قراءة في مجموعة أَمِيرَةٌ مِنْ كَفْرِ خَضْرٍ

للشاعر الدكتور / عزت سراج

بقلم الناقد الكبير الأستاذ الدكتور/ أحمد عبد الحي يوسف

ــــــــــــــ

كأنك تقرأ قصيدة شعرية منسجمة وأنت تنتقل من قصة إلى أخرى عبر هذه المجموعة التي تشبه عقد اللؤلؤ المتجانسة حباته ، المتناسقة في توزيعها وألوانها وأحجامها ، والتي أخذت اسم أولى الحبات ليكون عنوانا للمجموعة كلها " أَمِيرَةٌ مِنْ كَفْرِ خَضْرٍ " .

وأول ما يلاحظه قارئ هذه المجموعة الروح الشعرية التي صيغت بها ، ولعل الموضوع هو الذي فرض هذه اللغة وتطلبها ، فالكاتب شاعر قبل أن يكون قصاصا ، ولابد أن يغلب الجانب الشعري حتى وهو يكتب فاتورة حساب ، فما بالنا وهو يستحضر من كتاب الماضي ذكريات وجدانية هي نجوى القلب ، وحديث الروح المرتبط بمراتع الصبا والشباب ، ويُذْكِى هذه الذكريات ويزيد عبقها أن القرية بمروجها وبساتينها ووردها البلدي ، بفلها وخوخها وأشجارها كانت المسرح الذي نبتت فيه ، وشهد مولد براعم الحب الأولى .

ولأن المكان جزء لا يتجزأ من قصة الحب ، فإن الكاتب يتعمد ذكر هذه الأماكن بأسمائها ، فـ " كفر خضر " التي خرجت منها أميرته هي إحدى القرى المتاخمة لـ " محلة مرحوم " قرية الكاتب ، وكلتاهما قريتان متاخمتان لمدينة طنطا ، ناهينا عن ذكر مفردات مثل الملاحة والميناء القديم ومحطة القطار ...

ذكر هذه الأماكن يسمح لنا بأن نتوقع أن تكون هذه المجموعة بجميع قصصها ، هي تسجيل حب شاعر لأَمِيرَةٍ مِنْ كَفْرِ خَضْرٍ ، يؤكد هذا التوقع أن المجموعة تدور حول محب واحد هو الراوي الذي يتقنع أحيانا تحت اسم " الولد الأسمر " ومحبوبة واحدة هي تلك الأميرة التي أطلت علينا في القصة الأولى ، وظلت تتشكل وتتلون وتعرض علينا نفسها في صور مختلفة ، لكنها تظل هي هي ، لا تتبدل ولا تتغير ، فلقد وقف الكاتب حياته عليها ، ويبدو أنه لا يرضى بها بديلا ، فهي الأمل وهي الرجاء ، وهي العقل والقلب والروح جميعا ، إنها المرأة الاستثناء التي يستغني بها الكاتب عن كل النساء .

ولأن دماء امرأة واحدة وولد أسمر واحد يظلان يسريان عبر هذه المجموعة ، فإنها تشبه قصيدة شعرية متوحدة المشاعر والأحاسيس ، كما إنها متوحدة في بطليها ، كل قصة هي تكملة للتي سبقتها لأن كل قصة تعرض جانبا أو موقفا أو ترسم زاوية في زوايا هذا الإحساس الطاغي الذي صيغ بلغة شعرية صافية ورائعة بنفس درجة صفاء أميرة كفر خضر ، ونقاء قلب الولد الأسمر .

