطاقة النووية، خوفاً من الحوادث ومن المشكلات المتصلة بانتاج النفايات النووية، كما يرفض الشعب زيادة عمليات الحفر للتنقيب عن النفط قبالة الشواطيء، خشية تلوث المياه وأماكن الاستحمام في البحر، ويرفض إحراق المزيد من الفحم، حتى لا يزداد تلوث الهواء وحتى لا يسقط المطر الحمضي!!

إريك هوسكين، وهو طبيب كندي، كان منسق فريق هارفارد في العراق، علق على وحشية الهجوم على الشعب العراقي في "عاصفة الصحراء" بقوله: إن القصف بالقنابل عام 1991 قد انهى بصورة فاعلة كل ما هو حيوي للبقاء البشري في العراق، الكهرباء والماء وأنظمة الصرف والزراعة والصناعة والرعاية الصحية!، أما الصحفي الأمريكي الشهير توماس فريدمان، فقد ادعى بوقاحة أن الأفضل في كل العوالم، بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، هو ديكتاتور آخر مثل صدام حسين أو على حد قوله: قبضة حديدية لعصبة عراقية دون صدام حسين!

وقبل أنتخاب بوش الابن كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية قامديك تشيني ودونالد رامسفيلد وپول وولفويتز، بكتابة مذكرة تحت عنوان "اعادة بناء القدرات الدفاعية للولايات المتحدة" فيسبتمبر2000 ، أي قبل عام مناحداث 11سبتمبر2001. في هذه المذكرة ورد ما معناه انه بالرغم من الخلافات مع نظام صدام حسينوالذي يستدعي تواجدا امريكيا في منطقةالخليج العربي إلا أن أهمية وأسباب التواجد الأمريكي في المنطقة تفوق سبب وجودصدام في السلطة(25).

على أية حال، ما حصل هو أن الرئيس بوش الأب تردد في أن يُحل ديكتاتور آخر مكان صدام، لأنه فيما يرى محمود ممداني لم يكن متيقناً من التداعيات الاقليمية على بقية حكوماتنا وإيران وتركيا(26)، التى يمكن أن يؤدي إليها تغيير النظام العراقي! ومن ثم اكتفى بمواصلة عقاب العراق في زمن السلم، حتى يُبعد نظامه عن أن يكون مُسلحاً بطريقة فعالة ضد أي أحد، غير مواطنيه!

كان القصف المتكرر للعراق يجري في موازاة "نظام غير محدد من العقوبات الاقتصادية". وكانت الأمم المتحدة قد تبنت العقوبات الاقتصادية كجزء من دستورها لعام 1945 وكوسيلة لصيانة النظام الكوني. واستخدمت العقوبات الاقتصادية، منذ ذلك الوقت وحتى توقيعها على العراق، أربع عشرة مرة، منها اثنتا عشرة مرة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي. غير أن العراق يمثل أول دولة توقع فيها العقوبات على بلد بصورة شاملة منذ الحرب العالمية الثانية، بمعنى أن كل من أوجه صادراتها ووارداتها قد أصبح، في آخر الأمر، خاضعاً لإشراف الأمم المتحدة وعُرضة لفيتو الولايات المتحدة الأمريكية! وقد كشف هذا النظام من العقوبات الاقتصادية عن تطور جديد وخبيث بحق في تاريخ النزاع الأقل حدة!

فقد إدعى، وهو يشن حملة باعتبارها حملة من أجل حقوق الانسان، أنه يهدف إلى تخفيف عقوبة مُستحقة بالفعل، طبقاً لحكم شروط قانون خاص "بالسلع الانسانية"، التى يشرف عليها "منسقو الأمم المتحدة للمعونة الانسانية"! لقد أطلق ذلك في الحقيقة العنان للقتل "الدنيء" لمئات الآلاف من الأطفال والمرضى في العراق! "إن الولايات المتحدة تحتاج إلى قوة كافية حتى تمنع أي مُتحدٍ يحلم، في أي زمان، بتحدينا فوق المسرح العالمي"(27)، هدف مُحدد وواضح تضمنته وثيقة الاستراتيجية الشهيرة التى رسمها بول وولفويتز في السنة الأخيرة لبوش الأب!

حقيقة مُحزنة ـ حقاً ـ أن بزوغ الولايات الولايات المتحدة كقوة عظمى عالمية وحيدة، قد سار جنباً إلى جنب مع طلبها أن تُستثنى من أي حكم دولي للقانون. وهي لم تتردد، في الوقت نفسه، عن المطالبة بتطبيق انتقائي لحكم القانون، ساعية إلى استخدام القانون كأداة لوضع الدول الأخرى تحت المحاسبة.

العاملون المدنيون الدوليون، على أعلى مستوى، الذين أصروا على أن تقبل أمريكا بحكم القانون قد استُهدفوا وتُركوا أمام اختيار واحد: أن يستقيلوا أو يُعزلوا، وكان أكثر هؤلاء بروزاً وشهرة هو السكرتير العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي، الذى قاده اقتناعه العاطفي الساذج ـ والكلام لممدوح ممداني ـ إلى أن انتهاء الحرب الباردة سوف يُفسح الطريق للحكم العالمي للقانون، مما قاده إلى اختلافات عدة مع مادلين أولبرايت، وأدى في النهاية إلى رسالة واضحة من إدارة كلينتون أن ترشيحه سوف يُواجه بالفيتو إن هو سعى إلى فترة ثانية في منصبه!

صبر واشنطن نفذ عندما بدأ بطرس غالي ممارسة استقلاله في التطبيق!

انتقد غالي انشغال واشنطن بالبوسنة "حرب الأغنياء" وإهمالها الصومال، حيث "يُحتمل موت ثلث السكان جوعاً"، ورواندا حيث اتهم الولايات المتحدة "بالوقوف في كسل" والمشاركة فقط عندما تهلك المذابح بالفعل القسم الأعظم من السكان. إن العديد يؤمنون أن غضب واشنطون قد بلغ الذروة في أبريل 1996، عندما أصر غالي على نشر نتائج استقصاء الأمم المتحدة التى أوضحت تورط إسرائيل ـ كالعادة(!!) ـ في قتل حوالي مائة من المدنيين الذين اخذوا رهائن في معسكر الأمم المتحدة في قانا بجنوب لبنان. ونجحت الولايات المتحدة، في النهاية، في استبدال بطرس غالي بأفريقي آخر، هو كوفي عنان، وكيل السكرتير العام للأمم المتحدة لحفظ السلام خلال مذابح رواندا العرقية، الذى أصبح أكثر تناغماً بكثير مع ما تدعو إليه واشنطن. فقد جاء صعود كوفي عنان إثر أزمتين كبيرتين واجهتهما الأمم المتحدة: الأولى يوغوسلافيا السابقة، والثانية رواندا. وبينما لم يكن بطرس غالي راغباً في اتباع قيادة الناتو والموافقة على المطالب الأمريكية بالقصف الجوي للصرب بمعيار يتجاوز القصف الرمزي التزم عنان على الفور!

صفوة القول، انه بينما كان العالم على مشارف الألفية الثالثة، استقرت الولايات المتحدة في وضع القوة الفائقة الوحيدة، وقامت من الناحية الفعلية بتهميش الأمم المتحدة. ووعدت، بالمقابل، بإقامة "نظام عالمي" أكثر عدالة. وبإسم هذا المشروع، قادت وكسبت ـ كما رأينا ـ حرب الخليج ضد العراق. غير انه، حالما انتهى هذا القتال، ظلت على انحياز فاضح لصالح اسرائيل، على حساب حقوق الفلسطينيين. وعلاوة على هذا، ورغم الاحتجاجات الدولية، أبقت الولايات المتحدة ـ وكما رأينا أيضاً ـ على حصار شرس ضد العراق، يترك هامشاً لبقاء النظام غير أنه يقتل آلاف الأبرياء. ولم يعد هذا "النظام العالمي الجديد" يبدو أكثر عدالة في نظر المليارات من سكان دول المناطق المتخلفة. وقام كل هذا بإحداث جرح غائر، بصورة خاصة، في الوجدان الشعبي للعالمين العربي والاسلامي، وهو ما ساهم بقوة في خلق تربة مُلائمة، ازدهرت عليها رؤى اسلامية معادية للغرب بصفة عامة، ولأمريكا بصفة خاصة! ساعد على تعميق هذا العداء الدعم الغربي ـ المُستتر أحياناً، والمُعلن أحياناً أخرى، حسب "المصلحة" ـ للأنظمة في دولة "ما بعد الاستعمار"، والتى تجاوزت في استهدافها للنفوس "الحُرة" كل حد!

"السبتمبريون" وتغيير الأنظمة العربية:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

عقب انتهاء الحرب الباردة بدا أن التطرف من المنظور الأمريكي لم يعد صنوين، اليسار والحركات الشيوعية، بل أصبح مُرتبطاً بشكل أكبر وتدريجي ببعض قوى الاسلام السياسي التى خرجت من أفغانستان بعد انتهاء الحرب بها بالانسحاب السوفيتي منها عام 1989 لتبحث عن ميادين أخرى لحروبها المقدسة وبثقة كبيرة في النفس وإحساس بالانتصار، وبشكل متزايد. ولما سبق ذكره من أسباب ـ وغيرها ـ، بدأت هذه القوى تركز سهامها على أمريكا منذ محاولة الاعتداء على مركز التجارة العالمي في نيويورك في عام 1993 ومروراً بالهجوم على السفارتين الأمريكيتين بنيروبي ودار السلام عام 1998 وصولاً إلى ضربات في مدينة نيويورك أيضاً، والهجوم على البنتاجون بواشنطن في سبتمبر2001.

ولكن، ومع ذلك، بقي البعد الراديكالي القومي في معادلة ما تسميه واشنطن بقوى التطرف، سواء تمثل ـ في مراحل ـ في الأنظمة الحاكمة في ليبيا والعراق وسوريا(والأخيرتان مرتبطين في الذهنية السياسية الأمريكية الغالبة بعداء مُفترض لحزب البعث تجاه الولايات المتحدة)، أو في شكل تنظيمات سياسية مثل التنظيمات الفلسطينية اليسارية والقومية. كما بدا قلق واشنطن تجاه تحالفات عبر خطوط التماس الأيديولوجية بين حكومات وتنظيمات مثل ما تعتبره محوراً سورياً وإيرانياً، يشمل أيضاً حزب الله اللبناني وتنظيمات فلسطينية مثل حماس والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجهاد الاسلامي وغيرهم! هذا التطرف، برأي الولايات المتحدة الأمريكية، يهدد إمدادات الطاقة والنفط إليها وإلى حلفائها الغربيين، كما أنه يشكل خطراً على أمن إسرائيل ووجودها وتميزها في المنطقة، بالاضافة إلى خطره على الاستقرار، والأنظمة القريبة من أو المُتحالفة مع أمريكا بالمنطقة!

ربما يعتقد البعض أن هدف [الحرب ضد الارهاب]، حديث نسبياً، وتحديداً أتى عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، ولكن الحقيقة خلاف ذلك(28)، فالولايات المتحدة الأمريكية كانت ترمي بالارهاب تنظيمات فلسطينية ولبنانية ويسارية وقومية، قبل عقود من هجمات 11سبتمبر، بسبب قيام بعض التنظيمات بخطف طائرات في عقدي السبعينيات من القرن العشرين من القرن الماضي والثمانينيات من القرن الماضي، كما أن الخارجية الأمريكية تُصدر قائمة سنوية بأسماء التنظيمات التى تعتبرها إرهابية وأخرى بأسماء الدول التى تتهمها برعاية الارهاب. والقائمتان تضمان دولاً ومنظمات غير إسلامية، أساساً يسارية، وإن كان عدد هؤلاء بات في تناقص عبر السنوات الأخيرة، خاصة بعد 11/9(29)! ولشد ما تحظى هجمات 11سبتمبر بخصوصية شديدة واهمية استثنائية، في التاريخين العالمي بصفة عامة، والعربي والاسلامي خاصة، من نواحٍ عديدة:

[1] من ناحية "شراسة" الهجمات ورمزيتها:

من تقرير اللجنة الوطنية الأمريكيةالخاص بهجمات الحادي عشر من سبتمبر، نعلم أن أسامة بن لادن(سعودي) وأيمن الظواهري(مصري) أصدرا من مقريهما بأفغانستان في فبراير 1998 فتوى باسم الجبهة الإسلامية العالمية، أكدا فيها إعلان الولايات المتحدة الحرب على الله ورسوله، وطالبا المسلمين بقتل الأمريكيين في شتى أنحاء المعمورة، واعتبرا ذلك فريضة إسلامية. وطبقا للتقرير، لم تفرق الفتوى بين العسكريين والمدنيين، فكلاهما إرهابي، وكلاهما هدف مشروع لأبناء الأمة الإسلامية. ولم تكن تلك الفتوى الأولى لاسامة بن لادن، فقد صدرت عنه فتاوى عديدة مماثلة، أكد التقرير إباحتها لدماء الأمريكيين(30).

ومن ذلك فتواه الصادرة في أغسطس عام 1996، والتي طالب فيها المسلمين بطرد الجنود الأمريكيين من الأراضي المقدسة في المملكة العربية السعودية، إلى جانب إشادته بالهجمات التي استهدفت المصالح العسكرية الأمريكية فيالسعودية،وبـــيروت(عــام1983)، وعــدن(عـام1992)، والصومــال(عام 1993). فقد اعتبر بن لادن الانسحاب الأمريكي من الصومال هزيمة ساحقة للأمريكيين، حالت دون نهوض أتباعه بفريضة الجهاد هناك، على النحو الذي حدث في أفغانستان. وكذلك تطرق التقرير الأمريكي لأهمية التجربة الأفغانية في صياغة فكر بن لادن وأتباعه(31)، فقد وصل بن لادن إلى أفغانستان وعمره لم يتجاوز الثالثة والعشرين عاماً، وتمكن بفضل قدراته وثروة أسرته الطائلة من تقديم كثير من الدعم للمقاومة الأفغانية ضد القوات السوفيتية. وبالفعل نجح هو وأتباعه في دعم القدرة القتالية للمقاتلين الأفغان، إلى أن أعلنت موسكو في أبريل 1988 اعتزامها سحب قواتها العسكرية من أفغانستان خلال 9شهور.

حينئذ، سعى بن لادن وعبد الله عزام(فلسطيني) لتثمين الخبرات القتالية المتوفرة لدى أتباعهما. وبالفعل أسسا تنظيم القاعدة، للاضطلاع بالمهام القتالية في شتى أنحاء المعمورة. وبرغم إبداء عزام رغبته في توجيه قدرات القاعدة للمساعدة في إقامة حكومة إسلامية في أفغانستان، ثم تحرير فلسطين في مرحلة لاحقة، نجح بن لادن في تغليب رؤيته الخاصة بتجهيز أتباعه للجهاد في شتى أنحاء المعمورة. وباغتيال عزام في 24 نوفمبر 1989، أضحى بن لادن زعيماً منفرداً لتنظيم القاعدة. ومنذ ذلك الحين عمد لدعم الجهاد الإسلامي ـ طبقاً لرؤيته ـ في مختلف أرجاء الأرض. ومن ذلك نشاطاته الواسعة في السودان، إبان مشاركة الترابي.

وطبقاً للتقرير نفسه، استند تنظيم القاعدة بصورة ملموسة إلى الأتباع من مختلف الدول العربية، وهو ما بدا واضحاً في تشكيل المجموعات التي اضطلعت بتخطيط وتنفيذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر ضد أهداف أمريكية، حيث حمل أعضاء تلك المجموعات جنسيات عربية مختلفة، فضلاً عن اضطلاع خالد شيخ محمد بالتخطيط لتلك الهجمات، فبرغم انتمائه لأصول عرقية غير عربية، إلا أنه نشأ وتربى في الكويت، وانتمى لجماعة الإخوان المسلمين في السادسة عشر من عمره. وفى الولايات المتحدة الأمريكية، حصل على مؤهله الجامعي في الهندسة الميكانيكية في ديسمبر 1986. ومنذ ذلك الحين ، بدأت رحلته التي قادته إلى التخطيط لهجمات سبتمبر 2001. ففي أحد لقاءاته مع بن لادن، عرض خالد عليه فكرة تدريب مجموعة من الطيارين للقيام بتفجير مبانٍ داخل الولايات المتحدة الأمريكية، وبالفعل لاقى الاقتراح استحسان بن لادن، وحصل خالد على الضوء الأخضر لبدء التجهيز لعملية 11/9 في أواخر عام 1998، أو أوائل 1999.
ولم يلبث خالد أن انتقل إلى قندهار للعمل مع تنظيم القاعدة عن كثب، تلبية لدعوة بن لادن، حيث تمت مناقشة الخطة عدة مرات مع أسامة بن لادن، وتم كذلك تحديد الأهداف الأمريكية المطلوب تدميرها بواسطة الطائرات المخطوفة، علاوة على تحديد العناصر المنوط بها تنفيذ العملية، والتي جرى حصرها في التقرير الأمريكي، على النحو التالي: 1ـ محمد عطا(مصري) 2ـ وليد الشهري(سعودي) 3ـ وائل الشهري(سعودي) 4ـ سطام السقامى(سعودي) 5ـ عبد العزيز العمرى(سعودي) 6ـ هاني حنجور(سعودي) 7ـ نواف الحزمى(سعودي) 8ـ خالد المحضار(سعودي) 9ـ ماجد موقد(سعودي) 10ـ سالم الحزمى(سعودي) 11ـ مروان الشيحى (إماراتي) 12ـ فايز أحمد(الامارات) 13ـ أحمد الغامدى(سعودي) 14ـ حمزة الغامدى(سعودي) 15ـ مهند الشهري(سعودي) 16ـ زياد جراحي (لبناني) 17ـ سعيد الغامدى(سعودي) 18ـ احمد الحزناوى(سعودي) 19ـ أحمد النعمى( سعودي).

وبالإضافة لنهوضه بعبء توفير العناصر البشرية اللازمة لتنفيذ هجمات سبتمبر، تحمل تنظيم القاعدة ـ بحسب التقرير ـ تكاليف العملية التي تراوحت بين 400000 و 500000 دولار أمريكي. وبحلول الحادي عشر من سبتمبر 2001، نُفذت الخطة الموضوعة في وضح النهار، حيث اقتحمت الطائرات المخطوفة، بركابها، برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، ومبنى وزارة الدفاع "البنتاجون" بواشنطن، وهو ما أسفر عن إزهاق آلاف الأرواح في دقائق معدودة، وتدمير البرجين تدميراً كاملاً، فضلا عن تدمير جزء من مبنى وزارة الدفاع.

الولايات المتحدة لم تلبث أن أعلنت أن هجمات الحادي عشر من سبتمبر إعلان صريح للحرب عليها! وهو ما يُعضد زعمنا بتفرد هذه الهجمات ورمزيتها، فقد قام بها "السبتمبريون"، وهم مجموعة من الشباب الثائر، جاءوا من دول عربية مختلفة، ينتمون لتنظيم اسلامي هو "القاعدة"، ويحملون في صدورهم عداءً شديداً للغرب! ساءهم أن يصون الغربيون، بزعامة الولايات المتحدة "المُهيمنة"، الأنظمة العربية والتى هي برأيهم لااسلامية ظالمة، لا دين للقائمين عليها سوى المصلحة، ولا سند لهم إلا الغرب! رسالة "قوية" كهذه، لم يكن لرمزيتها الواضحة أن تخفى على الغربيين، خاصة وأنهم يعرفون عن أوطاننا أكثر مما يُسمح لنا أن نعرف!

"الرسالة الرمزية"، عادة ما تقف وحدها أمام المُتلقي لها! وهو ما يُفسر التباين الحاد في ردود الأفعال على رسالة من هذه النوعية، كون الأمر يتوقف، إلى حد كبير، على وعي المُتلقي، ومدى عبقريته في استنطاق "الرمز" المُرسل!

والتالي مُحاكاة "مُتخيلة"، في سياق النسيج الحضاري العام، لما يمكن أن يتمخض عنه الاستنطاق الأمريكي المصلحي لرسالة السبتمبريين "اليائسة"(32):

· الرسالة قادمة من أفغانستان "يثرب الجديدة"، والراسلون هم الأفغان العرب "المُهاجرون الجدد" الذين فروا بدينهم من العالم العربي موطنهم الأصلي!

· الرسالة تُمثل قوى الاسلام السياسي، على اختلاف أطيافها!! فعادة ما يتركز الخلاف الجوهري بين هذه القوى المُتلاسنة، حول مسألة مشروعية أو عدم مشروعية مُناهضة الأوضاع القائمة والعمل على تغييرها الجذري بالقوة!

· الرسالة تُنبه بقوة إلى انتهاء صلاحية الأنظمة العربية "القمعية" في دولة "ما بعد الاستعمار"! من ناحية قدرتها على احتواء قوى الاسلام السياسي ـ "ترهيباً" أو "ترغيباً" ـ، ومن ناحية قدرتها على صيانة المصالح الغربية!

· الرسالة تُحذر من خطورة التمادي الاسرائيلي في استهداف وتهميش قوى الاسلام السياسي في فلسطين، على نحو ما هو حاصل في البلاد العربية!

· الرسالة تؤكد قدرة فائقة وغير مسبوقة على اختراق العمق الغربي! وتنبه إلى خطورة تواجد قيادات وكوادر من قوى الاسلام السياسي في الغرب!

· الرسالة تستعرض على نحو عبقري "قوة الضعف"! فأصحابها يستهينون، بل ويتحدون في جرأة "مُذهلة"، عدم التكافؤ "الهائل" في القوة، بينهم وبين حكومات العالم الغربي! كما أن الرسالة تستعرض اصرار وعناد أصحابها، وقدرتهم على المُناورة واستخدام العنف الشديد، دون دول أو أنظمة، يُمكن الثأر منها! وباستخدام أحدث ما أنتجته الحضارة الغربية من "تكنولوجيا"!

· الرسالة تُلوح بكبرياء المسلمين الجريح! وفي هذا استدعاء لفكرة "الخلافة الاسلامية"، وتأكيد لتصور الغرب عن تشبع نسيج الاسلام بروح حربية!

· الرسالة تضع الغرب أمام خيارين: إما مواجهة هجمات "بالغة العنف"، ضد المصالح الغربية في كل مكان، وإما الاعتراف بقوى الاسلام السياسي والسعي لدمجها في الأنظمة السياسية في العالمين العربي والاسلامي! ففي توقيت متقارب مع دخول تنظيم "القاعدة" في ما يسمى "الجبهة العالمية لقتال الصليبيين واليهود والأمريكان" عام 1998! وهو ما يعتبره الخبراء في مجال الارهاب نقطة الانطلاق على طريق هجمات 11/9! فاجئت الجماعة الاسلامية الجميع بمبادرتها عام 1997 والتى أقرها عمر عبد الرحمن من محبسه في الولايات المتحدة الأمريكية، بوقف كل العمليات المسلحة داخل مصر وخارجها، ووقف البيانات الاعلامية المحرضة عليها، علاوة على ابداء الجماعة رغبتها المُلحة في الاندماج في العمل السياسي السلمي، على نحو ما تُطالب جماعة الاخوان منذ سنوات! ففي مارس 1994، وعقب دعوة مبارك للحوار الوطني، وقبل أن تصدر قرارات مؤتمر الحوار أصدر الاخوان أول وثيقة منذ سنوات طويلة تعبر عن رأيهم في الشورى وتعدد الأحزاب، أكدوا فيها أن الأمة مصدر السلطات وأن الشورى لا تختلف في أهدافها عن الديمقراطية، وأن اختلاف الآراء هو تكامل وتنوع للنظر لابد منه لاستجلاء الحق والوصول إلى الأًصلح والأرجى في المنفعة، خصوصاً إذا اقترن هذا بالتسامح وسعة الأفق والبعد عن التعصب وضيق النظرة، كما أكدوا في هذه الوثيقة أن الشرع ترك الباب مفتوحاً للمسلمين فيما يدخل في إطار تنظيم المباح. وبعد عرض هذه الأفكار، تقول الوثيقة: "لذا فإننا نؤمن بتعدد الأحزاب في المجتمع الاسلامي، وأنه لا حاجة لأن تضع السلطة قيوداً من جانبها على تكوين ونشاط الجماعات أو الأحزاب السياسية، وإنما يُترك لكل فئة أن تعلن ما تدعو إليه وتوضح منهجها ما دامت الشريعة الاسلامية هي الدستور الأسمى..كما اننا نرى أن قبول تعدد الأحزاب في المجتمع الاسلامي يتضمن قبول تداول السلطة بين الجماعات والأحزاب السياسية وذلك عن طريق انتخابات دورية".

[2] من ناحية الاذعان الغربي لرسالة "السبتمبريين":

[ناس تخاف ما تختشيش]، لشد ما ينطبق هذا المثل المصري "العبقري" على الغرب! فعلى خلفية رسالة "السبتمبريين" الممهورة بدمائهم، بات واضحاً أمام صُناع السياسة في العالم الغربي ـ وبخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية ـ أن ثمة احباطات مكبوتة شديد التأزم في وجدان الشارع العربي، لم يعد مُمكناً السكوت عنها! وأن الغربيين أنفسهم لم يعودوا بمنآى عن التداعيات بالغة العنف لهذه الاحباطات، من جراء تورطهم، المُعلن أو حتى المُستتر، مع الأنظمة المناهضة لقوى الاسلام السياسي في دولة "ما بعد الاستعمار"! بات واضحاً أمامهم أن ابقائهم على هذه الأنطمة القمعية الفاقدة للشعبية، يحتاج لاعادة تقييم، على نحو عاجل وجذري، لتلافي المزيد من الهجمات على المصالح الغربية في كل مكان!

أمارات عديدة تعضد زعمي بالاذعان الغربي لرسالة السبتمبريين، أبرزها:

· ما ورد في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة عن البيت الأبيض في سبتمبر 2002، والتى تُعد بحق إحدى أهم الوثائق الأمريكية الصادرة بعد هجمات 11سبتمبر، فقد أعاد الأمريكيون خلالها صياغة رؤيتهم للعالم ولمنطقتنا، باعتبار أن عالم "ما بعد11سبتمبر" يختلف عن عالم "ما قبل11سبتمبر". أهمية هذه الوثيقة، بالنسبة لنا كعرب، تنبع من إعادة صياغتها لرؤية الولايات المتحدة لمقدراتنا. فقد أطاحت بالمبادئ التي دأبت الولايات المتحدة على الأخذ بها في تعاطيها مع قضايانا، بكافة مستوياتها، واستبدلت بها مبادئ أخرى، قد تُمكن حال الالتزام بها وعدم الالتفاف عليها لمناهضة الاستبداد في ربوعنا الطيبة. فلأول مرة تُعلي الولايات المتحدة قيم الديمقراطية، وحقوق الإنسان، في خطابها المُوجه لمجتمعاتنا، على خلاف دعمها "التاريخي" لحكوماتنا القمعية، ومساندتها لها في قبضتها الحديدية، وفي تكريسها الصارم لغياب الحرية، وللاستقلال الزائف! والتالي إيجاز لأهم المبادئ الحاكمة للاستراتيجية الأمريكية، إزاء أوطاننا(33):

1. ضرورة إعلاء الكرامة الإنسانية للإنسان العربي، فالتمتع بالحرية والعدالة حق مشروع له ولغيره. ولم يعد مقبولاً إعفاء أمة بعينها من الالتزام باحترام كرامة أبنائها. فكل أب وأم يطمحان لتزويد ذريتهما بحظ وافر من التعليم والمال والأمان. وتلك حقوق مشروعة، فليس هناك على وجه الأرض من يطمح لأن يقمع أو يسترق أو يُروع بزوار الفجر. والولايات المتحدة ملزمة بتثمين تلك الحقوق في علاقاتها مع دول العالم المختلفة.

2. ضرورة الجدية العربية في مكافحة الإرهاب، ففي حربها الضروس ضد الإرهاب في شتى أنحاء المعمورة سترسى الولايات المتحدة مبدأ السيادة المشروطة. أو بعبارة أخرى، لن تفرق الولايات المتحدة بين الإرهابيين والدول التي تمدهم بالمأوى أو المساعدة، فكلاهما هدف مشروع في الحرب ضد الإرهاب العالمي. ولن يحول حائل بين الولايات المتحدة الأمريكية وتعقب أولئك الإرهابيين أينما حلوا.

3. ضرورة استمرار تدفق النفط العربي، فالولايات المتحدة وحلفاؤها يتوقعون من الدول النفطية العمل الدءوب على توفير الاحتياجات العالمية من النفط، خاصة لها ولحلفائها. باعتبار النفط أحد أهم مصادر الطاقة المتاحة، إلى جانب ارتباطه المباشر بالحياة الاقتصادية والصناعية للولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. هذا إلى جانب حرص الولايات المتحدة على العمل مع الحلفاء والشركاء التجاريين لتنمية وتطوير مصادر أخرى أنظف للطاقة.

