محاكمة الضمير العالمي
د. أحمد يوسف
هذا هو وجه إسرائيل الديمقراطية
على امتداد الأعوام التسعة عشر يوما الماضية، تعرضت منطقة صغيرة لا تتجاوز مساحتها 150 ميلا مربعا، تضم مليون ونصف فلسطيني مكدسين داخلها، لأكثر الحملات العسكرية وحشية ضد سكان مدنيين في القرن الحادي والعشرين، بل تعد من بين الأكثر دموية مقارنة بالحملات العسكرية في القرن العشرين.
في الوقت ذاته، ليست هناك أدنى مقارنة بين القدرات المحدودة لدى المقاتلين الفلسطينيين والقوة العسكرية الخاصة بالقوات المسلحة الإسرائيلية، المجهزة بأكثر المعدات التقنية الحديثة تعقيدا، والتي تنزل الموت والخراب بحرا وبرا وجوا.
أما ضحايا هذه الآلة العسكرية، فآلاف من المدنيين العزل من رجال ونساء وأطفال مصابين، ناهيك عن مئات القتلى، سقطوا جميعا ضحايا لعمل غير مسبوق في الخسة وانعدام الأخلاق يلحق الموت والمعاناة بشعبنا المحاصر الذي يعاني مجاعة حقيقية.
في الواقع، تغني الأرقام عن كل كلام، فحتى هذه اللحظة تجاوز عدد القتلى الألف، وتجاوزت أعداد الجرحى الخمسة آلاف، وما تزال هناك جثث تحت أنقاض المباني والمساكن والمدارس والمكاتب ودور العبادة.
وليست هناك "ديمقراطية حقيقية"، حسبما تزعم إسرائيل لنفسها، تبيح مثل هذا العنف الذي لا تتناسب أضراره على الإطلاق مع تلك التي تسببها صواريخنا البسيطة المصنوعة داخل المنازل، والتي نطلقها ضد إسرائيل للتعبير عن رفضنا ومقاومتنا الاحتلال الإسرائيلي المتجرد من الإنسانية والمنافي للشرعية.
ولا يمكن بأي حال من الأحوال قبول الحجج التي تطلقها إسرائيل حول أن السبب وراء أعمال التدمير الهائلة تلك وما تحصده من أرواح هو استمرار إطلاق الصواريخ. إن إسرائيل تتعمد استفزازنا من أجل توفير مبرر لأفعالها، بينما يقدم باقي العالم، وقطاع كبير من وسائل الإعلام العاملة تحت لواء الموضوعية السياسية، عن غير قصد، صورة تنطوي على قدر بالغ من التشويه حول مسئوليات المعتدي والضحية.
حُرمنا فرصة ممارسة الحكم
من ناحيتها، تتولى حركة "حماس" زمام الحكم داخل غزة لأن شعبنا انتخبنا، لكننا لا نروق لإسرائيل نظرا للقيم الأخلاقية والدينية التي نتمسك بها. وتبقى الحقيقة أننا انتخبنا من جانب غالبية الفلسطينيين، ورغم ذلك حُرمنا فرصة ممارسة الحكم.
وقد تم التشديد على هذا الحرمان من خلال حبس قادتنا السياسيين تحت ذريعة الحرب ضد الإرهاب، في الوقت الذي تمضي إسرائيل قدما في التهام أراضينا، بينما تحشد الدعم الداخلي لعلمية سلام بلا نهاية أو معنى حقيقي.
من جانبنا، قمنا بتشكيل حكومة وحدة وطنية، لكن من لم يرق لهم هذا الوضع نعتونا بالإرهابيين وعملوا بشكل منظم على فرض العزلة علينا. ولا يمكن لمراقب نزيه ومستقل وصف سيطرتنا على غزة بأنها استيلاء على السلطة، بينما هي في واقع الأمر تأكيد على حق الحكم المخول لنا عبر انتخابات ديمقراطية نزيهة جرت تحت رقابة دولية.
ومن وجهة نظرنا، جاء انسحاب إسرائيل من قطاع غزة فقط لتحبسنا داخل سجن كبير، سعيًا وراء خنق إرادة المقاومة داخلنا. ويزعم الإسرائيليون أنه لو كنا معتدلين وأبدينا استعدادنا لقبول شروطهم، التي يجري للأسف فرضها علينا قسرا وظلما بدعم من اللجنة الرباعية، كنا سنحظى بفرصة الانضمام إلى عملية أنابوليس المجردة من أي معنى حقيقي، بينما تستمر إسرائيل في سلب أراضينا وإذلال شعبنا... كل ذلك تحت شعار إسرائيل الأخرق الخاص بضمان أمنها وأمن المستوطنين غير الشرعيين التابعين لها.
ولأننا لن نذعن لمثل هذه الأساليب الاستئسادية، فإن هدفهم الحالي إجبارنا على الخضوع من خلال إنزال الخراب والدمار عل جميع سكان غزة. لكن الإسرائيليين لن ينجحوا في ذلك.
لا نود إلحاق الأذى بأحد
نشعر بالامتنان لمن تفهموا حقيقة قضيتنا العادلة وشاركوا الشعور بمعاناتنا، ولهؤلاء سنشعر دوما بالامتنان. على النقيض، شعرنا بالصدمة حيال غياب التعاطف أو التفاهم من جانب المجتمع الدولي بصورة عامة.
وفي الوقت الذي يشاهد فيه الجميع بشاعة ما تقترفه إسرائيل، يبدو أن الكثيرين يدعمون هدفها المرتبط بتفكيك حركتنا التي تحظى بدعم شعبي. وبينما يدعون لوقف النار، يضعون شروطا مسبقة لضمان استمرار القتل والخراب.
إننا نعشق وطننا، وعلى استعداد للتضحية بأرواحنا من أجله. ولا نود إلحاق الأذى بأحد. وحان الوقت كي نسلك طريقا عادلا نحو مستقبل نعيد فيه لشعبنا حقوقه في السيادة والاستقلال. ولن نكون قط عبيدا لأي قوة، وسيستمر نضالنا مهما تكلف الأمر حتى نحصل على الحرية.
من ناحية أخرى، نعلن ترحيبنا بالتعليقات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما في 11 يناير الماضي، وأعلن خلالها التزام إدارته الجديدة بتناول هذا الصراع الذي تعرض للإهمال لفترة طويلة على نحو جاد. وندعو الولايات المتحدة تحت قيادته لصياغة مسار جديد وعادل يمكن من خلاله تحقيق السلام والإنصاف والعدالة لوطننا.
لقد مد شعبنا يده بالسلام، وعرضنا من ناحيتنا مرارا وتكرارا عقد هدنة. وننتظر الآن الشعب الإسرائيلي لأن يتطلع إلى ما وراء المنظور ضيق الأفق لقيادته وأن يبدي استعداده لتقديم التضحيات الضرورية لتحقيق سلام حقيقي وعادل.
حينئذ فقط سيتمكن الفلسطينيون والإسرائيليون من تعلم السبيل إلى العيش جنبا إلى جنب، وأن يخلفوا وراء ظهورهم الذكريات التاريخية البشعة والآلام التي تكبدها الشعبان. وحينئذ سنتمكن من التحول لإحياء تراث هذه البقعة المقدسة التي يحمل شعبينا أمانة الحفاظ عليها من أجل ضمان عودتها محلا للسلام على الأرض.
--------------------------------------------------------------------------------
قيادي وعضو بارز بحركة حماس، المستشار السياسي السابق لرئيس الوزراء إسماعيل هنية.