فلسفة "التلاعب بالأصوات" وتأصيله .. الفونيم في علم الأصوات والتصاقب في فقه اللغة
(1)
أبدأ هنا بما بدأت به في مقال (فلسفة استراتيجية "المعاني المتعددة" .. باب المشترك اللفظي وعلم الوجوه والنظائر القرآني).
بم بدأت هناك؟
بدأت بـ(من أسباب إقبالي على القرائية وتعلقي بها ضربها في أعماق اللغة ولمسها صلبها، وهي بذلك تجعل محب اللغة يحيا حبه ويبحث ويبحر في علوم اللغة).
ومن أدلة ذلك مبحث "التلاعب بالأصوات" المندرج تحت "مستويات الوعي الصوتي" في مفتتح مباحث القرائية.
كيف؟
تنقسم الحروف في اللغة العربية قسمين، هما:
أ- حرف مبنى تبنى الكلمات منه، وهي ما أسميه "حروف الهمزة باء" أو ما يسمى "حروف الألف باء" أو "حروف الأبجدية" التسعة والعشرون (ء ب ت ث ج ح خ د ذ ر ز ... إلخ) بعد الخليل بن أحمد الفارهيدي الثمانية والعشرون قبله.
ب- حرف معنى يقابل الاسم والفعل في أنواع الكلمة، ويؤدي معنى في غيره أي الاسم أو الفعل مثل حروف الجر وحروف الاستفهام وحروف النفي والنداء و... إلخ.
والنوع الأول تتناوله علوم لغوية شتى.
كيف؟
يتناوله الإملاء برسمه وكتابته، ويتناوله علم الخط بقواعد رسمه والتفنن فيها، ويتناوله الأصوات بنطقه، ويتناوله التجويد بتحسين نطقه على وفق مخرجه وصفته.
وفي المستوى الأول من "علم الأصوات" الذي يسمى بعلم الأصوات النطقي أو "الفوناتيك Phonetic" الذي يتصل بمقالنا نجد العلماء وجدوا للصوت أكثر من أداء.
كيف؟
وجدوا أن هناك صوتا له أكثر من مظهر، مثل النون التي تنقسم أقساما هي: النون المظهرة في مثل قولنا: "من آمن"، والمخفاة في مثل قولنا: "من قال"، والمدغمة في مثل قولنا: "من يعي". وغيره من الأصوات.
فماذا فعلوا؟
سموا هذه التجليات الأدائية الصوتية بـ"وحدة صوتية" وهو بالإفرنجية phoneme، وسموا كل تجلٍّ منها بـ"صُوَيْت" تصغير صوت وهو بالإفرنجية allophone.
واختفلوا في تعريف الفونيم phoneme، لكنني لن أتعرض لهذا وسأكتفي بإيراد تعريف الدكتور تمام حسان في كتابه "اللغة العربية معناها ومبناها"، ومن أراد المزيد فليستزد.
ماذا قال الدكتور تمام في تعريف الفونيم؟
قال: "الفونيم هو الوحدة الصوتية الصغيرة التي تحصل من عمليات النطق السليم، وقد عبر عنها في شكل الحرف".
وعندما يشرحون وظيفته في المستوى الثاني من علم الأصوات الذي يسمى "علم الأصوات الوظيفي" أو "الفونولوجيا phonology" يجعلون اختلاف الدلالة هو المحور الأساسي لمعرفة أن هذا يمثل وحدة صوتية منفصلة.
مثل ماذا؟
مثل الفعل قال، لو وضعنا نونا بدلا من القاف لصار الفعل "نال" ولتغير المعنى، ولكان كل من "ن" و"ق" فونيمين. وقد اقترح الدكتور محمد حسن جبل أستاذ أصول اللغة في جامعة الأزهر فرع المنصورة تسمية الوحدة الصوتية حرفا كما ورد في تراثنا تمييزا بين الوحة الصوتية وتفرعاتها كما سبق بيانه في النون وأنواعها.
وهذا هو عين التلاعب بالأصوات الذي يهدف إلى أن ينقل إلى التلميذ تعريف الحرف من خلال تطبيقات مثل "رجال ورمال، ونمل ونهر، و...إلخ"، فيعرف التلميذ أن الميم حرف يجعل الكلمة الأولى "رجال" كلمة أخرى مختلفة في المعنى "رمال"، وهكذا الهاء في الزوج الآخر.