4. ضرورة الانخراط الأمريكي في جهود فض الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي، مع مراعاة مبدأين مهمين، كما هو الحال مع أي صراع إقليمي آخر. الأول، السعي الأمريكي لبناء علاقات ومؤسسات دولية قادرة على المساعدة في إدارة الأزمات المحلية فور بزوغها. الثاني، التحرك الأمريكي بقوة لمساعدة من يرغبون في مساعدة أنفسهم. مع التزام الولايات المتحدة بمساندة إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية، تعيش في سلام وأمن جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل. فالفلسطينيون كأي شعب آخر، يحق لهم التمتع بحكومة ترعى مصالحهم وتستمع لأصواتهم. وفى حالة انصياعهم للديمقراطية وحكم القانون وتصديهم للفساد والإرهاب، يمكنهم الاعتماد على المساندة الأمريكية لإقامة دولة فلسطين. وفيما يخص الإسرائيليين، عليهم تطوير علاقتهم بالفلسطينيين تبعاً للتقدم المحرز في الموقف الأمني، وإيقاف الأنشطة الاستيطانية في الأراضي المحتلة، ومساندة قيام دولة فلسطينية مستقلة.

· تحرك إدارة بوش(الابن) نحو احداث تغيير جذري في الأنظمة العربية ـ بدءاً بالعراق، على أمل جعله نموذجاً يُغري بقية دول المنطقة بمحاكاته ـ، وبرغم ما اشتُهر عن هذا التحرك العنيف وعن صاحبه من اخفاق، يُظل برأيي دليلاً على تفهم الغرب لرسالة السبتمبريين، وخطورة استمرار عدم احتواء وقمع قوى الاسلام السياسي في الأنطمة العربية! يُفهم ذلك من نقد أولبرايت لاخفاق بوش في ترجمة استرتيجية بلاده لواقع، ومن عدم رفضها للاستراتيجية نفسها(34):

"اعتقد جورج دبليو بوش أن لديه نهجاً أفضل(من سلفه كلينتون). فازدرى القادة الفلسطينيين، ولم يكتف باحتواء صدام حسين فحسب، بل باشر ـ مُقتنعاً بأن القوة الأمريكية تستطيع إقامة الديمقراطية على الفور ـ بتنفيذ خطة أحادية لتحويل الشرق الأوسط بأكمله. وبذلك العمل أحال الهيكل الأمني غير المثالي إلى حطام.

"في الشرق الأوسط، يشكل تأثير كرة البلياردو في الشئون الدولية خطراً كبيراً. فالكرات لا تصطدم الواحدة بالأخرى فحسب، بل عند ضربها بقوة كافية، تنفجر وتُشعل الكرات الأخرى إذا التقت بشكل خاطيء. ومن ثم تحلل غزو العراق إلى حرب أهلية مُتعددة الأطراف، فاقمت التوتر بين المسلمين السنة والشيعة، وزادت نفوذ ايران، وأوصلت تركيا إلى شفير نزاع مع الأكراد العراقيين، ومنحت "القاعدة" حياة جديدة. انقلب الرأي العام في أماكن كثيرة من العالم ضد الولايات المتحدة، في حين احتل القادة الذين يتحدون الولايات المتحدة(واسرائيل) بشكل مباشر قوائم الأكثر شعبية في أوساط المسلمين. وقد حاولت إدارة بوش متأخرة أن تبطل الضرر بالهبوط بالمظلة على النزاع العربي الاسرائيلي لتجد إطار العمل الذى دعم ذات يوم عملية السلام بحاجة إلى اعادة بناء من الصفر.

"لقد قامت البراعة الأمريكية في التعامل مع مخاطر القرن العشرين على دعامتين: القيادة الأمريكية والمشاركة التامة لشركائنا في الحلف. ولن نستعيد موقعنا في الشرق الأوسط والخليج إلا إذا وضعنا أولاً جدول أعمال يدعمه حلفاؤنا ويمكن التوفيق بينه وبين احتياجات البلدان الرئيسية الأخرى. وحتى عندئذ سنكون في نقطة البداية، إذ علينا استعادة ثقة الموجودين في المنطقة. ولكسب تلك الثقة، علينا أن نحسن فهم ما يريده الشعب في الشرق الأوسط، ولماذا يقومون به. لن نستطيع إقناع أحد إذا لم ننجح في فهم رأيهم بأنفسهم وبنا"!!

· تعامي الساسة الغربيين ـ أمثال أولبرايت وغيرها ـ عن دور بلادهم "الانتهازي"، في الابقاء على أنظمة دولة "ما بعد الاستعمار"، رغم ما دأبت عليه هذه الأنظمة وما اشتُهر عنها من تجفيف منهجي لمنابع الحرية في أوطانها، وجعلها مواتية لتفريخ العنف، وقمع وحشي لقوى الاسلام السياسي! كل هذا يُعزز بقوة زعمنا بوقوف الهلع الغربي من عنف الاسلاميين، والرغبة في احتوائهم، وراء التخلي الغربي، المُحير للبعض، عن الأنظمة العربية "الموروثة"! ولو أن جرائم السيد بوش ـ كما تسميه أولبرايت(35) ـ، جرت في جنح الظلام، ولم يتنبه أحد إليها، ما وجدنا أولبرايت أوغيرها، يوبخون بوش على هذا النحو العلني!

· مُضي بوش قُدماً في ترجمة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة إلى واقع، رغم الخسائر الأمريكية في العراق، يشي باصرار أمريكي واضح على عدم تجاهل رسالة "السبتمبريين"! يبدو ذلك واضحاً في وثائق أمريكية عديدة، في مقدمتها مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، كماطرحته الولايات المتحدة على مجموعة الدول الصناعية الثماني، لبلورة موقف موحد تجاهه خلال قمة المجموعة! صحيفة الحياة اللندنية نشرت في فبراير 2004 نص المشروع، والتالي فقرات من المقدمة، تشي بهلع غربي واضح من احباطات مكبوته(36):

"يمثل [الشرق الأوسط الكبير] تحدياً وفرصة فريدة للمجتمع الدولي، وساهمت النواقص الثلاثة التي حددها الكتاب العرب لتقريري الأمم المتحدة حول التنمية البشرية العربية للعامين 2002، 2003: الحرية، والمعرفة، وتمكينالنساء، في خلق الظروف التي تهدد المصالح الوطنية لكل أعضاء مجموعة الثمانية الكبار.

"وطالماتزايد عدد الأفراد المحرومين من حقوقهم السياسية والاقتصادية في المنطقة،سنشهد زيادة في التطرف والإرهاب والجريمة الدولية والهجرة غير المشروعة. إنالإحصائيات التي تصف الوضع الحالي في [الشرق الأوسط الكبير] مروعة ـ ذكر النص المنشور للمشروع بعضها ـ!

"وتعكس هذه الإحصائيات أن المنطقة تقف عند مفترق طرق. ويمكن للشرق الأوسط الكبير أنيستمر على المسار ذاته، ليضيف كل عام المزيد من الشباب المفتقرين إلى مستويات لائقة من العمل والتعليم والمحرومين من حقوقهم السياسية. وسيمثلذلك تهديداً مباشراً لاستقرار المنطقة، وللمصالح المشتركة لأعضاء مجموعةالثماني"!

· أمارة أخرى شديدة الوضوح تعضد زعمنا بالهلع الغربي من الارهاب الخارج من منطقتنا والادراك الأمريكي لوقوف الأوضاع العربية وراء تفريخه! إنها وثيقة "تخطيط المستقبل الكوني" التى أصدرها مجلس المخابرات القومي الأمريكي عام 2004(37)، والتى بُنيت في جزء منها على مشاورات متعددة مع خبراء المنظمات غير الحكومية حول العالم. ففي فقرة شديدة الارتباط بحضارتنا وعالمنا العربي، عنوانها "انتشار الشعور بعدم الأمن"، ذهبت الوثيقة إلى أن الارهاب والصراعات الداخلية في الدول يمكن أن تؤدي إلى اضطراب في مسيرة العولمة، وذلك من خلال زيادة تكاليف توفير الأمان للتجارة الدولية التى قد تنجم عن زيادة القوات الخاصة بحراسة الحدود، والتأثير السالب على أسواق الائتمان. ومن واقع استطلاعها لآراء الخبراء في مجال الارهاب، ترى الوثيقة أن غالبية الجماعات الارهابية الدولية سيستمر انتماؤها إلى ما أسمته الاسلام الراديكالي المتشدد. وأن دوائر تأثير هذه الجماعات الاسلامية المتطرفة ستتسع، سواء في داخل الشرق الأوسط أو خارجه، بالاضافة إلى أوروبا الغربية وآسيا الوسطى وجنوب شرق آسيا! إحياء المشاعر الدينية المتطرفة، فيما ترى الوثيقة، سيصاحب اتجاهات التضامن مع المسلمين في مناطق الصراع، كفلسطين والعراق وكشمير..الخ!

الوثيقة المخابراتية ترى أيضاً انه لو حدث انقلاب اسلامي مُباغت في إحدى بلاد الشرق الأوسط، فإن ذلك سيؤدي إلى انتشار الارهاب في كل المنطقة، مما قد يعطي اليقين لهذه الجماعات بأن حلم استعادة "الخلافة الاسلامية" قابل للتحقيق! وسيساعد على انتشار هذا المد الاسلامي المتطرف الشبكات غير الرسمية من الجمعيات الخيرية الاسلامية والمدارس الاسلامية، والتى يمكن أن تصبح مصدراً لتفريخ عناصر راديكالية. الوثيقة تشير لمؤشرات على أن بعض الحركات الاسلامية المتطرفة والارهابية تطمح إلى الانقلاب على عدد من الحكومات العلمانية، وتأسيس حكومات اسلامية بدلاً منها. ولا شك أن الحركات المُضادة للعولمة، والجماهير المعادية لسياسات أمريكا، يمكن أن تتعاطف، فيما ترى هذه الوثيقة الأمريكية الخطيرة، مع هذه الجماعات الاسلامية المتشددة.

التفتت الوثيقة أيضاً إلى ظاهرة مهمة هي من آثار الثورة الاتصالية وخصوصاً شبكة الانترنت وانتشار استخدام آلية البريد الالكتروني. فقد أدى ذلك في مجال التنظيمات الارهابية إلى عدم حاجتها لبناء جماعات ارهابية مركزية، مما أدى لانتشار الخلايا الارهابية التى تضم عدداً محدوداً من الأشخاص في عديد من البلاد. وبحسب الوثيقة، استطاعت الجماعات الارهابية ببراعة استخدام الفضاء المعلوماتي Cyber Space في الاتصال ونشر ثقافة الارهاب وتبادل المعلومات. وقد تؤدي بعض الصراعات الدولية مثل الاحتلال الأجنبي للعراق بكل آثاره السلبية على الشعب العراق إلى أن تصبح بعض البلاد مثل العراق، أرضاً خصبة لتنمية كوادر الارهابيين الذين يستطيعون الانتقال بارهابهم من بعد.

وطبقاً للوثيقة نفسها، هناك شواهد على أن جماعات من المجاهدين ينتمون إلى جنسيات مختلفة، مستعدون للذهاب إلى أي بلد في العالم "للجهاد" ضد أعداء الاسلام. وهناك أيضاً مخاوف شديدة في البلاد الغربية من احتمال أن يلجأ الارهابيون الذين ينتمون إلى جماعات اسلامية متطرفة لاستخدام السلاح البيولوجي ضد أهداف مُختارة بعناية. وتشير الوثيقة إلى مخاطر تعاون الجماعات الارهابية مع العصابات الاجرامية في دول شتى، وخصوصاً مع تجار المخدرات الدوليون، وعناصر الجريمة المنظمة. وانه إذا أضفنا احتمالات اختراق العصابات الارهابية لشبكات المعلومات في الغرب وتخريبها، فمعنى ذلك أن ما يطلق عليه حرب الشبكات ستضاعف من المخاطر هي والحروب الفضائية Cyber war.

وتنتهي الوثيقة بسيناريو افتراضي، أطلقت عليه "دورة الخوف"، حاول استكشاف ما الذى يمكن أن يحدث لو تزايد انتشار أسلحة الدمار الشامل، وما هي احتياطات الأمن التى يمكن اتخاذها. وإذا كان يمكن للدول أن تكافح تجارة السلاح غير المشروعة، فإن مكافحة انتشار أسلحة الدمار الشامل تبدو بالغة الصعوبة. ومرد ذلك إلى أنه إذا انتشرت أسلحة الدمار الشامل، فإن دولاً متعددة قد ترى ضرورة أن تتسلح بها لتدافع عن أنفسها، وهكذا تزيد دائرة عدم الأمان في العالم.

· وأخيراً هناك الميل الأمريكي "المشروط" للاعتراف بصعود حركة المقاومة الاسلامية(حماس) في فلسطين ـ وهي أبرز قوى الاسلام السياسي وأكثرها شعبية في فلسطين ـ، أولاً، بفوزها في انتخابات المجلس التشريعي في يناير 2006 والتى لم تُشكك الولايات المتحدة الأمريكية في شرعيتها(38)، وثانياً باستيلائها على السلطة في قطاع غزة، بعد عملية الحسم العسكري الناجحة!

في الكتاب الأبيض، الذى صدر عن المكتب الاعلامي لحماس، في نوفمبر 2007، بعنوان: "عملية الحسم في قطاع غزة..اضطرار لا اختيار"، عرضت الحركة تفصيلاً لما اعتبرته استفزازات مقصودة، فرضت عليها خيار الحسم في قطاع غزة! تحدث الكتاب مثلاً عن خطة "دايتون" الأمريكية، والتى خُطط على ما يبدو لتسريبها عن طريق صحيفة أردنية، ومواقع ألكترونية! خطة "دايتون" كشفت عن نوايا أمريكية لدعم واسع للرئاسة الفلسطينية ولفتح على حساب حركة حماس! الكتاب تحدث أيضاً عن "فوضى أمنية منظمة"، وانسحاب لقوات الشرطة الموالية لفتح، واحتجاجات مُسيسة..الخ! حركة حماس، وبحسب ما جاء في كتابها الأبيض عن ملابسات عملية الحسم، دفعتها على ما يبدو يد عارفة بها وبفتح، إلى حسم الموقف في غزة لصالحها من خلال سلسلة من الاستفزازات المنهجية(39)!

[3] من ناحية رداءة التعاطي العربي مع الهجمات:

السبتمبريون "ضحايا" و"جناة"! "ضحايا" لأنهم أبناء دولة "ما بعد الاستعمار"!! فأيمن الظواهري(الرجل الثاني في تنظيم القاعدة) مصري من مواليد عام1951، وأسامة بن لادن(الرجل الأول في تنظيم القاعدة) سعودي من مواليد عام 1957! الظواهري وابن لادن لم تتفتح أعينهم إلا على أنظمة استبدادية، يبذل القائمون عليها قصارى جهدهم ـ بدعم "خارجي"، مُستتر أحياناً، ومُعلن أحياناً أخرى ـ، في تدجين عقول وقلوب مواطنيهم، عبر تجفيف منابع الحرية أمامهم!

ضحايا لأن الطُغاة في أوطاننا يأتمرون بأوامر السيد الغربي! ألم يكن ابن لادن شاباً عندما جاءت الأوامر لحُكامنا أن ألقوا بشباب بلادكم في آتون حرب طاحنة، ليس دفاعاً عن حرية وإنما دفاعاً عما كان يجهله بن لادن وصحبه(40)! أما كونهم "جناة"، فمرجعه اقدامهم "اللاانساني" على التفتيش في ضمائر البشر ومحاكمتهم على أساس عقائدهم، بل واتخاذهم من هذا ذريعة لازهاق ما تسنى لهم من أرواح بريئة، ناسين أن أكثر الناس ظلماً وخيانة لشعوبهم من المسلمين!

التعاطي العربي مع "السبتمبريين" ورسالتهم الخطيرة لم يأخذ في الاعتبار ـ كالعادة ـ أياً من هذه الأمور! ولشد ما تصدق على مفكرينا مقولة أولبرايت "إن طول النظر أمر نادر عند العرب"! صدقت إمرأة، وخاب فكرنا الاستراتيجي!

أذكر أني وقعت يوماً على كتاب صغير(41)، تحدث صاحبه في مقدمته عن عزمه التأصيل لفكر استراتيجي واعد، يستمد أصوله من حضارتنا الاسلامية العتيقة! وهو ما دفعني لقراءة الكتاب بنهم، وليتني لم افعل! لقد اكتشفت أن الانجاز الوحيد لمؤلف الكتاب، هو اقتراحه استبدال مصطلح "المذخورية" بالاستراتيجية!

من ناحية أخرى، توجد مراكز البحوث العربية الاستراتيجية، وهي على قدر طيب من الأهمية، ليس لما تُخرجه من رؤى استراتيجية نزيهة ومُنظمة، فهي فقيرة من هذه الناحية، ولكن للاطلاع الواسع من جانب العاملين فيها، والمتعاونين معها، على انتاج أبرز مراكز البحوث الاستراتيجية في العالم(42)، فضلاً عن قيام هذه المراكز بترجمة العديد من هذه الاصدارات العالمية، خاصة الغربية.

لم يكن مُمكناً ـ وفكرنا الاستراتيجي على هذا القدر من التواضع ـ أن يفلت التعاطي العربي مع هجمات سبتمبر وتداعياتها من الرداءة! لنتأمل مثلاً عجز الأنظمة العربية الواضح عن التقدير السليم لخطورة رسالة "السبتمبريين"، وجدية التعاطي الغربي، خاصة الأمريكي، معها! وربما يكون الزعيم الراحل ياسر عرفات، في تبرعه بدمه لضحايا الهجمات(43)، نموذجاً لسذاجة وانتهازية قراءة حكوماتنا لطبيعة المُتغيرات، وما يُتوقع أن يكون عليه عالم "ما بعد 11سبتمبر"!

قراءة استراتيجية نزيهة ومُنظمة لما أحدثته هجمات "السبتمبريين" من تداعيات، خارج الولايات المتحدة وداخلها(44)، كانت كفيلة بالتنبيه إلى سذاجة وانتهازية تعاطي حكوماتنا معها! ما لاحظته هو غياب مثل هذه القراءات! باحثونا لم ينبهوا إلى حرص حكوماتنا "المكشوف ـ على الأقل للغربيين ـ"، على استغلال هجمات 11/9، في تشويه صورة الاسلاميين في الداخل والخارج، وفي تقديم نفسها كبديل "وحيد" للفوضى والعنف، في منطقة الشرق الأوسط والعالم!

عوامل عديدة على ما يبدو ساهمت بقوة في تعميق قناعة أنظمتنا السلطوية "المُغادرة"، بامكانية الالتفاف على الاصرار الغربي الشديد على مداواة البيئة العربية المُحتقنة، كونها ملائمة برأي الغربيين ورأينا لتفريخ العنف والارهاب:

· تخبط إدارة الرئيس بوش(الابن) الشديد في ترجمة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، في شقها المعني بالعالم العربي، إلى واقع، لابد وأنه ساهم بقوة في طمئنة الأنظمة العربية ـ سواء الصديقة لأمريكا أوالمناوئة لها، وكلاهما هنا سواء ـ إلى صعوبة، بل استحالة، تكرار السيناريو العراقي معها، نظراً لكارثية المأزق الأمريكي في العراق، وما ألحقه بسمعة الولايات المتحدة من ضرر شديد! لم يدر بخلد حكوماتنا أن ثمة بدائل أخرى "ناعمة"، يمكن ان يلجأ إليها الغربيون، لادراك ما عجزت قوتهم "الخشنة" الجبارة، عن الوصول إليه!

خذ مثلاً ما أحدثته إدارة الرئيس بوش من جدل واسع بشأن استخدام القوة في أعقاب 11/9. فوفقاً لنص الاستراتيجية الأمريكية للأمن القومي: "بالنظر إلى أهداف الدول المارقة والارهابيين، فإن الولايات المتحدة لا تستطيع الاعتماد فقط على وضعية رد الفعل كما كنا نفعل في الماضي. إن عدم القدرة على ردع مهاجم محتمل، وطبيعة التهديدات الفورية اليوم، وحجم الضرر المحتمل الذى يمكن أن يُلحقه بنا أعداؤنا، لا تتيح لنا ذلك الخيار. لذا لا يمكننا أن ندع أعدائنا يسددون الضربة الأولى"! الصخب الذى استُقبل به ما يُدعى بمذهب "الضربات الاستباقية" أدى بالفعل إلى تحويل انتباه العالم في وقت حرج عما فعلته "القاعدة" إلى ما تفعله الولايات المتحدة، رغم ـ والكلام لمادلين أولبرايت ـ عدم صحة الزعم باكتفاء الولايات المتحدة تاريخياً بوضعية رد الفعل، فقد استخدمت الولايات المتحدة القوة عدة مرات دون أن تُهاجَم، ففي الربع الأخير من القرن ال20 فعلت ذلك كثيراً!

أيضاً، وعلى خلفية ما يُعرف بمشروع "الشرق الأوسط الكبير"، اجتمعت الانتخابات في العراق وأفغانستان وجورجيا وأوكرانيا ولبنان لتوليد موجة مدية، بلغت ذروتها فبل الأوان! ولقد أيدت كونداليزا رايس عندما زارت مصر عام 2005 بشجاعة الاصلاحات الديمقراطية. غير أنها، عندما عادت بعد سنتين التزمت الصمت حيال القضية نفسها. كان الدرس المُستقى ـ في رأي الأمريكيين ـ في الفترة الفاصلة أن العديد من العرب، عندما تُتاح لهم حرية الاختيار، لا يختارون ما تحبه أمريكا! وبالتالي وجدت الادارة، التى سبق وزعمت أن الاعتماد على الحكام العرب غير المنتخبين من أجل الاستقرار كان خطأ تاريخياً، نفسها وللغرض نفسه، مُتلبسة باللجوء إلى حكام غير منتخبين، أسمتهم المعتدلين!

وعندما تحدث الرئيس بوش عن التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط فيما كان العراق يحترق، فسر الرأي العام العربي ـ بايعاذ من الأنظمة العربية ومفكريها ـ النوايا الأمريكية بأنها تهديد لحكامهم وأوطانهم المُستقلة(!!) أكثر مما اعتبروه خطة أمريكية لنشر الليبرالية السياسية! الأمريكيون فارقتهم براعتهم في التعبير عن دعمهم بطرق لا تُثير ارتياب الشعوب في أن التغيير بيدها لا بيد الغرب! دعاة غزو العراق أخبروا أنفسهم على ما يبدو أن العرب يحترمون القوة الخشنة، وأن إظهار "الصدمة والرهبة" سيقنع الجميع في المنطقة بأن الولايات المتحدة الأمريكية مُصممة على فرض إرادتها. وتوقعوا أن يُفسح هذا الطريق أمام البنتاجون لاسناد السلطة إلى المنفيين العراقيين المؤيدين لأمريكا. بوش لم يكن له ـ وكما تعاتبه المخضرمة أولبرايت ـ، أن يتجاوز في هذا كله الاشارات التى يشيع ارتباطها بالمثالية، تقصد استخدامه لها كغطاء: احترام القانون الدولي، احترام الأمم المتحدة، التعاون مع الحلفاء، الاهتمام بمباديء الحرب العادلة(!!).

التخبط في معالجة المأزق العراقي زاد الطين بلة! الرئيس بوش لم يستقر على التحول الديمقراطي كسبب رئيسي للغزو إلا بعد أن ظهر حُمق منطق إدارته "المُستهجن". فبما أنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل ولا ارتباط ذو مغزى بين صدام حسين والقاعدة، صار لابد من طرح نظرية جديدة لتبرير الحرب. لم يكشف بوش إلا في نوفمبر2003، أي بعد مرور ثمانية أشهر على الغزو، عن استراتيجيتة للحرية في الشرق الأوسط. وأتبع هذا الاعلان بسلسلة مزاعم لم تلق قبولاً في مجتمعاتنا، عن الديمقراطية باعتبارها ترياقاً للارهاب وتجفيفاً لمنابعه!

الرئيس بوش لم يتنبه على ما يبدو لاستفادة القاعدة من قدرتها على تصوير نفسها بأنها مدافعة عن الاسلام ضد الصليبيين الامبرياليين وصنائعهم من الأنظمة العربية غير المنتخبة. وكذا لم يتنبه للتأثير المُعاكس لحرب العراق على القدرات الأمريكية العسكرية. لأنه وعلى الرغم من أن الأعداء المحتملين ـ والكلام لأولبرايت ـ لا يشكون في قدرة الأمريكيين على الحاق الضرر بهم، فقد تعلموا استخدام الجبروت الأمريكي ضد الأمريكيين، بطرق عديدة، منها: أـ تصوير الدمار وبث الصور في العالم أجمع، لاسيما عندما يسقط مدنيون بين الضحايا! بـ توجيه الضربات إلى الغرب لاثارة رده الأخرق بإعمال الجبروت أكثر من الفكر فيسقط "شهداء" جدد وتبرز أدلة جديدة على أن الاسلام تحت الحصار. ويتطوع العديدون مُقابل كل مُسلم يُقتل، ويسعون إلى الثأر بسفك دماء جديدة.

رسالة الرئيس بوش إلى كل دول العالم، في أعقاب 11/9، كانت: "إما أن تكونوا معنا وإما ضدنا". رسالة كهذه كانت ستكون ملائمة لو استمر تحديد الرئيس للعدو على حاله. فقد كان توحيد معظم العالم ضد من فجر الابرياء أمراً سهلاً. لكن بوش فارق الحكمة، حين شوش بعد ذلك القضية بالسماح بتحويل التركيز عن القاعدة. فسرعان ما وجدت الولايات المتحدة نفسها تطالب الآخرين بأكثر من الوقوف معها ضد أسامة بن لادن. صارت تطالبهم بالتغاضي عن "ابو غريب"، وقبول "جوانتانانو"، والتصديق على غزو العراق، والرؤية الأمريكية للشرق الاوسط. في وقت كانت القاعدة تقدم للعالم خياره، بين المسلمين الذين يعانون وأمريكا المولعة بالحرب. ترك ذلك العديد من الاشخاص في حيرة من امرهم.

فهم لا يريدون الموافقة على تكتيكات القاعدة، لكنهم لا يريدون الاقتراب من أمريكا كثيراً! حول الجلاد بوش ـ لسوء حظه ـ الحلفاء إلى متفرجين!

· عدم تنبه حكوماتنا "المُغادرة" لحتمية أن تواجه ـ شاءت أم أبت ـ، حقائق البيئة العالمية الجديدة، والتى تشهد قتالاً ضارياً من جانب أبناء الغرب وحلفائهم، لاعادة انتاج نظام الهيمنة القديم، فحضارة الغرب تُمثل محوراً لعالم اليوم! بطل "فالدن 2"، عبر بدقة عما يُتوقع أن يكون عليه هذا النظام الجديد من الهيمنة الغربية، حين قال(45): "اننا نلتزم نظاماً للسيطرة بحيث أن المُسيطر عليهم يشعرون بأنهم أحرار، على الرغم من أنهم يخضعون لقانون أشد صرامة من النظم القديمة. إذ عن طريق تصميم دقيق وحذر للثقافة نتحكم في نوازع السلوك، وليس في السلوك النهائي، أي نتحكم في الحوافز والرغبات والأماني. وها هنا تصبح مسألة الحرية غير ذات موضوع"! ثم يتساءل بطل "فالدن 2": ماذا بقي لكي نفعله بعد ذلك؟ ما رأيك في تصميم الشخصيات؟ والتحكم في الأمزجة؟ هل يبدو ذلك الأمر خيالياً؟ ولكن بعض التقنيات متاحة، ويمكن اعداد كثير غيرها تجريبياً. إننا نستطيع أن نحلل السلوك الفعال ونصمم التجارب لاكتشاف كيف نغرس ما نريد في الشباب. الانسان ضعيف، يمكن اخضاعه للسيطرة، ويكون ضحية..!

· ارتضاء حكوماتنا، على نحو شديد "الاستهتار" و"الانتهازية"، فتح حدود بلادنا، لبعثات بحوث غربية، أو مشتركة، من كل حدب وصوب، تقوم بعمليات مسح شاملة، في الحضر والريف، تناولت بحوثاً اجتماعية ونفسية وطبيعية..الخ. لتعود بمعلوماتها ونتائج بحوثها إلى بنوك المعلومات المملوكة للحكومات الغربية ـ خاصة الأمريكية(46) ـ، أو الشركات متعدية القوميات التى تمول هذه المشروعات البحثية الاستطلاعية بسخاء واضح! وتظل هذه المعلومات حبيسة البنوك، تخرج بقدر وحسب المصلحة، ملك للمتحكمين في مصائر المُستضعفين في الأرض، ونحن في طليعتهم، وإن صور لنا جهلنا وتُجار الآلام خلاف هذا!