تظل الأميرة تطل علينا بنفس الوجه ، وبذات التشبيهات ، وفي نفس البيئة الزاهرة بما تموج به البساتين من فاكهة ومن أريج ، وفي نفس الأماكن العامرة باليمام والعصافير ، بل يظل اسم القرية التي تنتسب إليها يتردد عبر قصص المجموعة مؤكدا أن الملهمة واحدة لا تتبدل ولا تتغير ، ففي مرة نجد الولد الأسمر منجذبا إلى مكان أميرته إذ " لَيْسَ يَدْرِي لِمَاذَا كَانَ يَسْتَسْلِمُ لِلسَّيْرِ نَحْوَ كَفْرِ خَضْرٍ كُلَّمَا ازْدَادَ الْحَنِينُ ، وَآلَمَهُ الدُّمَّلُ الْقَدِيمُ الْغَائِرُ بَيْنَ الضُّلُوعِ ، وَدَقَّ الْقَلْبُ الْكَسِيرُ كَطَائِرِ الطَّنَّانِ يَتَهَاوَى فَاقِدًا السَّيْطَرَةَ عَلَى جَنَاحَيْهِ مُخْرِجًا أَنْفَاسَهُ الأَخِيرَةَ " (ص 70) وفي ثانية نجده يتخذ من ساقية حزينة معادلا للأميرة " فِي الطَّرِيقِ إِلَى كَفْرِ خَضْرٍ تَتَمَدَّدُ سَاقِيَةٌ حَزِينَةٌ تُرَجِّعُ أَشْوَاقَهَا فِي حُنُوٍّ دَافِئٍ 000 تَنْقُرُ ـ مِنْ بَقَايَا الْقَطَرَاتِ الْمُتَدَفِّقَةِ مِنْ جَوَانِبِهَا ـ عَصَافِيرُ الرُّوحِ سَاعَةَ الْغُرُوبِ " (ص 75 ) .

ولئن جاءت نهاية قصة " مَا زَالَتْ سَوَاقِي الرُّوحِ تُعَاوِدُ أَشْوَاقَهَا الرِّيَاحُ " على هذا النحو : " فِي الطَّرِيقِ إِلَى كَفْرِ خَضْرٍ يُرَاقِبَانِ ـ فِي ارْتَيَاحٍ ـ دُخُولَ الْقِطَارِ مَحَطَّةَ طَنْطَا " فإن هذه النهاية تحمل تعبير رمزيا عن الأمنية التي يجيش بها قلب المحبين ، وذلك حين يتمنيان أن تتاح الفرصة لدخول المحب بمحبوبته فتتم لهما الهناءة والسرور والراحة ، وذلك كما ارتاح القطار عندما دخل محطته .

ولقد نعجب ـ في البداية ـ حين نقرأ في الإهداء :

" إِلَى الْعَظِيمَةِ الْمُجَاهِدَةِ / شَمْسِ الْبَارُودِي0000 وَجْهًا مَلائِكِيًّا بَرِيئًا يُضِيءُ سَمَاوَاتِ رُوحِي ، كُلَّمَا أَخَذَتْنِي ـ بَعِيدًا فِي مَتَاعِبِهَا ـ الْحَيَاةُ 000 وَرُوحًا نَقِيَّةً طَاهِرَةً ، كُلَّمَا أَيْقَنْتُ أَنَّنِي غَارِقٌ ـ لا مَفَرَّ ـ فِي ظُلُمَاتٍ مِنْ فَوْقِهَا ظُلُمَاتٌ 00 وَشَمْسًا سَرْمَدِيَّةً لا تَغِيبُ ، كُلَّمَا ظَنَنْتُ أَنَّ الطِّفْلَ الَّذِي يَسْكُنُنِي ضَائِعٌ فِي مَتَاهَاتِ لَيْلِي لا مَحَالَةَ " (ص 5)

ولكن العجب يزول حين نقرأ في قصة " لا يَزَالُ النَّخِيلُ يَحْكِي أَسْرَارَهُ لِلرِّيَاحِ " هذه العبارة : " اكْتَمَلَتْ أَجْزَاءُ اللَّوْحَةِ 00 يُخْفِيهَا فِي ذَاكِرَةٍ تَمْتَلِئُ كَمَيْدَانٍ فِي وَسَطِ مَدِينَةٍ 00 يُفَتِّشُ حَارَاتِ الْقَرْيَةِ 000 يَبْحَثُ عَنْ وَجْهٍ تُشْبِهُهُ شَمْسُ الْبَارُودِي " ( ص 37) .