(2)
وهذا عين ما أورده ابن جني في كتابه "الخصائص" في باب "في تصاقُب الألفاظ لتصاقُب المعاني"، وهو ما بنى عليه الدكتور "عبد الكريم محمد حسن جبل" الأستاذ بكلية الآداب بجامعة طنطا رسالته للدكتوراه في التصاقب.
ماذا قال ابن جني؟
قال وهو يعرض صور "التلاعب بالأصوات" وكأنه يشرح في القرائية مزيدا عليها زيادة تثري اللغة وصاحبها، وسأنقل الباب كاملا للإفادة، ولن أضيف إلا ترقيم الأنواع للإبراز.
قال ابن جني: {هذا غَوْر من العربية لا يُنتصَف منه ولا يكاد يُحاط به، وأكثر كلام العرب عليه وإن كان غُفْلا مسهوّا عنه. وهو على أضرب:
أ- منها: اقتراب الأصلين الثلاثيين كضيّاطٍ وضَيْطار ولُوقةٍ وأَلوْفةٍ ورِخْو ورِخْوَدٍّ وَيَنْجُوج وأَلَنْجوُج . وقد مضى ذكر ذلك.
ب- ومنها: اقتراب الأصلين ثلاثيّا أحدهما ورباعيّا صاحبُه أو رباعيّا أحدهما وخماسيّا صاحبه كدَمِثٍ ودِمَثْر وسَبِط وسِبَطْرٍ ولؤلؤ ولآل والضَبَغْطَى والضَبَغَطْرَىَ . ومنه قوله: (قد دَرْدَبَتْ والشيخُ دَرْدَبيس ...). وقد مضى هذا أيضا.
ج- ومنها: التقديم والتأخير على ما قلنا في الباب الذي قبل هذا في تقليب الأصول نحو (ك ل م) و(ك م ل) و(م ك ل)، ونحو ذلك. وهذا كله والحروف واحدة غير متجاورة.
د- لكن من وراء هذا ضرب غيره وهو أن تتقارب الحروف لتقارب المعاني. وهذا باب واسع
من ذلك قول الله سبحانه: (ألم تر أَنَّا أرسلنا الشياطِين على الكافرين تَؤُزُّهم أَزّا) أي تزعجهم وتقلقهم. فهذا في معنى تهزُّهم هَزّا والهمزة أخت الهاء فتقارب اللفظان لتقارب المعنيين. وكأنهم خَصّوا هذا المعنى بالهمزة؛ لأنها أقوى من الهاء. وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهزّ؛ لأنك قد تهزّ ما لا بال له كالجِذْع وساقِ الشجرة ونحو ذلك. ومنه العَسف والأسف والعين أخت الهمزة كما أن الأسف يعسِف النفْس وينال منها والهمزة أقوى من العين، كما أن أسَف النفس أغلظ من التردّد بالعسْف . فقد ترى تصاقُب اللفظين لتصاقب المعنيين.
ومنه القَرْمة وهي الفَقْرة تُحزّ على أنف البعير، وقريب منه قلّمت أظفاري؛ لأن هذا انتقاص للظُفُر وذلك انتقاص للجِلْد. فالراء أخت اللام والعَمَلان متقارِبان. وعليه قالوا فيها: الجَرْفة من ( ج ر ف ) وهي أخت جَلَفت القَلَم إذا أخذت جُلفته وهذا من (ج ل ف)، وقريب منه الجنَفَ وهو المَيْل وإذا جَلَفت الشئ أو جَرفته فقد أملَتْه عمّا كان عليه وهذا من (ج ن ف).