· تعويل حكامنا الشديد على امكانية نجاح جهودهم الرامية لتأجيج حملات التشهير المتبادلة بين العرب والغربيين ـ خاصة الأمريكيين ـ، في تشتيت انتباه الطرفين عن ضلوعهم وأنظمتهم في تهيئة البيئة الملائمة لتفريخ الارهاب والعنف في أوطانهم، عبر تجفيف منابع الحرية وحرمان شعوبهم من حق النقد والتطوير! أغرى حكوماتنا بهذا اشتباك مفكرين عرب بارزين مع هذه الحملات ـ رفضاً أو قيولاً، وكلاهما هنا سواء ـ، حتى أن أحدهم خصص كتاباً لمنافشة الأمر(47)!

· استهانة أنظمتنا "المُغادرة" بالشعوب، استناداً لكونها موجهة، يسهل انقيادها والتأثير عليها، من خلال الاحكام التقليدي للسيطرة على وسائل الاعلام الرسمية ورموز الخطاب الديني الرسمي ومؤسسات العنف..الخ! غفلت أنظمتنا على ما يبدو عن خطورة ما تشهده الساحة العربية في السنوات الأخيرة من توحش للاعلام البديل(48)، والخطاب الديني غير الرسمي(49)، والاحتجاجات السياسية(50)، فضلاً عن الرواج المُؤرق لمنظمات المجتمع المدني ومُعظمها مُمول من الخارج(51)! لم يدرك حكامنا أن الزمام يُسحب بدُربة وحذر من يدهم!

· أنظمتنا الاستبدادية أيضاً لم تتنبه أو أنها تنبهت واستهانت بخطورة قنوات الاتصال الغربية مع بعض القوى الداخلية الطامحة بقوة إلى التغيير، ومن بينها بعض قوى الاسلام السياسي، خاصة بعد هجمات 11سبتمبر، واعلان الولايات المتحدة استراتيجيتها الجديدة للأمن القومي! الغرب على ما يبدو أعاد قراءة المشهدين العربي والاسلامي، بانتهازيته "العارية" المعهودة، بحثاً عن أمان مواطنيه "المفقود"، ومصالحه المُعرضة إلى الخطر، في أرجاء العالم! القراءة الغربية كشفت عن مُغريات عديدة، لخيار التغيير في الحكومات "القائمة"(52):

1. انتهاء صلاحية الأنظمة القمعية "الموروثة" في العالم العربي "ما بعد الاستعمار"! وعجزها الكارثي عن مواكبة المستجدات على كافة الأصعدة والمستويات، وهو ما يتجلى في تردي الأوضاع المعيشية، واستشراء الفساد وعلانيته، وتزايد الاحتجاجات الشعبية، واصرار الأنظمة على قمع قوى الاسلام السياسي وعدم احتوائها في النظام السياسي، فضلاً عن نزوع بعض هذه القوى للتخريب، محلياً واقليمياً وعالمياً، على نحو بالغ العنف!

2. مشكلة الغرب، والحال كذلك، مع حركات أكثر مما هي مع أنظمة حكم، إلى أن يصل الاسلاميون إلى السلطة! قوى الاسلام السياسي، باعتبارها الوحيدة تقريباً المناهضة للغرب، بعد تهاوي الشيوعية، وبمساعدة غير مقصودة من آليات القهر في الدولة، استطاعت أن تحقق احتكارها للعمل إزاء غياب الآخرين، وذلك باعتبارها المعارضة الجادة الوحيدة، لأنظمة قمعية ضعيفة الشعبية، واستطاعت أن يكون لها تواجدها المؤثر وأن تحقق جاذبية "المحظور"، واكتسبت وضعاً له "سحره"، يعكس الحضور الدائم والبسيط لشعارها: "الاسلام هو الحل". وحيث أن هذه القوى محرومة من فرصة المشاركة الواسعة في الحكم، فإن لها ترف الاعلان عن الحل، دون أن تكون عملياً ملزمة باثبات حقيقيته، بالنسبة للكم الهائل من المشكلات العويصة المُحتاجة إلى حل. تفاعل هذه القوى، بأطيافها المختلفة، مع العملية السياسية والاندماج فيها وحده الذى سيُفضي إلى أن تفقد هذه القوي في النهاية جاذبيتها الراهنة، ومن ثم تصبح أدخل في الطابع العام العادي.

3. القوة السلبية لحالة اليأس الاجتماعي تشير إلى أن الهدف الرئيسي في المجتمعات العربية والاسلامية هو تحسين الأوضاع الداخلية فحسب! ففكرة "الحرية" لا تؤرق الانسان العربي! وأمثال إدوارد سعيد ومحمد أركون وغيرهم من موقظي "الشرق" العظام ليس لهم حضور يُذكر في الفضاء العربي! فضلاً عن قناعة العربي بأولوية الاستقلال ولو زائف(!!)، على الحرية، وهو ما يُفشل أي تدخل خارجي "مُباشر" "خشن"، لاقتلاع القمع!

4. وجود احتمال قوي في أن يشهد العالم الاسلامي وصول حركة أو أكثر من الحركات الاسلامية إلى السلطة في المستقبل المنظور، والأرجح أن يتم ذلك في العالم العربي. وأكثر البلدان احتمالاً لظهور سلطة اسلامية فيها هي البلدان التى: ا ـ ترتفع فيها نسبة النمو السكاني وتزداد فيها مظاهر العجز عن الوفاء بمتطلبات المجتمعات الناشئة في المدن على نطاق واسع. ب ـ والتى تتفاقم فيها مستويات المعيشة المنخفضة بسبب تفشي الفساد. ج ـ والتى قضت الحكومات فيها على معظم المعارضة السياسية الهادفة ومن ثم اصبح الاسلاميون دون منافس. د ـ والتى استخدمت الحكومات فيها العنف الضاري لسحق قوة الاسلاميين، وهو ما لم يؤد إلا إلى الاستقطاب وتفاقم المشكلة. هـ ـ والتى زعم الاسلاميون فيها أنهم وحدهم أصحاب القوة المعارضة الشرعية الوحيدة داخل الشارع العربي.

5. سوف تسعى قوي الاسلام السياسي حال وصولها للسلطة، إلى دعم القوة الحقيقية للدول الاسلامية ـ وهو هدف لا يكاد ينفرد به رجال الحكم والقادة الاسلاميين ـ، في صورة علاقات مع الدول الأقوى في الغرب، بغية التعامل من أرضية تهيىء لها قدراً من المساواة، بدلاً من حالة الضعف الاستراتيجي. وسوف يتضمن هذا النهج السعي من أجل تحقيق قوة عسكرية أكبر، بما في ذلك امتلاك أسلحة الدمار الشامل، لاقامة علاقات مع الغرب على أساس من التكافؤ على الصعيد الاستراتيجي على الأقل.

6. من هنا، يلزم استباق المباغتة، والمُبادرة باحداث تغيير واسع النطاق في الشرق الأوسط، بمنآى عن الأنظمة القمعية في دولة "ما بعد الاستعمار"! فقوى الاسلام السياسي هي التى تهدد، أكثر من غيرها، النظام المستقر في غالبية البلدان المسلمة، أكثر مما تهدد الغرب نفسه! والاسلام السياسي يستغل أسباب السخط والاستياء الناجمة عن هذه الأنظمة القديمة العاجزة، ويضع خطته على أساس العمل للاستيلاء على السلطة وتغيير الوضع القائم. هذا "الخطر" ـ وهو واقع يتهدد الكثير من الأنظمة المُتسلطة ـ، لا سبيل إلى مواجهته ومعالجته في نهاية المطاف إلا عن طريق قبول قوى الاسلام السياسي كطرف جديد وادماجه إلى حد ما داخل النظام السياسي. ذلك أن استبعادها سوف يُقضي في الغالب الأعم إلى مزيد من المواجهة والعنف، وإلى احتمال وقوع انفجار. إن عملية دمج الاسلاميين بنجاح داخل النظام السياسي مُعقدة جداً وتستلزم حذراً وبراعة! فقد يُفضي سوء معالجتها إلى مزيد من زعزعة النظام السياسي. وليس ثمة حل يسير أو بسيط ما دامت القوى المسئولة عن العنف والتطرف مُستثناة ولم تُحتوى.

7. امكانية التوصل مع التيار الرئيسي في قوى الاسلام السياسي لحد أدنى من القيم المشتركة، يمكن الالتقاء عنده، خاصة فيما يتعلق بالتعددية السياسية!

8. والملاحظ أن القدر الأكبر من الخلاف القائم والمحتمل بين العالمين الاسلامي والغربي لا يتضمن بالضرورة الاسلام السياسي من حيث هو في ذاته. إذ قد تظهر المواجهة كتعبير عن احباط أو عن عداوة من جانب المسلمين غير الموالين تحديداً للاسلام السياسي، وإنما لهم مع هذا شكاواهم التى تؤثر على سلوكهم تجاه الغرب، وتجعله مُشبعاً بالمشاعر المناهضة!

9. الحضارة الاسلامية أميل دون غالبية الحضارات إلى الاعتقاد بأنها قادرة على الصمود وأنها سوف تصمد لفترات طويلة من الزمن أمام الصعاب الدولية القاسية دون أن تسعى إلى لحل وسط بشأن وحدة موقفها. ويمثل هذا في نظر الغرب تعبيراً عن التعصب والجمود والعزوف عن مواجهة حقيقة علاقات القوى غير المتساوية. وتفهم الحضارة الاسلامية هذا باعتباره رفضاً للمساومة بشأن الكرامة والسيادة في مواجهة القوة العظمى. علاوة على هذا، فإن "الشهادة" مندمجة بانتظام في القاموس السياسي للاسلام أكثر مما هو الحال في معظم الثقافات الأخرى! والاسلام السياسي ينزع لمرونة أقل في تعاملاته، خاصة مع الغرب، ومع القوى المنافسة له علي الاقليم، إذا ما رئي أن الحل "الوسط" هو الناتج عن علاقات قوى "غير متكافئة".

10. وحيث أن الاسلام كما هو متوقع يمثل الرمز الجليل للمصالح الاقليمية المتصارعة، فإنه قد يحتل حتماً على الأرجح القدر الأعظم من حوار الشمال والجنوب. وعلى نحو أكثر عمومية، نجد أن تطلعات العالم المتخلف بسبيلها إلى أن تفرض مطالبات متزايدة على الأمم المتقدمة، بغية بناء علاقات قائمة على قدر أكبر من الانصاف والكرامة. وإن فشل الدول الغربية في التلاؤم مع هذه المطالب من شأنه أن يشجع نزعة التطرف في العالم المتخلف في صورتيها القومية والاسلامية. ولا ريب في أن المعاملة الخشنة الفظة التى تسود العلاقات السياسية بين الجانبين من شأنها أن توسع نطاق الجانب الأيديوبوجي في علاقات المواجهة، بل وربما تُفضي بالضرورة إلى تكتل دول العالم المتخلف في صورة جبهات متعارضة.

في وسط كل هذه الأجواء المُربكة والمُلتهبة، جاء "الملاك" أوباما ليمحو عن عالمنا البائس شرور "الشيطان" بوش(53)، ويُعيد للانسانية المُروعة أمانها المفقود، ويهب للمعذبين خلاصهم! أذكر أن بعض النوبيين الذين أعرفهم، بادروا بتوزيع الحلوى، ابتهاجاً بالمُخلص أوباما، لا لشيء إلا لامتلاكه بشرة سمراء مثلهم! وأذكر أيضاً أن واعظاً تحدث في تليفزيون بلادي أثنى على الرجل كثيراً! لا لشىء، وإنما لما يُروج عن أصوله المسلمة! وأذكر أن شيخ الأزهر الراحل طنطاوي ألف كُتيباً(54)، مدح فيه الضيف بما يستحق وما لا يستحق، على خلفية القاء أوباما خطابه "الخداعي" في جامعة القاهرة "المُلطخة بانحطاط المُستوى"!

وقتها كتبت في مقالة نشرتها على الانترنت، عنوانها "الله والحرية"، ما نصه: "جاء أوباما ليعتذر عن وعد سلفه بوش لشعوبنا بتخليصها من زوار الفجر، وإعادتها إلى التاريخ بعد خروجها منه! جاء أوباما ليُسعد الآخر العربي ويُشقينا!". ظننت وقتها ـ أنا وغيري ـ أن ثمة تراجع أمريكي عن الالتزام باستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، في شقها المعني بمجتمعاتنا! وأن فشل الجلاد بوش في العراق وأفغانستان، وما لحق بسمعة الولايات المتحدة من تلطيخ، على خلفية التعذيب الوحشي للعراقيين في "أبو غريب"، وللاسلاميين في "جوانتانانو"، وللفلسطينيين في معتقلات اسرائيل، سيدفع حتماً الساسة الأمريكيين بانتهازيتهم المعهودة لاعادة النظر في مسألة تهجير مجتمعاتنا من دولة "ما بعد الاستعمار"!

كان منبع حزني إزاء ما تصورته وغيري تراجعاً أمريكياً، هو خوفي من عدم اهتبال فرصة كهذه! فالمراجعات الغربية للاستراتيجات، كما هو حاصل الآن على خلفية هجمات 11 سبتمبر من الأحداث الاستثنائية! فالغرب لا يُعيد حساباته "شديدة الأنانية والانتهازية" إزاء بلادنا وشعوبنا وحضارتنا كل يوم! بل هي استراتيجيات مدروسة بعيدة المدى، يتم الابقاء عليها، ما بقيت المصالح الغربية مصونة! دون أدنى اعتبار لآلام الشعوب، التى يتأثر، بل يتوقف مصيرها على هذه الاستراتيجيات! بوصفها الطرف الأضعف والأقل قدرة على تقرير المصير!

الكارثة الأشد، هي اعتماد الغربيين الدائم في سعيهم المحموم لخلق أوضاع بعينها وتكريسها، على كتيبة من قيادات محلية "موثوق بها"، لا تخلو من طموح جارف واعتزاز شديد بالذات، تُبادر على نحو مُذهل بالتقاط الطُعم والنضال من أجل الأوضاع الجديدة المُستهدف الوصول إليها وتكريسها! ومن وراء هذه الزعامات المهيبة ـ أو الآباء المؤسسين ـ يأتي القطيع "المقهور" ليُناضل ويهتف ويفتدي بدمه ما يتصوره انتصاراً غير مسبوق، وزعامة، وإن كانت مستبدة وقاسية بعض الشيء، لكنها قادرة بثوريتها على انتزاع الحُلم من رحم المستقبل!

الغرب ولعلمه بأهمية هذه القبادات المحلية، خاصة عند التأسيس لمراحل جديدة، كما في دولة "ما بعد الاستعمار"، يساهم في بناء هذه القيادات وتلميعها، والتى قد يضطر لاحقاً حال توحشها إلى مناهضتها، بل والتخلص منها إن امكن، ليضمن عدم تنبه القطيع لقواعد اللعبة! "المحلي" ضرورة لتمرير الوضع الجديد!

شعوبنا لا تعي ولا أظنها راغبة أو حتى قادرة أن تعي، فكرة دولة "ما بعد الاستعمار"! رغم اننا ـ وعلى ما يبدو ـ على مشارف دولة جديدة، أقترح تسميتها دولة "ما بعد هجمات 11 سبتمبر"، لارتباط نشأتها بالهجمات، بشكل أو بآخر، شأنها في ذلك شأن دولة "ما بعد الاستعمار" المُغادرة، والتى ارتبطت نشأتها هي الأخرى، وعلى نحو مُماثل، بانتهاء الحرب العالمية الثانية وزوال الاستعمار التقليدي، ونشوء دول، تسمح بانبثاق بدائل محلية، تُجهض باستبدادها الاستقلال!

ثوراتنا والتهجير من دولة "ما بعد الاستعمار":
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

أخيراً، وفي مُباغتة مُربكة للأنظمة العربية القمعية وللشعوب أيضاً(!!)، وفي غياب تصريحات بوش "الاستفزازية" بدأ التهجير الجماعي لمجتمعاتنا من دولة "ما بعد الاستعمار"! إلى أين؟ لا أحد يدرى على وجه الدقة! ما أعرفه هو اننا نتحرك صوب دولة "ما بعد 11/9"! وهي قريبة الشبه، على ما يبدو، بتلك الدولة التى لطالما بشر الجلاد بوش بها، وحاول دفع شعوبنا إليها قسراً، غير أن أحداً لم يُصدقه! في حين اكتفى الملاك أوباما بمنح البركة ووصف التهجير بالمُلهم(55)!

أوباما ذهب في إعجابه بالثورة المصرية وفي حنوه على قياداتها الشابة إلى حد ما نشرته جريدة "نيويورك تايمز" مؤخراً، ونقلته عنها جريدة المصري اليوم، تحت عنوان "نيويورك تايمز: أوباما يريد وائل غنيم رئيساً لمصر وسعى لتنحيةمبارك"! الجريدة الأمريكية الرصينة كشفت عن أن الرئيس الأمريكى باراك أوباما أكد لأحد مساعديه أنه يريد أن يصبحوائل غنيم، الناشط السياسى، عضو ائتلاف الثورة، "رئيس مصر القادم"! لافتةإلى أن أوباما يأمل أن يفوز "شباب الشارع" فى المرحلة المقبلة فى مصر،وقال: "وذلك ما أعتقده طريقاً طويلاً وصعباً". الجريدة قالت أيضاً: "إن مستشارى الرئيس الأمريكىأكدوا أن أوباما قرر أن يدفع بالرئيس السابق حسنى مبارك بعيداً، وذلك كانعكس ما نصح به المستشارون، خاصة بعد أن شاهد خطاباً لمبارك فى قاعته بالبيتالأبيض"(!!)، مشيرةً إلى تخوف أوباما من إحباط أحلام الشباب المصرى، وعلىرأسهم غنيم "فتى جوجل" - على حد تعبيره - ودورهم فى مرحلة الانتقالالتدريجى نحو الديمقراطية في مصر(56).

وعلى صعيد آخر، اعتبرت "نيويورك تايمز" الأمريكية أن مقتل أسامة بن لادن، زعيمالقاعدة، يعتبر علامة فارقة فى معركة أمريكا لمكافحة الإرهاب، واصفة ذلكبأنه فرصة لإعادة أوباما صياغة رده على الاضطرابات فى العالم العربى بعد فترةسبات مُحبطة للتعليق على الأوضاع فى ليبيا والصراع على السلطة فى اليمن، والقمع الوحشى فى سوريا وتراجع وهج الثورة المصرية!

ما يحدث تمثيلية هزلية، لا تنطلي إلا على أصحاب النفوس المُدجنة، وهُم كُثرُ في مجتمعاتنا المُوجهة! لا يعني هذا بالطبع، انكاري لأهمية ثوراتنا وما أريق فيها من دمٍ غالٍ! ما أود قوله هو أن ثوراتنا الأخيرة، والتى تتخذ شكل كُرة ثلج مُتدحرجة من بلد لآخر، ولا أحد يدري أين سيكون ذوبانها، أخطر وأعقد من أن تُفهم على هذا النحو الساذج الذى يُروج له الآن في بلادنا، بوعي أو بلا وعي!

تسيد مثل هذا الفهم المُبتذل ـ في بساطته ـ للأحداث الأخيرة، من شأنه أن يحرم شعوبنا فرصة تزخيمها، وتعظيم حصادها! لا نُريد لثوراتنا العربية الفارقة أن تُختزل في دماءٍ جسورة أريقت! أو في مظاهرات "مليونية" تُجيش(57)! فالشهداء أبداً لا يطلبون ثمناً لدمائهم! والأبطال أبداً لا يبيعون "صكوك الحرية"!

ما ينقص شعوبنا هو أن تنظر إلى ثوراتها في تواضع، وتبحث عن مواطن القوة فيها لتزخيمها والبناء عليها! ومواطن الضعف، لتقويتها وتجنب ما قد يترتب عليها من مخاطر! ولشد ما يؤلمنى تعاطي المشتغلين بالفكر عندنا، على اختلاف مشاربهم، مع ثوراتنا "المُباغتة" بلاثورية! ففي حين، يجاهد البسطاء في بلادي الحيرة وعدم القدرة على تفهم حقيقة ما يدور حولهم، نجد المشتغلين بالفكر في بلادنا على عهدهم!! ثوراتنا لم تستلهم آراء موقظى الشرق العظام، وإنما مطالب الجماهير الخطيرة والمُلحة، والتى تمس احتياجاتهم الأساسية، أكثر مما تُغطي احتياجاتهم الانسانية الأشمل والأرقى! وهو أمر مُتوقع في مجتمعات، لا يقتات أبناؤها، سوى ما يجدونه على الفضائيات وألسنة الوعاظ والجرائد والفيس بوك!


قادة الرأي ومجتمعاتنا..أعمى يقود أعمى!!


الحق أني لست أدري، ما إذا كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ الحديث التى تكون فيها الأنظمة المُغادرة والشعوب الثائرة خارج التاريخ؟ ثوراتنا تُعري على نحو مخزٍ "الافلاس الحضاري" لمجتمعاتنا، وإن رُوج لخلاف ذلك!

في ندوة عقدتها الجمعية الفلسفية المصرية مؤخراً بعنوان "ثورة 25 يناير بين القطيعة المعرفية والزمن المتسارع"، وكان المتحدث فيها السيد يسين. تقدم أحد الحضور، وهو أستاذ جامعي على ما أعتقد، بسؤالٍ لا يخلو من دلالة على "الخيبة القوية"، يستفسر فيه، عما إذا كان لأساتذة الفلسفة من جيل الوسط، على حد تعبيره، أي دور في مصر "ما بعد ثورة 25 يناير"! سؤال كهذا، لا يترك مجالاً للمُزايدة أو التعمية، فهو إشارة مهمة لبلوغ مجتمعاتنا "أعلى مراحل التخلف"!!

السائل التعس فاته أن مُحبي الحقيقة، أو المشتغلين بالفلسفة، لا تُحركهم الأحداث، وإنما الأفكار! وأن أفكارهم قد يُستضاء بها أو ببعضها، داخل مجتمعاتهم أوخارجها! كما أن مُحبي الحقيقة لا يشتبكون مع الواقع، ناهيك عن مُغازلته!

المفكر المصري حسن حنفي، في مقالة له وجدتها منشورة على الانترنت، بعنوان(58): "عُذراً شعب مصر!"، أبى حنفي إلا أن يتبع سنة مُفكرينا غير الحميدة، في مُهادنتهم، بل ومُغازلتهم، للأسف الشديد، واقع مُجتمعاتهم! فبدلاً من تزخيم حنفي للثورة، عبر نقدها وتطويرها، أسهب في الاعتذار، بل وفي الالحاح على "الشعب المصري" لقبوله، على نحو "درامي"! بالطبع، لا أقصد بقولي هذا التطاول على مفكر مرموق، فحنفي، برأيي ورأي الكثيرين، المفكر الاسلامي الأبرز والأنشط! ولكم أتمنى عليه أن يخلع عباءة الفقيه فبلادنا ظمآى للفلاسفة!

ظهور أعمال فكرية عربية رصينة، ينهض أصحابها بواجب إعادة قراءة مشهدي "ما بعد الاستعمار" والثورة، أمر مصيري!! الناس في بلادي، حتى أفراد الحشود الثائرة، إذا ما استمعت إلي تحليلاتهم، تجدهم أشد جهلاً بأنفسهم والحياة من الأنظمة "المُغادرة"! ولا أقصد بالحياة هنا، الشئون اليومية، من أكل وشرب وزواج وعمل وصلاة..الخ، بل مناخ العصر الحالي، بتعقيداته وما بعد حداثيته!

خذ مثلاً هذا التصريح "الما بعد استعمارى ـ نسبة إلى دولة ما بعد الاستعمار"، والذى جرى على لسان نائب المرشد العام للاخوان المسلمين، وهي طليعة قوى الاسلام السياسي في بلادي، كما في كثير من بلدان العالمين العربي والاسلامي! تصريح كهذا ما كان ليُقال، لولا تيقن صاحبه من "انقياد" المُتلقي!

نائب المُرشد العام، وعلى طريقة مُؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار" ـ وفي طليعتهم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ـ، خاطب حشداً مهيباً، بقوله(59):

"نستعد للحكومة الاسلامية .. وهدفنا الوصول إلى سيادة العالم"!!

هكذا مرة واحدة!! حد علمي أن الاخوان لا يملكون مركزاً بحثياً واحداً يُعتد به، يُمكن لباحثيه النهوض بمهمة إجراء دراسات استطلاعية وتفكيكية، للمجتمعات، محلياً وإقليمياً وعالمياً، على نحو ما يفعل الغرب مع قوى الاسلام السياسي ومجتمعاتنا وغيرها! حد علمي أن الاخوان لا يملكون الرغبة أو القدرة على نقد وتطوير ميراثهم الذاتي، ناهيك عن ميراثنا الحضاري، وإلا ما رأيناهم اليوم يرددون مُصطلحات "غربية"، كالديمقراطية والتعددية والأحزاب..الخ(60)!

مُصطلحات كهذه، فضلاً عن عدم تشبع نسيجنا الحضاري بها، لا تتفق تماماً مع أفكار مؤسس الجماعة "الفذ" حسن البنا! ولو أن قيادات الاخوان شغلت نفسها بعض الشيء، إلى جانب انشغالها بـ"البيزنس" والانتخابات النقابية والأعمال الخيرية والأنشطة الدعوية والدعائية وأخيراً تأسيس المقار المهيبة..الخ(61)! أقول لو أنهم شغلو أنفسهم إلى جانب كل هذا ببناء صروح بحثية وتربية كوادر "حقيقية" من المفكرين الاستراتيجيين، لكان الأمر الآن أفضل كثيراً لهم ولبلادنا الحائرة!

أغلب الظن أن عقوداً عديدة من الصراع من أجل البقاء، في مواجهة دولة "ما بعد الاستعمار"، بكل خستها، استنزفت قوى الجماعة، وشغلتها عن تحولات "جوهرية" في مصادر القوة، على نحو سيؤثر حتماً عليها، وعلى بلادنا، باعتبار الجماعة، وبعدم مُمانعة غربية(62)، الأقرب إلى الحكم في دولة ما بعد 11/9!

ثمة قوى أخرى لا تقل عجزاً، عن قوى الاسلام السياسي، في مواجهة الواقع الحضاري المُتردي، أفرزتها دولة "ما بعد الاستعمار"، لعل أكثرها تشوهاً، تلك التى تستلهم ما يُسمى بمشاريع النهضة لمؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"!

الانتقال من دولة إلى دولة في التاريخين العربي والاسلامي، على نحو ما حصل مثلاً مع دولة الأمويين ثم مع دولة العباسيين..الخ، عادة ما تنهض به عبقرية فذة من نسيج خاص، يتمتع صاحبها بسمات، تجعله أقرب ما يكون إلى شخصية "البطل ـ في الوجدان الشعبي ـ"، أو "المستبد العادل"! وهو ما يُغري الناس باتباعه، والتعويل عليه في خلاصهم، مدفوعين بحوافز الاذعان، عامة كانت أم خاصة، تلك التى عادة ما يُفرط البطل في بذلها! المُقزز في الأمر، هو ابداء الشعوب، بما فيها الضحايا أنفسهم(63)، حرصاً مُخنثاً على عبادة البطل، وإعتبار تفتيشه في الضمائر، وتجفيفه لمنابع التفكير الحُر، بقعة في ثوب طاهر!

دراويش الآباء المؤسسين لدولة "ما بعد الاستعمار"، هم أخطر وأعقد ما أفرزته هذه الدول، على خلاف ما يعتقده الكثيرون. كون هؤلاء الآباء واجهة مهيبة وزاهية لدولة، لا تختلف ممارساتها كثيراً في خستها، عن ممارسات الأنظمة الاستعمارية، سواء بوعي من هؤلاء الآباء المؤسسين أم بلا وعي! المهم، أنهم اندفعوا أو دُفعوا إلى حيث لا ينبغي لهم ولا لشعوبهم أن يكونوا! ما يزيد الطين بلة، هو حدوث ذلك وسط صخب اعلامي، ومعارك مُفتعلة، لا تتفق مع مقاصد التمكين للحرية في النفوس، وما ينبغي للأحرار أن يكونوا عليه! لقد سهلوا مهمة الغرب، من حيث لا تدري الشعوب وربما من حيث لم يدروا هم أنفسهم!

