الغرب والإسلام
المحور الثاني: التغريب وتدمير المؤسسات الإسلامية (31)
مصطفى إنشاصي
أدرك الغرب أهمية ودور المؤسسات الإسلامية القائمة سواء كانت بقايا موروثة من أجهزة الدولة العثمانية أو جمعيات ومعاهد إسلامية أهلية في تنشئة الأجيال المسلمة على حب دينها والالتزام به عقيدة ومعاملة وأخلاق، لذلك سعى الغرب إلى تدميرها من أجل أضعاف وتشويه مفهوم الإسلام في عقول الأجيال المسلمة التي هي عماد قوة أي مجتمع ودولة، مستغلاً حالة الضعف التي أصابت الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر وبدء دخول الإرساليات التنصيرية والثقافية الغربية إلى وطننا في اختراق مجتمعنا الإسلامي من خلال إنشاء مؤسسات موازية على النمط الغربي لتكون منافساً وبديلاً عن المؤسسات الإسلامية.
لذلك مثل الغرب في القرن التاسع عشر التحدي الغربي الحديث ضد الأمة والوطن، وكان يتحرك باتجاه الوطن الإسلامي بكل ثقل حقده الصليبي القديم، بالإضافة إلى ثقل العوامل الاقتصادية والسياسية، فهو أيضاً يبحث عن المواد الخام ويريد تصريف منتجاته وبضائعه، ويريد دائماً مناطق نفوذ ولكنه يصطدم بالجدار الإسلامي، فيدفعه ذلك لمحاولة تدميره مبتدئاً بتوسيع قاعدة التغريب بين أبناء أمتنا ومثقفيها، بالمدارس التبشيرية وعن طريق السفارات والقنصليات وبحركة ترجمة لآداب الغرب وفلسفاته وفنونه (بدلاً عن العلوم التطبيقية) والبعثات الدراسية.
وبحكم أن الازدواجية في أهداف الغرب أصبحت طابعاً مميزاً لحروبه ضد الإسلام والأمة؛ فإن تدمير العقل المسلم والمؤسسات الإسلامية أصبحا هدفاً مزدوجاً للغرب تمهيداً للقضاء على الخلافة ولعدم العمل على إعادتها ثانية، وقد كانت وسيلته لتحقيق ذلك التغريب. وإن كان التغريب بدأ مع الحملة الفرنسية وما أحدثته من اختراق وإن كان ضئيلاً في جوانب عدة في مجتمعنا إلا أنه أصبح كاسحاً مع بداية عهد محمد علي باشا وحكمه لمصر، وفي إرساله البعثات التعليمية للغرب الذين تم سرقة عقولهم لصالح المشروع الغربي التي عملت على تكريس التبعية للغرب ونموذجه الحضاري.
بدءً من الشيخ المعمم رفاعة الطهطاوي الذي أرسل ليؤم البعثة التعليمية فانبهر بنظافة شوارع باريس وعربة الرش التي تجوبها، فعاد ليترجم الدستور الفرنسي ويعمل على تطوير القوانين والنظم على أساسه. والسير أحمد خان رئيس جامعة عليكرة، وأحمد قادريان في الهند، مروراً بأولئك المعممين الذين نادوا "بتوفيق أو تركيب بين موروثنا الفكري وقيم أوروبا الجديدة وغاب عنهم وعن الجيل التالي لهم مثل علي مبارك ومحمد عبده وجيل الحركة الإصلاحية بشكل عام، أن نهوض الأمم لا بد أن يقوم على قيم أساسية أصيلة، وأن أوروبا الجديدة كانت تحمل مشروعاً للاستعمار والهيمنة والسيطرة، وأنها لن تسمح للعالم الإسلامي أن ينهض من خلال الاستعانة بها صناعياً وإدارياً وعسكرياً". انتهاءً بالمعممين الذين ينادون اليوم ليس بإمكانية التفاهم والعيش مع الغرب الصليبي وأنماط حضارته بل وإمكانية العيش بسلام مع (إسرائيل) ومشروعها الديني السياسي النقيض لمشروعنا ونموذجنا الحضاري الإسلامي.