ومثله تركيب (ع ل م) في العلامة والعَلَم. وقالوا مع ذلك: بَيْضة عَرْماء أعرم إذا كان فيهما سواد وبياض، وإذا وقع ذلك بأَن أحد اللونين من صاحبه فكان كل واحد منهما عَلَما لصاحبه. وهو من (ع ر م) قال أبو وَجْزة السعديّ:
ما زِلن يَنْسُبن وَهْنا كلَّ صادِقةٍ ... باتت تباشِر عُرْما غير أزواجِ
حتى سَلَكن الشَوَى مِنهن في مَسَكٍ ... مِن نَسْل جَوّابةِ الآفاقِ مِهداج
ومن ذلك تركيب (ح م س) و(ح ب س) قالوا: حبست الشئ، وحمس الشرّ إذا اشتدّ. والتقاؤهما أن الشيئين إذا حبس أحدهما صاحبه تمانعا وتعازّا، فكان ذلك كالشرّ يقع بينهما. ومنه: العَلْب: الأثر، والعَلْم: الشقّ في الشَفَة العليا. فذاك من (ع ل ب) وهذا من (ع ل م) والباء أخت الميم، قال طَرَفة:
كأنّ عُلُوب النِسْع في دَأَيَاتِها... موارِد من خَلْقاء في ظهرِ قَرْدَدِ
ومنه: تركيب (ق ر د) و(ق ر ت)، قالوا للأرض: قَرْدَد، وتلك نِبَاك تكون في الأرض فهو من قرِد الشيء وتقرّد إذا تجمّع أنشدنا أبو عليّ:
أهْوَى لها مِشْقَصٌ حَشْر فشَبْرقها... وكنتُ أدعو قذاها الإثِمد القَرِدا
أي أسمّى الإثمد القِرد أذى لها، يعنى عينه.
وقالوا: قَرَت الدمُ عليه أي جَمَد، والتاء أخت الدال كما ترى. فأمّا لم خُصَّ هذا المعنى بذا الحرف فسنذكره في باب يلى هذا بعون الله تعالى.
ومن ذلك: العَلَز: خِفّة وطيش وقَلَق يعرِض للإنسان، وقالوا: (العِلَّوْص) لوجع في الجوف يلتوى له الإنسان ويقلق منه. فذاك من (ع ل ز) وهذا من (ع ل ص)، والزاى أخت الصاد.
ومنه الغَرْب: الدَلْو العظيمة وذلك؛ لأنها يُغرف من الماء بها فذاك من (غ ر ب) وهذا من (غ ر ف) أنشد أبو زيد:
كأن عينىَّ وقد بانونِى... غَرْبانِ في جَدْولِ مَنْجَنُونِ
واستعملوا: تركيب (ج ب ل) و(ج ب ن) و(ج ب ر)؛ لتقاربها في موضع واحد وهو الالتئام والتماسك. ومنه الجَبَل لشدّته وقوّته، وجَبُن إذا استمسك وتوقّف وتجمع، ومنه جَبَرت العَظْم ونحوه أي قوّيته.
هـ - وقد تقع المضارعة في الأصل الواحد بالحرفين
نحو قولهم: السَحِيل والصهِيل قال:
كأن سحِيله في كل فجرٍ... على أحساءِ يَمْؤودٍ دعاء
وذاك من (س ح ل) وهذا من (ص ه ل)، والصاد أخت السين كما أن الهاء أخت الحاء. ونحو منه قولهم: (سحل) في الصوت و (زحر)، والسين أخت الزاى كما أن اللام أخت الراء.
وقالوا: (جَلف وجَرَم)؛ فهذا للقَشْر، وهذا للقَطْع. وهما متقاربان معنى متقاربان لفظا؛ لأن ذاك من (ج ل ف) وهذا من (ج رم). وقالوا: صال يصول، كما قالوا: سار يسور.
و- نعم وتجاوزوا ذلك إلى أن ضارعوا بالأصول الثلاثة: الفاء والعين واللام
فقالوا: عصر الشيء، وقالوا: أَزَله إذا حبسه. والعَصْر ضرب من الحبس. وذاك من (ع ص ر) وهذا من (أزل)، والعين أخت الهمزة والصاد أخت الزاى والراء أخت اللام. وقالوا: الأَزْم: المنع، والعَصْب: الشدّ؛ فالمعنيان متقاربان، والهمزة أخت العين والزاى أخت الصاد والميم أخت الباء. وذاك من (أ ز م) وهذا من (ع ص ب).