إعادة انتاج ما يسمى بالمشاريع النهضوية لمؤسسي دولة "ما بعد الاستعمار"، بل وربما أيضاً إعادة انتاج هؤلاء المؤسسين أنفسهم(64)، يعكس حنيناً ماضوياً جذاباً، في ظل الافلاس الحضاري الراهن، وافتقاد مفكرينا القدرة على القراءة النزيهة والمنظمة للأحداث! فحتى اللحظة، لا أذكر أني قرأت دراسة، تجمع بين دفتيها شتات آلامنا عبر العقود الأخيرة، أعني منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، ورحيل الاستعمار عن أرضنا، من خلال منهج قوي ومُبتكر!

ما يحدث دائماً وأبداً في دوائرنا البحثية والأكاديمية، هو تفتيت "غائي" لعقود دولة "ما بعد الاستعمار"، واختزال آلامها في مجرد أخطاء، أو حتى خطايا، لبعض حكامها! في مصر مثلاً، تجد من يحدثك عن ناصر، باعتباره أسطورة، ويذم السادات! ثم تجد من يحدثك عن السادات باعتباره آية في الذكاء، ويذم ناصر! وقد تجد في المستقبل من يحدثك عن مبارك باعتباره الأكثر حكمة، على الأقل خلال سنواته الأولى، قبل انضمام نجله "جمال" إليه، إلى آخر هذا الهراء!

من هنا، يأتي انحيازي لمقولة الأمريكية المُخضرمة مادلين أولبرايت [ان بعد النظر نادر في العالم العربي](65)! قصر نظر شعوبنا ومفكرينا، يمثل برأيي تحدياً جباراً، أمام ظهور جيل جديد واعد من المُبدعين وواضعي البحوث الرصينة، لا يبالغ في توقير الآباء المؤسسين، بقدر ما يحرص على تفكيك وتجاوز عجزنا المأساوي، عن بناء رؤى استراتيجية، تجمع شتات عقود دولة "ما بعد الاستعمار"! فبدون ذلك، لا أمل في تحري جذور آلامنا، والفوز بالمستقبل!

على الضفة الأخرى من نهر ثقافتنا، يوجد "دُعاة العولمة" و"دراويش ما بعد الحداثة"(66)! ولعل أبرز هؤلاء، على الأقل إعلامياً، وائل غنيم، وهو شاب مصري، نشط بقوة في مساندة محمد البرادعي(67)، المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والحاصل كذلك على نوبل للسلام، بعد عودته إلى مصر في فبراير 2010! تلك العودة التى كانت على الأرجح بداية نهاية الرئيس مبارك ونظامه!

فقد انتهى الأسبوع الأول لوصول البرادعي إلى القاهرة، بإعلان تشكيل "الجمعية الوطنية للتغيير"، وهي تجمع فضفاض من مختلف المصريين بجميع انتماءاتهم السياسية والمذهبية رجالاً ونساءً، بمن في ذلك ممثلين عن المجتمع المدني والشباب تهدف إلى التغيير في مصر(68)! حيث كان هناك اتفاق عام على ضرورة توحد جميع الأصوات الداعية للتغيير في إطار جمعية وطنية، طُلب منمحمد البرادعي أن يكون في مقدمتها ومن خلفها، وبحيث تكون إطارًا عامًا ينطوي تحته جميع الأصوات المطالبة بالتغيير! هذا التنوع هو ما أثمر عن حوالي المليون توقيع علي بيان [معاً سنغيّر]، في أقل من سبعة أشهر من تاريخ إصداره في 2مارس 2010 ـ وهو الهدف الذي شكّك في إمكانية تحقيقه الموالون للنظام القائم آنذاك ـ! تم هذا من خلال موقع الجمعية، و الموقع الذي أطلقته جماعة الإخوان، وحملة طرق الأبواب التي قام بها شباب الجمعية، والحركات المشاركة بها.

مساندة وائل للبرادعي، وللجهود الساعية لاحداث تغيير في مصر، اتخذت مسارات عديدة، منها مثلاً قيامه بتأسيس الموقع الرسمي لحملة دعم البرادعي! وإليه أيضاً يُنسب الفضل في الدعوة، من خلال ابتكاره الرهيب "كلنا خالد سعيد"(69)، إلى الاحتجاجات الأخيرة، التي أرغمت مبارك على القبول بالتنحي!

في حديث لوالد وائل مع جريدة الحياة اللندنية، قال(70): "إنه وابنه وائل وكل أولاده لا يحبون السياسة، وإنما هم ناشطون اجتماعيون فحسب، وليست لديهم أي ميول". الدكتور سعيد غنيم(60 عاماً) المقيم في السعودية، كشف أن نجله وائل غنيم(30 عاماً) تعرض لتعذيب نفسي وبدني أثناء احتجازه لمدة 12 يوماً قبل نجاح الثورة الشعبية في مصر. الدكتور غنيم ذكر أيضاً للجريدة نفسها أن وائل هو ابنه البكر، وقال إنه ترعرع وتعلّم في السعودية حتى بلغ عمره 13 عاماً. الدكتور غنيم أوضح أن نجله وائل كان يعشق التعامل مع الكومبيوتر منذ طفولته. وقال إن نجله وائل متزوّج بأمريكية مسلمة تعرّف إليها على أثير "الإنترنت"!

ولمزيد من الضوء على دور وائل غنيم في اسقاط النظام المصري، أقتبس هنا من معلومات نشرتها جريدة الدستور المصرية(71)، زعمت الحصول عليها ضمن مجموعة من المستندات والوثائق من داخل جهاز أمن الدولة المصري، ترتبط بثورة 25 يناير! المعلومات تتضمن اعتراف القائم على إنشاء وإدارة صفحة "خالد سعيد" على "الفيس بوك"، المُفرج عنه ـ وقتها طبعاً ـ وائل محمد عباس غنيم، بقيامه باطلاع أحد قيادات شركة جوجل الأمريكية(من أصل يهودي) جيرارد كوهين بأمر إنشائه للصفحة المُشار إليها منذ قرابة الستة أشهر، حيث تردد الأمريكي المذكور على البلاد والتقاه يوم 27 يناير ليلة مظاهرة جمعة الغضب، الأمر الذى يُرجح معه، والكلام نقلاً عن المستند الأصلي، أن تكون تلك الشركة غطاء لأعمال استخباراتية، خاصة عقب توسطها لدى وزارة الخارجية الأمريكية، لاخلاء سبيل وائل على الرغم من كونه لا يحمل الجنسية الأمريكية!
ولنقرأ أيضاً وفي السياق نفسه، بعض ما كتبه صلاح منتصر في الأهرام عن "فتى جوجل" وائل غنيم والذى أعلن قبل تنحي طاغية مصر القوي حسني مبارك بساعات، ومن قناة العربية أنه أقوى من حسني مبارك وأقوى من عمر سليمان(72)! عن قصة وائل غنيم مع ثورة 25 يناير، ومع قيادي بارز في الحزب الوطني الحاكم ـ قبل الثورة ـ، هو حسام بدراوي(59سنة). يقول منتصر(73):
"طوال الأيام التي مضت كان يتردد علي ألسنة شباب التحرير اسما كان معروفا بينهم لكنه كان مجهولا خارج دائرتهم, وهو اسم وائل غنيم خبير الإنترنت والفيس بوك والتويتر وكل وسائل الاتصالات الحديثة وصاحب صفحة كلنا خالد سعيد التي استقطبت الآلاف علي غير معرفة وجمعتهم عبر شاشات الكمبيوتر والتليفونات المحمولة التي غيرت العصر.
"كان وائل غنيم وهو يعمل في دولة الإمارات مديرا للتسويق بشركة جوجل الشهيرة بالشرق الأوسط قد طلب من شركته إجازة عاجلة لأمر عائلي, الا أن الحقيقة أنه جاء الي مصر ليشترك في تظاهرة25 يناير يوم الغضب والتقي لأول مرة بزملاء عرفهم عن طريق الإنترنت, وأصبح منذ ذلك اليوم مقيماً معهم, وفي مساء الخميس(27 يناير) اختفي وائل غنيم فجأة. وعبثا حاولت أسرته معرفة مكانه, فقد سألت المستشفيات والمشرحة وكل أصدقائه دون أن تستدل عليه. وكان من بين الذين اهتموا بوائل حسن حسام بدراوي وشقيقته داليا بدراوي رواد ميدان التحرير, اللذان سألا الأب حسام إن كان يستطيع أن يساعد في معرفة مكانه.
"كانت أول مرة يسمع فيها حسام باسم وائل غنيم وقد اتصل في نفس اليوم الاثنين7 فبراير بمدير أمن الدولة واكتشف ببساطة أن وائل المختفي الذي دوخ أهله بحثا عنه وأبكي أباه الليالي لدرجة هددت بفقده عينه الوحيدة التي يري بها, مقيم في الجهاز منذ اختطافه دون أن يكلف أحد خاطره بإبلاغ الأسرة, فقد كان من تقاليد التعذيب حجز الشخص وجعله يعيش معزولا وهو معصوب العينين طوال فترة حجزه لايري أحدا من الذين يسألونه أو يتكلمون معه الي أن يشاء الله امرا كان مقضيا.
"احتاج الأمر الي الاتصال بالنائب عمر سليمان والنائب إتصل بوزير الداخلية حتي تمكن بدراوي من الحصول علي قرار بالإفراج عن وائل مساء الاثنين7( فبراير) وظل منتظرا في مكتب وزير الداخلية اللواء محمود وجدي حتي جاء وائل مع مدير الأمن شخصيا, وبعد لقاء الوزير صحبه بدراوي الي بيته.
"وفي نفس الليلة كان وائل غنيم حديث مصر عندما استضافته مني الشاذلي في برنامجها المعروف العاشرة مساء, وقد استطاع وائل بصدقه وبراءته ونقائه أن يهز ملايين المصريين وهو يبكي بدموع صادقة شهداء الرفقة الذين كشفت صورهم أنهم من طبقة قادرة, وأنه علي عكس الخوف الذي كان يملأ نفوس الكثيرين من المصريين من أن تأتيهم الثورة من جياع العشوائيات, فقد جاءت الثورة من الأسر القادرة علي يد شباب الإنترنت الذين وصفهم وائل بأن كل مشكلتهم أنهم يحبون مصر وأنهم لايعملون لحساب احد وانهم يوم خرجوا يوم25 لم يكونوا تحت قيادة احد من الإخوان أو من غيرهم فلم يكونوا أنفسهم يعرفون في ذلك اليوم اين يذهبون!
"مساء الاربعاء كما سبق وبعد أن عاد بدراوي الي بيته مهزوما بعد إبلاغه انهيار كل ما حاوله مع مبارك بالطبع بسبب جمال وانس الفقي, فوجيء باتصال من وائل غنيم يقول له إنه ومجموعة من شباب الثورة يريدون لقاءه لأمر بالغ الأهمية وان لديهم رسالة عاجلة الي الرئيس!".

على أية حال، التسريبات الأمنية لاعترافات وائل غنيم ـ والذى ترك عمله مؤخراً في جوجل، ولحق بركب المجتمع المدني في مصر، ليُساهم من خلاله، وعلى حد قوله، في مكافحة الفقر وتطوير التعليم(74) ـ، وما رواه الجورنالجي المصري صلاح منتصر، نقلاً عن مذكرات حسام بدراوي، استاذ التوليد وأمراض النساء وعضو في "لجنة السياسات" بالحزب الوطني الحاكم قبل الثورة، وعضو لجنة حقوق الانسان، يستدعيان الماضي على نحو مُذهل! فاسم "جيرارد كوهين" الوارد ذكره في اعترافات وائل غنيم، يأخذنا إلى الماضي غير البعيد! جيرارد أو جارد ـ على ما يبدو ـ شخصية استخباراتية، لا تخلو منها دوائر المخابرات والسياسة والدبلوماسية الغربية! مثل هذه الشخصيات، دائماً ما تكون آية في الدهاء وسعة الاطلاع على حضارتنا! وغالباً ما يكون أصحابها من جيل الشباب، ليسهل عليهم الاحساس باقرانهم في المجتمعات الأخرى، ناهيك عن تحريكهم إن لزم!

جارد كوهين، له كتاب مُهم، بعنوان(75): "أطفال الجهاد Children of Jihad"، أهداني صديق نسخة منه، لم أطلع عليها بعد! قال صديقي عن جارد انه دبلوماسي أمريكي، قام بجولة في العالم العربي منذ سنوات، أثمرت هذا الكتاب الشائق، على حد تعبير صديقي! وفيه دعا جارد لتوجيه فريضة الجهاد لدى الشباب في العالمين العربي والاسلامي، نحو الطُغاة المحليين، بدلاً من الغرب!

جارد كوهين بعبقريته هذه، يُذكرني بأمريكي آخر، لا يقل عنه عبقرية، كتب قليلون عن دوره المُهم في تهجير المصريين إلى دولة "ما بعد الاستعمار"! إنه كيم روزفلت! أحمد مرتضى المراغي ـ آخر وزير داخلية في حكومة ما قبل اندلاع ثورة 23 يوليو، والتى دُفع بالمجتمع المصري على أثرها إلى دولة "ما بعد الاستعمار" ـ، يقول عن روزفلت في مذكراته إنه قابله في حفل عشاء أقامه السفير كافري في السفارة الأمريكية، ويصفه لنا بقوله(76): "بعد انتهاء العشاء قال لي المستر كافري أنه يريد أن يقدم لي صحافياً وكاتباً أمريكياً يهتم بشئون الشرق الأوسط، ووضع في ذلك مقالات وكتباً وأن اسمه كيم روزفلت، وكنت ـ والكلام للمراغي ـ قد سمعت عنه ولم أره من قبل. ولما قدمني إليه رأيت مظهره مظهر طالب في الجامعة يكثر من المطالعة ولا تهمه موسيقى الجاز. يضع نظارة كبيرة الاطار ويتكلم بصوت خافت ويخالس النظر. يحدق تارة ويخفض البصر تارة اخرى في حياء! لا أدري إن كان مصطنعاً أو أنه طبيعي. لم يخل حديثي معه من الشيوعية. ووجه إلى أسئلة عن النشاط الشيوعي في مصر. ثم فاجأني بقوله:
ـ هل تعلم أني قابلت الملك فاروق وأنه استبقاني للغداء معه. وتكلمت معه كثيراً عن الشيوعية فقال لي الملك انه يعرف عن الشيوعية أضعاف ما يعرف وزير الداخلية وجميع رجال الأمن.
وضحك روزفلت ضحكة تحمل كثيراً من السخرية. وضحكت لأنني أعلم أن هذا طبع فاروق.."!

إلى هنا ينتهي وصف المراغي لكيم روزفلت، أما الجزء الأهم من حديث المراغي فهو عن دور ذلك الشاب الأمريكي وبلاده في الدفع بمصر إلى دولة "ما بعد الاستعمار"، وفيه تعزيز لزعمنا بتشابه مناخ 25 يناير مع مناخ 23 يوليو:

"لا أظن أن المصادفة المحضة هي التى أتت بكيم روزفلت إلى القاهرة، خصوصاً أنه تبين أن كيم روزفلت هو من كبار رجال المخابرات الأمريكية، وكان له دور بارز في ما بعد في اسقاط حكومة مصدق في إيران.

"وليست المصادفات هي التى أتت برجال الأعمال الأمريكيين إلى القاهرة، ولا هي التى جعلت الحكومة الأمريكية تُضاعف عدد رجال السفارة الأمريكية في القاهرة.

"كل ذلك في وقت كانت مصر في حالة غليان ضد الحكم القائم وعلى رأسه الملك فاروق. وكانت حركة الضياط الأحرار قد اشتد ساعدها إلى أبعد مدى، وجابهت الملك في انتحابات نادي الضباط وأعلنت تحديها له بترشيح اللواء محمد نجيب لرئاسة نادي الضياط ضد مرشح الملك اللواء حسين سرس عامر.

"وكانت منشورات الضباط الأحرار تغمر شوارع المدن المصرية. وكانت أسماؤهم معروفة أكثرها لدى الحكومة وقائد الجيش حيدر. فكيف لا تكون معروفة لدى المخابرات الأمريكية والبريطانية؟ بلي كانت معروفة. ولما يئس الأمريكان والانجليز من فاروق اتجهوا نحو حركة الضباط الأحرار وحاولوا الاتصال بها. وجرت هذه المحاولة عن طريق ضابطين في الجيش هما: البكباشي عبد المنعم أمين، وقائد الجناح على صيري. فماذا كان موقف الضباط الأحرار؟".

سؤال المراغي الأخير شديد الأهمية!! أجابت عليه محنة دولة "ما بعد الاستعمار"، والتى تُهجر منها شعوبنا الآن، وهي أكثر تخلفاً وأقل احساساً بالعار مما كنا عليه وقت دخولنا إليها، على يد الشاب روزفلت، وشباب "23 يوليو"!

على الضفة الأخرى من نهر ثقافتنا، يوجد أيضاً أحد أبرز دُعاة العولمة وما بعد الحداثة في بلادي! إنه السيد يسين! ففي مقدمة مختاراته المنشورة، بعنوان "الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي"(77)، يخبرنا يسين انه بدأ مسيرته العلمية كباحث مساعد بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 1957، وأنه الآن استاذ لعلم الاجتماع السياسي ومستشار لمركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام(78). يقول يسين عن عام 1990 انه نقطة الانقطاع العلمية في مسيرته العلمية! ففيه انتقل من منصبه كمدير لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، ليشغل لمدة عامين منصب أمين عام منتدى الفكر العربي بعمان.

في هذ العام، وعلى خلفية انهيار العالم القديم، شعر السيد يسين أن اطاره النظري المتماسك ـ على حد وصف يسين نفسه ـ الذى سبق أن وجه دراساته وبحوثه قد انهار هو الآخر! يسين يضيف انه ربما عبر بوضوح عن هذه الحقيقة ببحث كتبه باللغة الانجليزية، وشارك به في ندوة الحوار العربي الياباني الذى نظمه وعقد في عمان عام 1992، بعنوان "سقوط النماذج العلمية وتحديات حول الحوار"، نُشرت ترجمة عربية له في المجلة الاجتماعية القوميه عام 1992.

وأثناء وجوده بعمان، بدأ يسين اطلاعه المُكثف والمُستمر حتى "الآن"، وكما هو واضح من كتاباته، على الأدبيات الغربية المغمورة آنذاك، والتى كانت معنية بالتنظير لما بعد الحداثة! ترك هذا تأثيراً واضحاً، على فكر السيد يسين وميله الواضح إلى العولمة والما بعد حداثية! وللسيد يسين كتاب مهم، بعنوان "العولمة..والطريق الثالث"(79)، يقترب في عنوانه، إلى حد ما، من كتاب "الطريق الثالث..تجديد الديمقراطية الاجتماعية"(80)، لعالم الاجتماع البريطاني أ. جيدنز!

في كتابه "العولمة..والطريق الثالث"، يصف السيد يسين العولمة بقوله: "لا نبالغ إذا قلنا إن العولمة كمصطلح ومفهوم أصبح من أكثر المفاهيم تردداً على ألسنة الزعماء والقادة والسياسيين والباحثين والمثقفين في مختلف أنحاء العالم.

"وليس هذا غريباً على أي حال. فقد تدفقت موجات العولمة الاقتصادية والتى تتمثل أساساً في الاعتماد المتبادل بين اقتصادات الدول، ووحدة الأسواق المالية والائتمانية في العالم، والدور البارز الذى أصبحت تلعبه الشركات دولية النشاط، بالاضافة إلى تصاعد قوة المؤسسات الدولية الكبرى مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وإذا أضفنا إلى ذلك إنشاء منظمة التجارة العالمية والتى كانت خاتمة لجولات الجات التى امتدت عقوداً من السنين، لقلنا إنها تتويج ورمز في نفس الوقت لعملية العولمة الاقتصادية التى تشمل العالم منذ عقود.

"وللعولمة أيضاً تجليات سياسية، ظهرت على وجه الخصوص بعد سقوط الاتحاد السوقيتي ونهاية عصر الحرب الباردة، وزوال الشمولية إلى الأبد. وأبرز تجلياتها الدعوة إلى الديمقراطية التى أصبحت أساساً لشرعية أي نظام سياسي معاصر، والتعددية واحترام حقوق الانسان"!

استاذ علم الاجتماع السياسي، ومستشار مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، لم يفته ـ وهو الحاصل على جائزة مُبارك في العلوم الاجتماعية لعام 2007 ـ، توجيه النصح والارشاد إلى صُناع القرار العربي، والجامعات، ومراكز الدراسات، إلى أهمية التعامل مع تحديات العولمة القادمة!

فالعولمة في رأي يسين متعددة، ومُعقدة، وذات أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية، والطريق الوحيد المُتاح أمام بلادنا هو التفاعل "الايجابي" الخلاق معها! الطريف هو خُلو مكتبتنا، على نحو مخيف من أي دراسات تلبي دعوة يسين!

الدراسات الموجودة كلها، بما فيها اصدارات ما يُسمى بـ "مدرسة الأهرام" البحثية، لا تخرج عن كونها قراءات روتينية "عقيمة" للمتغيرات العالمية، وتأثيراتها المُحتملة على منطقة الشرق الأوسط، في ضوء أحدث اصدارات مراكز البحوث الاستراتيجية الغربية Think Tank، دون أدنى محاولة لتحطيم محرمات البحث العربي، ودون أدنى تزخيم لميراثنا الحضاري، وقد أوشك على التعفن!

في كتابه "بحثاً عن عالم أفضل"، وُفق الرائع كارل بوبر في وصف المُغادرة إلى "ما بعد الحداثة" ـ أو المُغادرة من التنوير إلى التحكم ـ، بقوله(81): "إنني آخر بقايا التنوير، أي أنني عقلاني أومن بالحقيقة، وأومن بالعقل البشري .. وحين أقول إنني آخر بقايا التنوير أقصد أن رجل التنوير يتحدث بأبسط ما يستطيع من استخدام اللغة، حديثاً يتسم بالوضوح والبساطة والقوة، مثل أستاذنا العظيم برتراند راسل، لأن الهدف من بساطة اللغة هو التنوير، وليس التسلط"!

سكينر، أشهر علماء النفس السلوكي الحديث، في كتابه "ما وراء الحرية والكرامة"، والذى تُرجم إلى العربية بعنوان: "تكنولوجيا السلوك الانساني"، يضعنا في قلب "ما بعد الحداثة"، ويُنبئنا بموت "الانسان الداخلي المستقل"، بقوله(82):

"عندما يتبنى علم السلوك استراتيجية الفيزياء والبيولوجيا، يُستعاض عن الانسان المستقل الذى كان السلوك ينسب تقليدياً إليه بالبيئة التى نشأ وتطور فيها الجنس البشري، والتى يتشكل فيها سلوك الفرد ويُصان(..).

"في الصورة التقليدية يرى الشخص العالم من حوله، ويختار الملامح المراد رؤيتها، ويميز ما بينها، ويحكم عليها بالصلاح أو السوء، ويغيرها ليجعلها أفضل ـ أو أسوأ إن كان مهملاً ـ، ويمكن أن يعتبر مسؤولاً عن عمله، فيثاب أو يعاقب على النتائج. أما في الصورة العلمية، فيعتبر الشخص عضواً في أحد الأجناس شكلته طواريء البقاء التطورية، ويبدي عمليات سلوكية تضعه تحت سيطرة البيئة التي يعيش فيها، وإلى حد كبير تحت سيطرة بيئة اجتماعية بناها هو وملايين من الناس ممن هم على شاكلته وحافظوا عليها خلال تطور الثقافة. أما اتجاه علاقة السيطرة فيعكس الأمر: الشخص لا يؤثر على العالم، لكن العالم يؤثر عليه(..).

"التحليل التجريبي ينقل مسئولية تحديد السلوك من الانسان المستقل إلى البيئة، وتصبح البيئة هي المسئولة عن تطور الجنس البشري وعن الذخيرة التى يكتسبها كل عضو. لم تكن الكتابات القديمة عن أثر البيئة كافية، لأنها لم تستطع أن تفسر وتشرح كيفية عمل البيئة، وكان يبدو أن الكثير متروك للانسان المستقل ليقوم به. غير أن الظروف والطواريء البيئية تضطلع الآن بالوظائف التى كانت توكل إلى الانسان المستقل، وهنا تبرز بعض الأسئلة. هل أُلغى الانسان إذن؟

"انه بالتأكيد لم يلغ بصفته جنساً بشرياً أو بصفته فرداً يحقق انجازات. الانسان الداخلي المستقل هو الذى ألغى، وتلك خطوة إلى الأمام. ولكن ألا يصبح الانسان حينذاك مجرد ضحية أو متفرجاً سلبياً على ما يحدث له؟ انه حقاً مسيطر عليه من جانب بيئته، ولكن علينا أن نتذكر بأنها بيئة هي إلى حد كبير من صنعه الخاص. إن تطور الثقافة تدريب جبار على ضبط النفس. كثيراً ما يُقال أن وجهة النظر العلمية عن الانسان تقدم امكانات مثيرة. اننا لم نر بعد ما يمكن للانسان أن يصنع من الانسان."!

في السياق نفسه، تأتي مقابلة أجراها محمود سعد مع مصطفى حجازي، إبان ثورة 25 يناير. مُقدم البرامج المصري وصف حجازي بمُنظر الثورة!! بحوث هذا العالم اللبناني تدخل في إطار علم النفس الاجتماعي العيادي(83)، الذى يدرس الظواهر النفس اجتماعية بالطريقة العيادية، وتهدف على نحو "ما بعد حداثي" غامض، إلى توفير الأفكار اللازمة لمواجهة الخوف والقهر والعنف! حجازي بدأ رحلته البحثية على ما يبدو في لبنان، لاعتقاده بأن انفجار العنف فيها، والأشكال التى اتخذها، وما يحيط به من ظروف، وما تحركه من قوى وعوامل، فرصة كاشفة لما يعتمل في بنية المجتمع المتخلف من عنف، وما يصطرع فيها من مآزق وتناقضات، وهي بالتالي تبين ما يتعرض له الانسان في ذلك العالم من قهر واعتباط، وما يحل بقيمته الانسانية من هدر. حجازي يرى أيضاً أنه إذا ما اتخذ العنف وما يدفعه من قهر وهدر لكيان الانسان في الحالة الراهنة، طابعاً صارخاً ومأساوياً، فإنه هو نفسه، فاعل في بنى المجتمعات المتخلفة على تعددها، ومحرك لها، ومحدد لأنماط العلاقات والاستجابات فيها، إنما بأشكال مقنعة وغير مباشرة، وراء حالة من السكون الظاهري! ذلك هو افتراضه الأساسي الذى دفعه إلى الحديث عن سيكولوجية الانسان المقهور باعتباره النتاج الرئيسي للتخلف الاجتماعي، وهو ما دفعه أيضاً لرفض التطور "الطبيعي" للمجتمع العربي(84)!

هدف حجازي واضح! هدفه تفكيك الذهنية العربية، ثم وعن طريق الهندسة العكسيةReverse Engineering، يتم بالتحكم فيها وتحريكها إلى حيث يُراد!

في حوار آخر مع حجازي، نُشر في "المصري اليوم"، بعنوان: "مصر فى حاجة إلى وثيقة إعلان استقلال إنساني تسبق الدستور"، قدمت الجريدة العالم اللبناني ـ والذى أراه غامضاً بعض الشيء ـ، لقرائها بهذه الكلمات(85): "عمل الدكتور مصطفى حجازى فى مجال صناعة الفكر، وهو مؤسس مركز متخصص فى الفكر الاستراتيجى، وشركة تعمل فى مجال الحوكمة، وتطوير مؤسسية الشركات، والكيانات الصغيرة، ويشمل مجال عمله تقديم خدمات استراتيجية، لتطوير الكيانات والمجتمعات"! ثم تضيف الجريدة المذكورة: "لكن للرجل ـ تقصد حجازي ـ قصة ورؤية، الأولى مع الثورة حيث كان أحد العقول التى سعت إلى "مأسسة" ميدان التحرير، حتى تتحقق منه الأهداف المرجوة، وبعد الثورة يطرح رؤية جديدة تتجاوز الحزبية والأيديولوجية الضيقة، وتتسم بالعمومية الجامعة"!!

مصطفى حجازي، وكما يبدو من أحاديثه وكتاباته، ينتمي إلى ما يُعرف بـ"الأنسنيين الجُدد"(86)، وهو اسم يُطلق على الباحثين في مجال الانسانيات والعلوم الاجتماعية، من ذوي الأساس العلمي! هؤلاء ـ وياللخطر ـ يفكرون مثلهم مثل علماء الكيمياء والفيزياء..الخ، اختلافهم الرئيسي، وربما الوحيد، عن غيرهم من العلماء، هو الموضوع الذى يكتبون عنه، وليس في تفكيرهم الغائي!