فندرك سر الاحتفاء بشمس البارودي ، وهو أنها تشبه أميرته ، وبذلك يصبح الإهداء جزءا من النص ومفسرا لرموزه الداخلية ، ومؤكدا وحدة القصص الشعورية ، وندرك أن احتفاءه بشمس البارودي ليس إلا جزءا من احتفائه بأميرته ، وذلك أن الأولى هي التي تشبه الثانية وليس العكس .

ولئن كانت روح الأميرة تنسرب في ثنايا قصص المجموعة ، وتعيش في مفرداتها وفي حروفها وفي علامات الترقيم والتشكيل التي حرص الكاتب على مراعاتها بدقة ، وتعشش أكثر في تلك السطور المسكوت عنها التي تتمثل في تلك النقاط المتجاورة ـ وهي كثيرة ـ فإن روح الكاتب تنسرب هي الأخرى بنفس القدر من الاهتمام والحضور .

ويتأكد حضور الاثنين منذ السطور الأولى للقصة الأولى في أثناء رسم الخطوط الأولى للقصة وللمجموعة ، إذ نقرأ :

" ثَمَّةَ بِنْتٌ سَمْرَاءُ بِعُمْقِ اللَّيْلِ ، تَفْرِشُ خُضْرَةُ عَيْنَيْهَا الْفَاتِرَتَيْنِ فَدَادِينَ الْقَرْيَةِ ، تَنْشُرُ بَهْجَتَهَا عَلَى أَحْزَانِ النَّخِيلِ الْمُرْتَفِعِ وَحْدَهُ فَوْقَ شَطِّ التُّرْعَةِ " (ص 11) ، ثم نقرأ بعد ذلك مباشرة : " ثَمَّةَ وَلَدٌ أَسْمَرُ يَعْرِفُ طَعْمَ السِّكِّينِ السَّاخِنِ فِي جِرَاحَاتِ الرُّوحِ " (ص11).

ويظل هذا الثنائي حاضرا حتى نهاية المجموعة ، ففي قصة " بَيْنَ مَعْمَلِ الْكِيمِيَاءِ وَشُعَاعِ الشَّمْسِ " نقرأ : " الْوَلَدُ الأَسْمَرُ يُحَلِّقُ بِهَا كَفَرَاشَةٍ تُهَدْهِدُ خَيَالَهَا تَحْتَ شُعَاعِ الشَّمْسِ ، وَقَدْ غَادَرَتْ قَفَصَهَا الذَّهَبِيَّ فِي لَحْظَةٍ خَاطِفَةٍ كَالْجُنُونِ 00 يُدْخِلُهَا مُدُنَ الأَحْلامِ " ، وفي نهاية القصة نفسها نقرأ : " فِي مُحَاوَلَةٍ أَخِيرَةٍ لِلْهُرُوبِ مِنَ الْمُوَاجَهَةِ الْمُؤَجَّلَةِ ، مُكْرَهَةً اسْتَسْلَمَتْ لِلنَّوْمِ فِي مَعْمَلِ الْكِيمِيَاءِ ، وَهِيَ تَنْتَظِرُ لَحْظَةً يَهْبِطُ فِيهَا شُعَاعٌ يُرْسِلُهُ الْوَلَدُ الأَسْمَرُ ، وَيُمْكِنُهَا أَنْ تُحَلِّقَ مَعَهُ فَوْقَ جَزِيرَةِ الْيَمَامِ " (ص 51) .

ولئن كان معمل الكيمياء يشير إلى الحياة الرتيبة المملة المنغلقة التي فرض على الأميرة أن تحياها في ظل رجل قميء لا تعرف المشاعر طريقا إلى نفسه ، فإن مثل هذه المشاعر تكون من نصيب الولد الأسمر ، فهو وحده القادر على أن يعزف على أوتارها سيمفونية الحب والأمل والتفاؤل " هَذَا الْوَلَدُ الأَسْمَرُ ذُو الْعَيْنَيْنِ السَّمْرَاوَيْنِ يُلْهِبُ ـ عِنْدَمَا يَأْتِيهَا كُلَّ مَسَاءٍ ـ خَلايَا جَسَدِهَا الْهَامِدِ خَلْفَ زَنَازِينِ الْمَكْتَبِ وَالْمَعْمَلِ وَالأَوْرَاقِ الْمُبَعْثَرَةِ عَلَى طَاوِلَةِ الرُّوحِ 000 يُحَرِّكُ مَا سَكَنَ مِنْ عَنَاقِيدَ فَوْقَ تَكْعِيبَةِ الْعِنَبِ فِي مَدْخَلِ الْبَيْت ِالْقَدِيمِ 000 يُعِيدُ لِجَسَدِهَا الْخَامِدِ طَزَاجَتَهُ 000 وَيُشْعِلُ النَّارَ الْمُقَدَّسَةَ فَوْقَ مَا تَبَقَّى مِنْ حُطَامِ السَّنَوَاتِ الذَّابِلَةِ " ( ص 46) .