أما على صعيد غير المعممين فكان بدءً من محمد علي باشا الذي كان مبهوراً بالحضارة الغربية خصوصاً النموذج الفرنسي، وبدأ يقيم دولته على أسس غربية حديثة، وينشيء مؤسسات علمانية لتكون نواة الدولة الحديثة، مبتدئاً بالجيش الذي سخر لإنشائه وتحديثه كل الإمكانيات المتاحة، وسخر لخدمته كل المشاريع الزراعية والصناعية، والبعثات التعليمية أيضاً، مروراً بتيار المثقفين المتغرب أشد التغريب، الرافض لكل المكونات الفكرية والثقافية والتاريخية للأمة، الداعي إلى القضاء على دولة الخلافة وإقامة دولة قومية، سواء كانوا من المتغربين الأتراك أو العرب أو غيرهم، إلى الزمر التي حكمت بعد الاستقلال وكرست التبعية للغرب وقضت على ما تبقَ من قيم وموروثات روحية وفكرية وثقافية أصيلة، باسم الثورية والتقدمية والتحرر من أغلال وقيود الماضي للانطلاق نحو المستقبل، انتهاءً بورثتهم اليوم المهزومين المتسابقين على التطبيع مع العدو الصهيوني الجاثم على قلب الأمة بالسلب والاغتصاب.
لقد كانت الفئة المثقفة المتغربة من أبناء الأمة هي عدو الأمة الداخلي الذي شق عصا الطاعة لأمته، ومزق أواصر المجتمع وروابطه الاجتماعية، وفتت وحدته السياسية، وقطع الصلة بين ماضي الأمة وحاضرها، وكان أخطر مَن اُبتليت بهم الأمة من أولئك المثقفين المتغربين هم القوميين الأتراك والعرب الذين كانت لهم ارتباطات بجهات غربية تجاوزت البُعد الفكري والثقافي، ووقعوا فريسة للمؤامرة الغربية ضد أمتهم الإسلامية، ومازالوا يصرون على المضي قدماً حتى بعد أن تكشفت حقيقة استغلال الغرب لهم ضد أمتهم ووطنهم. يقول تفي يافوت أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب: "أما القومية فقد كانت من ابتكار الأوروبيين الذين أزعجهم انتشار الحروب الدينية في أوروبا، فابتكروا الفكرة القومية، للتخفيف من حدة الصراع الديني في أوروبا، ومن خلال هذا الشعار، شعار القومية حاولوا الانتقام من شعوب الشرق الأوسط، فباعوا ابتكارهم لشعوب الشرق الأوسط، وهكذا أصبحت حياة الشباب في الشرق الأوسط تتوه في الحروب القومية".
وقد حارب دعاة الفكر القومي من المسلمين فكرة الجامعة الإسلامية التي قال عنها أحد المستشرقين الفرنسيين: "كانت حركة الجامعة الإسلامية هي الغول المرعب ذلك العصر ... وكانت هذه الكلمة – الجامعة الإسلامية – نفسها توحي بالتطلع الإسلامي إلى السيطرة بأيديولوجيا عدوانية بمؤامرة على نطاق عالمي".
وكانت أول حرب قومية بين أبناء الأمة الواحدة هي الحرب التي قادها الشريف حسين بن علي، شريف مكة، وأنصاره من القوميين العرب أثناء الحرب العالمية الأولى ضد دولة الخلافة العثمانية التي كان يقودها آنذاك القوميين الأتراك، وكانت أول نتائج تلك الحرب على الأمة أن وقع الوطن الإسلامي كله قبضة الاستعمار الغربي، ثم تلاه ألغاء الخلافة الإسلامية في الآستانة، والقضاء على النظام السياسي الإسلامي الذي دام أربعة عشر قرناً من الزمان.
لقد كان المتغربون هم الصفوة في المجتمع الإسلامي التي اجتذبها الغرب إلى بابه واستطاع بها إبعاد الإسلام كعقيدة عن ميدان الصراع، وإقصاء كثير من تعاليم الإسلام ومبادئه وأخلافه من نفوس المسلمين، مما سهل عليه التسلل إلى وطننا وفرض منهجه ونموذجه الغربي في كل شيء علينا، عملاً برأي عالم الاجتماع الروسي بوجين دي روبرتي "أن يباشر الغرب سلطانه على العالم الإسلامي من خلال التحديث والعصرنة ولذلك طلب أن تتحرك الصفوة المسلمة باجتذابها من ذلك الباب، مع العمل المستمر على تمزيق الأواصر في العالم الإسلامي". وكذا استطاع الغرب من خلال هذه الصفوة أن يفرض الحل الذي دعا إليه المستشرق الفرنسي أدموند دوتيه عام 1910م: "العمل على أن يتولد إسلام جديد أكثر ميلاً نحو المصالحة والتسامح مع أوروبا وتشجيع العلماء الشبان على أن يسيروا في ذلك الاتجاه".
يبدو أن الغرب لم يولد إسلام جديد يميل للمصالحة والتسامح معه فقط بل ولد من فتحوا له الأبواب على مصراعها لفرض هيمنته الحضارية والفكرية ونهب ثرواتنا ومقدرات أوطننا الإسلامي المادية والبشرية.