في رده على سؤال "المصري اليوم" حول ما اذا كان استبداد الحاكم هو المشكلة الرئيسية، أجاب حجازي بلغة مُهندسي المجتمعات ومُصممي الثقافات: "الأهم من الاستبداد كان نزع الإنسانية، على مدار فترات طويلة سواء كانت قهراً أو طوعاً. وتلك هى البداية الأساسية لأى عملية إعادة هيكلة سواء لشركة أو لوطن(!!)، بأن نعيد الإنسانية أو ما يسمى أنسنة الكيان، وعندما ننتهى من الأنسنة نصل إلى مرحلة وضع الرؤية الكلية، فى إطار هذه الإنسانية، ثم ننتهى إلى ما يسمى المأسسة."! ثم أضاف عالم النفس العيادي: "والأنسنة بمعنى بسيط جداً هى أن نعيد لهذا الكيان المعايير التى يترتب عليها نجاحه أو فشله، فى أى مجتمع، سواء صغر أو كبر، بما يحقق قدراً من الحرية والعدل والكرامة لأشخاصه"!

ونظراً لخطورة حديث حجازي ودلالاته، فيما يتعلق باحترافيته ودوره في تأهيل كوادر الثورة في بلادي مصر، أكتفي ودون تعليق، باقتباس فقرات منه:

"بدأنا منذ أكثر من 10 سنوات مع الكثير من شباب المجتمع المصرى محاولات كى نؤصل هذه الطريقة فى التفكير، لتحفيزهم على نبذ حالة الادعاء الموجودة فى المجتمع المصرى.

"قبل الثورة كان هناك لقاءات متلاحقة مع فئات عمرية مختلفة واعية من الشباب. الكثير من هؤلاء الشباب كانوا من رموز الثورة(المصرية)، وكنا نركز معهم على مفهوم ملكية الوطن، ليكون راسخاً بداخله، وهو ما ظهر فى حملة خالد سعيد، وكلمة البلد بلدنا، وما جاء فى لقاءات من هذا النوع، لكننا لم نكن نعلم كيف نمارس هذه الملكية، ومن هنا بدأت التجليات، التى لا أدعى أننا كلنا أصحابها.

"(..) كانت هناك لقاءات أسبوعية مع سياسيين، ليكتمل المشهد السياسى كله، وكنا متفقين معهم على مشروع إعادة إحياء مؤسسة السياسة المصرية، وكان أحد أسمائه الشائعة هو "البديل الآن"، كى نعيد هيكلة مؤسسة السياسة المصرية على أسس إنسانية جديدة، وكان لدينا أمل أنه خلال سنة أو سنة ونصف تتحول حالة تحريك الوعى هذه إلى شعلة تدفع إلى التحرير الإنسانى، وهذا هو الملمح الذى استطاعت الثورة أن تعيده مرة أخرى، خاصة أن المجتمع كان قد نزعت عنه إنسانيته، وليس الاسترداد السياسى الذى يعد أحد تجليات الإنسانية، وربما يكون أكثرها ظهورا، لكننا لدينا مشاكل أخرى نعيشها حتى هذه اللحظة، وإن كنا معنيين بمعالجتها خلال الفترة المقبلة، ومن هذه المشاكل انتزاع الإنسانية، وفكرة أن تكون الحرية ليست ضرورة عند كتلة حرجة من المجتمع، فإن ذلك لا يبنى عليه المجتمع، ولهذا بدأنا بعودة الإنسانية أكثر من عودة العقل والوعى(!!)، إلى قطاعات من المجتمع المصرى وإعادتهم إلى أوقات خلقت منهم كائناً جديداً يُسمى:


[إنسان حُر مصرى]


"(كانت استراتيجيتنا خلال تلك الفترة) أن نرسخ لفكر الحركة بلا قائد، والمدرسة التى تبنيناها تقوم على ذلك، وعلى أن المجتمع سيبقى دائما متفرقاً ومتنوعاً فى وحداته، وهذا هو منتهى الثراء، وركزنا أن يتعلموا كيف يتعايشون، ويتآزروا، فنحن نعمل على قاعدة كيفية خلق التوافق المجتمعى على قيم مشتركة.

"الجمعية الوطنية للتغيير، التى ضمت عدداً من القوى الوطنية، كانت معنية بالبعد السياسى فقط، ولها كل الاحترام والتقدير، وكل الفضل فيما حدث من تراكم، لكنهم رغم ما كانوا عليه من هذه الشاكلة فهم جزء من كل المجتمع، لكن ما كنا ومازلنا ندعو إليه هو خلق تيار عام رئيسى لمصر، وهو التيار الذى ينشئ الدولة، ويبقى فوق الدستور، فهو ما قبل الدولة وما فوق الدستور.

"قرأت فى الشارع المصرى من يوم 25 تحديدا أن هناك توجهاً جديداً، وأن هناك وجوهاً جديدة، كان أهم ما فيها أنها لم تكن بالضرورة مسيسة، والأهم أنها كانت تطالب بإمكانيتها، وهو المطالبة بنوع من الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وهذا التوجه الجديد رأيت يوم 25 يناير أنه جديد على الشارع وهذا هو أخطر شىء أبحث عنه إذا ما كنت أبحث عن إصلاح المجتمع، وأن أجد كتلة من المصريين تطالب بما يتناسب مع إمكانياتها، وكانت تلك هى القضية الحقيقية بالنسبة لى، وبالتالى يصبح إصلاح المجتمع ليس فقط فى أنك ترفع الاستبداد السياسى وإنما متمثل فى أنك تحاول أن تعيد له إنسانيته، وطالما ظهرت هذه الكتلة على الأرض أصبح لدينا كتلة حرجة يمكن أن تكون نواة للتيار الرئيسى.

"كنت أقول لهم ـ لم يذكر لمن(!!) ـ إننى أرى غد تحرير وليس ميدان تحرير، فكانت هناك فترة لتحريك الوعى، تلتها فترة لمساحة من التحرير، وفى يوم 28 يناير كان المعنى بالتحرير هو من يحرر مصر من استعمار الفساد وعملت ما هو أشبه باختبار بسيط للناس، هل ترى مصر محتلة الآن وكانت الإجابة بها نوع من المراوحة سابقاً لكن فى هذه اللحظة كانت الإجابة قطعية "نعم مصر محتلة"، وبالتالى أصبحت فكرة النزول إلى الشارع وأصبح الثوار طرفا فى صنع القرار، ولقد جاء حرص الشباب على النزول بالعلم دليلا على تأكيد الملكية، وهذا هو مطلب التحرير الأساسى "استعادة الملكية" وليس إسقاط رأس النظام، وكان ثالث مطلب هو أن يكون معك حلم البناء، لأن فكرة الثورة لن تمتد إلى الأبد، فالثائر الحقيقى معنى بكامل مراحل ثورته، فإسقاطه للنظام إلى مرحلة التهاوى هذه مرحلة أولى لابد منها، لكن الهدف النهائى هو استعادة الملكية.

"اسقاط النظم فى الثورات ضرورة، ولكنها ليست كافية، فالفعل لا يأتى بالمقصود إلا إذا جاء بضرورته وكفايته، وضرورة الثورات تأتى فى إسقاط النظم السابقة، وكفايتها فى بناء نظام جديد على خلفية المرجعية الفكرية، التى أتت بفكرة إسقاط النظام لأنه لا يحقق كذا وكذا، وأتت بالنظام الجديد لتحقيق العدل والكرامة لكل المصريين، كما يتوافق عليهما هذا المجتمع..."!

مجتمعاتنا العربية ـ وكما نرى ـ، في مواجهة وضع كارثي! أولاً، هناك الموروث "الجامد"، والذى حيل بين أبناء أمتنا وبين نقده وتطويره، إبان دولة "ما بعد الاستعمار"، بكل ما شهدته من ارهاب وعنف، وتفتيش في الضمائر، وتجفيف لمنابع التفكير الحُر! فرصتنا كانت ذهبية للخروج من "المأزق الحضاري"! لو أن نور الحُرية لم يُطفأ، ولو أن "باعة صكوك الحرية"، لم يقوموا بتدجين النفوس!

ثانياً، هناك الوافد "الما بعد حداثي"، والذى يحرص دُعاته، بانصرافهم الواضح عن التنوير وايقاظ وعي الانسان العربي بالنفس وبالوجود، إلى التحكم في أفكار البشر وسلوكهم، من خلال هندسة مجتمعاتهم وثقافاتهم، واتاحة أوضاع معيشية أفضل، تهييء بدورها الأجواء المواتيه لعبودية مُختارة وهيمنة "غير مرئية"(87)! وافد "ما بعد حداثي" مُخيف، لا يؤمن بالتطور الطبيعى للانسان والمجتمع، ولا يؤمن بأهمية تنوع الأفكار وازدهارها، وحق الانسان في الاختيار، والتقدم! لا يؤمن بحق البشر في صُنع مصائرهم وإنما بأن تُصنع لهم مصائرهم!

مجتمعاتنا تواجه كل هذه القوى العاتية بافلاس حضاري غير مسبوق! ولمن يزعم أنه لا ضرر في الأمر على هويتنا الحضارية، ووجودنا الانساني! أقول إنه حتى لو صح القول برواج مقولات "مابعد الحداثة" في الغرب، فلا خوف على الغربيين منها، كون مجتمعاتهم شديدة الثراء! شقت طريقها بجسارة وجرأة نحو الحاضر! إنها مجتمعات ملآى بالفلاسفة وحُماة التفكير "الحُر" في مواجهة التفكير العلمي واللاهوتي، على خلاف مجتمعاتنا، بفقرها "المُدقع" في النفوس الحُرة!

هل نوشك أن نُلدغ من الجُحر مرتين؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نشرت "الواشنطن بوست" مؤخراً، مقالة بعنوان(88): "الخرس العربي إزاء موت بن لادن"، في سياق الجدل الدائر حول مدى مشروعية القاء جثمان ابن لادن، في البحر، وحرمانه من قبر، يضم رفاته، ويسمح لأفراد عائلته بزيارته!

مقالة "الواشنطن بوست"، على قصرها، تُنبهنا من حيث لا تقصد، إلى مسألة شديدة الأهمية، وهى وجود إرادة غربية، الغريب أنها مُعلنة(!!)، مدعومة بتخلف مُخنث، وتعاون قوى محلية، همها خلط الأوراق، وحجب نور الحقيقة!

النوايا الغربية بدت حاضرة في حفاوة المقالة المذكورة بما رصدته في الشارع العربي من تضاؤل لمكانة بن لادن، عند جيل الشباب العربي، مقارنة ببوعزيزى الشاب التونسي الذى تسبب باحراقه لنفسه في تفحير الثورة في تونس، والذى اختصته المقالة بالبطولة. لا لشيء، وإنما على حد قول المقالة، لاكتفائه باحراق نفسه، في سبيل انتخابات حرة، وحكم رشيد، وانهاء الفساد في تونس. بوعزيزي لم يرتكب خطيئة العنف في حق الغرب، على خلاف "السبتمبريين"، الذين أقضوا بهجماتهم الاستشهادية/الجهادية، مضاجع الغربيين ونالوا من أمنهم!

مجتمعاتنا العربية تُوشك أن تُلدغ مرة "ثانية" من الجُحر الأمريكي!

يدعوني لهذا التوقع، ما أراه حولي من حجب للحقائق واستهانة "استفزازية" بوعينا! صحيح ان ما يحدث هو نتيجة منطقية لافلاسنا الحضاري، وتأكد خروجنا من التاريخ! غير أني، وإيماناً منى بمقولة جرامشي الرائعة "تشاؤم المفكر، وتفاؤل الارادة"، أعمد هنا إلى القاء الضوء على بعض الحقائق المسكوت عنها، بوعي أو بلا وعي، في ثوراتنا الأخيرة، اعتماداً على سذاجة مجتمعاتنا وصعوبة تصورها، للطبيعة المُعقدة وغير العفوية لهذه الثورات! فهي فوضى شديدة التنظيم! والأنظمة "المُغادرة"، لم يكن لها لتفلت، في ظل تحالف "غير مُعلن"، بين طُلاب رؤوسها!

في قلب ثورة 25 يناير، توجد حركات عديدة، من أبرزها "حركة شباب 6 أبريل"(89)، ومُنسقها العام المهندس/أحمد ماهر(90)! الدوائر الغربية تعرف ماهر ورفاقه، أكثر منا! في "المصري اليوم"، صادفت خبراً صغيراً، بعنوان "منسق 6 أبريل يتهم أوباما بدعم مبارك"! يقول الخبر(91): "أحمد ماهر المنسق العام لحركة شباب 6 أبريل اتهم الرئيس الأمريكي باراك أوباما بدعم النظام القمعي للرئيس السابق حسني مبارك، ضد النشطاء والسياسيين داخل مصر طوال السنوات الأخيرة، وأشار إلى تذبذب مواقف إدارة أوباما في الأيام الأولى للثورة المصرية. وانتقد ماهر خلال محاضرتين ألقاهما بجامعتي "هارفارد" و"ماساشوستسي" خلال زيارته أمريكا مؤخراً، السياسة الأمريكية الداعمة للأنطمة القمعية في العالم العربي، بهدف الحفاظ على مصالحها ومصالح اسرائيل في المنطقة".

وبمراجعة الموقع الألكتروني لشباب 6 أبريل(92)، وجدت ما يؤكد الخبر:

"علي هامش زيارة عمل خاصة ـ (!!) ـ في امريكا، شن المنسق العام لـ6أبريل هجوما حادا علي الإدارة الأمريكية في بعض الجامعات الأمريكية، حيث ألقي الزميلين المهندس أحمد ماهر مؤسس حركة شباب 6 أبريل والمنسق العام لها، والزميل وليد راشد محاضرتين في كل من جامعتي هارفرد وجامعة ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهما من أكبر الجامعات علي مستوي العالم، إستعرضوا خلالهما تجربة حركة التغيير المصرية منذ عام 2005 والتجارب الشبابية حتي إنتصار حركة التغيير علي مبارك في إنتفاضة 25 يناير الشعبية، وهو الذي حرص خلاله عدد من الطلاب والشباب من دول العالم المختلفة متابعته لمحاولة التعلم من التجربة المصرية وخصوصا تحركات الشباب"!

لم أكن أعرف أحمد ماهر، ولم أكن قد سمعت عنه أو حتى قرأت له! ومن هنا، بدأت أسأل عنه بعض الشباب المُشارك في الثورة ـ على نحو عفوي ـ، والمُتابع للفيس بوك! فوجئت أنهم لا يعرفونه، ولم يعرفوا عن دوره في الثورة!

من الشاب إذن، وكيف يعرفه الأكاديميون في أعرق الجامعات الأمريكية، ولا يعرفه المشاركون في الثورة أنفسهم! من هنا، بدأ اهتمامي بماهر وحركته، والتى يُلخص موقعها الالكتروني فلسفتها، بهدف تسويق الفكرة وتجنيد النُشطاء:
"تمر مصر الآن بظروف عصيبه ربما تكون الأسوأ فى تاريخها من تدهور فى جميع المجالات واصبح من الصعب بل ومن المستحيل الحديث عن أى محاولات اصلاحيه وخصوصا مع رفض النظام الحاكم لأى محاولات او أراء لتعديل او تصحيح مساره.
"نهدف إلى تغيير الوضع السيء فى مصر عن طريق تكتل شبابى أو منظمة شبابية ضخمة(دون تحديد للشريحة العمرية للمجموعة لكن القوام الاساسى للشباب) ذات افكار مبدعة ومتجددة تسعى للانتشار والتوعية وتحريك الاحداث السياسية فى مصر وخلق انشطة مبتكرة يسانده ادوار اصلاحية و الضغط المستمر فى سبيل التحقيق الهدف.
"نوع التغيير الذى تنتهجه المجموعة: التغيير اللاعنفى.
"العناصر الرئيسية المكونة للمجموعة: الشباب من الجنسين..مستقل و مؤدلج..دون النظر للانتماءات الفكرية المختلفة للاعضاء يسعون لهدف واحد"!

فلسفة الحركة، تعكس رغبة ضارية في الحشد، والهدف واضح: اسقاط النظام الحاكم في مصر! الحكومة المصرية، على ما يبدو، لم تُقدر خطورة الحركة! رسائل يجدها الزائر لموقع الحركة على "الفيس بوك"، تؤكد يما لا يدع مجالاً للشك، عدم احترام الحكومة للحركة، وانخداعها بهيافتها "الاصطناعية"!

ساعد على ذلك حداثة عهد ثقافتنا بأفكار كالنضال باستخدام اللاعنف، وبما يمكن أن تفضي إليه من نتائج خطيرة، فالخبرة العربية تكاد تكون معدومة في هذا الصدد! ساعد على ذلك أيضاً كسر قيادات الحركة للصورة النمطية للثائر في الذهنية العربية، والتى تسيدت المشهد السياسي في دولة "ما بعد الاستعمار"، وحرص هذه القيادات الذى قد لايكون دائماً عفوياً على الأخطاء الاملائية، ومظهر "الشباب السيس"! فضلاً عن الاعلان الطفولي "الخداعي" عن النوايا والأهداف!

وقع النظام في الفخ! قادة الحركات "الشبابية" ليسوا حفنة من "الشباب السيس"(93)، ولكنهم على أرقي مستوى من التدريب على "التغيير اللاعنفي"! في مقالة نشرتها جريدة "النيويورك تايمز"(94)، أوردت الجريدة كلام أحمد ماهر عن استفادة الحركة وقياداتها من كتابات جين شارب(95)! وهو أستاذ أمريكي للعلوم السياسية في جامعتي هارفرد وماساتشوستس بالولايات المتحدة، وخبير عالمي في "النضال باستخدام اللاعنف"، ومؤسس "ألبرت أينشتين"(96)، وهي تعمل على تطوير دراسة عالمية، واستراتيجية للعمل باستخدام اللاعنف في الصراعات!

مقالة "النيويورك تايمز" كشفت أيضاً عن أن المنسق العام لحركة شباب 6 أبريل أحمد ماهر، عرف كتابات جين شارب، أثناء اطلاعه عن كثب على تجربة الصرب في اسقاط نظام حكم ميلوسوفتش الديكتاتوري أوئل عام 2000، عبر انتفاضة "سلمية"، تأثرت باعمال شارب النظرية والتى تأثر فيها بالرائع غاندي!

المقالة أيضاً كشفت عن ورشة عمل نظمها "المركز الدولي للنضال باستخدام اللاعنف"، في القاهرة منذ سنوات، وكانت ورقة شارب "198 طريقة للنضال باستخدام اللاعنف"، ضمن الورشة! المقالة نقلت عن مدونة وناشطة مصرية حضرت الورشة، ثم قامت بعدها بتنظيم ورشة مُماثلة، قولها ان نشطاء تونس ومصر الذين حضروا الورش كانوا دُعامة قوية في ثورتي مصر وتونس! فضلاً عن قيام بعضهم بترجمة أجزاء من أعمال جين شارب إلى اللغة العربية!

كشفت المقالة كذلك عن قيام إيران عام 2008 بعرض "فيديو"، يضم جين شارب، والسيناتور الأمريكي جون ماكين(97)، ورجل المال جورج سوروس، اتهمت فيه شارب بالعمل مع المخابرات، وتسهيل اختراق بلاده للدول الأخرى!

الطريف في الأمر، هو نقل مقالة "النيويورك تايمز" عن شارب علمه بوضع جماعة الاخوان أحد كتبه: "من الديكتاتورية إلى الديمقراطية"، على موقعها الالكتروني! وأيضاً وصفها لانفعالاته أثناء متابعته للثورة في مصر من منزله!

في مقالة ذات صلة لـZune Stephen، رئيس قسم دراسات الشرق الأوسط بجامعة سان فرانسيسكو، والخبير في مجال "النضال باستخدام اللاعنف"، عنوانها(98): "صربيا..بعد مرور 10 سنوات"، تحدث ستيفن عن الحركة الصربية ""Otpor(99)، وهو اسم يعني "المقاومة"! تحدث عن اسقاطها لنظام ميلوسوفتش، من خلال انتفاضة سلمية، استندت إلى أفكار شارب، واهتمام أمريكي "غامض"! الحركة الصربية، والكلام للخبير الأمريكي، بعد بلوغ أهدافها، لم تلبث أن حُلت! بعض قادتها قاموا بتأسيس مركز أطلقوا عليه CANVAS، أرادوا به نقل خبراتهم، ونظموا ورش عمل، حضرها نُشطاء من مصر ودول عربية ومن انحاء العالم!
في حوار مع أحمد ماهر، أجرته "الشرق الأوسط"(100)، أثناء الثورة وقبل تنحي مبارك، كشف ماهرعن تفاصيل الإعداد للاحتجاجات التي انطلقت في 25 يناير، بحكم موقعه في قيادة غرفة العمليات! وهي غرفة تشكلت ـ والكلام لماهر ـ قبيل انطلاق الاحتجاجات بنحو 15 يوما، وكان يتم الاجتماع فيها يوميا لمناقشة تفاصيل روتينية تتعلق بتقييم مدى انتشار الدعوة للاحتجاجات على مواقع الانترنت، ومن خلال البيانات التي يتم توزيعها على المواطنين في المناطق الشعبية، وكذلك دراسة ابتكار آليات جديدة للتظاهر بهدف التغلب على الوسائل التي تتبعها دائما أجهزة الأمن لإجهاض الاحتجاجات! وقبل الاحتجاجات بيومين تم التوصل ـ والكلام لا يزال لماهر ـ إلى آلية جديدة مفادها أن يتم تقسيم النشطاء إلى مجموعات تتكون كل مجموعة من 30 إلى 50 ناشطا يتم توزيعهم على المناطق الشعبية والميادين العامة لإطلاق شرارة الاحتجاجات، ولم يكن أي من أعضاء هذه المجموعات يعرف المكان المحدد للتظاهر، وكان قائد كل مجموعة هو الوحيد الذي يعرف مكان بدء المظاهرة على أن يلتقي ببقية أعضاء مجموعته في مكان ما، قبل البداية بقليل، ثم يتوجه مع مجموعته إلى المكان المتفق عليه!

قدرات تنظيمية "احترافية" "راقية" على هذا النحو، لشباب، الكل يعرف عنه أنه "سيس"، وأنه موضع تندر البسطاء في بلادنا(101)، لابد وأنها تحد من إمكانية، النفي القاطع لتواطؤ "غير ضار"، لاسبيل الآن لمعرفة تفاصيله، بين قوى الداخل وبين قوى خارجية صاحبة مصلحة، من بينها الولايات المتحدة والثمانية الكبار!

في عصر العولمة، لا مجال للتخفي أو خلط الأوراق على نحو ساذج، إنه عصر الأقوياء! حركة شباب 6 أبريل وغيرها، لابد وأن يعوا هذا! يدعوني لقول هذا، ما أراه تخبطاً من قيادات الحركة، في التعاطي مع التسريبات الأمريكية الأخيرة(102)، حول علاقة الحركة بقوى الخارج، ومصادر تمويلها! التسريبات الأمريكية، لابد وأن تحدث، وإن اعتقدت قيادات 6أبريل أو غيرها، خلاف ذلك!

القيادات الشبابية عليها التعاطي مع "ما بعد ثورة 25 يناير"، بشكل مُغاير لما اعتدنا عليه في ثقافتنا! صحيح أنها برعت، مع غيرها من قوى الداخل، في انجاح ثورتنا، غير أن الأمر بعد الثورة شديد الاختلاف! مصلحة بلادنا وقوى الخارج لم تعد مُتطابقة! ونُشدان المغانم بات وارداً(103)، وهو ما يُحتم الشفافية!

قارئي الكريم، أراني ما أردت بحديثي هذا عن حركة شباب 6 أبريل، والتى نحمد لها، هي وبقية قوى الداخل، وفي طليعتها جماعة الاخوان، جهودهم الباسلة في الاطاحة بطاغية، سوى التنبيه لوجود امكانية لأن تُلدغ بلادنا من الجُحر الأمريكي ثانية! أمريكا ساعدتنا في الماضي على الدخول إلى دولة "ما بعد الاستعمار"، عن طريق روزفلت وغيره! غير أن الثُوار وقتها اندفعوا، وكانوا من الشباب أيضاً، وتلك هي المفارقة، إلى حيث لا ينبغي لهم ولا لبلادهم أن تكون!

قد تُفضي نصيحتى هذه ببعض قوى الداخل المُشاركة في الثورة، وبخاصة من قيادات الشباب، لأن تخسر الحاضر، غير أن بلادنا حتماً ستربح المستقبل!

إلى أين نحن ذاهبون؟
ــــــــــــــــــــــ

رداً على سؤال عماد الدين أديب لمبارك، في حوار شهير، عن مدى امكانية وجود أغلبية في البرلمان ليست لحزب يخص الرئيس، قال الرجل(104):

"نرجع لفترة ما قبل الثورة ـ يقصد ثورة 23 يوليو ـ ماذا كان يحدث؟ لم يكن هناك حزب أغلبية إلا الوفد وأحياناً لم يكن يحصل على الأغلبية، وكان يضطر للدخول في ائتلاف. حزب الأغلبية يستطيع أن يقود بلداً مثل مصر، ولكن لو حزب ليس له أغلبية ستكون حكومة ائتلافية، فمن يريد أن يلعب في البلد يلعب عن طريق البرلمان، ويُسقط أي حكومة ائتلافية. أنا لا أريد الدخول في تفاصيل. الثورة تعجلت وخرجت قبل موعدها المحدد لها من قادتها لماذا؟ لأن هناك ثلاث أو أربع وزارات تم تغييرها في خلال 48 ساعة ووقتها كان تعداد البلد 18 مليوناً واليوم التعداد 72 مليوناً لن نستطيع تحمل حكومة ائتلافية، لأنها لن تبقى أكثر من سنة، وبعد ذلك تتشاجر الأحزاب المؤتلفة مع بعضها البعض، لابد أن يكون هناك حزب أغلبية لكي تسير البلاد، أنا أقولها للتاريخ فأنا لن أعيش للأبد."!

التنافس على السيادة في المجتمع المصري، كما في بقية المجتمعات العربية الثائرة وربما غير الثائرة أيضاً، وفيما يرى أغلب المهتمين بالشأن العربي والاسلامي، غالباً ما سينحصر، على الأقل لسنوات قليلة قادمة، بين قوى الموروث من جانب(وفي طليعتها الاسلام السياسي، وفلول ما بعد الاستعمار، من دراويش الآباء المؤسسين والشيوعيين والبعثيين والناصريين..الخ)، وبين قوى وافدة أفرزتها الثورة، وهي مُغايرة للأولى في أمور ومُشابهة لها في أخرى!

قوى الموروث، وفي طليعتها قوى الاسلام السياسي، يُهيمن عليها التفكير الفقهي، بطبيعتة النفعية والتى لا تنال بحالٍ من مكانته العظيمة! فالتفكير الفقهي، وعلى خلاف التفكير الفلسفي، لا يُمارس، إلا تحت إكراه التبجيل الدفاعي أو الهجومي أو الاثنين معاً، وذلك طبقاً لأوضاع المجتمع الاجتماعية والقانونية والسياسية..الخ! صاحب التفكير الفقهي مُكلف إما بمرافقة إرادات القوة والتوسع، وإما بتدعيم الأطر الثقافية القائمة والمهيمنة، من خلال مقاومة المشاريع المنافسة، وجعل هذه الأطر أكثر تخشباً وصلابة! طبيعة نفعية كهذه تٌُعادي التفكير النقدي!

أما قوى الوافد(وفي طليعتها قيادات بارزة من شباب الثورة)، فيهيمن عليها التفكير العلمي! والذى يتشابه مع الفلسفي، في النُشدان الحُر للحقيقة، وإن اختلف عنه في أن النُشدان إنما يتم من خلال التجربة، وليس من خلال البحث النظري!

وهو ما يلفت الانتباه إلى وجود أرضية "نفعية" مشتركة بين التفكير الفقهي والعلمي، ويُفسر لنا ما نلحظه ، تاريخياً، من عدم وجود عوائق أمام النبوغ العربي في العلوم، على خلاف الفقر العربي المُدقع في الانسانيات والعلوم الاجتماعية! يؤكد زعمي هذا، على ما يبدو، ما يشهده فضاؤنا الثقافي اليوم من اهتمام أبرز باحثينا وعلمائنا بالعلوم الاجتماعية، على خلفية مُغادرتها إلى "ما بعد الحداثة"، وغزو التفكير العلمي، لهذه العلوم، كما للانسانيات، على أيدي الأنسنيين الجُدد!
من هنا، تتواضع حظوظ التفكير الفلسفي، أي النُشدان الحُر للحقيقة من خلال البحث والتقصى، كلما قوي التفكير العلمي أو الفقهي، فما بالك إن اتحدا!