وقالوا: السلب والصرف, وإذا سُلِب الشيء فقد صُرِف عن وجهه. فذاك من (س ل ب) وهذا من (ص ر ف)، والسين أخت الصاد واللام أخت الراء والباء أخت الفاء. وقالوا: الغدْر، كما قالوا: الخَتْل. والمعنيان متقارِبان واللفظان متراسِلان؛ فذاك من (غ د ر)، وهذا من (خ ت ل)؛ فالغين أخت الخاء، والدال أخت التاء، والراء أخت اللام. وقالوا: زأر، كما قالوا: سَعَل؛ لتقارب اللفظ والمعنى. وقالوا: عَدَن بالمكان، كما قالوا: تأطّر أي أقام وتلبَّثَ. وقالوا: شرب، كما قالوا: جَلَف؛ لأن شارب الماء مُفْنٍ له كالجَلْف للشيء. وقالوا: أَلتَه حقَّه، كما قالوا: عانده. وقالوا: الأرْفة للحدّ بين الشيئين، كما قالوا: عَلاَمة. وقالوا: قفز، كما قالوا: كَبَس؛ وذلك أن القافز إذا استقرّ على الأرض كبسها. وقالوا: صهل، كما قالوا: زأر. وقالوا: الهِتْر، كما قالوا: الإدْل، وكلاهما العَجَب. وقالوا: كلِف به، كما قالوا: تقرَّب منه. وقالوا: تجعَّد، كما قالوا: شَحَط؛ وذلك أن الشيء إذا تجعَّد وتقبَّض عن غيره شَحَط وبعد عنه. ومنه قول الأعشى:
إذا نزل الحىَّ حلَّ الجَحِيشُ ... شقيِّا غَوَّيا مُبينا غَيُورا
وذاك من تركيب (ج ع د)، وهذا من تركيب (ش ح ط)؛ فالجيم أخت الشين، والعين أخت الحاء، والدال أخت الطاء.
وقالوا: السيف والصوب: وذلك أن السيف يوصَف بأنه يَرْسُب في الضَريبة لحدَّته ومَضَائه ولذلك قالوا: سيف رَسُوب. وهذا هو معنى صاب يَصُوب إذا انحدر؛ فذاك من (س ى ف)، وهذا من (ص و ب)؛ فالسين أخت الصاد، والياء أخت الواو، والفاء أخت الباء. وقالوا: جاع يجوع، وشاء يشاء؛ والجائع مريد للطعام لا محالة، ولهذا يقول المدعوّ الى الطعام إذا لم يجب: لا أريد ولست أشتهي، ونحو ذلك والإرادة هي المشيئة؛ فذاك من (ج و ع)، وهذا من (ش ى أ)؛ والجيم أخت الشين، والواو أخت الياء، والعين أخت الهمزة. وقالوا: فلان حِلْس بَيْتِه إذا لازمه. وقالوا: أَرَزَ إلى الشيء إذا اجتمع نحوه وتقبّض إليه. ومنه إن الإسلام ليأرِز إلى المدينة وقال:
بآرِزِةِ الفَقَارِةِ لم يَخُنْها... قِطاف في الركابِ ولا خلاء
فذاك من (ح ل س) وهذا من (أرز)؛ فالحاء أخت الهمزة، واللام أخت الراء، والسين أخت الزاى.
وقالوا: أُفل، كما قالوا: غبر؛ لأن أفل: غاب، والغابر غائب أيضا. فذاك من (أ ف ل)، وهذا من (غ ب ر)؛ فالهمزة أخت الغين، والفاء أخت الباء، واللام أخت الراء.
وهذا النحو من الصنعة موجود في أكثر الكلام وفَرْش اللغة، وإنما بقى مَنْ يثِيره ويبحث عن مكنونهِ بل مِنْ إذا أُوضِح له وكُشِفت عنده حقيقته طاع طبعُه لها فوعاها وتقّبلها. وهيهات ذلك مطلبا وعزّ فيهم مذهبا! وقد قال أبو بكر: من عرف ألِف ومن جهِل استوحش}.
(3)
هكذا رأينا كيف تجعل مسالة "التلاعب بالأصوات" محب اللغة يذهب إلى علم اللغة في مستواه الأول "علم الأصوات" ليغترف، ثم يذهب إلى تراثنا في فقه اللغة حيث حبره الأعظم ابن جني لينهل ما وسعه ذلك.