لكن طريق الولد الأسمر إلى قلب أميرته لم يكن معبدا ، فكم سهر الليالي يحلم بمكالمة هاتفية ، وكم جاب طرق القرية نهارا وليلا باحثا عن وجه أميرته الملائكي ، وكم فتش بين الوجوه الكثيرة عن وجهها ، وكم تكون سعادته غامرة عندما يظفر منها بلقاء عابر أو حوار موجز .

لكن أشقى ما كان ينغص عليه هو إحساسه بأنها مبتلاة بزوج قزم عاجز عن إسعادها ، بينما يرى نفسه كفؤا لها ، وهو يملك ما لا يمتلكه الزوج ، غير أن هذا الإحساس بالحرمان هو الذي أشعل النار في قلب الولد الأسمر ، وجعل جمرته دائما متقدة ، ومن هذه الجمرة كان هذا الإبداع الأصيل فلربما لو أتيحت له أميرته لانطفأت هذه الجذوة ، ولما كانت هذه المجموعة التي تتماس مع تخوم الشعر الرفيع ، فنحن نتأملها ونقلبها بين أيدينا ، ونتحسسها ونتذوقها ونعيد النظر إليها مرة بعد أخرى ، لأنها متعة للعين والأذن وسائر الحواس .

ومن أعظم مظاهر شاعرية هذه المجموعة هو أنها نجت من التقرير الجاف إلى التصوير الموحي الجذاب ، وما أكثر التشبيهات الواردة في هذه المجموعة ، والشاعر الدكتور / عزت سراج قادر دائما على أن يقرن بين العناصر التي ينتقيها بمشبهات مدهشة ، وللأميرة ـ بالطبع ـ نصيب كبير من هذه التشبيهات ، فهي المحور الذي تدور حوله مجموعة القصص ، وهي الملهمة ، ومن البديهي أن تشتعل مخيلة الكاتب وهو يتناولها بالوصف . كما أن لديه قدرة فذة على إسباغ شحنة من التشبيهات التي لا تنتهي عليها ، وهذا كله يصب في خانة شعرية القص التي تميز بها الكاتب.

ولئن كانت القصة القصيرة تتميز ـ فيما تتميز ـ بالتكثيف اللغوي ونبذ فضول الكلام ، فإن الكاتب هنا قد حقق هذا الشرط من شروط القص ، فضلا عن أنه كان يترك مساحة للقارئ ليستكمل المسكوت عنه عبر السطور المنقطة وما أكثرها ، وأتخيل لو أن الكاتب سجل كل ما يدور في مخيلته مما يملأ مكان هذه السطور الفارغة لوصل حجم هذه المجموعة القصصية إلى أكثر من ضعف حجمها ، لكن براعة الكاتب تتمثل في أن يقول شيئا ثم يضمر أشياء يوحي بها إلى المتلقي الذي بدوره يتولى إظهار ما أضمره الكاتب ، وبذلك نشجع القارئ على أن يكون منتجا للنص .

فتحية إلى الشاعر المبدع الأديب الكبير الدكتور / عزت سراج ، على هذه المجموعة القصصية المتميزة ، وإلى مزيد من الإبداع والتألق .

ـــــــــــــ

بقلم الأستاذ الدكتور / أحمد عبد الحي يوسف

أستاذ الأدب والنقد ـ عميد كلية الآداب الأسبق

جامعة طنطا ـ فرع كفر الشيخ

1/8/2009م