"صدام خلاق"، أو على الأقل عدم ارتياح مُتبادل، بين أنصار التفكيرين العلمي "ما بعد الحداثي" والفقهي، قد يمنح بعض الأمل في عدم مناهضة التفكير الفلسفي أو التضييق عليه، عن طريق تجفبف المنابع، وغرس اليقين في النشء!

لكل انسان في بلادنا الحق في النُشدان الحُر للحقيقة! أنا لا أريد لدمي أن يُراق، ولا لأمتي أن تفقد هويتها! لا أريد ليدي أن تُغل، وحفنة من الأقزام تعبث بمصيري! لا أريد ليدي أن تُغل، وأيدي خفية ترسم لي الطريق وتنتحل إرادتي! أنا أنتمي إلى الحضارة الاسلامية، ولا أرضى بغيرها بديلاً! أريد لحضارتي أن تقرر مصيرها، ولأبناء حضارتي أن يمتلكوا الحق والقدرة على نقدها وتطويرها! لا أريد لحضارتي أن تموت، فأفقد بموتها هويتي! محمد(ص) قبل أن يكون رسول الاسلام هو جدي، لا أرضى له إهانة أو ظُلماً! نحن محبو الحقيقة لانكره الأديان، وكيف؟ وفي رحاب الاسلام وُلدنا ووُلدت حضارتنا! لسنا أقل من غيرنا غيرة على موروثنا الحضاري، وحرصاً على تزخيمه! لسنا كارهين لقوى الاسلام السياسي، ومنها خرج بن لادن، ليُعيد وصحبه ـ رحمهم الله ـ، كتابة التاريخ العربي!

لا نريد لعبث الغربيين بدمائنا ورفات أبناء حضارتنا أن يستمر! ماذا يبقي لأمة يُعبثُ برفات موتاها! لا استقلال لأمتنا، بمنآى عن المصادر الحقيقية للقوة؟

الحرية والمعرفة وجهان لعملة واحدة، فلا حرية بدون معرفة، ولا معرفة بدون حرية! لم يعد لائقاً أو حتى ممكناً دوام التعاطي مع ثوراتنا بلاثورية وبلاشفافية! لا خير في ثوراتنا إن لم تصمد أمام النقد ولا خير فينا إن لم ننقدها! ثوراتنا خطوة مهمة على الطريق إلى الحرية، لكنها ليست الخطوة الأخيرة! فلم تزل الأحلام في الصدور تجول! ولم تزل النفوس تهفو لفضاء الحرية الرحب!

أحلامي كثيرة! أحلم ببلادى ملآى بأصحاب النفوس الحرة ومحبي الحقيقة! أحلم بأن يُولد من رحم ثوراتنا من يأخذ بيدنا إلى الرقي الحضاري! أحلم بمكتبات بلادي ملآى ببحوث تُناقش في نزاهة وموضوعية كل شيء! أحلم بجيل قادر على تشريح آلامنا، لا ليتحكم فينا، كما يفعل "الما بعد حداثيون"، من مهندسي الثقافات ومُصممي المجتمعات، وإنما ليوقظ وعينا إزاء دفع الحياة إلى الأمام والتحليق في سماء الحرية والابداع! أحلم باعلان استقلال جديد وحقيقي هذه المرة، ليس لأوطانٍ فحسب، وإنما لنفوسٍ ترفل في غلائل التخلف والغرور! أحلم بلجان صدق ومصالحة، يعترف أمامها جلادي عقود "ما بعد الاستعمار"، ويُبدون الندم على آثامهم، ثم يكون العفو الجميل! لا نريد لأشواك الثأر أن تُمزق وشائج الرحمة!

أحلم بتجفيف منابع العداوة بين أبناء الجيرة الواحدة! أحلم بتدريس القيم والأخلاقيات العليا المُشتركة في مدارسنا، وترك تعليم تفاصيل الأديان للجهات غير الرسمية! أحلم بضمائر تُشيد في النفوس! أحلم بالوازع الأخلاقي، إلى جانب الوازع الديني! لم يعد مُحتملاً، والتعقيدات الحياتية على هذا النحو، الاكتفاء في تربية النشء بصيغة "إفعل ولا تفعل"! لم يعد مُحتملاً أن يهرب الناس من "العيب" و"الأصول"، إلى "حلالٍ" حمال أوجه! لم يعد مُحتملاً الاكتفاء بالتخويف من عذاب النار والترغيب في نعيم الجنة! أورثنا هذا انحطاطاً أخلاقياً، وهوساً بالطقوس!

أحلم بنزع "طاقية الاخفاء" من فوق رأس الانحطاط الأخلاقي في مجتمعاتنا، ليبدو عارياً، لا تستره سوى خرقة العار! أحلم بعرش الأديان في قلوب وعقول البشر، وليس في مؤسسات الحكم! الله عز وجل ليس لعبة أولي الأمر!

أحلم بتزخيم ثقافة شباب "الفيس بوك"، حتى لا يظلوا فريسة سهلة، لكل من هب ودب! سذاجتهم كانت مفيدة، في الثورات الأخيرة، ولكن ليس كل مرة تسلم الجرة! أحلم بالانقاذ الانساني السريع لغير القادرين على الصراخ، وسط الفوضى الراهنة، من نزلاء مستشفيات الأمراض النفسية والعقلية، ونزلاء السجون والمعتفلات، والمُعدمين، والصُم والبكم، وأصحاب الحالات الخاصة..الخ! أحلم بتعفف دولة "ما بعد هجمات11سبتمبر" للقروض والمعونات والهبات، فلا أمر من خبز الاحسان! أحلم باعتماد حكوماتنا على الذات، حقناً لهوية على حافة الزوال!

أحلم بأن تُدرس مجتمعاتنا جيداً قبل وضع الخطط والاستراتيجات! أحلم بتخلي حكامنا الجُدد عن عشوائية وفهلوة أسلافهم في دولة "ما بعد الاستعمار"! أحلم بالابقاء على، بل وتطوير، مشروع عظيم كالقراءة للجميع وعدم أخذه بجريرة السيدة سوزان مبارك، فحد علمي أنها لم تطلب وضع صورتها على اغلفة الاصدارات! أحلم بمفكرين وفلاسفة من نسيجنا الحضاري، ينهضون بنقد وتطوير حضارتنا ونسترشد بهم حين يسود الظلام! أحلم بأن أعرف عن نفسي وحضارتي أكثر أو على الأقل مثل ما يعرفه الغربيون! أحلم بأن تكون لى حرية مفكريهم في البحث والتقصي! أحلم بألا تروج كتابات من قبيل "تاريخنا المُفترى عليه" ليوسف لقرضاوي! ولا عبارات من قبيل "يا أهل أطفيح إسمعوا وأطيعوا" لصفوت حجازي! ولا أفكار من قبيل "دولة مدنية ذات مرجعية دينية" لجماعة الاخوان!

أحلم بأن يتوقف توحش "الحزبية الدينية"، أعني هذا التشرزم العنقودي إلى جماعات مُتلاسنة، بل وأحياناً مُتناحرة: جماعة الاخوان، جماعة السلفيين، جماعة الجهاد، الجماعة الاسلامية..الخ! فدين محمد واحد، وهو الاسلام! ورب محمد واحد وهو الله! أما ما بدأه البنا، فأراه افتئاتاً "غير مقصود" على وحدة المسلمين!

أحلم بأن يتكرم علينا وائل غنيم وأحمد ماهر وإسراء عبد الفتاح..وغيرهم، بمعاملتنا نحن أصحاب البلد بنفس الشفافية التى يتعاملون بها مع الغرب! نحن أحق بمعرفة الحقيقة! نحن من عانى آلام "ما بعد الاستعمار"! نحن من هتف وصفق للظلم ومجد في الطغاة! نحن من دفع ثمن الدعم الغربي لاستقلالنا الزائف! نحن من فقد الكرامة والقدرة على القراءة النزيهة والمنظمة للأحداث! نحن من دُجن!

لماذا يعرف الغربي عن ثورة بلادي كل شيء، وأجهل أنا وغيري من المصريين كل شيء! لماذا تُخفي هذه القيادات "المحلية" عن المصريين، بل وحتى عن أتباعهم من الشباب، كل شيء، وفي الغرب، يُفضون بكل شيء! إلاما تظل شعوبنا جاهلة بالحقائق، مُحاطة بالأكاذيب والأوهام، وهي دائماً من يدفع الثمن!

أحلم بأن أعرف ما يعرفه الغربيون عن الثورة وقياداتها في بلادي! أنا لا أطمئن كثيراً لما يحصل! خاصة والتعامل مع ثوراتنا لا يزال خلو من الثورية أو الشفافية! ثورة مصر الأخيرة وكما رأيتها، كانت أشبه بجراحة بارعة، استُئصل فيها سرطان النظام من جسد بلادي، غير أن الجسد لا يزال على وضعيته البائسة! ثورة مصر محض قدرة مُخيفة على التحريك والحشد، مع وعي "مُعلب" "بارد"!

منبع الخصوبة في الثورات هو تشبع نسيجها بوعي حُر مفتوح، يقويها ويدفع المشاركين فيها إلى نقد وتطوير ثقافتهم، وليس التفاخر بالانقياد الأعمي!

كلمة أخيرة: لماذا ننتظر مجيء الحُرية؟ ولا نُعلن أنفسنا أحراراً؟ الثورات الأخيرة تُثبت بما لايدع مجالاً للشك، أنه "قد توجد الثورة، ولا يوجد الوعي"!

