تحليل أمريكا للدكتور جلال لأمين

لعلها مناسبة طيبة،مع قرب الانتخابات الأمريكية ،أن نشير إلى تحليل لافت لأمريكا،وهو للدكتور جلال أمين،في كتابه ( ماذا علمتني الحياة : سيرة ذاتية) للدكتور جلال أمين،والكتاب يقع في 394 صفحة،وقامت بنشره دار الشروق بالقاهرة / هي الطبعة الرابعة، مارس 2008م.)
أتكرركم مع التحليل :
( وجدت في الأمريكيين أمة، وإن كانت تباهي بتشجيع الفردية والتميز، يعشق أفرادها أن يكونوا أعضاء في فريق، يفعل كل منهم مثلما يفعل الآخرون، ويهتفون نفس الهتافات ويهيمون بنفس الأبطال أو النجوم. وهم يثقون في رؤسائهم أكثر من اللازم ويقبلون ما يقال لهم بدون شك أو تمحيص، وهو ما يسهل مهمة الدولة في حكمهم، إذ يبدوا الأمريكيون وكأنهم أسهل أمم العالم حكما، وأكثرها انقيادا. يمكن أن تغير وسائل الإعلام مسار الرأي العام من اتجاه إلى نقيضه بمجهود بسيط،ولا يحتاج الأمر إلى استخدام الكثير من الحجج والبراهين، كما يحتاج هذا في أوروبا، بل يحتاج فقط إلى بعض الإلحاح واستخدام نفس أنواع المؤثرات التي تستخدم في الدعاية للسلع، وهي مؤشرات {هكذا وهي : مؤثرات}لا تخاطب المنطق بقدر ما تخاطب اللاشعور (..) وسلطان الدولة الذي يبدو ضعيفا ولكنه في الحقيقة أقوى في أمريكا منه في الكثير من الدول المسماة بالشمولية، مستمد من قوة الشركات وأصحاب الأعمال. ومن ثم فليس صحيحا الظن بأن الخطر الذي يهدد الحرية الفردية واستقلال الرأي إنما يأتي فقط من ازدياد قوة الدولة، كما يظهر مثلا في رواية 1984 بل قد يأتي أيضا من ازدياد قوة الشركات وأرباب الأعمال الذي قد يؤدي إلى ازدياد سلطان الدولة.
لم أتحمس قط،إذن، لما يسمى بالديمقراطية الأمريكية بل وجدت فيها الكثير من الزيف والإدعاء، إذ اعتبرت أن أقل أنواع النظم حرية وديمقراطية هي تلك التي يظن فيها الناس بأنهم أحرار ويتمتعون باستقلال الرأي والفكر دون أن يكونوا في الحقيقة كذلك. بل اعتبرت أن مصر وأمثالها، مما شاع اعتبار نظام الحكم فيها شموليا، وهو بالفعل كذلك، قد ينعم أهلها بدرجة أكبر من الاستقلال وحرية التعبير عن النفس، مما يتمتع به الأمريكيون، لمجرد أن المصريين لا يعتريهم أي شك في أي وقت في زيف ما يزعمه نظامهم من ديمقراطية، ولا تثير فيهم الدعابة{هكذا وهي الدعاية } السياسية من خلال وسائل الإعلام إلا السخرية المعلنة أو الصامتة، بينما يبدي الأمريكيون استعدادا مدهشا لقبول ما تقوله لهم وسائل الإعلام.(..) كنت على استعداد، ولا أزال للاعتراف بفضل التجربة ( أو الحضارة ) الأمريكية في الارتفاع بمستوى معيشة الشخص العادي أو المتوسط، ليس في أمريكا وحدها بل في
العالم ككل. فالنموذج الأمريكي موجه في الأساس لخدمة الرجل العادي والمرأة العادية، متوسطي الذكاء والخيال والخلق، وهذا في رأيي هو السبب الحقيقي وراء انتشار النمط الأمريكي في الحياة، في مختلف بقاع الأرض، انتشار النار في الهشيم، وهذا هو سر جاذبيته. ولكن الوجه الآخر لهذا النجاح هو ما تتسم به الثقافة الأمريكية بوجه عام من تراجع مختلف أنواع الثقافة الرفيعة أمام ذلك التيار الكاسح الذي يخاطب أكثر نوازع الإنسان سطحية، والاستعداد للتضحية بالكيف لحساب الكم، وإهمال ما لا يمكن قياسه وحسابه بالأرقام لصالح التقدم المادي البحت الذي يمكن قياسه وحسابه. (..) وبدا لي أن للأمريكي غراما لا حد له بإثبات تفوقه على الطبيعة وقدرته على الاستغناء عنها. واستغربت بشدة كيف يمكن في بلد تسخو فيه الطبيعة هذا السخاء على الإنسان أن يبدي الإنسان نحوها كل هذا العداء؟ رأيت مثلا في ولاية كاليفورنيا، التي قضيت فيها معظم فترة إقامتي بالولايات المتحدة، ولا تكاد تضاهيها ولاية أمريكية أخرى في جمال مناخها واعتداله على مدار العام، أني أدخل بناء بعد الآخر، ومقهى أو مطعما تلو آخر، فماذا أجد؟ أجد النوافذ مركبة على نحو يجعل من المستحيل فتحها، أو مصنوعة من زجاج ملون يحجب ضوء الشمس عما وراءها، وأجد أجهزة تكييف الهواء شائعة الاستعمال على نحو يُخيل إليك معه أنك في أشد بلاد العالم حرارة وأقساها مناخا(1) ثم ما هي المعجزة الشهيرة في كافة أنحاء الأرض (..) (( ديزني لاند)) (..) و المكان كله لا نهاية فيه لما يبدو وكأنه حيوانات وليست في الحقيقة كذلك، وطيور ليست بالطيور، وأشجار ليست بأشجار. فإذا أعياك هذا كله وذهبت إلى مكان لتناول الطعام، فإنك ستجلس إلى مائدة تبدو وكأنها مصنوعة من الخشب ولكنها ليست كذلك، وسوف يقدم إليك شيء شبيه بالطعام ولكنه ليس طعاما، إذ أن من بين ما يغرم به الأمريكي أن يصنع لبنا خاليا من الدسم، وسكرا لا يحتوي على مادة سكرية، وخبزا لا يؤدي إلى السمنة، سوقهوة لا تحول دون النوم){ص 262 - 266}.

نقل التحليل : أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي : المدنية المنورة في 19/12/1433هـ
mmsh601@gmail.com