ما تزال هذه القفار الرحبة حيث تمتد الكثبان والأحراش تحت قبة السماء الفسيحة ,مسرحا لعالم المخلوقات الليلية النشطة .هنالك تسير قوانين الطبيعة القاطعة والعادلة فلا مكان للكائنات الضعيفة و المريضة . وعندما تنجلي أضواء النهار المبهرة , يروي أديم الرمال ما تلاشى في مسرح الأحداث المنقضية لدورة الحياة والموت في صراعهما الدائم . في الأعالي حلق صقر فتي في السماء الصافية الأديم للصيف النقي . تبدو القفار خالية , فقد آبت مخلوقات الظلام الضارية الى مكامنها المموهة ,وانتشرت في المكان صغار الزواحف, والحشرات الضئيلة. تغلغل القيظ في الرمال مع ارتفاع الشمس و كادت الظلال تتلاشى. تكسر الشعاع فوق الصدع العظيم, وتسرب الدفء الى شقوق الصخور في منحدرات الجبال الوعرة. حيث كانت الحياة تغفو في سباتها الطويل . سرت قشعريرة البرد في رعدة خاطفة عبر الحراشف , لتقذف أول أنفاس الصحو في وجه الموت .تقضقضت الأضلاع فتململ الجلد الجاف الخشن , وانقشع الخدرفي اللسان الأسود المشقوق ,تكوم الجسد الذي طفق يستعيد على مهل تحفز ذاكرته الغريزية ,فتمطت الأشداق المرنة في وحشية كسلى. وانساب الفحيح المخيف في حشرجة متماوجة الحدة . مر يوم قائض, وعند الأصيل ,هنالك فوق منحدرات الكثبان الرملية الناعمة في الأفق البعيد, كانت الشمس ترسل أشعتها الغاربة والمضمخة بالأرجوان. كانت يد الدليل تقود فيلق العربات الصحراوية المتجهة صوب الكثيب . انشغل الزائرون بسحر الغروب وتصدى الدليل ومن كان في مساعدته من البدو لنصب الخيام وترتيب المتاع واقتلاع الأحطاب. و عندما خيم الظلام وأوقدت النيران فاض على السائحين القادمين الى الجنوب لتقديم عروضهم المسرحية سحر متألق من بهاء الصحراء. .عمت الفوضى المكان وأصابت الحركة الكثيفة والأصوات الصارخة غريزة الأفعى الملتفة للهجوم. فقد زج بها في ذروة تيقضها الحانق وسط جموع الساهرين. .حاصرتها الأخطار المتكررة وأوشكت مرات عدة أن تلامس نقطة اللاعودة . اتقد الشرر في العينين المتحجرتين , وساد الصمت الرهيب وسط فورة الحياة المتدفقة . كان هوس الفن قد ألقى بالعديد من المسرحيين وسط الحلبة الرملية الناعمة, في استعادة لما لعبوه من أدوار في أرقى الأعمال الدرامية, فبعث عطيل.. ودبت الحياة في أوديب... وانتفض جلجامش..وقد زادت الصحراء وليلها الساجي ورحابتها الطلقة من رقي الابداع . ومع انتهاء العروض المقتضبة كانت تدور رحى النقد النافذة الى عمق البنى المسرحية ,بكل صرامة ,في تناغم غريب متدفق يدفع بالعمل الفني الى أقصى حدود الاحتمال الجمالي ,فلا أحد بامكانه أن يحتكر الحقيقة المطلقة. اليس من الغريب أن تكون هذه الأجواء بعينها ما تمنيت الذوبان فيه ؟. كان الحدث المسرحي مهما بالنسبة اليك ,وتلك الفرقة الفتية التي تديرها نخبة من المثقفين من أصدقائك, قد بلغت ذروة أعمالها, ففي هذه الساعة ينعقد ملتقى أدبي ومسرحي يؤمه كبار النقاد والصحفيين . لكن يد القدر ساقتك الى الصحراء لتعوض عليك ما تمنيته من التحام خلاق على سجيته بين الناقد والمبدع. ولعلك لا تأسو فانت تدرك وتتصور ما يمكن أن يحدث !... .ينتهى المبدعون من عرض تجربتهم الرائدة, وتحين بكل تأكيد ساعة الصدام العبثية التي تشكل لحظة درامية للعديد من الفنانين والذين يرفضون الخضوع لتقاليد النقد المسرحي , من المتعصبين أو المحسوبين على عالم الجمال. ياله من صدع عميق , فليس ترياق النقد في نظرهم الا سما قاتلا يشل الأعصاب ,ليرفع على الأكتاف جنازات المبدعين الى مثواها الأخير .وما الناقد الا أفعوان لا هدف له الا القضاء على المواهب الوليدة. واطلاق رصاصة الرحمة على الأجنة في بطون أمهاتها, فلا ترى النور. أما وقد زعم البعض أنه قد ولد نظيفا مختونا مقطوع السرة بيد العناية الالهية من بطن أمه. فلا عجب..! فان هذا العصر هو عصر المعجزات الفنية .!... فهبنا قبلنا بأشخاص جاحظيين يعدون على الأصابع ....أولم يكتب ميخائيل باختين كتابه ’’جماليات دوستوفسكي ’’. مادحا لا ناقدا ..فلماذا لا نحذوا حذوه.؟! حقيقة لم نرى في هذه الحياة من هو أشد حبا وتشبثا من القبح بأثواب الجمال , وكما تنزع الأفعى ثوبها البالي للرياح, يتخلى الجمال لخصمه عن دفء معطفه المزيف . .فمتى يزول الخدر الكامن في اللسان المشقوق ؟ فتسيل على حده دماء الأدعياء الفاسدة بضربة من ذي الفقار.. فقمته المقسومة علامة النصر المقدسة للوعد الآتي . وما دامت الحية لم تتمكن حتى الساعة من حقن سمها الفتاك في جسد الفن المريض. فان ما خطه كبار الأعلام في عالم النقد والهدي الابداعي يؤجل فيركم في كتاب , مدخرا للأجيال القادمة لتنعم بجليل قدره . والى أن يحين ذالك الوعد ..,ما على الأفعى الا أن تنسحب وتعود مع أول هبوب لرياح الفجر, وقد ألقى النعاس بخدره في عيون الساهرين, الى مكمنها في الصدع العظيم ,متمنية على الله تعالى أن لا تصحو ثانية من سباتها العميق .