الهوامش:
ــــــــــ
(*) هذه المقالة مُهداة إلى كل أطباء وطبيبات المُستشفيات الحكومية في بلادي مصر، الذين ـ ورغم التواضع الشديد لما يحصلون عليه من رواتب ـ، رفضوا في نُبل ونخوة الاشتراك في الاضراب "الفئوي" الأخير، لنقابة أطباء مصر، وفضلوا خصم يوم الاضراب من رصيد أجازاتهم، وذلك لعجزهم عن مقابلة آلام مرضاهم، وأغلبهم من البسطاء، والطبقات الأكثر معاناة، بالأنانية واللامبالاة!
(1) حول الفهم العربي المُشوه لمفهومي "البطولة" و"الاستقلال"، راجع: حازم خيري، "أبطال عظماء أم باعة لصكوك الحرية"، مقالة منشورة على الانترنت.
(2) في أعقاب انتفاضة 18 & 19 يناير سنة 1977، عُقدت ندوة في التليفزيون العربي(المصري)، قام بادارتها المذيع المصري الشهير أحمد فراج، وكان ضيوفها، هم: الشيخ محمد متولي الشعراوي وزير الأوقاف والدولة لشئون الأزهر، والمستشار علي علي منصور، والمفكر الاسلامي البهي الخولي، وصوفي أبو طالب رئيس جامعة القاهرة، وزكريا البري أستاذ الشريعة بكلية الحقوق جامعة القاهرة، وصلاح الدين عبد الوهاب مستشار وزارة السياحة. ما جرى في الندوة من آراء يُعضد في مجمله زعمنا، بتوقف حكم شعوبنا على الانتفاضات، ليس على نزاهة قصدها، وإنما على ما تُحرزه من نجاح في بلوغ أهدافها! راجع نص الندوة: التليفزيون العربي، ندوة التليفزيون العربي: السلام الاجتماعي في الاسلام، (القاهرة: بدون ناشر، 1977). وحول الانتقاضة نفسها، راجع: أحمد بهاء الدين شعبان، 48 ساعة هزت مصر: رؤية شاهد عيان لوقائع وأحداث 18 & 19 يناير1977، (القاهرة: هفن للترجمة والنشر والبرمجيات، 2009).
(3) حديثي عن الثورات العربية الأخيرة، سيكون لثورة 25 يناير في بلادي النصيب الأكبر منه، كوني تابعتها عن كثب، وأعرف عنها أكثر من غيرها.
(4) بول كيندي، ترجمة عبد الوهاب علوب، القوى العظمى: التغيرات الاقتصادية والصراع العسكري من 1500 إلى 2000، (الكويت & القاهرة: دار سعاد الصباح & مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية، 1993).
(5) في مؤتمر استضافته الخارجية الأمريكية في يناير 2004، حول الوثائق الأمريكية لحرب 1967، بمناسبة الافراج عن بعض الوثائق الأمريكية الخاصة بتلك الحرب، أشار عدد من المشاركين في مداخلاتهم إلى أن العلاقات المصرية الأمريكية في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين كانت تتقدم كلما تجمد الصراع العربي/الاسرائيلي، دون أدني اهتمام يُذكر بمناهضة النظام الحاكم آنذاك للحرية. وبالمقابل كانت تلك العلاقات تتدهور كلما اشتعل ذلك الصراع، وهو ما عكسه الرئيس أنور السادات في السبعينيات من القرن العشرين حينما جعل دور مصر في حل الصراع العربي/الاسرائيلي مدخلاً للتقارب المصري الأمريكي، وهو أيضاً ما تعزز لاحقاً في ظل الرئيس مبارك! راجع: وليد محمود عبد الناصر، من بوش إلى أوباما: المجتمع والسياسة في الولايات المتحدة الأمريكية، (القاهرة: مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع، 2010)، ص127-129. حجة أخرى تُعضد زعمي، اوردها عادل حمودة في جريدة الفجر، في عددها الصادر في 4/4/2011، بحديثه عن أن السادات أصبح عبئاً على الادارة الأمريكية ومشروع السلام العربي الاسرائيلي، رغم انه كان نفذ خطواته الأولى، لكن الدول العربية ـ خاصة المعتدلة منها على حد تعبير حمودة ـ طالبت برحيله كي تقبل بركوب قطار التسوية! كان الأمريكيون قد سعوا للضغط على السعودية كي تعيد علاقتها ـ المقطوعة بسبب كامب ديفيد ـ بمصر، تمهيداً لمستقبل أهدأ مع اسرائيل ولو بعد حين. وكان بطل هذه الضغوط سفير واشنطن السابق في القاهرة هيرمان أيلتس وزميله في الخارجية روبرت شتراوس. وحسب وثائق طهران، فإن واشنطن طلبت وقف الحملات الاعلامية المتبادلة بين مصر والسعودية وعدم سحب ودائع السعوديين من البنوك المصرية وترك القطاع الخاص السعودي يستثمر أمواله في مصر. وفي تلك الفترة التقى روبرت شتراوس بولي العهد السعودي وقتها فهد بن عبد العزيز الذى قال في ذلك اللقاء: "إننا مستعدون لقبول مطالب أمريكا بشرط اقصاء السادات عن حكم مصر وبيجن عن حكم اسرائيل"! وأمام دهشة الدبلوماسي الأمريكي راح الأمير فهد يشرح له طبيعة العرب الانفعالية التى تجعلهم يقبلون سياسة ما من شخص ما ولا يقبلونها من شخص آخر. والمقصود أن إزاحة السادات ستزيل الثأر الشخصي بينه وبين القادة العرب. وأنه سيذهب حاملاً معه كل الأوزار! وهو ما سيجعل من السهل عليهم الوقوف في طابور التسوية! ولكن شتراوس قال: "إن اقصاء بيجن عن حكم اسرائيل ممكن. التركيبة الديمقراطية تتيح ذلك بسهولة. أما اقصاء السادات عن حكم مصر فأمر غير ممكن لأكثر من سبب. إن السادات بوصفه رئيس أكبر دولة عربية أصبح عضواً فعالاً في المجتمعين الدولي والأمريكي ويساعد الولايات المتحدة في سياسة الانفراج الدولي، ثم انه لا يزال يتمتع بشعبية لابأس بها في مصر. إنه أقوى الضعفاء في العالم العربي"! رحم الله القائل: حكام العرب محض أحجار على رقعة شطرنج، يُطاح بهم وبأنظمتهم حين ينتهي دورهم، ويخلو المسرح أمام غيرهم، ليلعب الدور نفسه، ويُمارس الخسة نفسها!
(6) في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك الكتلة الاشتراكية وانتهاء الحرب الباردة، بدأت الدول الغربية والمؤسسات الدولية الخاضعة لها في انتاج سياسات جديدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء مفادها ربط اقتراب هذه الدول والمؤسسات أو بعدها عن الدول الأفريقية بمدى تبني هذه الدول لبرامج الاصلاح الاقتصادي والسياسي، التى تنطوي على التحول نحو اقتصاد السوق والأخذ بالديمقراطية واحترام حقوق الانسان، بعد أن كانت الدول الغربية تتجاهل غياب الديمقراطية وانتهاكات حقوق الانسان في كثير من دول إفريقيا جنوب الصحراء، إبان اشتعال الحرب الباردة بين الشرق والغرب. ولقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية كالعادة في مقدمة القوى الدولية التى مارست ضغوطاً على إفريقيا جنوب الصحراء للأخذ بالديمقراطية واحترام حقوق الانسان، حيث أعلن أنتوني ليكAnthony Lake، مستشار الرئيس كلينتون للأمن القومي في مايو 1993، أنه لزاماً على دول إفريقيا جنوب الصحراء التحرك تجاه الديمقراطية واحترام حقوق الانسان. للمزيد راجع: Todd J. Moss, "U.S. Policy and Democratisation in Africa: The Limits of Liberal Universalism", The Journal of Modern African Studies, Vol. 33, No. 2, 1995, PP. 189-209. Larry Diamond, "Promoting Democracy in Africa: U.S. and International Policies in Transation", In John W. Harbeson & Donald Rothchild (eds), Africa in World Politics: Post Cold War Challenges, (London: Westview Press, 1995), PP.252-272.
(7) المساندة الأمريكية لمبدأ الاستقلال "الزائف" لدولة "ما بعد الاستعمار" في عالمنا العربي، شديدة التعارض مع الزعم الأمريكي بالحرص على حماية الكرامة الإنسانية في شتى أنحاء المعمورة. والتالي أهم دوافع المساندة الأمريكية، والغربية عموماً، لمبدأ الاستقلال "الزائف" لدولة "ما بعد الاستعمار" في عالمنا العربي: 1ـ في إطار الحرب الباردة بين القطبين الأعظم، سعت الولايات المتحدة الأمريكية للوقوف في وجه المد الشيوعي في العالم العربي، من خلال سعيها لاستقطاب الأنظمة العربية الحاكمة. ليس ذلك فحسب، فقد دعمت الولايات المتحدة الأنظمة الموالية لها، واقترن حرصها على حماية مصالحها في العالم العربي، بعملها على تجنب اندلاع أية مواجهات مع الاتحاد السوفيتي. فعلى خلاف الوضع في أوروبا، حيث وجدت خطوط فاصلة بين مناطق نفوذ القطبين الأعظم، افتقدت منطقة الشرق الأوسط مثل هذه الخطوط الفاصلة، مما عظم إمكانية اندلاع مواجهة عالمية بين القطبين الأعظم في أحيان عديدة. وفي إطار سعيها المحموم لاستقطاب الأنظمة العربية وضمها لمعسكرها، ساندت الولايات المتحدة مبدأ الاستقلال "الزائف" للدول العربية، في محاولة من جانبها لاسترضاء وإغراء تلك الأنظمة، على غرار نهجها مع الأنظمة الحاكمة في دول أفريقيا جنوب الصحراء، قبل انتهاء الحرب الباردة واختفاء الخطر الشيوعي من القارة الأفريقية. 2ـ أضافت الثورة الاقتصادية، التي أثارها اكتشاف النفط في العالم العربي، دافعاً آخر للولايات المتحدة لمساندة مبدأ الاستقلال الزائف في العالم العربي، لاعتقادها بارتباطه بحماية مصالحها الاقتصادية، الماثلة في ضمان حصولها على النفط اللازم لها ولحلفائها، بأسعار مواتية. واعتقادها كذلك بارتباط الاستقلال الزائف بتكريس أنماط استهلاكية، تسمح بتحويل العالم العربي إلى سوق رائجة للمنتجات الأمريكية، خاصة دوله المنتجة للنفط، فالسوق العربية واحدة من الأسواق الأسرع نمواً على مستوى العالم. بالإضافة إلى اعتقادها بارتباط الاستقلال الزائف باستدامة الحاجة العربية للخبرات البشرية الأمريكية، وتدفق الاستثمارات العربية في أراضيها، على نحو يسمح باستغلال الأموال المدفوعة ثمناً للنفط العربي. 3ـ دأبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ عام 1948، على تأكيد التزامها الكامل بضمان أمن ورفاهية دولة إسرائيل، باعتبارها ركيزة للإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة. وبالفعل، لم تأل الولايات المتحدة جهداً للوفاء بالتزاماتها تجاه إسرائيل، وهو ما بدا واضحاً في أمور عديدة، منها تزويدها باحتياجاتها التنموية والدفاعية. وأتت المساندة الأمريكية للاستقلال الزائف للدول العربية في الإطار نفسه، لاعتقاد أمريكي ـ ثبتت صحته ـ مفاده أن الاستقلال الزائف من شأنه تكريس تخلف وضعف العالم العربي، بصورة تضمن إجهاض مساعيه، لاستعادة الحق العربي المغتصب . وقد أثبت التاريخ صدق الحدس الأمريكي، فقد باءت المحاولات العربية الرامية لاستعادة الحق العربي بالفشل. إلى جانب نجاح الولايات المتحدة في استمالة بعض الأنظمة العربية لممالأة إسرائيل، وإن أعلنت خلاف ذلك. 3ـ شكل تهميش المجتمعات العربية الإسلامية أحد أهم دوافع مساندة الولايات المتحدة لمبدأ الاستقلال العربي الزائف، باعتباره السبيل الأنسب، لتكريس الأوضاع المتردية في العالم العربي، الذي يشكل ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ خطراً داهماً على الغرب، لاعتناق أغلبية أبنائه للإسلام. وهو ما عبر عنه صموئيل هنتنجتون صراحة في كتابه صدام الحضارات بقوله: "يقول بعض الغربيين بما فيهم الرئيس كلينتون إن الغرب ليس بينه وبين الإسلام أي مشكلة، و إنما المشكلات موجودة فقط مع بعض المتطرفين الإسلاميين. أربعة عشر قرنا من التاريخ تقول عكس ذلك. العلاقات بين الإسلام والمسيحية سواء الأرثوذوكسية أو الغربية كانت عاصفة غالبا. كلاهما كان الآخر بالنسبة للآخر. صراع القرن العشرين بين الديمقراطية الليبرالية والماركسية اللينينية ليس سوى ظاهرة سطحية وزائلة، إذا ما قورن بعلاقة الصراع المستمر والعميق بين الإسلام والمسيحية. أحيانا، كان التعايش السلمي يسود، غالبا كانت العلاقة علاقة تنافس واسع مع درجات مختلفة من الحرب الباردة..عبر القرون كانت خطوط العقيدتين تصعد وتهبط في تتابع من نوبات انبعاث مهمة، فوقفات، وانتكاسات. الاكتساح العربي الإسلامي في اتجاه الخارج من بداية القرن السابع إلى منتصف القرن الثامن أقام حكماً إسلاميا في شمال أفريقيا وأيبيريا والشرق الوسط وفارس وشمال الهند، ولمدة قرنين تقريبا كانت خطوط التقسيم بين الإسلام والمسيحية مستقرة. بعد ذلك، في أواخر القرن الحادي عشر، أكد المسيحيون سيطرتهم على البحر الأبيض المتوسط الغربي، غزوا صقلية، واستولوا على طليطلة، وفى 1095 بدأت المسيحية الحملات الصليبية، ولمدة قرن ونصف القرن حاول الحكام المسيحيون ـ مع نجاح متناقض ـ أن يقيموا حكما مسيحيا في الأرض المقدسة والمناطق المجاورة في الشرق الأدنى، وخسروا آخر موضع لقدم هناك في عام 1291، في نفس الوقت كان الأتراك العثمانيون قد ظهروا على المسرح. أضعفوا بيزنطة في البداية، ثم غزوا معظم البلقان بالإضافة إلى شمال أفريقيا، واستولوا على القسطنطينية في 1453 وحاصروا فيينا في 1529..الإسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك، وقد فعل ذلك مرتين على الأقل"! راجع: Michael Sterner, "The Middle East and the Superpowers: The View from Washington", Paper presented to The Middle East and the Superpowers: 25 th Near East Conference, Princeton university, Held on October 25 – 26, 1979, PP.12- 30. وأيضاً: صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب، صدام الحضارات - إعادة صنع النظام العالمي، (القاهرة: سطور، 1998) ، ص 338 – 339.
(8) حول وجهة النظر هذه، راجع: لورينا باريني(محرر)، ترجمة نانيس حسن عبد الوهاب، دول وعولمة: استراتيجيات وأدوار، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2007).
(9) روبرت أ. باستور(مُحرر)، ترجمة هاشم أحمد محمد، رحلة قرن: كيف شكلت القوى العظمى بنية النظام الدولي الجديد، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010).
(10) صامويل هنتنجتون، م. س. ذ.
(11) توماس ل. فريدمان، ترجمة ليلى زيدان، السيارة ليكساس وشجرة الزيتون: محاولة لفهم العولمة، (القاهرة: الدار الدولية للنشر والتوزيع، 2002). وللمزيد من وجهات النظر المتباينة إزاء "العولمة"، راجع: ج. جالبرث & س. منشيكوف، ترجمة شهرت العالم، التعايش بين الرأسمالية والشيوعية، (القاهرة: حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، كتاب الأهالي، رقم 33،1991). ريتشارد روزكرانس، ترجمة عدلي برسوم، توسع بلا غزو: دور الدولة الافتراضية في الامتداد للخارج، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 2001). كلاوس موللر، ترجمة محمد أبو حطب خالد، العولمة، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010). كريستوف أجبتون، ترجمة طارق كامل، العالم لنا: العولمة الليبرالية والحركات الاجتماعية المناهضة لها، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006). أوتفريد هوفه، ترجمة عبد الحميد مرزوق، مواطن الاقتصاد & مواطن الدولة & المواطن العالمي[الأخلاق السياسية في عصر العولمة]، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010). أنطوني كينج(محرر)، ترجمة شهرت العالم(وآخرين)، الثقافة والعولمة والنظام العالمي، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2001). جاري بيرتلس(وآخرون)، ترجمة كمال السيد، جنون العولمة: تفنيد المخاوف من التجارة المفتوحة، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1999). سمير أمين، مناخ العصر: رؤية نقدية، (القاهرة & لندن & بيروت: سينا للنشر & مؤسسة الانتشار العربي، 1999). جون جراي، ترجمة أحمد فؤاد بلبع، الفجر الكاذب: أوهام الرأسمالية العالمية، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة & مكتبة الشروق، 2000). محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، قضايا في نقد العقل الديني: كيف نفهم الاسلام اليوم، (بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 2000). هانس ـ بيتر مارتين & هارالد شومان، ترجمة عدنان عباس علي، فخ العولمة: الاعتداء على الديموقراطية والرفاهية، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، رقم 238، أكتوبر 1998).
(12) مُصطلح "الدولة" مُشتق من الأصل اللغوي العربي "دول"، بمعانيه الأصلية "الاستدارة، التحول، التغير، التغيير، التتابع كل في أثر الأخر". ويُستخدم على سبيل المثال عند الحديث عن تحول الفصول، وورد في القرآن الكريم(سورة آل عمران، آية رقم 140) للحديث عن تداول الأيام الحلوة والأيام المُرة بين الناس. واستخدم في مرحلة مبكرة جداً في اللغة العربية في معنى قريب من المعنى الاصطلاحي الموجود في الانجليزية للكلمة Turn، وهناك مواضع عديدة في الشعر العربي القديم حيث تشير الدولة إلى تحول شخص ما إلى النجاح والسلطة أو إلى دائرة الانتباه والظهور فحسب. وفي صيغة "دولة" المذكورة في القرآن (سورة الحشر، آية رقم 7) تعني بوجه عام امتلاك ما كان متداولاً بين عدد من الأشخاص. هذا المعنى وتعبيرات أخرى متشابهة تستند في الحقيقة على صورة عادية لدوران عجلة الحظ والدوران البطيء لعجلة القدر التى ترفع رجلاً أو عدداً من الرجال وتخفض رجلاً أو عدداً آخر من الرجال. ويُؤرخ الاستخدام السياسي عموماً لكلمة الدولة من ظهور الخلافة العباسية في منتصف القرن الثامن الميلادي/الثاني الهجري، فقد كان للأمويين دورهم والآن جاء دور بني العباس. وهناك العديد من النصوص في هذه الفترة تعبر عن هذا المفهوم وتستخدم هذه المصطلحات، وعندما يلاحظ ابن المقفع أن "الدنيا دول" فمن الواضح أنه لا يقصد أن العالم يتكون من حكومات أو أسر حاكمة، ويمكن أن تعني العبارة في العربية الحديثة المعنى الذى يقصده وهو أن الدنيا مليئة بالصعود والهبوط والتقلبات. وقد استغرق دور العباسيين فترة طويلة من الزمن، وأصبحت كلمة "دولة" عن طريق سلسلة من الانتقال التدريجي تؤدي معنى البيت العباسي الحاكم ثم بشكل أكثر عمومية الأسرة ثم أخيراً الدولة بمعناها المعاصر State، وتطور الكلمة من معناها الأولي "الدوران حول" إلى مفهوم حكومي عالمي بمعنى شديد الخصوصية أمر لا نظير له! ولسوف أستخدم كلمة الدولة في هذه المقالة بمعناها القديم والحديث، حسب الحاجة! استخدمها بمعنى State عند الحديث عن الأقطار العربية كل على حدة(اليمن، مصر، قطر، تونس،...الخ)! أما المعنى القديم للدولةTurn ، فسوف أستخدمه للتعبير عما تشي به ثوراتنا الأخيرة، أعني إمكانية انتقال مجتمعاتمنا العربية من حال إلى حال، فالدور على ما يبدو قد حان لمُغادرة شخصيات ونوجهات بعينها للسلطة وحلول شخصيات وتوجهات أخرى مكانها. بعبارة أدق، أستخدم مصطلح الدولة هنا للتمييز بين دولة "ما بعد الاستعمار" في العالم العربي، والتى امتدت من نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945، وحتى وقوع هجمات 11سبتمبر2001، وبين الدولة التى يتم تهجير مجتمعاتنا العربية إليها الآن، والتى أقترح تسميتها "دولة ما بعد هجمات11سبتمبر"! وللمزيد عن مفهوم الدولة في حضارتنا الاسلامية، راجع: برنار لويس، ترجمة ابراهيم شتا، لغة السياسة في الاسلام، (قبرص: دار قرطبة للنشر والتوثيق والأبحاث، 1993).
(13) بطرس بطرس غالي & محمود خيري عيسى، مدخل إلى السياسة، (القاهرة: دار وهدان للطباعة والنشر، 1979)، ص153-294.
(14) مارسيل ميرل، ترجمة حسن نافعة، سوسيولوجيا العلاقات الدولية، (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1986).
(15) دار الكاتب العربي، وثائق النكسة تحت أضواء التجربة المرة، (بيروت: دار الكاتب العربي، 1969)، ص193. وفي الصفحة رقم 178 من الكتاب الوثائقي نفسه، وتحت عنوان "رجعت ريمة لعادتها القديمة"، نقل الكتاب عن عدد جريدة الأهرام، الصادر في 4/5/1968، هذا الخبر: "باجماع 99.989% نال برنامج 30 مارس موافقة المواطنين وتأييدهم، في الاستفتاء الذى جرى يوم أول أمس"!
(16) راجع: محمد فايق، عبد الناصر والثورة الافريقية، (بيروت: دار الوحدة للطباعة والنشر، 1984). حلمي شعراوي، الفكر السياسي والاجتماعي في أفريقيا، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010). محمد عبد العزيز اسحاق، نهضة أفريقية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، 1971). مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، فكرة الافريقية الاسيوية في ضوء مؤتمر باندونج، (القاهرة: مكتبة دار العروبة، 1957).
(17) صامويل هنتنجتون، ترجمة عبد الوهاب علوب، الموجة الثالثة: التحول الديمقراطي في أواخر القرن العشرين، (الكويت & القاهرة: دار سعاد الصباح & مركز ابن خلدون للدراسات الانمائية، 1993).
(18) في كتابه "الموجة الثالثة"، يضع هنتنجتون ما يمكن أن نسميه إما "تأثير العرض العملي" أو "العدوى" أو "الانتشار" أو "المحاكاة" أو "كرات الثلج" بل و"ظاهرة الدومينو"، كأحد العوامل التى ساعدت على قيام الموجة الثالثة من التحول إلى الديمقراطية في العالم الحديث. فالتحول الديمقراطي الناجح في دولة يشجع على التحول الديمقراطي في دول أخرى، إما لأنها جميعاً تواجه مشكلات متماثلة أو اعتبار التحول الديمقراطي دواء لكل مشكلاتها، أو لأن الدوله التى تحولت إلى الديمقراطية على درجة من القوة أو تعد مثالاً سياسياً وثقافياً يُحتذى. ويرى البعض أن تأثير "المظاهرات" له أهمية نسبية بين الأسباب البيئية الخمسة التى شاعت في تحليلها. وقد أوضحت الدراسات الاحصائية للانقلابات وسائر الظواهر السياسية وجود نمط العدوى ولو في بعض الظروف على الأقل.
(19) حازم خيري، تهافت الآخر، كتاب منشور على الانترنت.
(20) موجة التحول الديمقراطي، فيما يرى هنتنجتون، في كتابه "الموجة الثالثة"، عبارة عن مجموعة من حركات الانتقال من النظام غير الديمقراطي إلى النظام الديمقراطي، تحدث في فترة زمنية محددة وتفوق في عددها حركات الانتقال في الاتجاه المضاد خلال نفس الفترة الزمنية. كما تشمل الموجة عادة تحولاً ليبرالياً أو تحولاً ديمقراطياً جزئياً في النظام السياسي، ولا يتحول إلى الديمقراطية تحولاً تاماً. وفيما يرى هنتنجتون، حدثت ثلاث موجات من التحول إلى الديمقراطية في العالم الحديث. وكان لكل من هذه الموجات أثرها في عدد صغير نسبياً من الدول، وفي كل موجة كانت تحدث بعض حركات الانتقال باتجاه اللاديمقراطية. كما لم تكن كل حركات التحول إلى الديمقراطية تحدث في أثناء موجات ديمقراطية، فالتاريخ لا يتصف بوحدة الاتجاه! فكانت كل من الموجتين الأوليتين من التحول إلى الديمقراطية تليها موجة مضادة عادت فيها الدول إلى الحكم اللاديمقراطي. وأنه لمن العسف أن نحاول تحديد لحظة محددة حدث فيها تحول نظام ما إلى الديمقراطية، كما يصعب أيضاً تحديد لحظة معينة لبداية موجة من التحول إلى الديمقراطية أو عنها. ولكن من المفيد لنا ـ والكلام لا يزال لهنتنجتون ـ أن نتعسف ونحدد تواريخ موجات التحولات السياسية، كما يلي: 1- الموجة الطويلة الأولى من التحول إلى الديمقراطية 1828-1926. الموجة المضادة الأولى 1922-1942. 2- الموجة القصيرة الثانية من التحول إلى الديمقراطية 1943-1962. الموجة المضادة الثانية 1958-1975. 3- الموجة الثالثة من التحول إلى الديمقراطية 1974- (لم يحدد هنتنجتون لهذه الموجة نهاية محددة)!
(21) في بداية سنة 1992 سافر شريف حتاته إلى الولايات المتحدة بعد أن تعاقد هو وزوجته نوال السعداوي على العمل كأستاذين زائرين في جامعة ديوك بولاية نورث كارولينا. كان التعاقد معهما لمدة سنة ولكن العقد تجدد في الجامعة مدة امتدت خمس سنوات. هكذا عاش حتاته والسعداوي لمدة خمس سنوات في أحد أهم المراكز الثقافية والتعليمية في القارة الأمريكية، في مؤسسة تساهم في صنع الكوادر، والايديولوجيات، وتدرس الظواهر المتعلقة بعصرنا، ومنها تلك الظاهرة التى اصطلح على تسميتها "العولمة". هذا الكتاب مكون من الدراسات والمقالات التى كتبها حتاته في الفترة الممتدة بين1993 و1998، قام بتجميعها وتنسيقها في محاولة لتقديم ما يعتقد المفكر المصري انها نظرة أوضح وأشمل لظاهرة العولمة، وتأثيرها على حياة المصريين، وعلى المنطقة التى نحيا فيها. راجع: شريف حتاته، العولمة والاسلام السياسي، (القاهرة: حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، كتاب الأهالي، رقم 65، 1999).
(22) سمير الخليل، جُمهورية الخوف: عراق صدام حسين، (القاهرة: دار الثقافة الجديدة، 1991).
(23) للمزيد راجع: ما يكل أ. بالمر، ترجمة نبيل زكي، حراس الخليج: تاريخ التوسع الدور الأمريكي في الخليج العربي1833-1992، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1995).
(24) الولايات المتحدة والعراق وقفا أمام مواجهة يائسة محتومة، وكل منهما كان يحاول تجنيد الحلفاء وحشد القوات في ما أسماه العسكريون الأمريكيون "مسرح العمليات الكويتي"، الذى كان يضم منطقة الكويت وما حولها على رأس الخليج العربي. ورغم جهود صدام حسين القصوى، فإن نداءاته الداعية إلى شن حرب مقدسة ضد الغرب وحلفائه من العرب لم تكتسب سوى القليل من الأنصار. فقد حصل صدام على تأييد ضئيل ولكنه صريح من اليمن، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وكوبا، والأردن. ووقفت القوات العراقية في الكويت المحتلة وحدها، باستثناء حفنة من الميليشيات الفلسطينية التى تم تجنيدها في مدينة الكويت. أما الولايات المتحدة، فقد كانت أكثر نجاحاً بكثير في بناء الائتلاف ليس في الغرب فقط، بل أيضاً بين صفوف العرب وفي أنحاء العالم الثالث. وضمنت الولايات المتحدة مساندة المجتمع الدولي بما فيه الاتحاد السوفيتي، والذى بدونه كان مجلس الأمن سيصبح عاجزاً. واقترب دور الأمم المتحدة في الأزمة من ذلك الدور كان يتصوره مؤسسو المنظمة إبان الحرب العالمية الثانية. وانضمت 38 دولة إلى الائتلاف ضد العراق، وأرسلت قوات وطائرات وسفناً وفرقاً طبية وأموالاً لمساندة الجهود الجارية. راجع: نفس المرجع، ص 172.
(25) راجع نص المذكرة: Rebuilding America Defense: Strategies, Forces and Resources for a New Century, A Report of The Project for the New American Century, september 2000.
(26) محمود ممداني، ترجمة فخري لبيب، المسلم الصالح..والمسلم الطالح: أمريكا وصناعة الحرب الباردة وجذور الارهاب، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2009).
(27) Patrick E. Tyler, U.S. Srategy Plan Calls for Insuring No Rivals Develop: A One –Superpower World, The New York Times, March 8,1992.
(28) في 11يناير1949، نشرت الصحف بياناً للشيخ حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان، استنكر فيه اغتيال رئيس الحكومة المصرية آنذاك النقراشي باشا. وجاء في بيان البنا ما نصه: "فما كانت الجريمة ولا الارهاب ولا العنف من وسائلها ـ يقصد دعوة جماعة الاخوان ـ، لأنها تأخذ عن الاسلام وتنهج نهجه وتلتزم حدوده". استخدام البنا لمصطلحي "العنف" و"الارهاب"، يؤكد معرفة من قبلنا بهما. راجع النص الكامل لبيان البنا في: عصام حسونة، شهادتي: 23يوليو..وعبد الناصر، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1990)، ص56-57.
(29) وليد محمود عبد الناصر، م. س. ذ.
(30) اعتمد الكاتب في رصده لأحداث 11 سبتمبر على الرواية الأمريكية، ليس لكونها الأكثر مصداقية، ولكن لكونها الأكثر تأثيراً في مجريات الأحداث راجع: National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, The 9/11 Commission Report: Final Report of the National Commission on Terrorist Attacks upon the United States, (New York: W. W. Norton, 2004).
(31) راجع: رولان جاكار، ترجمة منار رشدي، الاسم! أسامة بن لادن: الملف السري لأكثر إرهابي يبحث عنه العالم، (القاهرة: مجموعة الشرقاوي الدولية المحدودة، 2002).
(32) راجع على سبيل المثال: منصور معدل(محرر)، ترجمة عبد الحميد عبد اللطيف، مسح القيم العالمي: القيم كما تدركها جماهير العالم الاسلامي والشرق الأوسط، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010). عمر عبد الرحمن، كلمة حق: مرافعة الدكتور عمر عبد الرحمن في قضية الجهاد، (القاهرة: دار الاعتصام، بدون تاريخ). عبد الله عزام، العقيدة وأثرها في بناء الجيل، (صنعاء & بيروت: مكتبة الجيل الجديد & دار بن حزم، 1990). أيمن الظواهري، الولاء والبراء: عقيدة منقولة وواقع مفقود(2002)، منشور على الانترنت. عبد اللطيف المناوي، شاهد على وقف العنف: تحولات الجماعة الاسلامية في مصر، (القاهرة: أطلس للنشر والانتاج الاعلامي، 2005). أسامة إبراهيم حافظ & عاصم عبد الماجد محمد، مبادرة وقف العنف: رؤية واقعية..ونظرة شرعية، (القاهرة: مكتبة العبيكات، سلسلة تصحيح المفاهيم، 2004). ضياء رشوان(محرر)، المراجعات من الجماعة الاسلامية إلى الجهاد، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، 2008). سيد قطب، معالم في الطريق، (القاهرة: بدون ناشر، 1968). مصطفى مشهور، قضية الظلم في ضوء الكتاب والسنة، (القاهرة: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع، 1986). محمد عمارة، الفريضة الغائبة: عرض وحوار وتقييم، (القاهرة: دار ثابت للنشر والتوزيع، 1982). عمر التلمساني، الحكومة الدينية، (القاهرة: دار الاعتصام، 1985). مجموعة من الباحثين في المكتب الاعلامي للاخوان المسلمين، حماة..مأساة العصر، (بدون بلد: من منشورات التحالف الوطني لتحرير سورية، بدون تاريخ). سيفيرين لابا، ترجمة حمادة إبراهيم، الإسلاميون الجزائريون بين صناديق الانتخاب والأدغال، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2003). إيفون يزبك حداد(محرر)، المسلمون في أمريكا، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1994). خالد مشعل، حركة حماس وتحرير فلسطين: حوارات مع غسان شربل، (بيروت: دار النهار للنشر، 2006). لجنة المحامين لحقوق الانسان، الاسلام والعدالة: مناقشة لمستقبل حقوق الانسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، (نيويورك: لجنة المحامين لحقوق الانسان، 1997). خالد أبو الفضل(وآخرون)، ترجمة سامر زيتون، مكانة التسامح في الاسلام، (القاهرة: مكتبة مدبولي، 2006). ريموند ويليام بيكر، ترجمة منار الشوربجي، إسلام بلا خوف: مصر والاسلاميون الجدد، (عمان: المركز العلمي للدراسات السياسية، 2009). أحمد كمال أبو المجد، رؤية إسلامية مُعاصرة: إعلان مباديء، (القاهرة: دار الشروق، 1991). يوسف القرضاوي، في فقه الأولويات: دراسة جديدة في ضوء القرآن والسنة، (القاهرة: مكتبة وهبة، 1996). عبد الرزاق أحمد السنهوري، ترجمة نادية عبد الرزاق السنهوري، فقه الخلافة وتطورها لتصبح عصبة أمم شرقية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1989). المنظمة المصرية الكندية لحقوق الانسان & منظمة أقباط الولايات المتحدة، الاعلان المصري: ورقة عمل من أجل مصر ديمقراطية حديثة، (مونتريال & واشنطن: المنظمة المصرية الكندية لحقوق الانسان & منظمة أقباط الولايات المتحدة، 2002). أبو الأعلى المودودي & حسن البنا & سيد قطب، الجهاد للأئمة الثلاثة، (القاهرة: المختار الاسلامي للنشر والتوزبع، 1995). الاخوان المسلمون، موجز عن الشورى في الاسلام وتعدد الأحزاب في المجتمع المسلم، (القاهرة: دار التوزيع والنشر الاسلامية، مارس1994) ـ لم أطلع على بيان الاخوان، واعتمدت في معلوماتي عنه على هذا المرجع: عبد العاطي محمد أحمد، الحركات الاسلامية في مصر وقضايا التحول الديمقراطي، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1995) ـ.
(33) في تصديره لاستراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، أكد جورج بوش(الابن) أن بلاده ستعمل جاهدة لترجمة لحظة التفوق الأمريكي إلى عقود من السلام والرفاهية والحرية، مُسترشدة ـ في سبيل ذلك ـ بالمبادئ التالية: 1ـ إعلاء الطموحات الخاصة بالكرامة الإنسانية. 2ـ تقوية التحالفات الرامية لهزيمة الإرهاب العالمي والعمل لمنع الهجمات الإرهابية ضد الولايات المتحدة الأمريكية وأصدقائها. 3ـ العمل مع الآخرين لإنهاء الصراعات الإقليمية. 4ـ منع أعداء الولايات المتحدة من استخدام أسلحة الدمار الشامل لتهديد الأمريكيين أو حلفائهم أو أصدقائهم. 5ـ تدشين عصر جديد من النمو الاقتصادي العالمي عبر الأسواق والتجارة الحرة. 6ـ توسعة دائرة التنمية من خلال فتح المجتمعات وبناء البنية التحتية اللازمة للبنايات الديمقراطية. 7ـ تطوير أجندات للفعاليات التعاونية مع المراكز الأخرى الرئيسية للقوة العالمية. 8ـ إحداث تغييرات في مؤسسات الأمن القومي الأمريكي لمواجهة تحديات وفرص القرن الواحد والعشرين. راجع: United States of America, The National Security Strategy of the United States of America, White House, September 2002 .
(34) راجع: مادلين أولبرايت، ترجمة عمر الأيوبي، مذكرة إلى الرئيس المُنتخب: كيف يمكننا استعادة سمعة أميركا ودورها القيادي، (بيروت & القاهرة: الدار العربية للعلوم ناشرون & مكتبة مدبولي، 2008)
(35) المعروف أن الرئيس بوش(الابن) مجد نفسه وقرن أعماله بالمشيئة الالهية، وهو ما أدى إلى نتائج كارثية, نالت بشدة من سمعة الولايات المتحدة! ولنتذكر مقابلة أولبرايت "الشهيرة" عام 1996، في برنامج "60 دقيقة" الذى تقدمه "ليزلي ستال"، وكانت حينها مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة. ففي ردها على سؤال مقدمة البرنامج حول النصف مليون طفل عراقي الذين ماتوا بسبب الحصار.."إن عدد الأطفال الذين ماتوا بسبب الحصار، كما تعلمين، يفوق الذين ماتوا في هيروشيما، فهل الأمر بستحق ذلك؟"، أجابت مادلين أولبرايت في قسوة ولا مبالاة، لا تُحسد عليهما: "أعتقد أنه خيار صعب .. لكن الأمر يستحق ذلك"!
(36) الشرق الأوسط الكبير، هو مصطلح أطلقته إدارة الرئيس الأمريكيجورج دبليو بوشعلى منطقة واسعة تضم كامل العالم العربيإضافة إلى تركيا وإسرائيل وإيران وأفغانستان وباكستان. الإدارة الأمريكية أطلقت المصطلح في إطار مشروع شامل يسعى إلى تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، حسب تعبيرها، في المنطقة. وقد أعلن عن نص المشروع في مارس 2004 بعد أن طرحته الإدارة الأمريكية على مجموعة الدول الصناعية الثماني. (ويكيبيديا) صحيفة الحياة اللندنية نشرت نص المشروع، في عددها الصادر في 13 فبراير 2004، ونقلته عنها CNN العربية في 1/3/2004.
(37) نقلاً عن: السيد يسين، إعادة اختراع السياسة من الحداثة إلى العولمة، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2006). ص177-181.
(38) سعد الدين ابراهيم، "هل حقيقة سيقفز الاخوان على الثورة؟"، جريدة المصري اليوم، 23/4/2011.
(39) المكتب الاعلامي لحركة المقاومة الاسلامية حماس، الكتاب الأبيض: عملية الحسم في قطاع غزة اضطرار لا اختيار، (فلسطين: المكتب الاعلامي ـ حركة المقاومة الاسلامية حماس، 2007).
(40) راجع الهامش رقم (31).
(41) محمد أبو زيد الفقي، المذخورية: الفكر المستقبلي عند المسلمين، (القاهرة: الزهراء للاعلام العربي، 1995).
(42) "والسؤال ينبغي إثارته بالنسبة لكتابه رؤى عالمية، هو ما سر تفرد كتابات الدكتور السيد أمين شلبي في ميدان العلاقات الدولية؟ والاجابة أن هذا السر يكمن في أنه قاريء ممتاز لتحولات النظام الدولي، ومطلع اطلاعاً واسعاً على انتاج أبرز مراكز البحوث الاستراتيجية في العالم". من مقدمة السيد يسين لهذا الكتاب: السيد أمين شلبي، رؤى عالمية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010)، ص7-9.
(43) نقلاً عن (ويكيبيديا). هناك أيضاً اختطاف قوات الأمن السورية عام 2001، لرفاعي أحمد طه، أثناء مروره بسوريا، قادماً من الخرطوم. عدة وساطات حاولت التدخل لاطلاق سراحه، ونظراً لبطء الاجراءات فقد ظل في أحد السجون بدمشق إلى أن وقعت هجمات 11سبتمبر2001. ومن ثم أسرعت السلطات السورية بتسليمه إلى مصر، ومن ثم فقد فوتت على الجهات الوسيطة فرصة إطلاق سراحه. وهكذا اتخذت السلطات السورية من تسليم رفاعي إلى الأمن المصري قرباناً لتبييض ساحتها لدى الأمريكان الذين كانوا في حالة هياج وسعار مخيف! رفاعي مصري، من مواليد 1954، وهو أمير الجماعة الإسلامية بكلية التجارة جامعة أسيوط1977-1980. رفاعي عضو مؤسس لمجلس شورى الجماعة الاسلامية، سافر إلى أفغانستان عام 1987، وأسس مع طلعت فؤاد قاسم ومحمد الاسلامبولي مجلس شورى الجماعة في الخارج واصدروا نشرة المرابطون لتعبر عن مواقف الجماعة. راجع: عبد اللطيف المناوي، م. س. ذ، ص280-303.
(44) راجع مثلاً: جيفري ملنيك، ترجمة عزة الخميسي، 11سبتمبر2001 ثقافة أمريكية جديدة: إعادة بناء أمريكا، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2001). ناعوم تشومسكي، 11 سبتمبر، (القاهرة: ميريت للنشر والمعلومات، 2002).
(45) نقلاً عن: شوقي جلال، العقل الأميركي يُفكر: من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010).
(46) راجع في هذا الخصوص Report of the Advisory Group on Public Diplomacy for the Arab & Muslim, Changing Minds Winning Peace: A New Strategic Direction for U.S. Public Diplomacy in the Arab & Muslim World, October 1, 2003. Submitted to the Committee on Appropriation, U.S. House of Representatives.
(47) جلال أمين، عصر التشهير بالعرب والمسلمين: نحن والعالم بعد11سبتمبر2001، (القاهرة: دار الشروق، 2007).
(48) راجع: ياسر بكر، الإعلام البديل ON LINE، (القاهرة: مطابع حواس، 2010). وأيضاً: نهى ميللر، ترجمة حنان عبد الرحمن الصفتي، صناعة الأخبار العربية، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010).
(49) راجع على سبيل المثال: أحمد كمال أبو المجد، م. س. ذ. يوسف القرضاوي، م. س. ذ. الاخوان المسلمون، م. س. ذ.
(50) على سبيل المثال، وفيما يخص مصر: دينا شحاته(محرر)، عودة السياسة: الحركات الاحتجاجية الجديدة في مصر، (القاهرة: مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، 2010)،
(51) راجع: شهيدة الباز، المنظمات الأهلية العربية على مشارف القرن الحادي والعشرين: مُحددات الواقع وآفاق المستقبل، (القاهرة: لجنة المتابعة لمؤتمر التنظيمات الأهلية العربية، 1997). أماني قنديل، الموسوعة العربية للمجتمع المدني، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008). موسى شتيوي(وآخرون)، التطوع والمتطوعون في العالم العربي: دراسات حالة، (بدون بلد: الشبكة العربية للمنظمات الأهلية، بالتعاون مع مؤسسة ساساكاوا اليابانية، 2000). فرانك آدلوف، ترجمة عبد السلام حيدر، المجتمع المدني: النظرية والتطبيق السياسي، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2009). مارينا أوتاوي & توماس كاروذرز، ترجمة محمود بكر، المعونة الأجنبية لدعم الديمقراطية: هل هي تمويل لنشر الفضيلة؟، (القاهرة & واشنطن: مركز الأهرام للترجمة والنشر & مؤسسة كارنيجي للسلم الدولي، 2006).
(52) راجع: جراهام إي فوللر & إيان أو. ليسر، ترجمة شوقي جلال، الإسلام والغرب بين التعاون والمواجهة، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1997). وأيضاً: أوليفيه روا، ترجمة لارا معلوف، عولمة الاسلام، (بيروت & لندن: دار الساقي، 2003).
(53) راجع في هجاء شاعر عربي لبوش: عبد الحميد زقزوق، منتظر الزيدي: أول ديوان شعر في العالم يصدره شاعر عن واقعة ضرب بوش بالحذاء في العراق بتاريخ 16/12/2008، (القاهرة: مطابع دار أخبار اليوم، 2009).
(54) محمد سيد طنطاوي، تأملات في خطاب الرئيس باراك أوباما من منظور إسلامي، (القاهرة: مطابع روزأليوسف، هدية مجلة الأزهر المجانية لشهر شعبان، 1430هـ).
(55) "علينا أن نربى أبنائنا ليكونوا مثل الشباب المصرى"، بهذه الكلمات أعرب الرئيس الأمريكي باراك أوباما عن انبهاره الشديد بثورة 25 يناير في مصر. (ويكيبيديا، نقلاً عن جريدةالمصرى اليوم 17/2/2011).
(56) جريدة المصري اليوم، 12/5/2011. نقلاً عن نيويورك تايمز، الصادرة في 11/5/2011 [ وقد نبهني إلى هذا الخبر، وزودني بالكثير من المعلومات القيمة في هذا الخصوص، المفكر الكبير جورج شمالي www.ulinet.org، فإلى سيادته الشكر كل الشكر] راجع: Mark Landler, Obama Seeks Reset in Arab World, The New York Times, May11,2011.
(57) ما أشبه الليلة بالبارحة! "ميدان التحرير" هو الاسم الذى اُطلق على أشهر ميادين مصر بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952! حالة من التوهج والتألق عاشها المصريون في ميدان التحرير حين رددت الملايين المحتشدة منهم وراء اللواء محمد نجيب قسم التحرير! بدا الأمر حينها وكأن المصريون بهذا القسم يتطهرون ومعهم المكان الذى صار جزء لا يتجزأ من تاريخهم الوطني شاهداً على ما مضى ومشاركاً في ما هو قادم، ردد المصريون قسم التحرير وراء القائد العام للقوات المسلحة في الميدان قائلين: "اللهم إنك تحب الأقوياء وتكره المستضعفين وتنشر رحمتك على الذين يؤثرون الموت العزيز في سبيل الحرية على الحياة الذليلة في مجال الاستعباد. اللهم وإنك قريب ترى وتسمع وإنا لنقسم بذاتك العلية على أن نعمل ما في وسعنا لارساء قواعد الحياة المقبلة لوطننا المفدى على أصول محررة من العبودية، منزهة عن الهوى، موصولة بالحق والعدل. وأن نبذل في سبيل ذلك كل ما تقتضيه مصلحة أمتنا ويبغيه شرف بلدنا، وأن يكون شعارنا دائماً: الاتحاد والنظام والعمل. اللهم فاشهد وأنت خير الشاهدين". للمزيد، راجع: العدد التذكاري الصادر يمناسبة ثورة 25 يناير، سلسلة أيام مصرية، رقم العدد40/2011م، وعنوانه: [ميدان التحرير في ذاكرة التاريخ].
(58) حسن حنفي، "عذراً..شعب مصر"، www.alazma.com، 13 فبراير2011. وفي السياق نفسه، يأتي حديث رمضان بسطويسي أستاذ الفلسفة بجامعة عين شمس عن الثورة، والذى نشرته جريدة الأهرام تحت عنوان "سر الثورة يكمن في احترام الصمت بدلاً من ثرثرة الهواء". في ختام حديثه، ورداً على سؤال حول ما إذا كان سيشرع في عمل كتاب عن فلسفة الثورة المصرية، قال بسطويسي: "لا يمكن الحديث الآن عن فلسفة للثورة المصرية على النحو الذى كتبه محمد حسنين هيكل ووضع جمال عبد الناصر إسمه عليه، لأن فلسفة الثورة المصرية هي فلسفة الحياة اليومية في مصر وهو نص بالغ الخصوصية. والفلسفة لا تتحدث عن موضوعات لم تتضح ملامحها بعد"! راجع نص الحديث، في جريدة الأهرام، مُلحق شباب التحرير، العدد رقم [53]، 4/4/2011.
(59) نقلاً عن جريدة المصري اليوم، 23/4/2011.
(60) Reuel Marc Gerecht, How Democracy Became Halal, The New York Times, February 6,2011.
(61) في عددها الصادر في 24/4/2011، نشرت جريدة المصري اليوم خبراً عن انتقال "الاخوان" من المنيل إلى مقر جديد بالمقطم، وأن الافتتاح يوم 21مايو! الجريدة أوردت وصف مهدي عاكف المرشد العام السابق للجماعه، في تصريحات سابقه له، المقر الجديد بأنه يشبه "القصر"! الجريدة أرفقت صورة لواجهة المقر!
(62) أثناء انعقاد المؤتمر السنوي الثاني عشر لأمريكا والعالم الاسلامي، والذى يُنظمه معهد بروكنجز، الشهير في واشنطن، بالاشتراك مع وزراء الخارجية القطرية(12ـ14/4/2011)! وحينما سُئلت هيلاري كلينتون عن رأي بلادها في وصول "الاخوان" للحكم في مصر، أجابت بقولها إن الموقف الرسمي للولايات المتحدة، هو ترك هذا الأمر للمصريين أنفسهم، مثلما حدث مع الفلسطينيين وغيرهم من الشعوب العربية. وأنه في حالة فوز حماس، فإن الولايات المتحدة لم تشكك في شرعية تلك الانتخابات، ولكنها ليست مُجبرة على التعامل مع حكومة من حماس، إلا بشروط ثلاثة، أعلنها الجمهوريون وهم في السلطة في الولايات المتحدة. وأن الديمقراطيين وهي منهم في السلطة الآن، مستمرون على نفس النهج والشروط الثلاثة، وهي الاقلاع عن استخدام العنف ضد الأطراف الأخرى، وفي مقدمتها إسرائيل، والاعتراف باسرائيل نفسها. واحترام المعاهدات والالتزامات الدولية التى وقعتها كل الأطراف في السابق. المرجع: سعد الدين ابراهيم، م. س. ذ. داليا مجاهد مستشارة أوباما أكدت على المعنى نفسه، في لقائها بشباب إعلامي الثورة. ولقد نشرت جريدة الأخبار، في عددها الصادر في 6أبريل2011، وتحت عنوان "داليا مجاهد مستشارة أوباما لشباب إعلامي الثورة: التخطيط كان لتولي جمال مبارك الحكم بأي طريقة"، ما نصه: "أكدت داليا مجاهد مستشارة الرئيس الأمريكي أوباما للشئون الاسلامية أن أمريكا لديها قلق من تحول مصر لدولة إسلامية يحكمها الاخوان المسلمون لأن هناك خطراً على إسرائيل، ولكن في حالة التزام الاخوان بعدم تغيير المعاهدات والاتفاقيات بما يضمن الأمن لاسرائيل فلا يوجد مانع من مشاركة الاخوان في الحكومة أو الحكم، وضربت مثالاً بالمملكة العربية السعودية التى تطبق الشريعة الاسلامية وتربطها علاقات صداقة وطيدة بأمريكا ولا تمثل خطراً على اسرائيل بعكس إيران. وقالت نتوقع حصول الاسلاميين على جزء من مقاعد البرلمان وليس الأغلبية. وأضافت أن السلفيون أصبحوا يمثلون لغزاً لدى الأمريكان لأنهم ظهروا على الساحة ولديهم طموحات سياسية". داليا نفت أن تكون أمريكا أو إسرائيل تقفان خلف الثورات الشعبية في الدول العربية. الاخوان المسلمون كانوا على ما يبدو على دراية "مُبكرة" بالشروط الأمريكية، ومن هنا كان حرصهم على التأكيد العلني لقبولهم بهذه الشروط، فقد نشرت جريدة المصري اليوم، في عددها الصادر في 19/2/2011، تحت عنوان "الاخوان: نحترم جميع المعاهدات الموقعة بين مصر وإسرائيل"، تصريحات للمرشد العام للاخوان محمد بديع، ولمحمد سعد الكتاتني عضو مكتب الارشاد ووكيل مؤسسي حزب الحرية والعدالة! الجريدة نقلت عن الأخير قوله: "إن الجماعة تحترم جميع المعاهدات الموقعة بين مصر وإسرائيل"! إلى جانب توضيحه أن "إعادة النظر فيها ترجع للشعب والأطراف التى وقعتها، إذا ما رأت أنها تحقق الهدف من إبرائها". كما نقلت الجريدة عن الكتاتني اضافته لشبكة "سي إن إن" العربية: "الجماعة عارضت اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، حينما كانت تناقش. ولكن عندما تم توقيعها وأقرت أصبحت واقعاً يجب احترامه"! وحول مناهضة الاخوان لمعاهدة السلام مع اسرائيل، قبل دمجهم في النظام السياسي المصري، بفضل "ثورة 25 يناير"، راجع: عمر التلمساني، حقائق وثوابت(1): لا نخاف السلام..ولكن!، (القاهرة: دار التوزيع والنشر الاسلامية، 1991).
(63) "سيرى القاريء موقف الرفاق من جمال عبد الناصر، وكيف كان هذا الموقف ـ الذى يراه البعض مُحيراً ـ موقفاً مبدئياً، فمن بين القصائد العديدة التى يضمها كتابنا الوثيقة، لن يجد القاريء غير قصائد تُعد على بعض أصابع اليد الواحدة تهاجم عبد الناصر شخصياً(......). إن ما سيجده القاريء من موقف تحمله الأغلبية الساحقة من قصائد الديوان، هو نفس الموقف الذى حير البعض في الستينيات بعد الافراج عن الشيوعيين، حيث تعاونوا مع النظام في مؤسساته السياسية والاعلامية، وفي السبعينيات، أثناء الموجة العارمة لطوفان الهجوم على عبد الناصر وعصره(....).". من مقدمة هشام السلاموني لمختارات من قصائد الشعراء الشيوعيين المصريين في المعتقلات المصرية فيما بين 1945ـ1965، راجع نص المقدمة في: لجنة توثيق تاريخ الحركة الشيوعية المصرية حتي عام 1965، هديل اليمام وراء القضبان/مختارات من قصائد الشعراء الشيوعيين المصريين في السجون والمعتقلات فيما بين 1945ـ1965، (القاهرة: دار العالم الثالث، 2008)، ص9ـ23. وأيضاً: مصطفى عبد الغني، المثقفون وثورة يوليو: الشهادات الأخيرة، (القاهرة: مركز الأهرام للنشر والترجمة والتوزيع، 2010)
(64) انظر مثلاً إلى "الناصريين"، تجدهم وكما هو واضح من اسمهم ينتسبون إلى الراحل عبد الناصر، مؤسس دولة "ما بعد الاستعمار" في مصر، والذى يحظى بزعامة وشعبية واسعة في التاريخ العربي الحديث.
(65) مادلين أولبرايت، م. س. ذ، ص225.
(66) لأخذ فكرة عن "ما بعد الحداثة"، راجع: أحمد حسان(مُعد ومترجم)، مدخل إلى ما بعد الحداثة، (القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، كتابات نقدية، رقم 26، 1994).
(67) ولد محمد مصطفى البرادعي في الجيزة عام 1942، ودرس القانون بجامعة القاهرة. ثم بدأ حياته العملية في السلك الدبلوماسي المصري عام 1964. حصل على درجة الدكتوراة في القانون من جامعة نيويورك. والتحق بالوكالة الدولية للطاقة الذرية عام 1984 حيث شغل عدة مناصب رفيعة بها. وقد انتخب كمدير عام للوكالة عام 1997 ثم اعيد انتخابه لفترة ثانية، ثم لفترة ثالثة في سبتمبر 2005. راجع: الحملة الشعبية المستقلة لدعم وترشيح البرادعي رئيساً 2011، دكتور/محمد البرادعي إبن مصر وأملها:
www.elbaradei2011.com
(68) تتكون الجمعية الوطنية للتغيير من شخصيات(من أبرزها وأكثرها تأثيراً جورج إسحاق، وهو مسئول المحافظات في الجمعية الوطنية للتغيير، فضلاً عن كونه أول منسق عام للحركة المصرية من أجل التغيير كفاية التى أُسست نهاية عام 2004، وهي تجمع فضفاض من مختلف القوى السياسية المصرية تهدف إلى تأسيس شرعية جديدة في مصر، بعد تنحية نظام حسني مبارك عن السلطة. وهناك أيضاً نجيب ساويرس وهو أحد أكبر رجال الأعمال المصريين)، وتيارات فكرية مختلفة، من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار، وهو ما يجعلها الهيكل المعارض الأشمل. التيارات تشمل: 1ـ حزب الغدحزب الجبهة 3ـ الديمقراطيةالإخوان المسلمونحزب الوسط المصريحزب الكرامةالاشتراكيون الثوريون 8 ـحزب العمل المصري 9ـ مصريات مع التغيير 10ـ حركة شباب 6 أبريل 11ـ الحزب الشيوعي المصري 12ـ الحملة الشعبية لدعم البرادعي ومطالب التغيير. وحول إعلان تأسيس الجمعية، راجع: Amro Hassan and Jeffrey Fleishman, Mohamed ELBaradei creates National Front for Change, Los Angeles Times, 24 February 2010. وراجع: حوار نجيب ساويرس مع جريدة الأخبار، 3/3/2011. وأيضاً: حوار جورج اسحاق مع جريدة الأخبار، 15/3/2011.
(69) خالد محمد سعيد صبحى قاسم( 27يناير 1982 - 6 يونيو 2010)، هوشاب مصري في الثامنة والعشرين من العمر، من مدينة الإسكندرية، مصر. جرى تعذيبه حتى الموت على أيدي اثنين من مخبري الشرطة اللذان أراداتفتيشه بموجب قانون الطوارئ. سألهم عن سبب لتفتيشه أو إذن نيابة لم يجيباه وقاما بضربه حتى الموت أمامالعديد من شهود العيان في منطقة سيدي جابر. وقد اثار موته ادانة عالميةومحلية، كما اثار احتجاجات علنية في الإسكندرية والقاهرة قام بها نشطاءحقوق الإنسان في مصر والذين اتهموا الشرطة المصرية باستمرار ممارستهاالتعذيب في ظلحالة الطوارئ. ووصف حافظ أبو سعدة رئيس المنظمة المصرية لحقوق الإنسان، خالد سعيد قتيل الإسكندرية، بـ"شهيد قانون الطوارئ"، مؤكداً أن هذا القانون المشبوه،الذي تم فرضه منذ عام 1981 يعطي الحق لافراد الأمن التصرف كما يشاءون مع منيشتبه فيهم. (ويكيبيديا). وفي كتاب ياسر بكر المهم "الاعلام البديل"، لفت انتباهي قوله: "الشابة الايرانية ندا أجا سلطان والشاب السكندري خالد سعيد جمعت بينهما طريقة واحدة في إخراج الصور وعرضها وأسلوب التناول لفضيتهما على الانترنت". راجع: ياسر بكر، الإعلام البديل ON LINE، (القاهرة: مطابع حواس، 2010)، ص151.
(70) نقلاً عن جريدة الحياة، 21/فبراير/2011.
(71) نقلاً عن جريدة الدستور، 7/مارس/2011. الجريدة نفسها وفي مكان متميز من العدد نفسه، نشرت هذا الخبر الذى لا يخلو من دلالة مهمة وخطيرة، لتزامنه مع التسريبات التى أشرت لبعضها في هذه المقالة: "أوباما يوفد وزير دفاعه في مهمة طارئة لمصر خشية تسريب تقارير أمنية للاعلام ومواقع الانترنت"!
(72) ملحق عدد جريدة الفجر، الصادر في 4/4/2011.
(73) راجع أعداد جريدة الأهرام الصادرة في: 11،18، 25 مارس2011 & 1،8،15،22 أبريل2011. عمود الجورنالجي المصري صلاح منتصر.
(74) Julianne Pepitone, Wael Ghonim to Leave Google, start NGO in Egypt, CNNMoney.com, 25 April 2011.
(75) لم أطلع على كتاب جارد كوهين بعد، لكني حصلت مؤخراً على نسخة صوتية من صديق، والتالي بيانات النسخة الورقية من الكتاب: Jared Cohen, Children of Jihad: a Young American Travels Among the Youth of the Middle East, (New York: Gotham Books, 2007).
(76) احمد مرتضى المراغي، غرائب من عهد فاروق وبداية الثورة المصرية، (بيروت: دار النهار للنشر، 1976). وفي السياق نفسه يأتي كتاب لعبة الأمم لمايلز كوبلاند، وهو أمريكي قضى القسم الأعظم من حياته العملية في منطقة الشرق الأوسط. شغل منصب نائب القنصل في سوريا، الا انه عاد إلى واشنطن في عام 1949 ليساعد في تنظيم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية التى انشئت يومها. عمل مستشاراً أعلى لمؤسسة ضخمة مختصة في العلاقات الحكومية، راجع: مايلز كوبلاند، ترجمة مروان خير، لعبة الأمم ـ اللأخلاقية في سياسة القوة الأمريكية، (بيروت: الانترناشنال سنتر، بدون تاريخ). وأيضاً: مصطفى مؤمن، النقطة الرابعة تعني الحرب!/عرض وتحليل للاستعمار الأمريكي الجديد، (القاهرة: دار النشر المصرية، 1954). الطاقة الذرية في خدمة مصر: مقتطفات من أبحاث الطلبة ورجال الأعمال الذين اشتركوا في مسابقة "ماذا تفيد مصر من تنظيم الأبحاث الدولية لتوجيه الطاقة الذرية للأغراض السلمية"، التى نظمتها مجلة الصداقة 1953، الحلقة المائة والخامسة عشرة من سلسلة "مصر وأمريكا".
(77) للمزيد: السيد يسين، الخريطة المعرفية للمجتمع العالمي، (القاهرة: نهضة مصر للطباعة والبشر والتوزيع، 2008).
(78) مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجيةهو معهد بحثي للدراسات السياسية فيمصر. أنشئ المركز عام1968 فيمؤسسة الأهرام المصرية. حتى عام1972، اختص المركز بدراسة قضيةالصراع العربي الإسرائيلي،ثم توسع نطاق بحث المركز في القضايا الدولية، مع التركيز على القضاياوالأحداث التي تهم العالم العربي. (ويكيبيديا)
(79) السيد يسين، العولمة..والطريق الثالث، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1999).
(80) أنتوني جيدنز، ترجمة أحمد زايد & محمد محيي الدين، الطريق الثالث: تجديد الديمقراطية الاجتماعية، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2010).
(81) من كتاب "بحثاً عن عالم أفضل" لكارل بوبر، نقلاً عن: لخضر مذبوح، فكرة المجتمع المفتوح عند كارل بوبر، مجلة الجمعية الفلسفية المصرية، (القاهرة: الزعيم للخدمات المكتبية والنشر، 2010)، ص254.
(82) ب. ف. سكينر، ترجمة عبد القادر يوسف، تكنولوجيا السلوك الانساني، (الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، رقم 32، أكتوبر 1980).
(83) "لأن بدايات علم النفس الايجابي كانت عام 1998، في أثناء وقت السلم والرخاء في الولايات المتحدة الأمريكية ـ وهو علم معني بدراسة الخبرة الايجابية الذاتية & السمات الايجابية الفردية & المؤسسات التى تعين على تحقيق المكونين السابقين ـ، فإن نظرتنا تنبع من أن علم النفس الايجابي ينتعش تحت تأثير الظروف السوية اجتماعياً. أما إذا توقفت عجلة الظروف الجيدة، فإن العالم سيعيد توجيه موارده نحو الدفاعات، والانهيار، وتوجيه تعاطفه نحو دراسة ضحايا الاضطرابات، وسوف تتفوق الانفعالات السلبية على الانفعالات الايجابية. لقد أدى حدوث الهجوم الارهابي على المركز التجاري في 11 سبتمبر 2001 إلى تغيير فكرنا. ولا يعني ذلك أن علم النفس الايجابي عليه أن ينسحب، بل إنه الآن أكثر أهمية من أي وقت مضى. ففي أوقات الشدة، كالوقت الراهن، فإن دراسة الانفعالات الايجابية لا تخرج عن السياق. فالثقة، والتفاؤل، والأمل، على سبيل المثال، تعيننا بطريقة أفضل عندما تكون الحياة صعبة. ففي أوقات الشدة، يكون فهم وبناء القوة والفضائل مثل التكامل، والاعتدال، والشجاعة والرؤية الصحيحة للأشياء، والولاء أكثر الحاحاً. وفي أوقات الشدة، يصبح دعم ومساندة المؤسسات الايجابية مثل الديمقراطية، والأسرة القوية، وحرية الصحافة ذا أهمية مضاعفة وملحة". راجع: مارتن سليجمان، علم النفس الاكلينيكي الايجابي"، في ليزا ج. أسبينوول & أورسولا م. ستودينجر(محرران)، ترجمة صفاء يوسف الأعسر(وآخرون)، سيكولوجية القوى الانسانية: تساؤلات أساسية وتوجهات مستقبلية لعلم النفس الايجابي، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، 2006)، ص419-435.
(84) مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية المقهور، (المغرب: المركز الثقافي العربي، 2005)، ص 9-12. وأيضاً: مصطفى حجازي، الانسان المهدور: دراسة تحليلية نفسية اجتماعية، (المغرب: المركز الثقافي العربي، 2006).
(85) حوار مصطفى حجازي مع جريدة المصري اليوم، راجع: المصري اليوم، 5/5/2011.
(86) جون بروكمان(محرر)، ترجمة مصطفى إبراهيم فهمي، الإنسانيون الجُدد: العلم عند الحافة، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، المجلس الأعلى للثقافة، العدد 991، 2005). وراجع أيضاً: سي. بي. سنو، ترجمة مصطفى ابراهيم فهمي، الثقافتان، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2010).
(87) راجع هذه النوعية من الكتابات الارشادية: فولفجانج ساكس(محرر)، ترجمة أحمد محمود، قاموس التنمية: دليل إلى المعرفة باعتبارها قوة، (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2008). المجلس الدولي للموسيقى(اليونسكو)، الموسيقى والعولمة: دليل كتبه سايمون ماندي للمجلس الدولي للموسيقى(اليونسكو)، (القاهرة: المشروع القومي للترجمة، 2003). مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الانسان & هيئة المعونة الأمريكية بالقاهرة، الدليل التدريبي لدعم الشفافية ومكافحة الفساد في التعليم، (القاهرة: مؤسسة ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الانسان، 2008). مؤسسة فريدريش إيبرت، إدماج قضايا النوع الاجتماعي في التنمية: دليل مرجعي، (صنعاء: مؤسسة فريدريش إيبرت، 2004). مؤسسة ثقافة السلام، ترجمة محسن يوسف، تقرير عن ثقافة السلام في العالم: تقرير المجتمع المدني في منتصف عقد ثقافة السلام، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، بدعم من كل من حكومة كاتالونيا، وزارة العلاقات المؤسسية والمشاركة، برنامج المعهد الدولي من أجل السلام، 2007).
(88) Liz Sly, "Arab response to bin Laden death Muted", The Washington Post, 3 May 2011.
(89) في يوم 6 أبريل من عام 2008، اعلن بعض الشباب تضامنهم مع إضراب العمال وتبنوا فكرة الكاتب الصحفي مجدي أحمد حسين ان يكون الاضراب عام في مصر وليس للعمال فقط. بدأت الحركة في تشكيل جروبات (groups)لنشر فكرة الاضراب وارسال رسائل إلى الاعضاء المصرين بموقع face book حتى وصل عدد الاعضاء إلى سبعين الف في أحد الجروبات الداعية للاضراب. بعد فترة تناولت بعض الصحف المصرية فكرة الاضراب والحركة وفى ايام قليلة بدأت تصل رسائل sms بشكل عشوائى داعية لاضراب عام يوم 6 أبريل.
(90) أحمد ماهر هو منسق عام لحركة شباب 6 أبريل وأكبر أعضائها سنا. وهي الحركة التى أحدثت حراكاً قوياً في الاحتجاجات المصرية بعد الانتخابات الرئاسية في 2005، وبعد أن تم انهاك القوى السياسية المختلفة وعلى رأسها "كفاية". أحمد ماهر كان رأس الحربة في إضراب 6 أبريل الأول في 2008، وهو الاضراب الذى أحدث دوياً هائلاً، وشارك فيه عمال المحلة، وأسقطوا صورة مبارك للمرة الأولى في تاريخ المظاهرات التى خرجت ضد مبارك. ماهر من مواليد عام 1980، ويعمل مهندساً مدنياً! وهو عضو ائتلافشبابالثورة الذي تولى إدارة الاعتصام الرئيسي في ميدان التحرير. فرض عليه موقعه أن يكون دائما بعيدا عن أماكن المظاهرات، ليتفرغ لقيادة غرفة العمليات التي تتولى ترتيب وإدارة الاحتجاجات. راجع: ملحق عدد جريدة الفجر، الصادر في 4/4/2011.
(91) نقلاً عن جريدة المصري اليوم، 4/5/2011.
(92) الموقع الرسمي لحركة شباب 6أبريل: http://6april.org، الجروب الرئيسي للحركة على الفيس بوك:
http://www.facebook.com/group.php?gid=9973086703
(93) "إحنا الشباب السيس اللي وقعنا الرئيس"، ظهر هذا المانشيت "بالبنط العريض"، في صدر الصفحة الأولى من جريدة اليوم السابع، يوم 15/2/2011. وراجع أيضاً مقالة لعبد الرحمن الأبنودي نشرتها جريدة الأخبار، في عددها الصادر في 14/4/2011، بعنوان "خليهم يتسلوا!!". عنوان مقالة الأبنودي يستدعي عبارات مُشابهة لطالما جرت على لسان مبارك، قبل تنحيه عن الحكم، رداً على تساؤلات عن مدى خطورة تحركات هؤلاء الشباب السيس على نظامه!
(94) Sherly Gay Stolberg, Shy U.S. Intellectual Created Playbook Used in a Revolution, The New York Times, 16 February 2011.
(95) راجع: جين شارب، ترجمة خالد دار عمر، من الدكتاتورية إلى الديمقراطية: اطار تصوري للتحرر، (بوسطن: مؤسسة ألبرت أينشتاين، 1993). ــــــ، البدائل الحقيقية، (بوسطن: مؤسسة ألبرت أينشتاين، بدون تاريخ). ــــــ، 198 طريقة للنضال باستخدام اللاعنف، (بدون بيانات). ـــ، ترجمة المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، الانتفاضة والنضال بلا عنف، (القدس: منشورات المركز الفلسطيني لدراسات اللاعنف، بدون تاريخ). ــــ، دور القوة في الكفاح اللاعنيف، (بدون بيانات). عفيف صافية & جين شارب، ترجمة أحمد العلمي، كفاح اللاعنف وسيلة فعالة للعمل السياسي، (بدون بيانات).
(96) موقع مؤسسة ألبرت أينشتاين: www.aeinstein.org
(97) في كلمة ألقاها السيناتور الأمريكي جون ماكين أمام مجلس العلاقات الخارجية بواشنطن عام 2004، بدا واضحاً حماسه لاستكمال إدارة بوش(الابن) ما بدأته في العراق، في إطار إعادة ترتيب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط، على خلفية هجمات الحادي عشر من سبتمبر2001، راجع: John MacCain, Finishing the Job in Iraq, AIR FORCE Magazine, July 2004.
(98) Stephen Zunes, Serbia: 10 Years Leater, Huffpost World, 17 June 2009.
(99) موقع حركة المقاومة الصربية: Otpor website حركة شباب 6أبريل أخذت اللوجو الخاص بالحركة الصربية Optor، وهو عبارة عن قبضة يد مضمومة.
(100) نص الحوار مع أحمد ماهر، نشرته جريدة الشرق الأوسط، في 10 فبراير2011، تحت عنوان: "منسق حركة شباب 6أبريل: الاحتجاجات انطلقت بقيادة مجموعات سرية في أماكن محددة بالمناطق الشعبية".
(101) راجع هذا الكتاب الذى صدر في القاهرة مؤخراً، وهو محاولة مشكورة لجمع الهتافات والشعارات التى كانت على اللافتات التى حملها المتظاهرون، فضلاً عن النكت التى أطلقها المصريون طوال الـ18 يوماً، واستمرت كل يوم: الشعب المصري، الشعب يريد، (القاهرة: العربي للنشر والتوزيع، 2011).
(102) في أواخر2008 مثلاً دعت الخارجية الأمريكية شباب حركة شباب 6أبريل للمشاركة في مؤتمر دولي في الولايات المتحدة! الحركة أعلنت رفضها القاطع له من خلال تصويت ديمقراطي. وقد أدى ذلك إلى حدوث انقسام بين صفوف الحركة، حيث أدانت الحركة موافقة كل من اسراء عبد الفتاح وأحمد نصار على المشاركة في هذا المؤتمر، وخروجهما على حالة الاجماع وقرارات التصويت الديمقراطية داخل الحركة التى تعتبر كل من يخرج عن رأي الأغلبية العظمى من أعضاء الحركة لا يمثل إلا نفسه ويُصبح مُستبعداً من عضوية الحركة نتيجة لفعلته وعليه تحمل نتائج تصرفاته! راجع: دينا شحاته وآلاء الروبي، "الحركات الاحتجاجية الشبابية: شباب من أجل التغيير وحركة تضامن وحركة شباب6أبريل"، في دينا شحاته(محرر)، م. س. ذ، ص269. ولقد أصدرت الخارجية الأمريكية بياناً عن المؤتمر الذى انعقد خلال الفترة من3-5ديسمبر2008، واعلن عن قيام تجمع بإسم "تحالف الحركات الشبابية"، كمعادل لارهاب القاعدة وتحالفاتها! المؤتمر حضره قادة 17 منظمة رائدة من 15 دولة، مع خبراء من فيس بوك وجوجل ويوتيوب والـ Howcast والـMTV ومدرسة كولومبيا للقانون والخارجية الأمريكية! المؤتمر ناقش أفضل الوسائل لاستخدام الاعلام الرقمي في تشجيع الحرية والعدالة ومواجهة العنف والارهاب والقمع، راجع: U.S. Department of State, Announcement on Alliance of Youth Movements Summit, December 3-5, Press Release, 18 November 2008. Website: America.gov. الغريب في الأمر هو ما جاء في ختام البيان من أن نقطة الاتصال الدولي حول المؤتمر اسمه: جارد كوهين، ولا أدرى ما اذا كان هو مؤلف كتاب "اطفال الجهاد" أم مجرد تشابه أسماء! وثائق أمن الدولة المصرية كانت قد تحدثت عن أمريكي له نفس الاسم، قالت عنه إنه مدير وائل غنيم في شركة جوجل، كما أنها نسبت لوائل غنيم اعترافه بأنه أطلعه على فكرة صفحة "كلنا خالد سعيد"! لا أدري، ربما يكون الأمر مجرد تشابه أسماء! على أية حال، من تداعيات المؤتمر الأمريكي الأخرى، والتى لم تلبث أن كشفت عنها تسريبات ويكليكس الشهيرة، وثيقة تقرير سري صادر عن السفارة الأمريكية بالقاهرة، في 30/12/2008، أطلقته ويكليكس في 31/1/2011! وثيقة التقرير بعنوان: APRIL 6 ACTIVIST ON HIS U.S. VISIT AND REGIME، وتحمل رقم: 08CAIRO02572! وتتحدث عن انطباعات ناشط في حركة شباب 6أبريل، لم تذكر اسمه حضر المؤتمر، واستطاع الأمريكيون اخفاء هويته! الوثيقة أوردت حديث الناشط عن خطة غير مكتوبة مع بعض القوى المعارضة في مصر، للاطاحة بالنظام، خلال 2011، وهو ما شكك كاتب الوثيقة في إمكانية حدوثه! تحدث الناشط أيضاً عن لقائه بساسة واستراتيجيين أمريكيين، رفيعي المستوى! وفي الموقع الالكتروني لمنظمة: MOVEMENTS.ORG، وهي معنية بتسهيل التواصل بين الحركات الشبابية في جميع انحاء العالم، وتتمتع حركة شباب 6 أبريل بعضويتها! وجدت أخباراً عن تسريبات مهمة لويكليكس بشأن اطلاع أعضاء فريق الميديا الجديدة الخاص بحملة الرئيس الأمريكي أوباما بعض نُشطاء من شباب 6 أبريل الذين حضروا المؤتمر، على خبراتهم!
(103) حول الحفاوة الأمريكية بزيارة أحمد ماهر الأخيرة إلى أمريكا بعد الثورة، راجع: Hoda Osman, Meet Egypt Revloutionaries in NYC, Huffpost New York, 29 April 2011. وراجع أيضاً: J. A. Myerson, Soccer, Cabs and Revolution: The Egyptian Youth Movement Comes to NYC, The Busy Signal, 27 April 2011.
(104) حسني مبارك، كلمة للتاريخ، (القاهرة: دار المعارف، 2005)، ص135.